قراءة الاعتزال من منظور الألفية الثالثة: صدى المعتزلة في الفكر الإسلامي بين الماضي والحاضر أنموذجاً

عبد الرزّاق القلسي

 

يوحي لفظ الاعتزال في التقبّل القرائي بكلّ ما هو خلاّق ومبدع ومجدّد في النظر إلى أحوال الدنيا والدين، إذ اقترن محموله الدلالي بفضائل التفكير والعقل، وهي أعلى الفضائل جميعا بحسب الموقف السقراطي القديم. وأيّا كانت البيئة التاريخية التي شهدت ميلاده ونشأته وأفوله، فالثابت يقينا أنّه يحمل قدرا عظيما من الأسئلة التي نشأت بفعل التثاقف مع الآخر اليوناني، أو بفعل تطوّر ذاتي في التاريخ والثقافة الإسلامية، وهو تطوّر يلوح لنا حتمية من حتميات التاريخ. إنّ الاعتزال قد خلق وعيا ضدّيا في صميم الثقافة الإسلامية، سواء عبر منهجية النظر إلى العقيدة، أو عبر الفلسفة التي تحكم مقاربة أهل الاعتزال لمقولاتها، أو من خلال تأثير الثقافي والفلسفي على السياسي والإداري لمّا غدا الاعتزال بحسب قولة شهيرة للمفكّر المغربي عبدالله العروي "إيديولوجيا رسمية للدولة العباسية"(1) على مدى جيل كامل (32 عاما من حكم المأمون إلى حكم الواثق مرورا بحكم المعتصم). هل يمكن أن نقول إنّه يمثّل لحظة انشقاق، أو قطيعة إبيستيمولوجية، مع المعرفة السائدة التي توارثها المسلمون منذ عهد النبوة، والتي من أكثر خصائصها صلابة وقوّة، أولوية الأثر على النظر، والنصّ على الخطاب، والنصوصيّة على التأويلية وغير ذلك من الثوابت والقواعد المنهجية في التفكير، والتي ائتلفت لتشكّل أرثوذوكسية تجافي أيّ جهد مخالف أو أيّة رؤية جديدة أو مستحدثة طبقا لما قاله الشافعي من أنّه "لا اجتهاد مع النصّ".

إنّ جل الأبحاث التي كان الاعتزال مدارها تقرنه بـ "العقلانية" وبـ "العقلانية الإسلامية" على وجه خاص، وتقول المستشرقة الألمانية زابين شميدتك في هذا الصدد: "إنّ أهل الاعتزال قد اعتقدوا في علوية العقل البشري والحكم العقلي (في مناقضة الجبر) وطوّروا إبيستمولوجيا وأنطولوجيا وعلم نفس، وقد شكّلت القواعد الكبرى لنظرتهم حول الطبيعة وحول الله والإنسان وحول الظاهرة الدينية من جهة أنّها وحي، ومن جهة أنّها قوانين إلهية"(2).

وضمن هذا المنظور الحداثي الذي يموضع الفكر الاعتزالي في إبيستميته الخاصّة ويدرسه، باعتباره أفقا استشرافيا للمآلات الممكنة التي تنتظر العقل العربي الحديث، يتنزّل هذا الكتاب "صدى المعتزلة في الفكر الإسلامي بين الماضي والحاضر" الصادر عن مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" سنة 2017، والذي أشرف عليه الباحث في الإسلاميات التطبيقية الأستاذ حمّادي ذويب. وقد ضمّ الكتاب نخبة من الدراسات التي عكفت على النظر إلى الاعتزال من جهة أنّه منهجية في الفكر، وتثاقف مع الآخر، ومن جهة أنّه نماذج وتجارب أوتوبيوغرافية لزعماء في الإصلاح في القرن العشرين(3).

إنّ المنهج - بحسب التعريف الديكارتي - هو أسّ كل معرفة، وهو روح كل عمل ينهض به العقل من أجل أن يضيف أو أن ينقد أو يصحّح ما كان سائدا أو متداولا من المعارف. وعلى ضوء ذلك، اتفقت كل الأبحاث الواردة في هذا الكتاب على أصالة المنهاج الذي ابتكره المعتزلة في النظر إلى علم الكلام وفي مقاربتهم لقضايا الدين والدنيا. وقد لخّص الباحث عمّار بن حمودة ذلك بقوله: "إنّ أهم مبادئ الفكر النقدي المتأثّر بالمعتزلة فتح باب الاجتهاد واعتماد الروح الأخلاقية للدين بدل المعنى الحرفي للنصوص، واعتماد مبدأ النسبية في المعرفة" (ص211) فيما يرى الباحث عادل الرحّالي أنّ أقوى قاعدة منهجية تحكم التفكير الاعتزالي هي "الالتزام بالعهد التأويلي للعقل" (ص310) مع ما يولّده ذلك من مسار إبيستمولوجي قائم على "تحرير الإنسان من سجن الأرتوذوكسية السُنّية وأحكامها الفقهية" (ص 204) وعلى الاقتدار على استنطاق النصوص والأدّلة، استنطاقا محكوما بالعقل وبالبحث عن الحقيقة العقليّة.

إنّ الاعتزال فكر ينضوي في الإبيستيمية العامّة للفكر الإسلامي؛ لأنّ هاجس المعتزلة الكلامي والفلسفي كان ينهض على "إبطال عقائد المخالفين وإثبات عقائدهم وتأصيلها في النصّ القرآني" (ص 141) كما يذهب إلى ذلك الباحث هيكل المنيف في بحثه المعنون بـ "قراءة في كتاب تنزيه القرآن عن المطاعن لعبد الجبار الهمذاني"، فالقرآن بوصفه نصّا مؤسّسا للحضارة الإسلامية يمثّل المشروعية الأولى للاعتزال في المستوى الإيماني المحض. أمّا في المستوى التأويلي، فإنّه ينظر إليه بالعقل ويخضع إلى سلطان الفهم والتأويل والتأوّل وكلّ ما ينبثق عن ذلك من أحكام واجتهادات وقراءات، فالقرآن نص يتعقّل، وهو موضوع للتعقل، أكثر من كونه نصّا للتسليم، وقد تولّدت عن ذلك حقائق إبيستيمية جديدة لم يألفها العقل المسلم أهمّها "تبنّي القول بأسبقية العقل على الوحي" (ص 212) وقد ورد في باب الحوار في هذا الكتاب قول للباحث التونسي محمد شقرون ومفاده أنّ "أهمّ ما يميّز المعتزلة عن غيرهم من الفرق تقديمهم العقل في كلّ الأحوال" (ص 501). ونشأت عن ذلك فرقتان رئيسيتان، وهما "أهل الرأي وأهل الحديث"، وأصبح الصراع الفكري والمذهبي مفتوحا أمام كلا الحزبين من أجل إثبات طرف كلّ نظريّته ودحض النظرية المقابلة.

ولمّا كان الاعتزال حركة دينية، كلامية وسياسية، فإنّه استمدّ كلّ عنفوانه وحيويته من انخراطه في المجتمع العبّاسي الذي نشأ فيه، وكانت السياسة هي البوّابة التي نفذ منها الاعتزال، حتى تتّسع رقعة الدعوة إلى أفكارها ومبادئها الخمسة. يقول الباحث حمادي ذويب في هذا الشأن مقدّما لكتاب "تاريخ الجهميّة والمعتزلة" للباحث السوري جمال الدين القاسمي: "...وللخليفة المأمون دور هام في نشر مبادئ فرقة المعتزلة بعد أن تأثّر بآراء أحمد بن أبي دؤاد الذي عيّنه قاضيا وخاض في دعوته الناس والعلماء للقول بخلق القرآن" (ص 376)، فقد كانت الخلافة العبّاسية زمن ثلاثة من خلفائها وعلى امتداد 27 عاما من حكم المأمون إلى الواثق متبنّية للمذهب الاعتزالي في السلطة وفي الدين وفي الإدارة وفي القضاء، وحيثما كانت الدولة، كانت إيديولوجيا الاعتزال تمارس سواء بالقوّة الناعمة التي هي الحِجَاج والمناظرة والخطاب، أو بالقوّة القاهرة التي تجلّت في الزجّ بالمعارضين (خاصّة من أهل السُنّة والجماعة) في السجن ولنا في محنة الإمام ابن حنبل أقوى دليل على ذلك.

إنّ ما يهمنا في هذا المقام هو في تحوّل الاعتزال إلى خطاب مستوفي الأركان، على الرغم من نخبويته الفكرية ومن اقتصار تقاليده على البنيات الفوقية للدولة؛ فهو خطاب لأنّه "خطاب موجّه وليس لأنه مصمَّم حسب المتكلّم فحسب، وإنّما لأنّه يتطوّر في الزمان، ويعتبر سائرا نحو جهة ما"(4) ولأجل ذلك يمكن أن نتكلّم عن تاريخية الاعتزال فهو - باعتباره مذهبا كلاميا - نشأ في البصرة ولكنّه ازدهر في بغداد، حيث انتعش في مناخ من المناظرات والحوارات مع الفرق الإسلامية المخالفة له أو تلك التي تتناصّ مع مقولاته وأفكاره. ويذهب بعض الباحثين إلى التقاء الاعتزال مع بعض المذاهب الشيعية مثل المذهب الزيدي، يقول في هذا الشأن الباحث حمد العبيدي في بحثه "من تجلّيات تأثير المعتزلة في المذهب الإباضي": "ما يمكن الإقرار به أنّ العلاقة بين إباضية المغرب ومعتزليّيها كانت تتأرجح بين التحالف أحيانا ضدّ المالكية ..." (ص 28) كما إنّ المعتزلة والشيعة يلتقيان في ما يدعوه القاضي عبد الجبّار من أنّ "معرفة الإمام واجب" (ص 29).

كما إنّ الاعتزال خطاب من جهة أنّه "شكل من أشكال الفعل، وهو خطاب تفاعليّ كما أنّه مظروف بمقامه"(5)، وهي الشروط التي يضعها باتريك شارودو في استواء كلّ خطاب. ومن أبعاد ذلك ازدهار الاعتزال بفضل ما أوتي لأنصاره ولأعلامه من قوّة في الحِجاج واقتدار على المناظرة قلّما أوتيت لغيرهم. ولأجل ذلك، فإنّ أهل الاعتزال قد وضعوا الآخر في صلب تفكيرهم، من ذلك "إنّ الردّ على النصارى كان مسألة محورية في الفكر الاعتزالي" (ص 81) بحسب ما يذهب إليه الباحث يوسف مدراري في بحثه "أثر الاعتزال في نقد الأديان". كما أنّ في الاعتزال قوّة حِجاجيّة تذهب في اتجاه دحض المقولات الشيعية في حتمية إمامة علي بن أبي طالب، وهو ما ذهب إليه أيضا كاتب هذه السطور في مقالته "لا إمام سوى العقل: الحِجاج في رسائل الجاحظ". إنّ ما يمكن أن يهمّنا في هذا الصدد هو في حوارية مذهب الاعتزال وفي هذه الروح المناظريّة التي تسكنه، وهي روح إذ تؤسس لإيتيقا هذا المذهب وتؤكد انخراطه في إبيستيمية العصر، فإنّها تهدف إلى ما يسمّيه أفلاطون ب" ذكر الحقيقة عارية"(6). فتاريخ الاعتزال تاريخ مشبع بالمناظرات ومرصّع بفنون الجدال والسجال. ولمّا كانت المناظرة في أصل نشأتها متأثّرة بالمحاورة الفلسفية عامة واليونانية خاصة"(7) فإنّ المناظرة التي كان الاعتزال طرفا فيها تضجّ بتقديم التعريفات والمفهومات أو بدحض تعريفات أخرى مقابلة لغاية الخلوص إلى حقيقة أسمى نجدها مبثوثة في أصولهم الخمسة. فالمناظرة مع المعتزلة مناظرة مع الآخر (النصراني) ومع المختلف (أهل السنة والجماعة والفرق الإسلامية الأخرى). وفي كل الأحوال، فإنّ المعتزلة يتناظرون مع خصوم أشدّاء عليمين بمذاهبهم لا تعوزهم الحُجّة، وهذا في تقديرنا يمكن أن يكون مقدّمة لمناظرات أو لفكر مناظري حديث بين المذاهب والإيديولوجيات في العقل العربي المعاصر، والتي لا يصعب أن نحصيها لندرتها أو قلّتها(8).

إنّ هذا البعد المناظري في مذهب الاعتزال لم يكن تعبيرا فحسب عن تطوّر في أدوات الحِجاج وسجلاّته ومقاصده، وإنّما كان أيضا تطويرا للدرس البلاغي والعقائدي بإخراجه من فضاء النصّ (القرآن والشعر) إلى فضاء المجتمع والمقامات العامة والفضاءات المفتوحة في القصور والمساجد ودوائر القضاء بما كان يمثل تعضيدا حقيقيا للدولة العباسية التي كانت مع المأمون والمعتصم والواثق قد حسمت أمرها، ووجدت في الاعتزال إيديولوجيا مناسبة لها معبّرة عن ذاتها وعن فلسفتها في الحكم وفي الإدارة وفي القضاء. فالخطاب الاعتزالي "مظروف بمقامه" بحسب عبارة شارودو حول الخطاب بمعنى الانخراط السياسي والفكري في الأبنية القائمة للدولة وضمن السلطات التي نشأت مع الخلافة العباسية وفيها، وفي سياق من التحالفات المذهبية والعقدية، أو في سياق من الخصومات والصراعات الإيديولوجية التي تحكم هكذا نظرية، لا سيما وأنّ للمعتزلة الفضلَ في إدخال تقاليد الصراع الفكري في صميم الثقافة الإسلامية، فقد "كانوا الأوائل الذين خاضوا غمار الجدل الديني في الإسلام" (ص 81) وحتّى بعد أفول نجم الاعتزال سياسيا بتحالف الخليفة المتوكّل مع أهل السنّة والجماعة، فإنّ التقاليد الاعتزالية في الفكر الإسلامي قد ظلّت راسخة، وتتمثّل في القدرة الفائقة على الحجاج، والانخراط في المناظرات والاشتغال بالتنظير العقائدي، وهذا ما سمح بأن تنشأ بينهم وبين بعض الفرق الإسلامية الأخرى (الشيعة الزيدية على وجه خاصّ) تقاطعات منهجية في التفكير وفي الأداء الفكري حدّت من شطط الصراع في ما بينها، وجعلت ممكنات التثاقف مع الآخر متاحة ومنتِجة.

الواقع أنّ المعتزلة قد أنشأوا طقوسا في المناظرة والمحاورة والسجال مع الآخر؛ فرسالة الجاحظ مثلا في "الردّ على النصارى" هي في بنيتها العامّة وفي تفاصيلها وحركاتها تسريد لمحاجّة بينه وبين مناظِر نصراني متخيّل يعمد الجاحظ إلى إيراد أفكاره ودحضها الواحدة تلو الأخرى. في هذه المناظرة نستوحي التقاليد الاعتزالية في الحجاج وفي التساؤل والتسآل بما يجعلنا نقف أيضا على أدبيات الدين المسيحي في صميم النص الجاحظي الذي تطال موسوعيته كلّ شيء وكلّ الموضوعات ذات الشأن بالعصر العباسي الذي كان الجاحظ شاهدا عليه وطرفا فيه.

إنّ هذا الخطاب الاعتزالى قد أنشأ تقاليده الخاصة، سواء من خلال انخراطه في الواقع السياسي العباسي أو من خلال التثاقف الذي حدث لحظة الالتقاء بالفكر اليوناني، وكلّ حديث عن هذا الخطاب يدرك أنّه كان نافذا في كلّ مناحي الحياة العباسية بما في ذلك الأدب والشعر. ويذهب البعض إلى أنّ في شعر أبي تمام وفي تخصيصه المدح للخلفاء الاعتزاليين وخاصة للمعتصم ما يدلّ على تأثّره بالأصول الخمسة، حيث أضحى شعره فضاء "للجدل بين الإسلام والكفر"(9).

إنّ هذه الدراسات التي شملها كتاب "صدى المعتزلة في الفكر الإسلامي قديما وحديثا" تُجمِع كلّها على أّنّ الاعتزال كان قيمة مضافة للعقل الإسلامي، ليس لأنّه فتح باب الجدال واسعا أمام قيم الحوار والمناظرة والصراع الفكري، بل لأنّه قدّم رؤية جديدة للإسلام قوامها "التحوّل من المنهج الديني الخالص إلى الطريقة الجدلية التي يهمّها الانتصار على الخصم عن طريق إيراد مقدّمات شائعة مشهورة لا يستطيع الخصم المنازعة في صحتها"(10). نحن إذن أمام حركة تنويرية في العقل الإسلامي أداتها الجدل ومرجعيتها العقل، فيما الدين والدنيا هما موضوعَا النظر لديها. وبقدر ما اشتغلت هذه الدراسات على إبراز الوجه الإبداعي للحضارة العبّاسية فإنّها أخذت في الحسبان أفول نجم الاعتزال وخبوّ نوره، سواء كمؤسسة أو كمذهب فكري فلسفي مع الخليفة المتوّكل. ولمّا كان إحراق الكتب في القديم (وربّما أيضا في الحديث ولكن مع رمزيّة أكبر وأشنع) هو التعبير الأقصى في رفض الآخر وتنزيله منزلة الشيطان والكافر والمرتدّ، فإنّ إحراق كتب المعتزلة كان بذاته تدشينا لعهد جديد يغيب عنه "العهد التأويلي للعقل" مقابل استحضار جديد للفكر النصوصي والتفسير الحَرْفي بفاعلية أكبر على خلفيّة وصم الآخر بالمروق عن الدين.

ولئن انتهى الاعتزال كخلفيّة فلسفيّة وأفق إيديولوجي لنظام الحكم العباسي سنة 155هـ، فإنّ تقاليده الكبرى قد ظلّت كامنة في وعي كلّ جهد أو حركة تنويرية في التاريخ الإسلامي القديم والحديث. ولأجل ذلك اتفق الباحثون على أنّ الاعتزال لم يغب تماما عن تداولية الفكر الإسلامي، بل خلق لنفسه مريدين وأتباعا في السُنّة الثقافية الإسلامية، وقد أحيى هذا الفكر لدواع مختلفة تماما في القرن 19 وخاصة في القرن العشرين إلى درجة أنّ المفكّر الإيراني الكبير عبدالكريم سروش يقول بقوّة اللسان: "إنّي معتزليّ جديد".

اتفقت بعض الدراسات على الأسباب التي عجّلت بغياب الاعتزال؛ فالبعض يرى "أنّ الفلسفة والاعتزال كلاهما فكر النخبة"(11) فيما يؤيّد الباحث محمد شقرون هذا التفسير بقوله: "الاعتزال فكر نخبوي" (ص 12) و"لم يكن لهذا الفكر بطبيعته امتداد في اتجاه العامّة"(13) وعلى الرغم من ذلك، فلقد اهتدى عديد الباحثين إلى أنّ تلقّيا مذهبيّا وفلسفيّا قد وقع للتراث الاعتزالي من قبل مذاهب وفرق إسلامية، وقد كانت المستشرقة الألمانية زابين شميدتكه من بين الأوائل الذين انتبهوا إلى أنّ التواشج الحاسم بين مذهب الاعتزال والشيعة قد حدث في ما بين القرنيْن العاشر والحادي عشر، خاصّة في محيط العلاّمة الإمامي الشيخ المفيد (ت.1022) ومريديه ومن بينهم الشريف المرتضى (ت.1044).

إنّ التلقّي للاعتزال بعد نكبته يدلّ على أنّ هناك حقيقة مندسّة في صلبه لم يعد ممكنا لا منهجيا ولا إبيستمولوجيا التغافل عنها أو هجرها، ولهذه الحقيقة صلة بفاعلية التأويل وتمييزها وتخصيصها عن فاعلية التفسير، وللباحث الكبير نصر حامد أبوزيد قول في هذا المعنى: "إنّ التأويل يرتبط بالاستنباط في حين يغلب على التفسير النقل والرواية، وفي هذا الفرق يكمن بُعد أصيل من أبعاد عملية التأويل"(14). فالمعتزلة قد وضعوا ضوابط وشروطا وأُفُقا لعملية التأويل "المقبول وهو الذي لا يُخضِع النص لأهواء الذات وميول المؤوِّل الشخصية والإيديولوجية"(ص 160).

وبالإضافة إلى بعد التأويل، نجد بعدا آخر في صميم حقيقة الاعتزال، وهو وجود روح ديكارتية كامنة بقوّة مدارها فاعليّة العقل وقدرته على الوصول إلى المعرفة عن طريق النزر في الأدلّة، وهذا ما يذهب إليه أيضا الباحث محمد عبد البشير في بحثه المعنون "الفكر الاعتزالي في القراءات المعاصرة" بقوله: "إنّ خطاب الاعتزال ...هو فعل المجاوزة والأسئلة المستمرة" (ص 154)، وينضاف إلى ذلك بعد أنطولوجي في فكر المعتزلة وهو "استطاعة الإنسان وقدرته على الفعل والاختيار "مع ما في ذلك من دحض لمقولات المرجئة وكلّ أنصار الحزب الأموي في أنّ كل شيء مقدَّر سلفا بما في ذلك المعاصي التي تُرتكب بحقّ الرعيّة وبحقّ العدل.

وفي العصر الحديث، ظهرت الحاجة الماسّة إلى فكر تنويري يدعم جهود الإصلاح الديني الإسلامي، فكان إحياء الاعتزال ضرورة فكريّة ومنهجيّة في ذات الحين. ولأجل ذلك يرى البعض أنّ الشيخ الإمام محمد عبده (ت.1905) هو أوّل المعتزلة الجدد، وأنّ مؤلّفاته ورؤيته إلى الإصلاح وقراءته للقرآن متولّدة من تأثّر واضح بقواعد الفكر الاعتزالي، على الرغم من أنّ هذا التأثّر ظلّ مسكوتا عنه وخفيّا بالنظر إلى سلطة التقاليد الاشعرية وسطوتها المهيمنة على مؤسسة الأزهر وخطابها، وهي المؤسّسة التي كان الشيخ الإمام محمد عبده من أهمّ أعلامها ورموزها.

وفي هذا المقام، يشير الباحث أحمد محمّد سالم في بحثه "أثر المعتزلة في الفكر المصري الحديث" أنّ الشيخ الإمام محمد عبده قد مازج بين المعتقد الأشعري في جانب والمعتقد المعتزلى في جانب آخر" (ص 335) ويتجلى ذلك في الحرية التي مارسها في نظرته إلى العقيدة الجبرية التي تؤدّي إلى التواكل والجمود على مستوى الممارسة في التديّن الشعبي" (ص 344)، فضلا عمّا عرف عنه من رؤية نقدية لعلم الكلام الأشعري بوصفه مسؤولا عن تخلّف الشعوب الإسلامية. وبقدر ما كان للشيخ الإمام أعداء وخصوم، كان له أنصار ومريدون ممن أشاعوا اعتزاليته في أقصى الشرق الإسلامي - في أندونيسيا - بما يشبه نوعا من الحركة التنويرية التي كان هو أسّها وعمادها. وفي هذا المقام، تستوقف الباحث عمّار بنحمّودة تجربة فريدة نهض بها المفكّر الأندونيسي هارون ناسوتيون (ت.1930) الذي كان تلميذا للشيخ الإمام في عصر كان الناس يحجّون فيه إلى مصر طلبا للمعرفة، وقد استقصى روح الحداثة من الأصول الخمسة، ورأى بأنّ "المعتزلة، برأيها في العدل الإلهي، قد استطاعت تأسيس حقوق الإنسان في أجل معانيها" (ص 223)، فضلا عن "فتح باب الاجتهاد في جميع المجالات دون استثناء واعتماد الروح الأخلاقية للدين بدل المعنى الحرفي للنصوص" (ص 211)، وهذا ما يدفع إلى القول بأنّ الفكر الاعتزالي في العصر الحديث يمكن أن يمثّل إبيستمولوجيا أيّ مشروع نهضويّ وإصلاحيّ عربيّ مقابل مشروعين: مشروع التحديث الغربي الذي استقبل المفاهيم الغربية بدون أيّ روح نقدية، ومشروع الوهبنة الذي أصبح له دولة في أقدس بقاع الأرض لدى المسلمين، أرض الحرمين الشريفين.

إنّ لهذا التلقّي للاعتزال في العصر الحديث صُوَرًا ووجوهًا وتجارب متعدّدة تُجمِع كلّها وبدون استثناء على أنّ النهضة العربية الإسلامية المعاصرة هي نهضة خارج مقولات المذهبية والطائفية والعشائرية وغيرها من المقولات التي فرّقت المسلمين. فما يجمع هارون ناتسيون ونصر حامد أبو زيد وعبد الكريم سروش والشيخ الطاهر ابن عاشور ...ما يجمعهم هي مقولة العقل في النظر إلى الأدلّة الشرعية، فنشأت معهم علوم جديدة لقراءة المتن الإسلامي، مثل علم أسباب النزول، وهو علم يقف على خلفية الجدل بين النص والواقع و" هو يكشف عن رؤية تؤمن بأنّ العلاقة بين الخطاب القرآني (التنزيل) والواقع تنبني على روابط سببية منطقية يتّصل فيها الخطاب المقدّس بشروط مولّدة ناشئة عن نوازل وملابسات موصوفة تاريخيا" (ص 295).

كما نشأ عن هذه الاستعادة اللاّمذهبية وغير الإيديولوجية للاعتزال "نوع من الحفريات على أطروحات المعتزلة أركيولوجيا تحت ركام التاريخ وطبقاته السفلية" (ص 273) كما يذهب إلى ذلك الباحث عادل الرحالي في بحثه "المرجعية الاعتزالية في فكر نصر حامد أبو زيد" حيث لم يعد السلف الصالح كلّه موضع تقديس وامتناع عن النقد، ولم يعد "المعنى الديني متجذّرا على نحو سكونيّ خارج فضاء التاريخ" (ص 201) فيما يشبه أنطولوجيا المعنى، بل إنّ تاريخية الدلالة و"الحقائق الإمبيريقية" (ص 282) هي التي تمثّل السنن الحقيقية لنشأة المعنى، سواء في القرآن أو في الحديث.

إنّ المؤكّد لدينا أنّ للعقلانية الإسلامية أعداءَها وخصومها، مثلما أنّ لها أنصارا ومريدين قديما وحديثا، وفي العصر الحديث إذا ما يتمترس الخصوم وراء المؤسّسات الكبرى للإسلام، سواء في الأزهر الشريف، أو أكثر من ذلك وبصوره أكثر راديكالية، وراء هيئة كبار العلماء بالسعودية (فضلا عن وسائل الإعلام) فإنّ الأنصار يتمترسون وراء الفكر ذاته عسى أن تنبثق من ذلك حركة تنويرية تشقّ المجتمع، وتجد في بيئات الطلبة والباحثين والمثقفين عموما أكبر سند لها.

والى حد الآن، فإنّ التعاطي مع الاعتزال حديثا كان تعاطيا لا يخلو من التجديد، وإن انحسر في النخب المثقّفة. فقد أيقن البعض بضرورة تغيير ترتيب الأصول الخمسة للفكر الاعتزالي في اتجاه تنزيله في البيئة التاريخية التنزيل المتلائم مع سنن الحداثة، ولأجل ذلك نرى الباحث المغربي الكبير الفيلسوف عبد الله العروي يقرأ الأصول الخمسة ضمن ترتيب مختلف وتأويل آخر حسب ما أورده في كتابه المعروف "مفهوم العقل". وغير بعيد عن هذا الاجتهاد المعاصر يرى الباحث البارز نصر حامد أبو زيد أنّ "المنزلة بين المنزلتين ظاهرة توفيقية، إذ إنّها وقوف ضد النزعة الدموية التي سيطرت على الفكر الخارجي خصوصا لدى الأزارقة"(19) بما يعني أنّ هذا المبدأ هو مبدأ مضادّ لكلّ نزوع إلى التكفير والأحكام المعيارية الفقهية الجائرة التي أدّت بحياة الكثير من المفكّرين والباحثين (مثلا المفكر السوداني محمود طه)، فهو يتّجه بالتفكير الإسلامي إلى تبنّي رؤى أكثر تسامحا مع الغير من أصحاب الأديان الأخرى وليست الأديان السماوية فحسب، بل وحتّى الهندوسية والبوذية. وفي هذا المقام، لابدّ أن نتذكّر مشروع البروفيسور محمّد الطالبي في دراسة الأديان الآسياوية على سبيل تفهّمها وقبولها وتأكيدا على معاني العيش المشترك بين مختلف الأديان، سماوية أكانت أم وضعية.

إنّ المؤكد لدينا أنّ في الاعتزال تقاليد تأسيسية أوّلية في الحوار مع الأديان، ولنا في هذا المعنى مصدران لا غنى عنهما، وهما "في الردّ على النصارى "في رسائل الجاحظ وكتاب "تثبيت دلائل النبوة" للقاضي عبد الجبار، وفي كلّ الأحوال فإنّ دراسة الأديان من منظور اعتزالي يؤشّر إلى ممكنات الحوار مع الآخر، لاسيما أنّ الاعتزال نشأ في الأصل في بيئة متعدّدة الأديان والطوائف، ونرى أنّه من الممكن أن ينمّي فاعلية التواصل بين الأديان والعقول والثقافات، ويتعالى عن كلّ انغلاق ويختلف في هذا المعنى عن الأرثوذوكسية السنّيّة التي تكتفي بذاتها كما لو كانت قلعة محصّنة من كلّ التأثيرات الآتية من هنا وهناك.

إنّ الاعتزال أصول خمسة حدّدها بوضوح القاضي عبد الجبّار، وهي بالترتيب: التوحيد - العدل - الوعد والوعيد - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - المنزلة بين المنزلتين. ولقد لقيت هذه الأصول من الدراسات والأبحاث ما كشف حقّا عن منزلة هذه الفرقة في تأسيس علم الكلام وفي ريادتها في كلّ ما يتّصل بمنهجية العقل في النظر إلى مسائل العقيدة. وحسبنا أن نورد شهادة من أحد خصوم المعتزلة، وهو المَلَطِي، إذ يقول عنهم: "إنّهم أرباب الكلام وأصحاب الجدل والتمييز والنزر والاستنباط والحجج على من خالفهم وأنواع الكلام والمفرّقون بين علم السمع وعلم العقل والمنصِفون في مناظرة الخصوم".(20)

إنّ التلقّي الحديث - كما أسلفنا - قد دعا إلى تغيير الترتيب التفاضلي لتلك الأصول الخمسة، وهناك شبه إجماع على ضرورة تقديم الأصول ذات الأفق الحداثي، أو تلك التي تتّصل بالعقل وبالاختيار الحرّ، كما أنّ هناك نوعا من الاتفاق على استبعاد أصل "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لأنّ هذا "المبدأ هو الذي جعل أهل الاعتزال يضطهدون مخالفيهم ويقسون عليهم لاعتقادهم أنّهم بمخالفتهم قد أتوا منكرا"(21). وبالنسبة إلى العقل، فإنّ القاضي عبدالجبار قد صاغ قاعدة تعدّ من أقوى القواعد على الإطلاق، وهو يقول: "...وأوّلها العقل، لأنّه يميّز بين الحسن والقبيح، ولأنّ به يعرف أنّ الكتاب حجّة وكذلك السُنّة والإجماع".(22)

إنّنا يمكن أن نعدّ الشيخ الإمام محمد عبده هو من أحيى هذا الفكر كما يذهب إلى ذلك الباحث عمّار بن حمودة، ومع الشيخ نشأ الأتباع وقد ذكرنا المصلح الأندونيسي هارون ناسيتون، ويمكن أن نذكر أيضا في هذا المقام - وإن كان بكثير من النسبيّة - الشيخ ابن باديس في الجزائر الذي كان تلميذا لمحمّد عبده، وكان قريبا منه ومن فكره، سواء أثناء زيارة الشيخ للجزائر 1903 أو أثناء زيارة ابن باديس إلى مصر. وقد ثبت بالدليل القاطع أنّ الشيخ بن باديس قد أقسم بأنّه "ليس من أتباع محمّد عبدالوهاب ولم يشتر من كتبه كتابا واحدا ....كما أنّه يؤمن أنّ الإرادة الحرّة للإنسان لا سبيل إلى نقاشها، وهي عماد المسؤولية البشرية والعدل الإلهي"(23). إنّ ما يجمع محمّد عبده وابن باديس وهارون ناتيسون هو تباعدهم عن العقيدة الوهّابية التي أصبحت هي العقيدة الحاكمة في الأراضي المقدّسة بنجد والحجاز. فالموقف المضادّ للوهابية يلتقي موضوعيا مع الموقف المساند، لإحياء الاعتزال كما أنّ التماهي مع الوهابية والوهبنة - مثلما يظهر بجلاء في فكر رشيد رضا صاحب المنار - هو في الآن نفسه ابتعاد عن الاعتزال وعن مفاهيم العقل والإرادة الحرّة. فالوهابية كما يرى الباحث التونسي البارز في كتابه "حلف نجد" تنهض على "عقيدة: التوحيد، الفرائض، المحظورات، والجهاد".(24) ويواصل الباحث ذاته الحديث عنها وعن تمدّدها فيقول: "لئن لقيت الوهّابية صدى لها في الأوساط الشعبية والبدوية والجبلية، فإنّها لقيت معارضة مهمّة وقوية من لدن فئة من المجتمع، وهم العلماء"(25). فالوهّابية تنتعش في الأقاصي والتخوم وحيث تتضاءل المدينة والمدنية فيما يبدو لنا الاعتزال مذهبا من مذاهب المدن والحواضر الكبرى: بغداد، القاهرة، قرطبة ...

لقد نهض كتاب "المعتزلة في الفكر الإسلامي بين الماضي والحاضر" على رهان كبير، وهو تقصّي إحياء الاعتزال في العصر الحديث من خلال الأعلام والنماذج والتجارب. وإذا ما كانت سيرة الشيخ الإمام محمد عبده منبئة بإحياء هذا الفكر وبتوطينه في أنظمة الفكر الإسلامي، فإنّ في فكر نخبة من المفكّرين العرب ما يدلّ حقّا على تمثّلهم للفكر الاعتزالي ولمنطوقه العقلاني في التعاطي المنهجي والإبيستمولوجي مع قضايا القرآن. ويمكن أن نعدّ الباحث نصر حامد أبو زيد معتزليا جديدا خاصة وأنّه - والكلام للباحث عارف العليمي - "قد نقل أبحاثه من تأويلية النص إلى تأويلية الخطاب" (ص 315) مع ما يستتبع ذلك من "أنّ نصر حامد أبو زيد لا يعيد إنتاج الخطاب الاعتزالي بقدر ما يستلهم مسار التأويل العقلي الذي بدأه المعتزلة متجاوزا سياج النظريّة التأويلية الكلاسيكية القائمة على مفهوم النص" (ص 315).

وفي اللحظة التي كنت أكتب فيها هذا البحث، بلغني نعي المفكّر التونسي الكبير محمّد الطالبي والذي كان أيضا رمزا لصوت العقل في مقاربة التراث الإسلامي، وله في هذا المقام مقدّمة بليغة حول منهجية هذه المقاربة قد أوردها في كتابه "لكي يطمئنّ قلبي"، حيث يقول: "الإنسان هو الكائن الذي جهّز بالعقل وبالفهم الصائب، وهو لا يستطيع أن يمتلك عقائد شخصية ثابتة إلاّ بواسطة العقل وحتما بعد الشكّ"(26).

إنّ بعض البحوث تذكر أيضا من انتمى إلى الاعتزال، ثم تراجع عنه مُؤْثِرا أهل السنّة والجماعة، وأشهر هؤلاء هو محمد عمارة الذي بدأ مسيرته مفتتنا بجماعة العدل والتوحيد، وقد كتب في هذا الموضوع كتبا لعلّ أبرزها "المعتزلة وفلسفة الحكم". وكان كتابه هذا إيذانا بميلاد مفكّر عقلاني باحث عن مناطق الضوء في الثقافة الإسلامية بما يخدم مقاصد الإصلاح والتنوير في العصر الحديث. إلاّ أنّ هذا المفكّر ما لبث أن نكص عن العهود التي بشّرت بها مؤلفاته الأولى، فانتسب إلى الشق الأصولي والحَرْفِي من جامع الأزهر الشريف وراح يقذف التهم جزافا على كلّ من خالفه الرأي والمذهب، من ذلك اتهامه نصر حامد أبو زيد بأنّه يمثّل في مصر ما يسمّيه "الحرابة الفكرية" مع ما في لفظة الحرابة من محمول دلالي يتّجه إلى تبرير القتل ومشروعية الاغتيال. ومن خلال محمّد عمارة، يمكن أن نقرأ سيرة الناكصين عن الاعتزال والمنسحبين من دائرة العقل والتأويل إلى دائرة التقليد والفهم النصوصي على ضوء علم السلف الصالح، حيث يغدو المعنى لديهم كما يقول نصر حامد أبو زيد: "معنى متجّذرا على نحو سكونيّ خارج فضاء التاريخ". (ص 302).

إنّنا نستطيع أن نقرأ الاعتزال الجديد وضدّه من خلال سيرة الرجلين: نصر حامد أبو زيد ومحمّد عمارة، فعقلانيّة الأوّل مقابل سلفيّة الثاني، والتأويلية ضدّ النصوصية، وقبل ذلك وبعد، نخبوية الأوّل مقابل الفضاءات العامّة المفتوحة للثاني. إنّ الفضل الأكبر الذي يدين به المثقّفون والدارسون لنصر حامد أبو زيد يكمن في إحيائه بكل ما يمتلك من وسائل المنهج، وقدرات في الحِجاج المذهب الاعتزالي، ولكن لا لكي يعيد إنتاج موضوعاته وقضاياه الفلسفية والكلامية مثل: خلق القرآن، وقضيّة الجبر، والذات والصفات، وإنّما لكي يستثير بالقواعد المنهجية وبالمفاهيم الإجرائية وبالمبادئ التوجيهية العامّة التي وضعها أهل الاعتزال، يستثير النظر العقلي إلى علاقة القرآن بالواقع والتاريخ، وإلى العبور بالقرآن من مفهوم النص إلى مفهوم الخطاب وإلى ممارسة التأويل ضمن مشروع النظر العقلي إلى التراث الإسلامي.

في هذا الصدد، لابد أن نثمّن البحث الذي أنجزه عادل الرحالي، والذي يخصّ أعمال الراحل الكبير نصر حامد أبو زيد؛ فقد أشار بوضوح إلى أنّ هناك علاقة قويّة بين الاعتزال وبين هذا المفكّر في المستوى المفهومي والتأويلي، فخلص إلى القول بأنّه "يمكن القول إنّ موضع التواشج بين مقولة الخلق والحدوث عند المعتزلة ومنهج أبو زيد في تناوله علوم القرآن يتجلى أساسا في فتح هذه المقولة الكلامية التراثية على تصوّر جديد يتمحور حول مفهومين مركزيين هما "التاريخية" و"الأنسنة" أو "التأنيس" (ص 281).

إنّ الاعتزال بحسب المفكّر المصري البارز أحمد سالم "سؤال الشكّ" (ص 550) وبحسب مُحاوِره سامح محمد إسماعيل "أداته التأويل" (ص 551) وهذا من بين الخصائص التي تفسّر راهنيّة هذا المذهب العقلاني وحتمية استدعائه إلى الفضاء الثقافي المعاصر للحضارة العربية. وفي كل الأحوال أن تكون معتزليا؛ يعني أن تكون - على نحو من الأنحاء - منشقّا عن مؤسسة دينية تقليدية: الأزهر الشريف، الزيتونة، القرويّين، هيئة كبار العلماء بالسعودية، وأن تكون ذا خطاب غير طائفي يخترق كلّ المذاهب ويتحاور معها، ليس من أجل إنتاج الثقافة القديمة، وإنّما من أجل أن ننظر إلى الواقع والتاريخ والراهن بنظرة يعلو فيها صوت العقل على ما سواه من أصوات التجييش الطائفي أو الاصطفاف المذهبي. وهكذا نرى أنّ أغلب المصلحين في العالم العربي على امتداد القرن الأخير كانوا في أفكارهم ومنهجياتهم قريبين من المعتزلة، مثلما يمكن أن نقول عن هذا المفكّر الألماني أو الفرنسي أو الغربي بأنه كانطيّ أو ديكارتيّ. فالانتساب إلى هذه الجماعة الرائدة في الفكر الإسلامي وفي علم الكلام يجب أن يُحمَل على أنّه شرف عظيم وتكليف كبير، كيف لا وهذا الانتساب يحمل في طيّاته كلّ الأدوات الممكنة في مجابهة الأصولية الإسلامية والفكر النصوصي وأوهام المطابقة بين القديم والحديث وعقليات التكفير، ويمضي بالعقل الإسلامي إلى فتوحات المساءلة والمناظرة والتعقّل للأشياء بما يحرّره من قوى المحاكاة والتقليد وإعادة إنتاج المكتوب الفقهي.

إنّ هذا الكتاب الذي نهض على تنظيمه وتبويبه الأستاذ حمّادي ذويب يدفع باتجاه توحيد الجهود وتنظيم القدرات في الاشتغال على الموضوعات التي تهمّ الإنسان المسلم ليس من أجل ترضيته وتطمينه، وإنّما من أجل حثّه على التساؤل وعلى البحث وعلى الولوج إلى ما يسمّيه أدونيس إلى "مدائن الضوء"، حيث الأنوار والتنوير، بعيدا عن الظلام والسواد.

 

الهوامش:

ملاحظة: كل الإحالات بذكر الصفحة في هذا البحث ترجع إلى كتاب "صدى المعتزلة في الفكر الإسلامي بين الماضي والحاضر"، إشراف الباحث د. حمادي ذويب، منشورات مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2017


(1) عبدالله العروي، العقل العربي المعاصر، بيروت، منشورات المركز العربي، 1994، ص.20

(2) « Rationalisme et théologie dans le monde musulman» , Sabine Schmidtke et Mohammad Ali amir -moezzi ,in: Revue de l’histoire des religions ,avril 2009

(3) نشير إلى أنّ هذا الكتاب هو الجزء الثاني. الجزء الأوّل قد صدر سنة 2015، وهو من منشورات مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، وبعنوان "قضايا كلامية وسياسية في الفكر الاعتزالي".

(4) باتريك شارودو ودومينيك مانقنو، معجم تحليل الخطاب، ترجمة عبدالقادر المهيري وحمّادي صمود، منشورات المركز الوطني للترجمة بتونس، 2010، ص.181

(5) مرجع سابق، ص.181

(6) باشا العيّادي، فن المناظرة، عمان، دار كنوز، 2013، ص.67

(7) باشا العيادي، مرجع مذكور ص. 69

(8) يبدو لنا أنّ المناظرات قد ازدهرت في بداية القرن العشرين، خاصة بين دعاة التجديد والإصلاح، وبين الطبقة الجديدة من المستنيرين ومن المثقفين الذين تلقّوا تكوينهم في الغرب، فيما المناظرات الآن حدث إعلامي أكثر منه حدث معرفيّ أو ثقافي.

(9) مقال لـ: سوزان ستيتكيفيتش، مجلة فصول، القاهرة، عدد3، 1994

(10) نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ص.45

(11) محمد بن عيّاد، مسالك التأويل السيميائي، صفاقس، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس 2009، ص.174

(12) محمد شقرون، السياسة والاجتماع في فكر الجاحظ، تونس، منشورات كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، 2007، ص.12

(13) محمد بن عيّاد، مسالك التأويل السيميائي، ص.174

(14) نصر حامد أبوزيد، مفهوم النص، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط.6 2005، ص.234

(15) نصر حامد أبوزيد، مرجع سابق، ص.236

(16) نصر حامد أبوزيد، الاتجاه العقلي في التفسير، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2003، ص.53

(17) نصر حامد أبو زيد، مرجع سابق، ص.50

(18) عبدالله العروي، مفهوم العقل، ص.82

(19) نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص.39

(20) هانم إبراهيم يوسف، أصل العدل عند المعتزلة، مصر، دار الفكر العربي، 1993، ص.17

(21) هانم إبراهيم يوسف، مرجع سابق، ص.44

(22) هانم إبراهيم يوسف، مرجع سابق، ص.47

(23) «Ben Bedis et le mutazilisme» M.S. Belguedj, in: Revue de l’occident ,1973

(24) Hammadi Rdissi, Le pacte de Nejd, Paris, éd .Seuil, 2013, p.25

(25) Hammadi Rdissi, ibid, p.26

(26) Mohamed Talbi, Afin que mon cœur se rassure, Tunis, éd. Nirvana, p.12

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D8%A7%D...

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك