في أداء النّخبة العربية المثقفة: استفاقة ما بعد التقاعد

عبد الواحد المكني

 

هل الإحساس بالهامشية هو الذي يجعل مجموعة كبيرة من عناصر النخبة المثقفة بالبلاد العربية تطرق باب التجذّر والراديكالية في محاولة لاسترداد عضويتها الفعّالة ودورها الريادي والطلائعي بوصفها أنتلجنستيا مناضلة ومضحّية من أجل عملية التغيير الشامل؟ سنترك الإجابة عن هذا السؤال الشائك إلى ما بعد، فالمرغوب ليس الإجابة المتسرّعة بل النظر والتأمل لمزيد فهم الظاهرة والتوسع في نقاشها.

لا بد من التشديد على استعمالنا لمصطلح ”النّخبة” في سياق الرائج الثقافي والاجتماعي لا في السياق المفاهيمي الأكاديمي الذي يرمز للنخبة المتنفّذة والمقتدرة. نقصد بالتحديد النخب الفكرية والثقافية حسب تعريف كارل مانهايم وهي الصفوة التي تصوغ عادة أحلام الجماهير وتتبنّى تطلعات العامّة واختلاجاتها. النخبة التي نعنيها هي أقرب إلى الانتلجسنستيا المتبنّية لمشروع التغيير العضوي بالمعنى الغرامشي لا تلك النخبة الرسمية الحاكمة.

عند مساءلة تاريخنا الثقافي والاجتماعي المعاصر بالبلاد العربية نجد أثرا متواترا لحالات ترقّب وانتظاريّة بل وانضباطية ميّزت الأداء النخبي الثقافي والسياسي خلال المرحلة القطاعية من سنوات العمل والكهولة والتي تتزامن تقريبا مع تقلّد الوظيفة الإدارية على اعتبار أن أغلب عناصر النخبة تنتمي لقطاع الوظيفة العمومية في حين أن المشتغلين بالوظائف الحرة وذات الرأسمال المستقل قلّة قليلة في صفوف النخبة. في الغالب الأعم تثأر هذه الصفوة لتاريخها بداية من لحظة حصولها على التقاعد الإداري في محاولة لتبييض الماضي وتلميع تلك الصورة الشاحبة والمترهّلة.

مقاربتنا للظاهرة هي مقاربة تاريخية بالأساس يقودنا في ذلك محفّزان اثنان على الأقل:

أولهما: هو اعتبار التاريخ مستودعا للعبر والمواعظ، ونطعّم هذه “القناعة الخلدونية” برديفة مشتقّة من سنن ممارسات النخبة وهي التّورية والترميز لتجنب الاستتباعات فيكون التاريخ مستودع عبر ولكنه أيضا مأمن شر.

المحفز الثاني :هو حِرفي بالأساس يتعلق باشتغالنا على النخب في تونس والمغرب العربي زمن الاستعمار الأجنبي وفجر الاستقلالات السياسية الرسمية في الخمسينات والستينات.

فقد اشتغلنا على مقاربات بيوغرافية منفردة وميكروتاريخية أحادية لعناصر من النخبة المثقفة كما درسنا أداء النخب بوصفها جماعات منصهرة ومتآلفة في شكل مقاربات جماعوية ”بروسوبوغرافية”.

عرف تاريخ أقطار المغرب في فترة التحرر الوطني بروز قيادات وطنية فكرية ناضلت من أجل بديل وطني وتحرّري عصري، وقد نالها ما نالها من عقاب المستعمر وثواب الدولة المستقلة. في الآن نفسه ظلت مجموعات هامة من النخبة المثقفة تتابع مشروع التحرر الوطني عن بعد وتتعاطف معه بالقدر الذي لا يغضب منها سلطات الاستعمار ولا يحرمها من امتيازاتها المخزنية والوظيفية و نفس الأمر تقريبا ينسحب على نخب بلاد المشرق فقد توسّع سيّار الجميل ومن قبله حنا بطاطو و غيرهما من الباحثين في تحليل أداء الأنتلجنستيا العراقية خلال مرحلة الانتداب البريطاني وتم التمييز بين النخب ”الفاعلة” والنخب ”الخامدة”.

والحاصل إن معظم الأقطار العربية عرفت ظاهرة الإنتظارية والتردّد التي ميزت مجموعة كبيرة من النخبة التي أسميناها بجيل الاستنارة و الاستكانة، فهو جيل مثقف متشبع بمبادئ التحديث والتغيير لكنه لم يبذل الحد الأدنى من التضحية المطلوبة لبلورة تلك البدائل.

إنه لفيف نخبة الكرسي والقلم الذي تمكّن من الجمع بين جاه الوظيفة الحكومية ”المخزنية” أو ”الميرية” وما تولّد عنها من امتيازات ومنافع وولاء وانضباط وبين سلطة لإنتاج ”العلمي” والإشعاع الثقافي وما تولّد عنها من اعتبار و ريادة و تقدير.

لاحظنا عند استقراء السّير الفردية والجماعية لعناصر النخبة الفكرية تشابه المصائر والمسارات، فتجنح نخبة الاستنارة إلى نوع من الزوبعة الثورية تبدأ في سن الستين تقريبا بعد عقود من الاستكانة والمسايرة وهي محاولة للمداراة عن الماضي غير الوهّاج والأداء العضوي الفاتر. ويتزامن هذا الرشد مع التقاعد الإداري وما يستتبعه من ضمان للمعاش وتجاوز لهاجس الترقّيات الإدارية والصعود في سلم النجابة الوظائفية.

نستحضر في هذا المجال حالة حسن حسني عبد الوهاب (1884-1968) وهو مثقف تونسي موسوعي من عائلة ذات مجد مخزني بالوراثة. برز هذا المثقف بتآليفه المتعددة مشاركته في الموسوعات ومجامع اللغة فقد حبّر أكثر من عشرة آلاف صفحة في التاريخ والإثنولوجيا والآثار والأدب كما اشتغل في سلك المخزن طيلة أربعة عقود ونصف تقلّد فيها مناصب عليا ومرموقة مثل القيادة و الوزارة وأمين الأرشيف الحكومي.

اختتم ح .ح عبد الوهاب مسيرته الإدارية سنة 1947 بالحصول على لقب وزير شرفي بعد أن حج في الموكب الرسمي لباي تونس وقام بحمل “الصرّة” للحرمين الشريفين فاستكمل بذلك السقف المطلوب اجتماعيا وماديا.

عند تفحّص أداء هذا المثقف الموسوعي يمكن أن نقسّم خط سير حياته إلى ثلاثة أطوار:

الأول ينتهي في الثلاثين تميّز بالالتزام والنضالية ضمن حركة الشباب التونسي التي عارضت الغطرسة الاستعمارية وحاولت المطالبة بنشر التقاليد الدستورية ونشط عبد الوهاب خاصة في مجال العمل التعاوني فكان يشجّع على انجاز التعاضديات (التعاونيات) والجمعيات لمقاومة الجهل والاستعمار والتخلف كما اضطلع في هذه المرحلة بمسؤولية تدريس التاريخ العربي الإسلامي لطلاب “المدرسة الصادقية” ورواد “الجمعية الخلدونية”.

أما الطور الثاني من حياته والذي دام أكثر من 45 سنة فقد ابتدأ بحصوله على منصب قايد (ما يعادل محافظ أو والي) وهي هدية مسمومة من سلطات الاستعمار ولج بها مرحلة الانضباطية التي لازمته حتى حصوله على التقاعد عندها شعر مثقفنا بذكاء فطري حاد أن ساعة الاستعمار في تونس والعالم أزِفت وانطلق مثله مثل مناضلي الهزيع الأخير في الاقتراب من الحركة الوطنية وأصبح يخلع النياشين الاستعمارية التي وشحت صدره طويلا وأصبح التزيّي بها مجلبة للمضار أكثر من المنافع.

ليست هذه الحالة فريدة بل هي حالة نموذجية لأداء لفيف هام من المثقفين العرب في الفترة الاستعمارية.

وتواصلت الممارسة ذاتها بعد أن جددت مظهرها ونمقته في عهد بناء الدولة المستقلة في الخمسينات والستينات، وتحضرني حالات عناصر عديدة من النخبة الضالعة والمتميزة التي آثرت الاستكانة والانضباطية ثم خلدت بعد الحصول على تقاعدها إلى حالة من الاستجمام الثوري المتأخّر.

تبدو لحظة الحصول على التقاعد الإداري لحظة إنعطافية هامة في حياة قطاع هام من عناصر النخبة، فهي لحظة مؤذنة بالأمان المعاشي والمادي ولكنها أيضا مشوبة بنوع من عقدة التعويض أو المواكبة والاستدراك الذي يمليه الواعز الفكري، لذلك تتفتّق فيها غالبا موهبة التجذّر الثوري والراديكالية التي تصل حد المزايدة.

تبدو الظاهرة مرتبطة بهاجس التمرتب الاجتماعي في عهد المنظومة الحياتية العصرية. لقد استوجبت قوانين الوظيفة العمومية وراتب المعاش تنميطا انضباطيا زجّ بعناصر من النخبة في حالة كبت فكري وسياسي مفروض وجعلها فريسة لطاحونة ”الوداعة” والانضباطية.

إن المجال ليس للوعظ والمزايدة بل للفهم فالأداء النخبي المشار إليه هو أداء معاكس أو مغاير للنموذج العضوي للمثقف الذي نظّر له انطونيو غرامشي. وبما أن الظاهرة ليست فردية ولا شاذة إحصائيا فهي تتطلّب وقفة تحليلية عقلانية. ونحاول في هذا الصدد أن نقدّم – و لو لِمامًا – عناصر نقاش وإجابة أولية:

إنّ فشل غالبية عناصر النخبة العربية المثقفة إن في عهد الاستعمار الأجنبي أو في ظل دولة الاستقلال في الاضطلاع بدورها العضوي وتأجيله إلى مرحلة التقاعد يؤشر:

–إلى ضعف مقولة المجتمع المدني في البلاد العربية المعاصرة التي تغيب فيها سلطة تمنع السلطة الحاكمة من التسلّط ومعاقبة المثقف عبر معاشه ووظيفته وعدم الاعتراف به إلا في ركاب المنظومة الرسمية للسلطة.

–ضعف موقع النخبة من علاقات الإنتاج والدورة الاقتصادية فهي لم تنحت لنفسها مكانة مادية اقتصادية فاعلة في المجتمع رغم حيازتها مكانة معنوية واعتبارية رمزية.

–الانبتات الاجتماعي لعناصر النخبة ومحدودية تأثيرهم مما يجعلهم بدون سند جماهيري، فهم مجرد أشتات منفصلة عن واقعها أو قافزة عنه تضطرها البراغماتية إلى المداراة والحياد المفروض فتنتظر لحظة التقاعد الإداري الرسمي للانطلاق في أداء الواجب العضوي وعندها يزور المثقف رمسه قبل تجسيد قناعاته.

–إن تفعيل دور النخبة لا يكون فقط بالضغط عليها ومزيد ابتزازها ودفعها إلى مزيد من النضالية والتضحية – و هو ما تم منذ الخمسينات إلى اليوم – بل يكون عبر تطوير وإشاعة ثقافة المجتمع المدني والديمقراطية وتكريسها في الوعي الجماهيري الواسع، تماما مثل مقولة الوطنية أو القومية حتى يتمكن المثقف من أداء التزامه وتكريس قناعاته في ظروف إنسانية عادية.

–تطرح علاقة النخبة العربية المثقفة بالمكانة المادية الاعتبارية من ناحية وبواجب الالتزام السياسي والفكري العضوي من ناحية أخرى، علاقة العلم بالسياسة عبر التاريخ وهو أمر توسّع فيه بعمق ماكس فيبر و بإمكاننا مزيد الاستلهام من تراثنا العربي في هذا الصدد لمزيد الفهم والمقارنة.

تلك خطاطة أولية أثارتها فينا ظاهرة الانعطاف التقاعدي لدى المثقف العربي وما يستتبعها من رشد وفاعلية. واستحضارها هنا ليس من باب التشهير، فأن ينهض المثقف من نوم غفلته عند التقاعد أفضل من مواصلة سباته إلى مماته.

المصدر: https://www.alawan.org/2013/12/08/%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D8%AF%D8%A7%D8%A1-...

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك