انتقام الجغرافيا.. كابلان وسؤال: التاريخ والجغرافيا..من يكره من؟

 

منذ أن أدركنا في علم السياسة أنه لا يمكن أن تستخرج شهادة ميلاد “الدولة” بمفهومها الجديث، إلا إذا توفرت فيها ثلاث شروط رئيسية هي الشعب والسلطة والإقليم، لم يتوقف العلماء والباحثون عن مهمة شرح تأثير كل عنصر على الآخر في إطار الدولة وعلاقاتها بالكيانات الأخرى، لكن الشرط الأخير (الإقليم أو الجغرافيا)، لم يحظ بالاهتمام اللازم والكافي، وهو الأمر الذي أدى بالكاتب الأمريكي روبرت كابلان إلى إحداث ثورة من خلال كتابه “انتقام الجغرافيا”.

الأكيد أن كابلان لم يخترع البارود، فهو لم يفعل أكثر من قراءة المعطيات الظاهرة للعيان في العالم وتفسيرها بأسلوب علمي وخبرة عالية، لأنه أدرك أن الجغرافيا لم تعد ذلك العلم الذي يهتم بوصف الظواهر وصفا سطحيا بعيدا عن الواقع بل أصبحت ذلك التخصص الذي يتماشى والتطور العلمي الحديث المعتمد على التحليل والقياس والربط واستخدام النماذج والنظريات الحديثة وبذلك صارت في الاتجاه التطبيقي الذي يعرف اليوم بالجغرافيا الكمية والجغرافيا التطبيقية التي ترفض أن تستمر بعيدا عن الانشغالات الكبرى للإنسان.

نحو نظرية فهم علاقة التاريخ بالمكان

ولأن التاريخ الإنساني يوضح – بما لا يدع مجالا للشك- أن علاقات الدول وتفاعلها مع بعضها يتأثران كثيرا بعامل الجغرافيا، وأن كثيرا من النزاعات والحروب القديمة في أوروبا والحالية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية ارتبطت وترتبط بالدول المتجاورة. فقد أدرك كابلان أن الجغرافيا السياسية هي علاقة تأثير وتأثر بين الجغرافيا والسياسة بصفة عامة، ففي مصر كان قرار إنشاء قناة السويس قرارا سياسيا لكن ترتب عليه تغير جغرافي كبير جدا، كانت له تبعات سياسية واقتصادية وعسكرية واستراتيجية. وبسبب الجغرافيا كانت أثينا إمبراطورية بحرية، وبسببها أيضا كانت إسبرطة أقرب في طبيعتها إلى القوة البرية. وبسبب الجغرافيا تمتعت الجزيرة البريطانية في القرن الثامن عشر بحرية الملاحة في البحار.

وانطلاقا من علاقة علم السياسة بعلم الجغرافيا و الارتباط القوي بينهما، حيث تعتبر الجغرافيا من العوامل الأساسية المؤثرة في العلاقات الدوية وسياسات الدول الخارجية ،فيما تتأثر قرارات الدول بضغوط دول الجوار..فقد سعى كابلان نحو نظرية جديدة في فهم علاقة التاريخ بالمكان، من خلال رصد التأثير البالغ الخطورة لذلك لعامل الجغرافيا الذي ظل موضع تجاهل على مر العصور ،وهو العامل الذي أراد أن يثبت ذاته ويؤكد تأثيراته وكأنما صمم على أن ينتقم لنفسه بعد هذا التجاهل المتعمد والطويل. وهذا هو بالضبط المحور الأساسي الذي تدور عليه طروحات كتاب “انتقام الجغرافيا” الذي تصدر قائمة أكثر الإصدارات مبيعا عام 2012.

الجغرافيا لاستشراف المستقبل

روبرت كبلان بدأ كتابه بوضع خارطة العالم أمام عينيه، وليس تاريخ الدول أو علاقات الشعوب، ورسم جملة من المعطيات التي صاغها في شبكة من التأملات والتحليلات والتوقعات التي تقع كلها في محاولة لاستشراف المستقبل على أساس من الواقع ومن منظور العامل الجغرافي الذي أراده كابلان عاملا حاسما فيما يواجه العالم من عراقيل وما يحل به من مشكلات.

وفي ضوء هذا كله يمكن فهم العنوان الرئيسي للكتاب: “انتقام الجغرافيا”، ومن ثم الوصول إلى فهم عنوانه الفرعي: “ماذا تقول لنا الخارطة عن شكل الصراعات المقبلة، والمعركة المرتقبة في مواجهة المصير”.الأمر الذي أهل كبلان لخوض تجربة ميدانية عبر جغرافية القارات ليخرج إلى القراء بهذا المشروع الذي يتنافى مع رؤية العولمة في أن العالم سيتوحد في إطار قرية صغيرة، متجاهلا التاريخ ومعتمدا على ثبات التأثير الجغرافي بتنسيق شكل العالم الذي يتحدى السياسات والنزاعات والفكر (الكولونيالي) لترسيخ المعالم السياسية بما تفرضه الحقائق الجغرافية على الأجندات.

كتاب “انتقام الجغرافيا” اعتُبر من أهم الكتب لأنه قدم منظورا جديدا لعرض الاضطرابات العالمية، وهو المنظور الجغرافي، وفهم ما ينتظر القارات والبلدان في جميع أنحاء العالم في المستقبل، ويطرح من خلال ذلك أفكارا متعددة، ونظريات كبار الجغرافيين والمفكرين الجيوسياسيين في الماضي القريب والبعيد، عبر 15 فصلا، تناول فيها الدروس المستفادة من الأزمات الحالية في كل من أوروبا وروسيا، والصين، وشبه القارة الهندية، وتركيا، وإيران، والشرق الأوسط العربي.

وليس أدل على اهتمام وتركيز كابلان على الجغرافيا، أكثر من قوله في مقدمة الكتاب أن “ثمة مكان جيد لفهم الحاضر، ولطرح الأسئلة حول المستقبل، وهو أديم الأرض”، ثم يضيف “أقنعتني التقارير التي كتبتها على مدى أكثر من ثلاثة عقود بأننا جميعاً في حاجة إلى استعادة إدراكنا للزمان والمكان، الذي ضاع في عصر الطائرة النفاثة وثورة المعلومات”.

يتألف الكتاب من ثلاثة أبواب رئيسية:

  • الباب الأول يحمل عنوان “أصحاب الرؤى” بمعنى الصفوة من المفكرين الذين شغفوا بالجغرافيا درسا وكتابة وبحثا وتحليلا.
  • الباب الثاني يحمل عنوان “أول خارطة لمطالع القرن الواحد والعشرين”.
  • الباب الثالث والأخير يحمل عنوان “مصير أميركا”.

مذكرة دفاع ضد منطق العولمة

كتاب “انتقام الجغرافيا” يأتي على نحو ما ذهب إليه جموع النقاد الأميركيين، أنه بمثابة مذكرة دفاع ضد منطق العولمة، الذي يتصور أن العالم في طريقه إلى أن يصبح كيانا واحدا أو إطارا موحدا ومجردا من أوجه التمايز القومي أو الوطني أو الثقافي. ويؤكد الكتاب على أن عوامل الجغرافيا التي تشمل الموقع البري أو البحري، تضم كذلك عناصر المناخ وما يتبعها من أنشطة الري والزراعة أو التعامل مع شجار الغابات بكل انعكاسات هذه العناصر الجغرافية على علاقات الدول وأيضا على سلوكيات البشر.

يقول جيمس هوغ، المستشار في مجلس العلاقات الخارجية بالولايات المتحدة أن كابلان استخدم منهج التركيز على الجغرافيا، وليس التاريخ على نحو ما درج عليه المحللون السياسيون لكي يوضح كيف أن الجغرافيا أدت إلى صياغة وتشكيل ملامح العالم الراهن كما ستؤدي إلى صياغة معالم المستقبل أيضا.

ويقول هوغ أن كتاب كابلان لم يكتف بالإحالة إلى المراجع أو إلى الكتب والدراسات، وإنما جاء محصلة 30 عاما من البحث العلمي ومن السفر المتواصل في محاولة منهجية لمتابعة المنجزات البشرية والنزاعات التي اندلعت بين الكيانات المختلفة عبر اختلاف العصور.

من هنا تعددت اهتمامات كابلان بقدر ما تعددت زياراته الميدانية سواء إلى الشرق الأوسط والعالم العربي، أو إلى شبه القارة الهندية أرض الأعاصير الموسمية المونسون كما يصفها في كتابه المثير هذا، أو إلى ربوع البلقان أو غيرها من مناطق العالم التي تتعدد على صعيدها معالم الجغرافيا ومسارات التاريخ.

من يكره من؟

في النهاية، ومن منطلق كابلان، وهو مؤلف بارع وصحافي مقتدر وباحث  مجتهد، فإن الذين يجهلون أو يتجاهلون التاريخ جديرون بأن يكرروا أخطاءه، ليقولوا فيما بعد أن التاريخ يعيد نفسه، وبالمقياس نفسه فالذين ينسون أو يتناسون الجغرافيا لن يتخلصوا قط من تأثيرها. فالتاريخ يمكن أن تتغير مساراته بالسلب أو بالإيجاب لأنه من تحليل بشري، أما الجغرافيا فمن الصعب تغيير معالمها لأنها من تحليل إلهي، وتمثل عنصرا ثابتا وأزليا من فطرة الخلق وصنع الطبيعة.

لكن الحقيقة التي أراد كابلان إيصالها للقارىء هي أن الجغرافيا تعرضت للظلم ي تحليل مصائر الشعوب، فكم تعدت دراسات التاريخ على أبعاد الجغرافيا، لأزمنة بعيدة وقريبة أيضا، فلا الذين بحثوا هزيمة هتلر و نابليون في روسيا ولا الذين بحثوا هزيمة الأسكندر المقدوني الأكبر في شبه الجزيرة الهندية، وهزيمة القوات الأمريكية في فيتنام.. أعطوا للجغرافيا حقها في أسباب الهزيمة، ولا حتى في أهداف حملات هؤلاء القادة، على الرغم من أن مغامرة أمريكا مثلا في أدغال جنوب شرق آسيا، حملت وصفا “جغرافيا” لا يزال يشكل جرحا في العقل الجمعي والنسق السيكولوجي لعامة الأميركيين، وصف يتألف من كلمتين وهما: “مستنقع فيتنام”.

هذا التوجه في البحث والتأريخ للأحداث كأنما أحدث قطيعة معرفية بين التاريخ والجغرافيا ،فبدت الحالة كما لو كانت شعور بالكراهية بين طرفي نقيض. ولكن من يكره من؟ هل التاريخ يكره الجغرافيا؟ أم الجغرافيا تكره التاريخ؟.

المصدر: https://islamonline.net/25582

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك