تركيا التاريخية..لا تلتفت إلى الوراء

 

على الرغم من أن تاريخ تركيا بما له وما عليه لا يزال حاضرا في مخيلة الأتراك، وعلى الرغم من أن رجال تركيا الذين صنعوا هذا التاريخ لا يزالون يعيشون في ذهنية المواطن التركي وثقافته، فإن تركيا إردوغان لا تلتفت أبدا إلى الوراء، وفي كل مرة يحقق فيها هذا الرجل وحزبه إنجازا انتخابيا كان أو سياسيا أو اقتصاديا، يجد الوسيلة دائما ليرتقي بسقف طموحاته إلى أعلى حد ممكن، دون النظر لما تحقق أصلا من أهداف في الماضي.

الذي يحدث في مجتمعاتنا العربية هو العكس تماما، وسيلة الدولة الوحيدة في سعيها لإقناع المواطن بضرورة دعمها والولاء لها، هو تذكيره في كل مرة بإنجازات تعود إلى 50 سنة وأكثر. وحتى تقنع هذا المواطن المغلوب على أمره بالتصويت لمشروعها، توهمه بعزمها اللامتناهي لإنجاز مشاريع مستقبلية في مجالات حيوية بالنسبة إليه كالصحة والتعليم والرياضة وغيرها..لكن طبعا 90% منها يبقى مجرد “ماكينات” جاثمة في أروقة الوزارات والمراكز الرسمية.

تركيا إردوغان تدرك جيدا وتيرة التغير الحاصل في تحول المُسَلَّمات الخاصة بكيفة التعامل مع مواطنيها بغض النظر عن انتمائهم السياسي والعقائدي والعرقي والإيديولوجي، وأن المُسَلَّمة الأقرب هي أن الذي يؤثر على صوت المواطن التركي في الانتخابات هو مناخ الإنجازات الملموسة التي تحيط به، والتي حققتها الحكومة ليس التي وعدت بتحقيقها، فإذا توفرت هذه الصورة الذهنية لدى الناخب التركي، يصبح عقله وقلبه وصوته أيضا جاهزا لتقبل ما تعد به الحكومة من مشاريع إضافية تسعى لتحقيقها على المدى البعيد والقريب والمتوسط.

وحتى نفهم البيئة التي عاشها الناخب التركي في الاستحقاق الأخير، هذه بعض المؤشرات التي لا يتجاوز مداها الزمني السنة أو السنتين، وهي مؤشرات ساهمت في صنع قراره الانتخابي، حتى لا نقول أثرت عليه في تحديد موقفه.

– خفضت الحكومة التركية نسبة البطالة إلى حدود 1.6%، ووفرت السنة الماضية فقط فرص عمل لأكثر من مليون شخص.

– افتتح إردوغان أكبر وأرقى مستشفى في العالم، بكامل التخصصات وبأحدث التكنولوجيات الطبية، مستشفى يتسع لـ 3000 سيارة إسعاف و13مهبط لطائرات الهيليكوبتر، ويوظف 1500 طبيبا و4000 ممرضا.

– تستعد الحكومة بعد ثلاث أشهر فقط لافتتاح المرحلة الأولى لمشروع مطار اسطنبول الثالث وهو الأكبر في العالم، وتقوم بإنجازه شركات تركية خاصة.

– خمسة شركات تركية كبرى وقعت على مشروع ضخم، هو عبارة عن اتفاقية تأسيس شركة لصناعة “سيارة تركية محلية” سيكون لها 5 نماذج، وتتوقع الشركة أن تستلم مليون طلب للشراء في المرحلة الأولى.

– باعت تركيا 22 قطار أنفاق من 4 عربات إلى تايلاند، من صنع شركة “بوزان كايا” التركية وبخبرات محلية.

– أعلنت شركة الصناعات الجوية والفضائية التركية “توساش تاي”، أن أول طائرة حربية محلية الصنع، ستجرى طلعتها التجريبية الأولى في الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية عام 2023.

– تعتزم تركيا تحويل ثكنة “رامي” العسكرية العثمانية الكائنة بمدينة اسطنبول إلى مكتبة تضم ملايين الكتب، من شأنها أن تكون الأكبر من نوعها في العالم.

ثوب على المقاس

من خلال حضور هذه المؤشرات ،وغيرها كثير،يصبح السؤال: لماذا فاز إردوغان؟ سؤال لا يحتاج إلى بحث طويل لأنه سؤال يحمل الإجابة.

المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، قال أن سر فوز مرشح “تحالف الشعب” رجب أردوغان، هو “إعطاؤه الأولوية لشعبه”. هذا الشعب شارك في العملية الانتخابية بنحو 88 بالمائة، وأظهرت النتائج، حصول أردوغان، على 52.59 بالمائة من أصوات الناخبين. وفي انتخابات البرلمان، حصد تحالف الشعب، الذي يضم حزبي “العدالة والتنمية” و”الحركة القومية” 53.66 بالمائة من الأصوات (344 من أصل 600 مقعد).

وهذه النتائج تعد دليلا قطعيا على ثقة الشعب بقيادته من ناحية، وتعكس دعم الشعب التركي للنظام الرئاسي الجديد من ناحية أخرى.

الحقيقة أن هذا النجاح الذي حققه إردوغان وحزبه لم يأت بضربة ساحر، ولم يكن ينم عن عبقرية سياسية ودهاء انتخابي فحسب، بل هو ثمرة جهود مضنية منذ عام 2002. لذلك فقد بدا للبعض أن حملة إردوغان الانتخابية جاءت باهتة ومتواضعة وظهر فيها الرجل بوتيرة بطيئة وبسيطة، والسبب أن حملة إردوغان بدأت قبل 16 سنة ولم تبدأ قبيل هذا الاستحقاق الانتخابي بشهرين.

إردوغان لم يختف تحت جلباب معلمه نجم الدين أربكان، بل حاك لنفسه ثوبا خاصا به، لا هو عصري ولا هو تقليدي، لا هو قديم ولا هو جديد، ظهر به للناس كما هو، فلقي قبولا أوليا قبل أن يتحول في الأخير إلى أسلوب حياة، ونموذجا حيا ومثالا واقعيا سعى البعض لتقليده، وأراد البعض حرقه وتمزيقه، وخاف منه كثيرون لأنه “موضة” غريبة عنهم، فوصفوه بأبشع الصفات، وهددوا بمحاصرته والحد من انتشاره لأنه يؤثر على منتجهم، ويهدد الرواج الطبيعي لبضائعهم.

رهان الصلاحيات

المفارقة في النجاح الأخير لإردوغان وحزبه وسياسته عموما، أن هذه المرة سيكون الأمر مختلفا. فالرئيس التركي سيبدأ فترته الرئاسية التي ستمتد إلى خمس سنوات كما فعل سابقا، ولكنه سيتمتع هذه المرة بسلطة أكبر، بعد إلغاء منصب رئيس الوزراء وتقليص سلطات البرلمان مما يمنح الرئيس سلطة تنفيذية واسعة النطاق.

أردوغان الذي يشيد الكثيرون بقيادته وحفاظه لسنوات طويلة على نمو الاقتصاد التركي، وخلقه نظام سياسي أكثر مرونة وشمولية مما كان عليه في السابق، إلى جانب تسهيله انخراط جميع فئات المجتمع في عدة المجال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.

أردوغان الذي أعطى دائما الأولوية للشعب، وتجاوز الخلافات السياسية الحزبية و رفع مستوى الملايين من الأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسطمن خلال الاستثمار في التعليم والصحة والبنية التحتية والطرق والمطارات والإسكان العام.

أردوغان الذي لا يؤمن بصفرية العلاقات الدولية، ويعتقد أن أي علاقة لتركيا مع أي دولة يجب أن تكون مثمرة ، حيث فتح أفاقا جديدة في العلاقات التركية – الدولية لتشمل بلدان في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

كيف سيتعامل رئيس تركيا الجديد بصلاحياته الجديدة مع الرهانات المحلية والدولية والإقليمية؟ هل بنفس السياسة والمواقف أن موقعه الجديد سيتيح له اتخاذ قرارات حاسمة لم يكن قادرا على اتخاذها في الماضي؟

في ظل هذه الشروط الجديدة للحكم ستواجه تركيا تحديات كبيرة، في الاقتصاد وفي السياسة الخارجية بصورة خاصة، فضلا عن رهانات داخلية قد تطفو على السطح. ويمكن حصر هذه التحديات في الآتي:

– صعود التشدد القومي في المجتمع التركي وقد ظهر ذلك حتى في الانتخابات الأخيرة التي شهدت صعودا لافتا للمكون القومي في التحالف على حساب تراجع المكون الإسلامي.

– حالة الطوارئ المفروضة في البلاد منذ عامين والوضع العام لسلك القضاء ووسائل الإعلام في ظل الضغط الدولي في هذا المجال.

– على الصعيد الخارجي، قال أردوغان مثلا في خطاب النصر الانتخابي إن تركيا ستستمر بـ”تحرير الأراضي السورية”، فكيف سيتعامل مع هذه القضية التي سببت خلافات لتركيا مع حلفائها في الأطلسي، ومع الولايات المتحدة.

فإلى أين ستتجه تركيا بعد فوز أردوغان بولاية رئاسية جديدة بموجب نظام رئاسي تنفيذي؟هل ستتأثر السياسة الخارجية الاقليمية لتركيا بعد إقرار هذا النظام الجديد؟

من الواضح أن الاستقرار السياسي والاقتصادي وحتى الاجتماعي الذي أرسى إردوغان دعائمه طيلة السنوات الماضية لا يمكن التضحية به بسهولة، حتى وإن تطلب الأمر بعض التضحيات في المواقف والسياسات المحلية والدولية.

ففي النهاية ما يهم إردوغان وحزبه هو أن يحافظ على المكاسب التي تحققت لصالح المواطن التركي في الداخل والدولة التركية في الخارج، ذلك أن الهدف في الأخير هو الوصول بتركيا على الأقل إلى مصاف أفضل عشر دول في العالم.

المصدر: https://islamonline.net/26065

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك