الترجمات المنطقية العربية القديمة بين الإخلال بالمقتضيات اللغوية والمقتضيات المنطقية

أحمد برشيل

 

تعد المؤلفات التي خلفها أرسطو في ميدان علم المنطق، والتي تشكل ما يسمى بالأرغانون، من المؤلفات التي حظيت باهتمام خاص داخل الثقافة الإسلامية-العربية القديمة. فقد حرص النقلة والمترجمون الأوائل على نقلها إلى هذه الثقافة، فكان هذا النقل على ضربين: ضرب مباشر وضرب غير مباشر. ونقصد بالأول تلك الترجمات والنقول التي تمت من الأصل اليوناني إلى اللغة العربية مباشرة دون توسط لغة ثالثة، كالتي قام بها مثلا حنين بن اسحق، حيث نقل كتاب "المقولات" من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية مباشرة، ونقصد بالضرب غير المباشر تلك الترجمات التي تمت إلى اللغة العربية بتوسط لغة أخرى غير لغة النص الأصلية، كالتي قام بها مثلا أبو علي عيسى بن إسحق بن زرعة، حيث نقل كتاب "المقولات" من السريانية إلى اللغة العربية.

لم يقف حد الاهتمام بمصنفات أرسطو المنطقية داخل الثقافة الإسلامية- العربية القديمة عند حد النقل والترجمة، بل تعداه لينصب الاهتمام كذلك على شرح هذه المؤلفات والتعليق عليها واختصارها والتأليف فيها.

إن غايتنا في هذا المقال ليست هي النظر في كل هذه الأصناف التي تجسد فيها أرغانون ارسطو، وإنما النظر فقط في الصنف الذي تمثل في الترجمات والنقول القديمة، وسنقتصر من هذه على تلك التي جُمعت وحُققت من طرف عبدالرحمان بدوي، وهذه النقول هي: نقل "كتاب المقولات" و"كتاب العبارة" لإسحق بن حنين، ونقل "كتاب التحليلات الأولى" لتذاري، ونقل "كتاب التحليلات الثانية" لأبي بشر متى بن يونس. وسيتوخى نظرنا في هذه النقول بيان ما يلي:

1. أن هذه النقول قد أخلت بمقتضيات النقل والترجمة.

2. أن هذه النقول قد أخلت بمقتضيات اللغة العربية.

3. أن هذه النقول قد أخلت بالمقتضيات المنطقية.

4. أن هذه النقول مازالت تفتقر إلى تحقيق علمي دقيق.

1- النقول العربية القديمة وإخلالها بمقتضيات النقل والترجمة:

يتطلب الاشتغال بمهمة النقل والترجمة شروطا علمية يجب أن تتوفر في الناقل أهمها:

- تمكن الناقل المترجم من لغته الأصلية، إذ هي وسيلته التي بها ينقل.

- التمكن من لغة النص المراد نقله وترجمته، إذ هي الأصل الذي منه ينقل.

- التمكن من مجال النص إذ بدونه تنتفي عن الناقل صفة الاختصاص في الميدان الذي ينتمي إليه النص المراد نقله.

وعليه، فإن أي نقص في أحد هذه الشروط يستتبع لامحالة نقص يظهر أثره في عمل الناقل، ذلك لأن هذا الأخير إنما هو في الحقيقة مرآة تنعكس فيه درجة تمكنه من هذه الشروط، أو قل تنعكس فيه أهليته وكفاءته العلمية؛ فبقدر تمكنه يكون نقله واضحا ومفهوما، وبقدر ضعفه ونقصه يكون نقله غامضا ومستغلقا.

إذا ما رجعنا إلى النصوص التي اصطفيناها لنرى مدى تمكن واستيفاء أصحابها للشروط التي أسلفناها، فإننا نجد أن هؤلاء النقلة، وإن سلمنا لهم بالتمكن من الشرط الثاني؛ أي التمكن من اللغة اليونانية التي ينقلون منها، فإننا لا نسلم لهم بالتمكن من الشرطين المتبقيين، وهما: شرط التمكن من وسيلة النقل؛ أي اللغة العربية، وشرط التمكن من الميدان الذي ينقلون منه، أي علم المنطق.

ويتجلى عدم تمكن النقلة الأوائل من هذين الشرطين في مظهرين أساسين:

أ- الإخلال بمقتضيات اللغة العربية النحوية منها والتركيبية والأسلوبية.

ب- الإخلال بالمقتضيات المنطقية.

2- الإخلال بمقتضيات اللغة العربية:

لا شك أن اللغة اليونانية، والتي كتب بها أرسطو أرغانونه، واللغة العربية، والتي نُقل إليها مصنف الحكيم، لغتان تختلفان في أمور أساسية ثلاثة:

أ- في معجمهما، إذ ليس كل لفظ في أحدهما يقابله لفظ في الأخرى ضرورة.

ب- في طرق تركيبهما، إذ ليست كل نسبة إسنادية في إحداهما تطابقها نسبة إسنادية من جنسها في الأخرى.

ج- في أساليبهما المجازية، إذ ليس لكل استعمال مجازي في أحدهما ما يقابله في الأخرى ويساويه[1].

والدليل على هذا، أنه لو كان الأمر، بالنسبة إلى هاتين اللغتين على عكس ما سلف، لجاءت كل النقول العربية القديمة للمنطق اليونانية، مثلا، سليمة في لغتها وتركيبها وأسلوبها، إذ يكفيها لتحقيق هذا الغرض، استبدال كل لفظ، وكل تركيب وأسلوب لغوي من النص الأصلي المراد نقله، بآخر يماثله في اللغة الناقلة، والحال أن معظم هذه النقول قد تضمنت من الاضطراب في اللغة والركاكة في التعبير والأسلوب ما يُنفر القارئ العربي ويستفزه.

لقد تمسك المترجمون الأوائل لنقل المنطق الأرسطي إلى الثقافة الإسلامية-العربية القديمة بمسلك الترجمة الحرفية أو ما يسمى بمسلك "النقل الأمين". ووفاء لهذا المسلك في النقل تحروا في نقولهم التمسك بحرفية النص المنقول، فحرصوا أن تكون نصوصهم مطابقة للنص الأصلي. فكان من نتائج هذه "الأمانة" في النقل ميلاد نصوص حافظت على بنية الجملة في اللغة اليونانية وأساليبها في البيان والمجاز، وعبرت عن ذلك بألفاظ عربية. ومن ثمة شكلت هذه النصوص لغة جديدة تجمع بين الحرف العربي والأسلوب اليوناني[2]، حيث نجد جملا هجينة ذات تراكيب وأساليب يونانية في صيغ عربية. وهو الأمر الذي جعل هذه النصوص تتصف بصفتين أساسيتين، وهما: الغرابة والاستغلاق. ولإبراز ما انتهينا إليه بخصوص هذه النقول نورد أمثلة تجسد سقم تعبير النقلة الأوائل وما صاحبه من غرابة واستغلاق.

-المثال الأول: وهو عبارة في الأصل عن مثال أورده أرسطو في معرض تمييزه بين الانفعالات والكيفيات، وقد نقله إسحق بن حنين كما يلي: "...ومثال ذلك تيه العقل والغضب وما يجري مجراهما، فإنهم به يقال فيهم بها: كيف هم، فيقال غضوب وتائه العقل"[3].

- المثال الثاني: وهو مثال أورده صاحب الأرغانون ليبين أن ليست كل حركة نمو تعقبها بالضرورة حركة استحالة، وهو في نقل اسحق بن حنين كالتالي: "....مثال ذلك أن المربع إذا أضيف إليه ما يضاف حتى يحدث العلم فقد تزايد، إلا أنه لم يحدث فيه حدث أحاله عما كان عليه"[4].

لاشك أن الناظر في هذين المثالين، سيجد أنهما قد جمعا بين الركاكة والسقم في التعبير وبين الغرابة، وهي أمور لا تزيدهما إلا استغلاقا. ففي المثال الأول نجد التعبير الركيك التالي: "فإنهم به يقال فيهم بها: كيف هم"، ونجد في المثال الثاني الغرابة في عبارة "المربع إذا أضيف إليه ما يضاف، حتى يحدث العلم فقد تزايد"، إذ لا سبيل إلى فهم العلاقة بين "المربع" و"العلم" و"الزيادة".

وإذا كان الاستغلاق ظاهرا في هذين المثالين، فليت شعري كيف ستكون الأمور التي جاءا لتوضيحها؟! على اعتبار أن من خاصية المثال أن يكون أبين وأضح من المُمثل له.

ومن الأمثلة التي تجسد كذلك سقم تعبير النقلة الأوائل وإخلالهم بمقتضيات اللغة العربية نذكر ما يلي:

v   كثيرا ما يسيئ الناقل "الأمين" في استعماله لحرف "قد" لما هو متعارف عليه في اللغة، فهو غالبا ما يقرنه بالفعل المضارع ليفيد به التحقيق، والحال أن التحقيق إنما يفيده متى قُرن بالفعل الماضي لا الفعل المضارع. وكشاهد لخرق النقلة الأوائل لهذا المقتضى اللغوي، نورد المثال التالي: "وقد يجب ضرورة في كل قول جازم أن يكون جازما عن كلمة أو عن تصريف من تصاريف الكلمة"[5]. وإذا تأملنا في هذا المثال نجد أنه قد جمع بين الإمكان والضرورة، وهو جمع سيجعل المتلقي العربي أمام أمرين:

- أولهما: أن يفهم خلاف ما قصده أرسطو من عبارته. ذلك أن المثال الذي بين أيدينا يتيح للقارئ أن يفهم أن حضور "الكلمة" أو "تصريف" من تصاريفها ليس شرطا ضروريا في القول الجازم. ومُستند هذا الفهم ابتداء الكلام بحرف "قد" مضافا إليه فعل المضارع "يجب" وهي إضافة تفيد في اللغة، إذا ما استحضرنا المثال، أن كل قول جازم يمكن أن يكون جازما عن "كلمة" أو عن "تصريف" من تصاريفها أو قد يكون جازما بدونهما. وهو فهم يخالف تماما ما قرره المعلم الأول، حيث يؤكد أن القول الجازم يستوجب ضرورة حضور "الكلمة" أو "تصريف" من تصاريفها.

- ثانيهما: أن يقف القارئ العربي حائرا ومستغربا مما بين يديه: حائرا، لأنه بين صيغة الإمكان التي يبتدئ بها المثال وبين صيغة الضرورة التي تضمنها المثال، والتي أعقبت مباشرة الصيغة الأولى، فلا يدري أيجازف بالأولى على حساب الثانية لفهم الكلام أم العكس؟ ومستغربا، لأنه أمام تعبير غير مألوف لديه، إذ يتعذر عليه تصور جهة تجمع بين الإمكان والضرورة، حيث يكون بموجبها الأمر الواحد ممكنا وضروريا في آن واحد.

v   ومن الأمثلة التي تبين كذلك ركاكة تعبير الناقل "الأمين" وضعف تكوينه اللغوي، نذكر المثال التالي: "فليس كل هذه القنيات موجودة فينا منفردة؛ ولا أيضا إنما تكون فينا من ملكات أخر هي أكثر في باب ماهي عالمة، لكن من الحس"[6]. فالركاكة في هذا المثال ظاهرة لكون الناقل "الأمين" هنا قد نقل من اللغة السريانية، والتي نقلت بدورها من الأصل اليوناني، أسلوبا تعبيريا لا نظير له في اللغة التي ينقل إليها. ولهذا، فإنه يصعب على المتلقي العربي أن يفهم المعنى الذي حرص هذا الناقل أن ينقله إليه. وإذا أضفنا إلى هذا أن الناقل "الأمين"، في المثال الذي أسلفناه، لا يميز بين صيغ الاشتقاق، حيث استعمل الصيغة "عالمة" وهي صيغة الفاعل، فأراد بها معنى صيغة المفعول "معلومة"، أدركنا أن فهم تلك العبارة على ما قصده صاحب الأرغانون أمر صعب التحقيق[7].

لم يكتف النقلة الأوائل بخرق قواعد اللغة العربية فحسب، بل تعدوا ذلك فحاولوا أن يحملوا الجملة في اللغة العربية أكثر مما تطيق وفاء منهم للغة التي ينقلون منها. ومن الأمثلة التي تبين هذا الأمر نذكر المثال التالي: "كل إنسان يوجد عدلا"[8]. فالناقل "الأمين" قد أقحم في هذا المثال فعل "يوجد" لإبراز ما يسمى بالرابطة التي تربط بين الموضوع "إنسان" والمحمول "عدل" دون أن يكترث لثقل وعدم استقامة هذه العبارة في اللسان العربي، وذلك لأن مجرد الإسناد في هذا المثال يكفي لأداء وظيفة "الرابطة" التي أبى الناقل "الأمين" إلا أن يظهرها، حيث سيكون المثال الذي بين أيدينا، بفضل هذا الإسناد، على الشكل التالي: "كل إنسان عادل". وهكذا تكون الرابطة، كعنصر يربط بين "الموضوع" و"المحمول" في اللغة اليونانية، مضمرة غير مصرح بها في اللغة العربية، وذلك راجع إلى ما أشرنا إليه سابقا من اختلاف اللغتين في طرق تركيبهما.

تلك هي بعض الأمثلة التي تبين ضعف الناقل "الأمين" في اللغة التي ينقل إليها، وهو ضعف قد تجلى في عدة وجوه: فهو إما خرق لقواعد اللغة، النحوية منها والتركيبية والأسلوبية، وإما إتيان بتعابير وأساليب غريبة، وإما تحميل الجملة في اللغة العربية ما لا تطيق، وكلها أمور قد ورَّثت نص الناقل "الأمين" صفتين أساسيتين وهما: صفة الاستغلاق والغرابة، صفتان تجعلان الفهم وإدراك المعنى من هذه النصوص أمرا صعب المنال.

3- الإخلال بالمقتضيات المنطقية:

لا ينحصر عيب الترجمات المنطقية العربية القديمة في سقم وقلق عبارتها فحسب، وإنما طال عيبها كذلك مهمة أساسية في النقل والترجمة ألا وهي مهمة تحري الدقة في نقل وترجمة المصطلحات المنطقية. ومن مظاهر تقصير الناقل "الأمين" في هذه المهمة أننا نجده يضع للمصطلح المنطقي الواحد أكثر من مقابل، فلا يجعل لكل مصطلح ينقله مصطلحا واحدا يقابله ويتمسك به خلال نقله توخيا للدقة والضبط في عمله. بل قد يصل هذا الاضطراب في نقل المصطلحات إلى درجة الخلط بينها، وذلك حين يعمد الناقل مثلا إلى نقل مصطلحين منطقيين مختلفين ومتباينين ويضع لهما مصطلحا واحدا كمقابل لهما، فيشترك بذلك معناهما فيه. ولتثبيت هذا الأمر فحسبنا هنا أن نورد الشواهد التالية:

- لقد وضع الناقل "الأمين" لنقل المصطلح المنطقي "الانعكاس" (conversion) ثلاثة مصطلحات، وهي كالتالي:

أ- مصطلح "الانعكاس"، حيث ورد في معرض نقله لأحكام الانعكاس، ما يلي: "ومن المقدمات المطلقة - فإن السالبة الكلية تنعكس بحدودها وكهيئتها لا محالة... فأما الموجبة الكلية، فإنها تنعكس أيضا لا محالة، غير أنها لا تنعكس كهيئتها كلية، ولكن جزئية... فأما المقدمات الجزئية فإن الموجبة منها تنعكس لا محالة جزئية... وأما السالبة منها فليس لها انعكاس لا محالة..."[9].

ب- مصطلح "الرجوع"، حيث نجد الناقل "الأمين" يورد في معرض نقله للكيفية التي تُرد بها المقاييس من شكل إلى آخر، ما يلي: "مثل القياس السالب الكلي في الشكل الأول قد يحل إلى الشكل الثاني، والذي في الشكل الثاني قد يحل إلى الأول، وليس ذلك أبدا، ولكن أحيانا... فإن رجعت المقدمة السالبة يكون الشكل الأوسط...

وأما المقاييس الكلية التي في الشكل الثاني، فإنها تنحل إلى الشكل الأول. وأما الجزئية، فواحد منها فقط ينحل إلى الأول. وبيان ذلك أن تكون أ غير موجودة في شيء من ب وموجودة في كل حـ، فإذا رجعت المقدمة السالبة يكون الشكل الأول..."[10].

ج- مصطلح "القلب" ومن الأمثلة التي استعمل فيها هذا المصطلح للتعبير عن مصطلح "الانعكاس" نذكر المثال التالي: "وإن كانت حـ موجودة في كل ب وأ غير موجودة في شيء منها، فإنه قد يكون قياس أن أ غير موجودة في بعض حـ اضطرارا. وقد يبين ذلك إذا قلبتمقدمة حـ ب"[11].

وهكذا نلاحظ أن الناقل "الأمين" قد استعمل في نقله ثلاثة مصطلحات للتعبير عن المصطلح المنطقي "الانعكاس". ولاشك أن هذا التعدد في المصطلحات لن يُخلف لدى المتلقي العربي إلا تشويشا واضطرابا في الفهم، متى اعتبر كل مصطلح منها مستقلا عن غيره، خاصة وأن هذا الناقل الأمين لم يبرر هذا التعدد ولم يزود المتلقي بإشارة قريبة ولا بعيدة عنه، وذلك بذكر الوجه، أو الوجوه، التي تجعل هذه المصطلحات تتفق في معنى واحد.

- نجد الناقل "الأمين" يضع المصطلح المنطقي ثم لا يلبث أن يأتي بعدها بمصطلح آخر يضعه مكان الأول دون أن ينبه المتلقي على أن المصطلح الثاني ينوب عن الأول، وكمثال على هذا مصطلح "السلوجسموس" الذي نجده في صدر المقالة الأولى من كتاب التحليلات الأولى من نقل تذاري. فقد جاء عند هذا الناقل ما يلي: "ومن بعد ذلك فلنبين ما المقدمة، وما الحد، وما السلوجسموس، وأي السلوجسموسات كامل، وأيها غير كامل"[12]. إلا أن هذا الناقل، وبعد أن بين ما المراد بالمقدمة وبالحد، لم يستعمل مصطلح "السلوجسموس"، التزاما بما وضعه أولا، وإنما وضع مكانه مصطلحا آخر وهو "القياس"، حيث يقول: "فأما القياس فهو قول إذا وضعت فيه أشياء أكثر من واحد لزم شيء ما آخر من الاضطرار لوجود تلك الأشياء الموضوعة بذاتها"[13]، وهي عبارة وإن كانت توحي بأن مصطلح "القياس" قد ذكر واستعمل في كلام سابق إلا أنه في الحقيقة على خلاف ذلك.

ومن الأمثلة التي تصب كذلك في هذا الاتجاه مصطلح "الكلي"، حيث نجد الناقل "الأمين" تارة يستعمل مصطلح "الكلي" كما في المثال التالي: "فإن لم يكن القياس كليا، فليس تبرهن المقدمة الكلية للعلة التي قلنا أولا"[14]. وتارة أخرى، يستعمل مصطلح "العامي" كما في المثال التالي: "وأما في الشكل الثاني، فإنه لا يمكن إبطال المقدمة الكبرى بالتضاد كيفما كان انعكاس النتيجة، لأن النتيجة أبدا تكون في الشكل الثالث. وفي هذا الشكل لا يكون قياسا عاميا"[15].

v   نجد الناقل "الأمين"، على خلاف ما سبق، يضع مصطلحا منطقيا واحدا فيعبر به عن معاني منطقية متباينة ومختلفة، ليصبح بذلك المصطلح مصطلحا مشتركا. ومن الأمثلة التي يتجسد فيها هذا الأمر نذكر مثالا نستقيه من نقل إسحق بن حنين لكتاب "المقولات"، حيث يضع هذا الناقل مصطلح "الموضوع" للتعبير عن معنيين منطقيين مختلفين ومتباينين: أولاهما للتعبير عن "حامل الصفات"، أي "الأعيان و"الأشخاص"، حيث يقول: "متى حمل شيء على شيء حمل المحمول على الموضوع، قيل كل ما يقال على المحمول على الموضوع أيضا"[16]. وثانيهما للتعبير عن مقولة "الوضع"، حيث نجد في نقله ما يلي: "كل من التي تقال بغير تأليف أصلا، [أي المقولات] فقد يدل إما على "جوهر" وإما على "كم"، وإما على "كيف"، وإما على "إضافة" وإما على "أين"، وإما على "متى"، وإما على "موضوع"، وإما على "أن يكون له"، وإما على "يفعل"، وإما على "ينفعل". فالجوهر على طريق المثال كقولك: إنسان، فرس. والكم كقولك: ذو ذراعين...وموضوع كقولك: متكئ جالسا..."[17]. "وبهذا يكون مصطلح الموضوع عند هذا الناقل معنى مشتركا، وإذ الأمر عنده هكذا، فإنه يُعسر على المتلقي التمييز بين ذينك المعنيين كلما استعمل هذا المصطلح، خاصة وأن المعنى المشهور عنده هو المعنى الأول، وبذلك يصعب عليه إدراك معنى هذا المصطلح متى استعمل للدلالة على المعنى الثاني[18].

يظهر إذن، من خلال الأمثلة السالفة، أن الناقل "الأمين" لم يتحر الدقة في وضع مصطلحاته، حيث سقط في آفة الخلط والاضطراب في استعمال المصطلحات المنطقية. فهو من جهة قد أخذ بتعدد المصطلحات للمعنى المنطقي الواحد دون تبرير هذا التعدد، وهو من جهة ثانية قد أخذ بالاشتراك دون التنبيه عليه، وهي علامتان تجعلان نقله دون نقل أهل الاختصاص.

4- الترجمات المنطقية العربية القديمة وافتقارها إلى تحقيق علمي دقيق:

إن الأصل في التحقيق كما يدل على ذلك معناه اللغوي أن يكون الكلام المُحقق مُحكما ومُصححا ورصينا. ففي اللغة نقول: أَحققت الأمر إِحقاقا أي أحكمته وصححته، ونقول كذلك: كلام مُحقق أي رصين. وقياسا عليه، فالنص المُحقق يجب أن يكون نصا مُحكما ومُصححا ورَصينا. ويمكن أن نشبه عمل المُحقق، وهو يقوم بعملية التحقيق، بعمل الناسج، فالناسج لا يكون ثوبه مُحققا إلا إذا أحكم نسجه، فكما أن في النسج أصناف إذ فيه الرديء والمتوسط والمتقن، فكذلك تكون أصناف النصوص المُحققة.

إذا ما رجعنا إلى التحقيق الذي قام به عبد الرحمان بدوي لنصوص أرسطو المنطقية لنرى مدى اتصافه بالإحكام والتصحيح والرصانة، نجد أن تحقيقه يفتقر إلى بعض هذه الشروط التي تجعل من كلام النص المُحقق كلاما مفهوما لا استغلاق فيه. ويكفينا لتثبيت هذا الامر أن نشير إلى أن مُحقق "منطق أرسطو" لم يتحمل عناء مهمة التصحيح، حيث قصَّر في تصحيح جمل النص التي أخلَّت بمقتضيات اللغة العربية وفي تقويم عبارته حسب ما تقتضيه أساليب البيان للغة العربية، فحافظ عليها في تحقيقه دون أن ينبه عليها في الهامش. وكشاهد على هذا التقصير نحيل إلى الأمثلة التي أوردناها فيما خلا من كلام. وكنتيجة لهذا التقصير في مهمة التصحيح، فإن التحقيق الذي بين أيدينا تنتفي عنه بالتبعية صفة الإحكام والرصانة، إذ كيف يُعقل أن يكون الكلام الركيك والسقيم مُحكما ورصينا؟!

وهكذا فإذا كان الكلام الذي أثبته المحقق في متن تحقيقه قد اتصف من جهة بالركاكة والسقم في التعبير وما صاحبهما من غرابة وبالاضطراب في استعمال المصطلحات المنطقية وما صاحبه من صعوبة في إدراك معاني المصطلحات المنطقية من جهة ثانية، فكيف يستقيم قول من يدَّعي دقة ووضوح الترجمات المنطقية العربية القديمة[19]؟ إذ كيف يجتمع الوضوح بالغرابة والدقة بالاضطراب؟!

نستخلص إذن مما تقدم أن الترجمات المنطقية العربية القديمة ترجمات غير دقيقة، حيث أخلت بالمقتضيات اللغوية والمنطقية. وعليه، فلا يمكن لطالب علم المنطق أن يستفيد منها ويعتمد عليها وحدها لتحصيل هذا العلم وفهم مسائله ومعانيه. ولذلك فهي لم تؤثر في الثقافة الإسلامية العربية، حيث بقيت فيها إلى يومنا هذا كما دخلت إليها في أول أمرها.

 

لائحة المصادر والمراجع:

-      أرسطو: كتاب المقولات، نقل إسحق بن حنين، ضمن: منطق أرسطو، الجزء الأول، تحقيق: عبد الرحمان بدوي، وكالة المطبوعات الكويت، دار القلم بيروت، الطبعة الأولى 1980

-      أرسطو: كتاب العبارة، نقل إسحق بن حنين، ضمن: منطق أرسطو، الجزء الأول، تحقيق: عبد الرحمان بدوي، وكالة المطبوعات الكويت، دار القلم بيروت، الطبعة الأولى 1980

-      أرسطو: كتاب التحليلات الأولى، نقل تذاري، ضمن: منطق أرسطو، الجزء الأول، تحقيق: عبد الرحمان بدوي، وكالة المطبوعات الكويت، دار القلم بيروت، الطبعة الأولى 1980

-      أرسطو: كتاب البرهان، نقل متى بن يونس، ضمن: منطق أرسطو، الجزء الثاني، تحقيق: عبد الرحمان بدوي، وكالة المطبوعات الكويت، دار القلم بيروت، الطبعة الأولى 1980

-           التوحيدي أبو حيان: الإمتاع والمؤانسة، الجزء الأول، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1939

-           بدوي عبد الرحمان: أرسطو عند العرب، دراسة ونصوص غير منشورة، وكالة المطبوعات الكويت، الطبعة الثانية 1978

-           طه عبد الرحمان: فقه الفلسفة، الفلسفة والترجمة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1995

-       Aristote: les seconds analytiques, trd: j. tricot, librairie philosophique, J. vrin , Paris 1979 


[1]- انظر: طه عبد الرحمان: فقه الفلسفة، الفلسفة والترجمة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1995، ص: 96، حيث ذكر، نقلا عن الصفدي، الوجوه الثلاثة الأساسية التي تكون بها الترجمة الحرفية رديئة، وجاء في كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، على لسان أبي سعيد السيرافي، وهو يناظر متى بن يونس أن "…لغة من اللغات لا تطابق لغة أخرى من جميع جهاتها بحدود صفاتها في أسمائها وأفعالها وحروفها وتأليفها وتقديمها وتأخيرها، واستعارتها وتحقيقها". ص ص: 115-116

[2]- ولعل هذا ما جعل أبو سعيد السيرافي يحكم على هذه النقول، وهو يناظر متى بن يونس، بأنها إحداث للغة في لغة مقررة بين أهلها. انظر: أبي حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، الجزء الأول، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة1939، ص: 122

[3]- أرسطو كتاب المقولات نقل اسحق بن حنين، ضمن منطق أرسطو، الجزء الأول، تحقيق عبد الرحمان بدوي، وكالة المطبوعات الكويت دار القلم بيروت، الطبعة الأولى 1980، فصل 8-9ب35.

[4]- أرسطو: كتاب المقولات، نقل اسحق بن حنين، فصل14-15أ30

[5]- أرسطو: كتاب العبارة، نقل إسحق بن حنين، ضمن: منطق أرسطو، الجزء الأول، تحقيق: عبد الرحمان بدوي، وكالة المطبوعات الكويت، دار القلم بيروت، الطبعة الأولى 1980، فصل5-17أ10. ولمزيد من الأمثلة أنظر: ف11-21 أ25 و21 أ30 وف 14- 23 ب 25

[6]- أرسطو: كتاب البرهان، نقل متى بن يونس، ضمن: منطق أرسطو، الجزء الثاني، تحقيق: عبد الرحمان بدوي، وكالة المطبوعات الكويت، دار القلم بيروت، الطبعة الأولى 1980، المقالة الثانية ف 19-100 أ 10-11

[7]- إذا ما قارنا ما جاء في هذا المثال الذي أوردناه بما يوازيه في نقل حديث لأرغانون أرسطو، وهو نقل تريكو (J. Tricot) نجد أن كل ما قلناه بخصوص نقل متى بن يونس ينتفي تماما في نقل الثاني، حيث نجد عبارة نقل هذا الأخير واضحة لغة وأسلوبا. وإليك النص لترى الفرق الواضح بينهما « Nous concluons que ces habitus ne sont pas innées en nous dans une forme définie ,et qu’ils ne proviennent pas non plus d’autres habitus plus connus , mais bien de la perception sensible ».Aristote: les seconds analytiques , trd: j.tricot , livre II , chap19-100a-10-13.

[8]- أرسطو: كتاب العبارة، نقل اسحق بن حنين، ف10-19ب 35

[9]- أرسطو: كتاب التحليلات الأولى، نقل تذاري، ضمن: منطق أرسطو، الجزء الأول، تحقيق: عبد الرحمان بدوي، وكالة المطبوعات الكويت، دار القلم بيروت، الطبعة الأولى 1980، المقالة الأولى ف2-25 أ 5-10

[10]- أرسطو: كتاب التحليلات الأولى، نقل تذاري، المقالة الأولى، ف45-50 ب 5-20

[11]- أرسطو: كتاب التحليلات الأولى، نقل تذاري، المقالة الأولى، ف 6-28 أ 25-28. وانظر كذلك 28 ب 35

[12]- أرسطو: كتاب التحليلات الأولى، نقل تذاري، المقالة الأولى، ف1-24 أ10.

[13]- أرسطو: كتاب التحليلات الأولى، نقل تذاري، المقالة الأولى، ف1-24 ب 20

[14]- أرسطو: كتاب التحليلات الأولى، نقل تذاري، المقالة الثانية، ف6- 58 ب 30

[15]- أرسطو: كتاب التحليلات الأولى، نقل تذاري، المقالة الثانية، ف9- 60 أ 15

[16]- أرسطو: كتاب المقولات، نقل اسحق بن حنين، ف 3 – 1 ب 10-11

[17]- أرسطو: كتاب المقولات، نقل اسحق بن حنين، ف 4- 1 ب 25- 2 أ 1-4

[18]- وهو معنى قد اخطأ فيه هذا الناقل، لكن ما نستغربه هو أن نص إسحق بن حنين قد صححه الحسن بن سوار وقابله على أكثر من نسخة، كنسخة ابن زرعة، ولم يشر إلى هذا الخلط المفاهيمي، وكأن هذا الخطأ شائع ووارد في تلك النسخ.

[19]- وهو قول عبد الرحمان بدوي، فهو ما انفك يشيد بهذه الترجمات، بل ويعتبرها أجود وأفضل من الترجمات الأوروبية الحديثة. انظر: منطق أرسطو، الجزء الأول، تحقيق عبد الرحمان بدوي، ص: 7-8. وانظر كذلك: عبد الرحمان بدوي، أرسطو عند العرب، دراسة ونصوص غير منشورة، وكالة المطبوعات الكويت، الطبعة الثانية1978، ص: 10

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%85%D8...

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك