نظريات السلطة السياسية في الفكر العربي الإسلامي (منطق ظهورها وأثرها في الوضع العربي الراهن)

أبو يعرب المرزوقي

 

لا يمكن علاج إشكالية الفكر السياسي ونظريات السلطة السياسية علاجا يضع في اعتباره نتائجهما في المجتمع العربي الإسلامي الحالي إلا إذ ربطناهما بالفصام الحضاري الذي تعاني منه النهضة كما تعينت في معوقات شرطي الفعالية السياسية السطحية والعميقة ( نظام المجتمع السياسي ونظام المجتمع المدني بلغتنا الحديثة أو صورة العمران ومادته بلغة ابن خلدون ) كما تعين فيهما فعل المسلمين في التاريخ, لكي نخلص فكرنا من الجدل العقدي العقيم الذي تردى إليه حول الكلية والخصوصية والحداثة والأصالة والدولة الدينية والدولة العلمانية وتاريخنا من الحرب الأهلية التي لم تهدأ منذ توقفت حروب التحرير(1) .

فنحن نحتاج اليوم إلى صياغة فلسفية تستأنف الفكر الفلسفي العربي عامة والعلاج الخلدوني خاصة لكونه آخر ما بلغ إليه هذا الفكر في وصف الواقع العربي الإسلامي وصفا أقرب ما يكون إلى الوصف العلمي الدقيق فتبين أسباب العطل الذي أصاب المجتمع السياسي العربي بما هو فعالية إبداع الواقع التاريخي الفعلي المتصل بالمجتمع المدني بما هو فعالية إبداع الواقع الرمزي المخيالي(2) .

ويقتضي ذلك أن نجيب عن سؤال أول مضاعف:

1- ما هي أهم النظريات التي تستند إليها شرعية الحكم في الفكر العربي الإسلامي ؟

2- وكيف توصلت في الغاية إلى الحل الخلدوني أعني كيف انتقلت من العلاج الكلامي العام والعقدي إلى العلاج العلمي المحدد والذريعي بحسب ضرورة داخلية تقبل التحديد الدقيق؟

لكن الوضع العربي الحالي في مستويي الفكر والواقع يحتم علينا طرح سؤال مضاعف هو بدوره:

1- ما هي العلل التي جعلت الفكر العربي الإسلامي يرتد عد بدايات النهضة الواعدة إلى

المرحلة المتقدمة على ثورة ابن خلدون بدلا من التقدم بالفكر السياسي إلى مرحلة أكثر علمية وذريعية من حله ؟

2- وما هي العلل التي جعلت السياسية العربية تعود إلى الحرب الأهلية التي لم تتوقف منذ

الفتنة الكبرى بدلا من التقدم بالمجتمع إلى وضع أفضل من بدايات النهضة؟

مطمحنا النظري في هذه المحاولة أن نجيب عن السؤالين الأولين سعيا إلى تخليص فكرنا وواقعنا من الحرب الأهلية التي حالت دون النهوض الحقيقي. ويشترط ذلك عرض الحلول التي أعد بها الفكر الديني والفلسفي العربي الإسلامي لهذا الوعي بالحل العلمي عرضا نسقيا. لكن المطمح النظري ليس إلا تمهيدا للمطمح العملي أعني للجواب عن السؤالين الثانيين اللذين هما أثقل وطأة في الوضع الراهن واللذين يمكن صياغتهما كالتالي: ما هي علل فشل الصحوة الإسلامية في المجال السياسي أو ما هي عوائق شروط نجاحها فنجمع جمعا ناجحا وناجعا بين أعماق الصحوة وغاياتها الروحية وسطح الصحوة وأدواتها السياسية؟ وبذلك تكون محاولتنا مؤلفة من مقالتين كلتاهما ذات فصلين:

المقالة الأولى تعالج أهم مقومات الفكر السياسي العربي:

1- نظريات في طبيعة السلطة السياسية وشرعيتها

2- مبادئ الفكر السياسي التي يقتضيها جمع الإسلام بين الروحي والزماني.

المقالة الثانية تعالج أهم مقومات الوضع السياسي العربي:

1- الأسباب العملية لفشل الإسلام السياسي

2- الأسباب النظرية لفشل الإسلام السياسي

المقالة الأولى

الفصل الأول: نظريات المسلمين في طبيعة السلطة السياسية وشرعيتها

نبدأ بمحاولة فهم المنطق الذي بات المحدد الأساسي للفكر في وضعنا النهضوي الراهن رغم كونه قد كان حصيلة تطور كل تاريخنا الفلسفي. فلا يكفي أن نعلل خاصيات البداية ( بداية النهضة الحالية في القرن الثاني عشر) وصلتها بالغاية ( غاية النهضة العربية الإسلامية الأولى في القرن الثامن ) وصلا بين النهضتين الفكريتين بل لا بد من فهم ما حصل ويحصل في النهضة العربية الحالية من حيث الشروط التاريخية التي تحول دون جعلها موضوع فكر فلسفي وأساس موقف فلسفي جديد يمكن أن ننسبه إلى الفكر العربي الحالي. إذ لا يمكن للعرب أن يحققوا نهضتهم إذا لم يتمكن فكرهم من تحقيق شروط التخلص من الإتباع والتقليد للشروع في الإبداع والتجديد بمقتضى تطوره الفعلي وليس بمقتضى التمني. ولهذا الإشكال وجهان:

أحدهما يتعلق بشروط الفعالية المبدعة للواقع التاريخي الفعلي أعني ما يمكن أن نطلق عليه فلسفيا اسم مقومات المجتمع السياسي بما هو صورة المجتمع التي تجعل منه جهاز إنتاج مادي ورمزي منظم.

والثاني يتعلق بشروط الفاعلية المبدعة للواقع الرمزي المخيالي أعني ما يمكن أن نطلق عليه اسم مقومات المجتمع المدني بما هو مادة المجتمع التي تجعل منه طاقة إنتاج مادي ورمزي متعال على كل تنظيم.

وحتى نيسر هذا العلاج مستأنفين الفكر الفلسفي من حيث توقف في الحضارة العربية الإسلامية دون إهمال لمنجزات الفكر الإنساني من بعد ذلك سنبدأ بتعريف المجتمع المدني بما هو مصدر كل القيم ( ومنها القيم السياسية التي يحددها ويحد منها بقيم أسمى منها) تعريفا فلسفيا كما تعين حاليا حصيلة لاجتهادات الفكر الفلسفي والديني مجوعين أو مفصلوين (أفلاطون وأرسطو )(3) والديني الوسيط (الغزالي وابن خلدون)(4) والفكر الحديث الجامع بينهما صراحة (هيجل وماركس (5) ) والفكر المعاصر الجامع بينهما ضمنيا ( كل المدارس التي تحاول التأليف بين هذه التيارات جميعا)(6) بحثا في قيام هذين النوعين من التناقضات القيمية بدورها في الوزع الخلقي المستند إلى العقل الذي يسعى إلى تنظيم العامل السياسي المستند إلى القوة ووزعه بحسب ما توصل إليه الفكر العربي الإسلامي وحتى يمكن تأسيس العمران الإنساني على سياسة يدعو ابن خلدون إلى جعلها سياسية عقلية لا تهمل القيم المتعالية سواء كانت دينية منزلة أو دينية طبيعية أو الاثنين معا كما يراها الإسلام الحنيف(7) .

فالمجتمع المدني يتألف من أربع قوى جوهرية:

*- اثنتان دون المجتمع السياسي الوطني شمولا رغم كونهما فوقه كلية

*- واثنتان فوق المجتمع السياسي الوطني شمولا رغم كونهما دونه كلية.

فأما اللتان دون المجتمع السياسي الوطني شمولا وفوقه كليه فتنتسب إحداهما إلى تناقضات القيم المادية حيث تتقابل المصالح المادية في المجتمع بحسب توزيع الثروة. والمعلوم أن هذه المصالح يكون فيها الإنسان مرتبطا بالطبيعة التي هي فوق الثقافة كلية. وتنتسب أخراهما إلى تناقضات القيم المعنوية حيث تتقابل المصالح الروحية في المجتمع بحسب المنازل فيه. والمعلوم أن هذه المصالح يكون فيها الإنسان مرتبطا بما يتعالى على الطبيعة أعني بما هو فوق العالم والتاريخ داخل المجتمع الوطني: النقابات الممثلة ( بأصنافها الثلاثة: عمالا وأعرافا ومستهلكين ) والجمعيات ( بأصنافها الثلاثة: موزعين ومبدعين ومستهلين للمنتوجات الرمزية بما فيها الفنون والأفكار ومنها حقوق الإنسان ).

وأما اللتان فوق المجتمع السياسي الوطني شمولا ودونه كلية ( لكون كليته التي هي بالقوة تبقى دائما أوسع من كليتهما المطابقة لشمولهما بالفعل ) فهما نفس تلك النقابات والجمعيات في بعدهما الدولي بما يتألف من رابطاتهما من منظمات دولية تخضع للقانون الدولي الوضعي وليس لها علاقة لا بالطبيعة ولا بما يتعالى عليها: إذ بات المجتمع المدني الدولي المتعين في القوانين الدولية الوضعية ( ومن ثم فهو دون القوانين التي تنتج عن التجاوز والتعالي الفطريين اللذين أشرنا إليهما) أمرا ثابتا لا مراء فيه.

وحتى نفهم كيف يتكون المجتمع السياسي من محاولات التحكم في تناقضات المجتمع المدني ببعديه القيميين المادي والمعنوي علينا أن نضمن هذه المحاولة حصرا للحلول الفلسفية التي عالجت المسألة السياسية بما هي بؤرة الحرب الأهلية العربية منذ الفتنة الكبرى والناتجة عن عدم التحكم في تناقضات المجتمع المدني بهذين المعنيين أعني العائق الحقيقي لكل نهوض سليم مبني على التضايف التام بين الفعاليات المنتجة للواقع الرمزي المخيالي والواقع التاريخي الفعلي: يكفي أن نفهم شروط الوصل بين المحدد الجوهري لتاريخ فكرنا في لحظتيه الوسيطة والحالية لكي يصبح فكرنا الفلسفي طليقا قادرا على الإبداع.

فهذه الحلول التي قدمها الفكر العربي الإسلامي من بدايته في الصدر إلى غايته في مقدمة ابن خلدون والتي يتبين أثرها في الصراع السياسي الدائر حاليا بين الأحزاب الأصلانية والأحزاب العلمانية في المستويين النظري والعملي تقبل التحديد النسقي التالي الذي نقدمه هنا مجرد فرضية عمل مؤقتة ولا ندعي أنه حقيقة تاريخية نهائية ولا هو حقيقة عقدية. بل هو مجرد نموذج نظري نحاول فيه بناء صورة منطقية لأحداث الفكر الديني والفلسفي الذي موضوعه المسألة السياسية أعني الموضوع الذي تأسست عليه النقلة من الفلسفة العملية القديمة ذات المنطلق الطبيعي ( من الطبيعة إلى التاريخ ) إلى الفلسفة الحديثة ذات المنطلق الخلقي ( من التاريخ إلى الطبيعة ). ولا معنى لهذا النموذج التأويلي إلا بما يتضمنه من حلول تساعد على الفهم والتأويل وتحديد فرضيات للبحث في المسألة.

ويعتمد حصرنا النسقي على المبادئ التالية:

1- الوظيفة التي تؤديها المرجعية الشريعية لتحديد منزلة المسألة السياسية في حلول الفرق الكلامية المذهبية إيجابا والفرق الفلسفية سلبا ( بنفي سيادة الديني على السياسي ): مبدأ الاصطفاء الإلهي بدرجتيه( الأوصياء أو صادق المؤمنين ) ومبدأ الاختيار الإنساني بدرجتيه ( أصحاب الشوكة أو الفاعل من أهل الحل والعقد في الأمة: معتبرو الزمان بلغة الغزالي ).

2- الوظيفة التي أدتها المرجعية الطبيعية لتحديد منزلة المسألة السياسية في حلول الفرق الفلسفية المذهبية إيجابا والفرق الكلامية سلبا ( بنفي سيادة السياسي على الديني ): مبدأ الانتخاب الطبيعي بدرجتيه ( النبلاء أو الفاضل من المواطنين) ومبدأ الاختيار الإنساني بدرجتيه ( الطبقة الغالبة أو الفاعل من الفئات في الأمة ) .

3- نسق المنعرجات التاريخية في الفكر الكلامي والتي حددت العناصر التي يتألف منها نسق الحلول في المسألة السياسية. وهذه المنعرجات خمسة:

1- أولها هو الانفصال في الملة ككل بين السنة والشيعة حول أساس الحكم بين الوصية

والاختيار.

2- والثاني هو الانفصال الذي حدث ضمن الشيعة الأصلية: بين الشيعة والخوارج حول فعل

حكم السياسة ( الموقف من التحكيم ).

3 - والثالث هو الانفصال الذي حدث ضمن السنة الأصلية: بين السنة والمعتزلة حول حكم فعل السياسة ( الموقف من الكبائر ) .

4- والرابع هو الانفصال الذي حدث ضمن الموقف الاعتزالي الأصلي: الموقف الأشعري

والموقف البهشمي من التحسين والتقبيح العقليين.

5- والخامس هو الانفصال الذي حدث ضمن الموقف الخارجي الأصلي ( وهو الوحيد الذي يصعب إثباته تاريخيا رغم أن ما حدث من تحالف بين الحنابلة وأصحاب الحلاج في محاكمته قد يشير إلى اتجاه البحث الممكن في المسألة ) : الموقف الظاهري والموقف الباطني من الأمر المؤثر من الشريعة في الموقف الجهادي.

وبذلك تحددت كل المبادئ التي حكمت توزيع المواقف السياسية والفلسفية العملية بحسب المرجعيتين اللتين ينتسب إليهما الفكر الفلسفي والديني في حضارتنا. ويمكن أن نقول إن هاتين المرجعيتين قد شرعتا في الاتحاد المتدرج بداية من شروع الكلام في تبني المناهج الفلسفية وغاية بابتلاعه الفكر الفلسفي الذي صار جزءا من الفكر الديني صراحة خلال المدرسيتين المتأخرتين عندنا وفي الغرب اللاتيني. ثم انعكست الآية, إذ أصبحت الفلسفة مجرد شكل خاو ليس لها من إشكاليات تخصها بل هي تبنت بعض القضايا العلمية والجمالية والخلقية والسياسية في أبعادها المطلقة ومن ثم من حيث هي في غايتها دينية. وقد حدث ذلك في كلتا الفلسفتين الحديثة والمعاصرة اللتين ليستا في الحقيقة إلا تأليفا غير صريح بين الفكرين الفلسفي والديني القديمين والوسيطين وخاصة منذ الصياغتين النهائيتين للمثالية الألمانية(8) . وقد تم هذا التأليف بصورة موجبة (عند من يسلم بذلك) أو سلبا ( عند من ينفيه ولا يستطيع أن يحافظ على الترابط الوهمي بين الفلسفة والعلم الذي استقل عنها على الأقل من حيث مقوماته الوضعية ).

4- التطابق غير المباشر ( لكونه تطابقا يحتاج إثباته لتحليلات وتأويلات لا ينتبه المرء مباشرة إلى تعقيداتها المنطقية ) بين ما تقتضيه المرجعية الأولى وما تقتضيه المرجعة الثانية كما تعينتا في ما تدل عليه الانفصلات التي أشرنا إليها في 3 أعني كون ما تقتضيه الطبيعة هو عينه ما حصل بمقتضى الشريعة مما جعل الشريعة التي جعلت ذلك مضمونها الصريح تسمي نفسها شريعة طبيعية أو فطرية (= الإسلام ) فتكون من ثم غاية التطور الديني وعودة راقية إلى البداية وقد اكتملت في الغاية: الإسلام بما هو وحدة الدين المنزل والدين الطبيعي في دين الفطرة التي تخلصت من التحريف الروحي ( الربا الروحي بوساطة الكنيسة: المسيحية ) والتحريف المادي ( الربا المادي بوساطة البنك والبورصة: اليهودية ) .

وبذلك يطابق مجرى التاريخ منطق البنية. فالاصطفاء الإلهي في الفكر الديني يوافق الانتخاب الطبيعي في الفكر الفلسفي. ولكل منهما مرحلتان: إلهية مباشرة ( الأنبياء وآل البيت ) وبتوسط التاريخ ( مشروع الأمة الصالحة ) وطبيعية مباشرة ( ذوو النفوس الذهبية بلغة أفلاطون) وبتوسط التاريخ ( مشروع المدينة الفاضلة ). والاختيار الإنساني بمقتضى آلياته الطبيعية في الفكر الديني يوافق الاختيار الإنساني بنفس المقتضى في الفكر الفلسفي. ولكل منهما مرحلتان كذلك: الشورى المحدودة والديموقراطية المحدودة ثم الشورى العامة والديموقراطية العامة.

وينتج عن ذلك كيفية التأليف بين المواقف المحددة للحلول دينيا:

1- غلبة الموقف الأشعري ( شرعية أصحاب الشوكة ) والحنبلي ( شرعية الجماعة الصالحة: ورثة الوصية العامة أي المؤمنون الذين يعملون بالشريعة ) على الفكر العملي والممارسة عند السنة التي انتهت في الأخير إلى السعي الحقيقي لتجاوز التقابل بين الشوكة والوصية العامة من خلال تحليل ابن خلدون لأسباب فساد العمران: حيث يعتمد حله على الشوكة الشرعية التي لا يمكن أن تكون إلا شوكة الجماعة ذات التنظيم العقلي المتخلص من العصبية المفضية للهرج بلغة أبي زيد.

2- وغلبة الموقف البهشمي ( شرعية أصحاب العقل ) والباطني ( شرعية الجماعة الصالحة: ورثة الوصية الخاصة أي المؤمنون الذين يعلمون الشريعة ) على الفكر العملي والممارسة عند الشيعة الذي لم تكتمل مراحله لكونه لم يحقق بعد التصالح بين العقل والوصية الخاصة لعسر ذلك.

5- أما المواقف الفلسفية فقد استوعبها الفكر الكلامي الشيعي ولم يبق لها وجود مستقل في النظرية السياسية عند المسلمين في نهضتهم الأولى بعد الفارابي. لم يستأنف الفكر السياسي المعتمد على المرجعية الفلسفية إلا في النهضة الحديثة. وهو يخضع لمبادئ أخرى يمكننا تحديدها من فهم منطق تكون الحلول السياسية والأحزاب المستندة إليها في الفكر الفلسفي قديمه ووسيطة وحديثه ومعاصره. وهذا المنطق بسيط جدا: فهو يستند إلى ما حدده أفلاطون من مقابلة بين القانون الخلقي ( بمقتضى العقل والقيم الخلقية ويمثلها سقراط في الجمهورية ) والقانون الطبيعي ( بمقتضى القوة والقيم الذريعية ويمثلها كاليكلاس فيها) في تسيير الشأن البشري. والأول يقدم الجماعة على الأفراد والعدل بينهم ( ولنسمه فكر الحزب اليساري أو الاشتراكي) والثاني يقدم الأفراد على الجماعة وحرية كل قادر( ولنسمه فكر الحزب اليميني أو الليبرالي ).

ويتولد من الصدام بين الموقفين التوفيق بينهما من المنطلقين فيتكون حزبان آخران يسار اليمين ( الذي يضيف إلى القانون الطبيعي ملطفا مستمدا من القانون الخلقي أعني العدل إلى الحرية ) ويمين اليسار ( الذي يضيف إلى القانون الخلقي ملطفا مستمدا من القانون الطبيعي أعني الحرية إلى العدل). ويتوسط بين هذه الأحزاب الأربعة حزب الوسط المتأرجح بين يمين اليسار ويسار اليمين مما يجعله بؤرة العمل السياسي لكونه القلب الذي يحيط به فرعان ذات اليمين وفرعان ذات اليسار. وبذلك نحصل على المعادلة المتحكمة في الفكر السياسي والبنية الحزبية في العالم منذ القدم رغم كون هذه البنية لم تتعين بوضوح إلا في الفكر المعاصر منذ أن تحققت الديموقراطية الشاملة في الغرب المعاصر. لكن عدم عمل هذه القوانين البنيوية في اللحظة العربية الراهنة علته عدم التخلص من القوانين الظرفية التي ما تزال مسيطرة على الوضعية السياسية في الحضارة العربية بمقتضى بعث الفصام الوسيط بين الثقافتين وتشكله بأشكال حديثة ألغت كل إمكانية لتحقيق شروط التعاصر والتضايف بين الواقعين الرمزي المخيالي والتاريخي الفعلي: وذلك هو سر العطل الذي أصاب المجتمع السياسي في الوطن العربي والعالم الإسلامي.

المقالة الأولى

الفصل الثاني: مبادئ الفكر السياسي كما حددها ابن خلدون.

منذ تأليف المقدمة تحددت طبيعة الأزمة التاريخية الناتجة عن الطلاق بين الفكر السياسي العربي الإسلامي الذي كان جدلا كلاميا يكاد يدور في فراغ بحكم ما أداه إليه الصراع مع التوظيف النسقي للفكر الديني والفلسفي عند متطرفي الشيعة والسنة والواقع السياسي العربي الإسلامي الذي كان حربا أهلية تجري على غير هدى كما نرى في لحظتنا الراهنة(9) . وكان من المفروض أن يصبح هذا الطلاق منذ بداية النهضة جوهر الوعي التاريخي الذي يسعى إلى معرفة علل الانحطاط الذي شل أوصال الحضارة العربية الإسلامية أعني العلل التي أفسدت علاقات المجتمع السياسي ( النزاع حول السلطة والرئاسة) بالمجتمع المدني ( النزاع حول الملكية والأهلية) كما وصفها ابن خلدون.

ومن ثم فان فكر النهضة كان ينبغي ان يصبح فكرا يبحث عن شروط العمل السياسي على علم لتحقيق شروط إصلاح هذه العلاقة. وهو ما كان يقتضي أن يصبح مسعى الفكر الفلسفي نقل الفكر السياسي من العلاج الكلامي الذي أقتصر إلى حد تأليفها على توظيف الفكر الفلسفي والفكر الديني لتبرير المواقف من الحرب الأهلية الإسلامية الأولى حول مسألة الحكم في أبعادها السياسية والروحية إلى العلاج العلمي الذي يسعى إلى تخليصها مما نتج عن هذا العلاج من فصام حضاري كان مصدر كل المعوقات التي أجهضت الفكر الفلسفي والديني: لذلك فالمقدمة يمكن أن تقرأ بوصفها علاجا لازمة الحضارة العربية من خلال محاولة البحث في أسباب إفساد صورة المجتمع(الدولة) لمادته (العمران )(10) .

وينبغي أن نذكر هنا قبل عرض الحل الخلدوني بالانقلاب الذي حصل في الفكر السياسي الإنساني من خلال تجاوز مبدئي النموذج التفسيري في الفلسفة السياسية اليونانية كما وضعها أفلاطون وأرسطو وكما بقيت عند الفلاسفة المسلمين من الفارابي إلى ابن رشد تجاوزهما في الفكر الديني الإسلامي حيث يدور مفهوم الاستخلاف حول مسألتي العمل الأساسيتين وأسهما النظرية أعني: مسألة الحكم والرئاسة وضوابط السلطة ومسألة الملكية والأهلية وضوابط الحقوق المسألتين اللتين باجتماعهما مع قيمهما المعنوية التي تعطيهما دلالتهما الإنسانية ( الرئاسة بالنسبة إلى السلطة والأهلية بالنسبة إلى الملكية: لئلا يكون الإنسان من بهائم الأنعام ) يمثلان علامتي إرث العباد الصالحين للأرض والاستخلاف فيها .

فالمعلوم أن الفكر السياسي الفلسفي يعتمد على مقومات النفس الثلاثة نموذجا لتنظيم المجتمع سياسيا وعلى مقومات المنزل الثلاثة نموذجا لتنظيم المجتمع مدنيا. لكن الاقتصار على ثلاثة مقومات يغفل في الحالتين مقومين ضمنيين توقف الفكر اليوناني دون إدراكهما فاستحال عليه بناء نظرية علمية صحيحة في الفلسفة العملية للفصل الكيفي بين عالمين متنافيين ولظنه المتناهي والمحدد( الصورة ) هو الأساس المقدم على اللامتناهي واللامتحدد (المادة ) :

1- فمقومات النفس الصريحة هي قواها الثلاثة المعهودة التي توقف عندها الفكر اليوناني ( العقلية والغضبية والشهوية ). ويقابل القوى الثلاث المعهودة في نظرية المجتمع السياسي: الطبقة الحاكمة والحراس والعمال.

2- أما مقوماها الضمنيان فهما الشخص الإنساني عامة بما هو قوة قابلة لأن تكون نفسا يغلب عليها خلق إحدى هذه القوى ووحدة الكل أو فاعلية الوحدة النفسية في ذاتها. ويقابل المقومين الضمنيين: المواطن العام (=الإنسان دون تحديد وظيفي في المجتمع السياسيي ) والوظيفة التعليمية التي تحقق ذلك التحول تكوينا وانتخابا وسلما توظيفيا حسب مؤهلاتهم لتحديد الأنواع الثلاثة الأولى: وفي هذه الوظيفة يكمن جوهر المجتمع السياسي الذي هو وحدة العمران الصورية التي تحدد واقعة التاريخي الفعلي.

3- ومقومات المنزل الصريحة هي عناصرها الثلاثة المعهودة التي توقف عندها الفكر اليوناني ( الرجل والمرأة والعبد أو الآلة ). ويقابل العناصر الثلاثة المعهودة في نظرية المجتمع المدني: محددو القيم المعنوية- والمادية مؤقتا ما ظلت الأسرة مؤسسة اقتصادية كذلك- ( الرجال ) وحراسها ( النساء ) وأدواتها (العبيد أو الآلات ).

4- أما مقوماها الضمنيان فهما العنصر القابل لأن يكون الرجل أو المرأة أو العبد ووحدة الكل أو فاعلية الوحدة الأسرية في ذاتها. ويقابل العنصرين الضمنيين الإنسان العام (= الطفل دون تحديد وظيفي في المجتمع المدني ) و الوظيفة التربوية التي تحقق ذلك التحول تكوينا وانتخابا ومنزلة معنوية حسب مؤهلاتهم لتحديد الأنواع الثلاثة الأولى: وفي هذه الوظيفة يكمن جوهر المجتمع المدني الذي هو وحدة العمران المادية التي تحدد واقعه الرمزي المخيالي(13) ( وهو يتضمن الواقع التاريخي الفعلي بوصفه المتناهي الحاصل ويتعالى عليه باللامتناهي الممكن ).

ومن ثم فالمجتمع الإنساني يتألف من عمليتي توحيد غير متطابقتين تعذر على الفلاسفة فهمهما وفهم كيفية عملهما بحكم عدم تنبههم إلى أهمية ما تشير إليه الوظيفتان الضمنيتان اللتان تنبع منهما ثورة ابن خلدون ترجمة صريحة لمفهوم الاستخلاف ( ببعديه المضاعفين: النظري المجرد والمطبق والعملي المجرد والمطبق)(14) بما هو عين الفطرة التي يريد الإسلام تخليصها من التحريفين تحريف القيم المادية وتحريف القيم المعنوية:

1- توحيده بما هو مجتمع سياسي ويعتمد على سلطة عقلية جديدة هي سلطة الاجتهاد الاجماعي التي لا يمكن ان تقاس بما بين قوى النفس الطبيعية(15) بل بما بين النفوس من صلات: وذلك هو مصدر النموذج المستمد من قوى المجتمع الرابطة بين النفوس وليس من قوى النفس الرابطة بين مقومات النفس. فلم يعد الأمر متعلقا بسلطة الحكم الوحداني كما في النفس الواحدة بل بالنزاع بين البشر كما في المجتمع بين النفوس المتعددة.

2- توحيده بما هو مجتمع مدني ويعتمد على سلطة جديدة هي سلطة تناظر الحقوق والواجبات التي لا يمكن ان تقاس بما بين عناصر المنزل الطبيعي(16) بل بما بين المنازل من صلات: وذلك هو مصدر النموذج المستمد من الاقتصاد المدني تحديدا لما بين الأرباب المتعددين وليس من الاقتصاد المنزلي تحديدا لعلاقة رب واحد بما يملك. فلم يعد الأمر متعلقا بسلطة الملكية الوحدانية كما في المنزل الواحد بل بالنزاع بين البشر كما في المجتمع بين المنازل المتعددة.

وبذلك فقد كان الفكر الفسلفي المستند إلى نموذجي قوى النفس وعناصر المنزل متأخرا بالقياس إلى هذا التصور العميق لنموذج ما يحدث في مجالي السلطة والرئاسة سياسيا والملكية والأهلية مدنيا النموذج المستند إلى ما بين النفوس وما بين المنازل من صلات ونزاعات. فمن سلطة العقل الواحد ( تسليما وهميا بأن العقل واحد في الشخص الواحد وهو وهم سيزول بمجرد تغيير النموذج تغييرا يجعل المجتمع السياسي نموذج قوى النفس وليس العكس: الأخلاق متغيرة بحسب نوع العمران عند ابن خلدون) والإرادة الواحدة( تسليما وهميا بان الإرادة واحدة في الأسرة الواحدة وهو وهم سيزول بمجرد تغيير النموذج تغييرا يجعل المجتمع المدني نموذج عناصر الأسرة: ليست علاقة رب بمربوبين ولا سيد بعبيد خاصة وابن خلدون ينفي فائدة العبودية والإسلام جعل العتق أهم الكفارات ) تنتقل الفلسفة العملية إلى مسألتي صلات الحكم والرئاسة والتنازع فيهما ( وهو العقل لكون الحكم هو العلامة الجوهرية للعقل حتى إننا نجدها ملازمة لذكر النبوة والكتاب في جل آيات القرآن الكريم المتعلقة بها ) وصلات الملكية والأهلية والتنازع فيهما: من هنا كانت ضوابط سلطتي الحكم والاقتصاد ( أو الحقوق السياسية والمدنية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية ) جوهر الشرائع في التصور الديني للمسألة العملية(17) .

وقد حللنا في محاولة سابقة علاج ابن خلدون لأزمة الحضارة العربية الإسلامية في أبعادها السياسية والاجتماعية أزمتها التي ما زلنا نعاني منها مستوحين علاجه الذي نراه ما يزال صالحا وأقرب إلى ما تحتاجه مجتمعاتنا من الحلول المرتجلة والمسقطة التي لم يعد فشلها بحاجة إلى تدليل(18) . فهو قد وصفها كما وجدها في آخر لحظات هذه الحضارة قبل الانحطاط فأرجع كل أعراضها إلى ظاهرة أساسية هي: ظاهرة الآليات والتصرفات التي تجعل صورة المجتمع ( الدولة=المجتمع السياسي بآليتيه: سياسة المالية العامة وسياسة القوة العامة ) قاتلة لمادته بقتل محركي(19) فعالياتها وحاميي(20) عملهما ( العمران = المجتمع المدني ببعديه: بعد الحقوق وبعد المنازل).

والمعلوم أنه قد اقترح علاجا لهذا الداء يختلف عن العلاج الذي كان معمولا به في الفكر الديني والفلسفي عندئذ والذي عاد إليه الفكر العربي الإسلامي بعد النهضة في كلا تياريه الديني الأصلاني والفلسفي العلماني. فالعلاج الخلدوني يعتمد على نظرية وازع الوازع المتمثل في إبرام المجتمع السياسي عقدا(21) يحدد علاقاته بالمجتمع المدني تحديدا يحول دون الدولة وقتل قوى المجتمع المبدعة للقيم المادية والمعنوية في العمران من خلال سلطة تكون فوق المجتمع السياسي فتزعه بعلوية القيم سواء انتسبت إلى قيم توزيع الثروة التي هي أداة السيادة الإنسانية وعلامتها الظاهرة ( الظلم والعدل أو صيانة الحقوق ودورها في العمران ) أو إلى قيم توزيع المنزلة المعنوية التي هي غاية السيادة الإنسانية وعلامتها الباطنة ( العبودية والحرية أو اعتبار الإنسان وعدمه في سلم المنازل الاجتماعية أو نصيب المواطن من المواطنة ). ويجمع ابن خلدون بين هذين النوعين من تمثيل القيم للكرامة البشرية بغريزة التأله والحرية عند الإنسان الذي من دونها يفضل الموت وكذلك يفعل الشريف من الحيوان الذي يأبى القفص والهوان(22) .

ولعل تحليل ابن خلدون للحرب الأهلية العربية الإسلامية الأولى بمراحلها الخمس سيكون الرابط الطبيعي بين النظر والعمل أو النظرية والتطبيق لهذا الفكر. فيكون من ثم مساعدا على تحديد المبادئ التي تمكن من تجاوز الحرب الأهلية الحالية بفضل نقل الفكر العربي من الفكر السياسي المطلق إلى الفكر السياسي الاجتهادي ( مبدأ عدم التأثيم )(23) ومن العمل السياسي المطلق إلى العمل السياسي الاجتهادي ( مبدأ العقد ذي الدرجتين )(24) ومن الخلط بين وظائف السلطة إلى الفصل بينها: أعني المبدأ المتقدم على جميع المبادئ في الفعل الحضاري الإنساني بثمرته السياسية وأساسه الفلسفي أعني الفصل بين التربية الروحية المستندة إلى الوازع الذاتي والتربية السياسية المستندة إلى الوازع الخارجي(25) ونظرية الإنسان المستخلف وما يترتب عليها في فلسفة التربية عامة(26) .

فالحرب الأهلية العربية الإسلامية الأولى أو الفتنة الكبرى التي حللها ابن خلدون في فصل ولاية العهد من الباب الثالث من المقدمة مؤلفة من خمس مراحل هي: 1- حرب الإمام علي والعباس, 2- وحرب الإمام علي وأم المؤمنين عائشة, 3- وحرب الإمام علي ومعاوية, 4- وحرب يزيد والحسين, 5- وحرب عبد الملك بن مروان وابن الزبير.

وغاية التحليل التحليل الخلدوني مضاعفة:

1- التمييز النظري بين معايير الفعل السياسي المادية ومعاييره الروحية(27) من خلال معايير التكليف الديني الجامع بينهما بصورة تحرر الإنسان من سلطان القانون الطبيعي الغالب على الأولى ( وأساسه العصبية التي غلط الحسين في تقديرها ) وسلطان القانون الخلقي الغالب على الثانية ( وأساسه الأهلية العقلية والخلقية التي أصاب الحسين في تقديرها ) بتحرير اجتهاده من التأثيم ومن ثم بتمكينه من الفعل السياسي بصورة اجتهادية لا إطلاق فيها ما دام الفعل الديني وهو منه أسمى يكون بصورة اجتهادية لا تأثيم فيها.

2- التحليل العملي لشروط العمل السياسي الناجع بالاستناد إلى العلم بضربي المعايير التي يخضع لها العمل السياسي مطبقا على بعض الأمثلة من تاريخ الأمة حتى في أزهى عصورها: المادية والروحية. فكل من اقتصر على المثاليات والقانون الروحي كان أكثر ضررا ممن يقتصر على الواقعات والقانون المادي, لكون الأول يحمل نفسه ما لا تطيق وما لم يكلفه به الشرع فيجر على الأمة من النكبات ما لا يقدر: والأمثلة التي يؤكد عليها ابن خلدون هي الثورات التي تستعمل الدين من دون توفير الشرط الأساسي أعني العصبية بلغته والقوة السياسية والاجتماعية بلغتنا الحالية(28) . أما من أقتصر على الواقعات والعامل المادي فإنه أقل ضررا منه في عرف الفكر السني الذي يفضل سنة من الحكم الجائر على يوم من الفوضى.

ويمكن أن نعتبر أن الغاية الأسمى لهذا التحليل الخلدوني هي, حسب رأينا تحديد الأساس الحقيقي لكل فكر سياسي ديموقراطي: فمبدأ عدم التأثيم في الاجتهاد الروحي المتعلق بالفعل السياسي في ذروته أعني في الحرب أساسه وجوهره هو نظرية الحقيقة التي جعلت الإسلام دين الاجتهاد ومن ثم دين الحكم على أساس الإجماع معيرا للاجتهاد المقبول في عصر عصر من عصور تطور الأمة. وقد بنى ابن خلدون ذلك على فرضيتين:

*- وحدة الحقيقية التي يدركها أحد المجتهدين دون تعيين باجماع وهذه هي الفرضية الدنيا حيث يفوض التعيين لله وحده الذي يعلم المصيب من غير المصيب من بين المجتهدين المختلفين. وهو مرقف إرجائي إن صح التعبير.

*- تعدد الحقيقة التي يصل إليها المجتهدون بعدتهم. فيكون كل مجتهد مصيب في مجال الظنيات وإليها ينتسب كل المجال السياسي لكون العمل في الدين باستثناء العبادات ليس من اليقينيات كما هو الشأن في جل مسائل الفقه.

ولو كان قادة الأحزاب والمفكرون العرب بنوعيهما العلماني والأصلاني يعلمون مثل هذا العلم ويفهمونه لكانت الحال غير الحال ولأصبح الحكم الذي هو بطبعه اجتهادي إجماعيا ولزالت أسباب الحرب الأهلية. ذلك أن أساس الخلاف محسوم من البداية على الأقل في الفكر السني الذي هو فوق المقابلة ديني علماني. يكفي التذكير بنص الغزالي التالي: " فإن قيل بم تنكرون على من يقول: لا مأخذ للإمامة إلا النص أو الاختيار. فإذا بطل الاختيار ثبت النص. قلنا نعم لا مأخذ إلا النص أو الاختيار. ونخن نقول مهما بطل النص ثبت الاختيار" (29) وبنصي ابن خلدون التاليين:

1- الأول:" (ف) قصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية إجماعية ولا تلحق بالعقائد" (30) .

2- الثاني: "وشبهة الإمامية في ذلك ( في القول بالوصية ) إنما هو كون الإمامة من أركان الدين كما يزعمون. وليس كذلك وإنما هي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق"(31)

المقالة الثانية

الفصل الأول: الأسباب العملية لفشل الإسلام السياسي

لما كانت الفعاليات الحضارية ممثلة في سطحها بالأحزاب التي تعبرعنها سياسيا وفي عمقها بالحركات الفكرية التي تتكلم باسمها ليست بالظاهرة التحكمية في المجتمعات البشرية لكونها تخضع, مثلها مثل كل الظاهرات الاجتماعية, إلى منطق وقانون قابلين للتحديد كما أشرنا إلى ذلك في دراسات سابقة(32) , فإنه يمكننا أن نحلل ما أصاب الفكر السياسي العربي الإسلامي عامة ونظريات السلطة خاصة من أدواء في ضوء هذين القانونين لنفهم وضعه الحالي وصلته بالواقع السياسي العربي.

فهذه القوى المعبرة عن السطح والعمق تتوزع في كل المجتمعات الإنسانية السوية بحسب مقومات الفعل الإنساني عامة من حيث بعداه السياسي الخلقي والاقتصادي الثقافي أعني بحسب طاقاتها الطبيعية ( القانون الطبيعي المتحكم في فعل الغرائز ومنطق المحركات والأدوات) وتصريفاتها التاريخية ( القانون الخلقي المتحكم في فعل الإرادة ومنطق الدوافع والغايات) التي يقدمها الفاعل السياسي بالنظر أو بالعمل في تصوره التفسيري أو التبريري للفعل. لذلك فالحركات السياسية ( والحركات الفكرية التي تؤسس لها وتشرع عملها بالإيجاب أو بالسلب) تنقسم بما هي تنظيمات الفعل القصدي الجمعي الناتج عن هذين الضربين من الآليات:

1- من منها يغلب في تفسيره العمل السياسي وتبريره قيامه به القانون الطبيعي على القانون الخلقي,

2- من منها يغلب في تفسيره العمل السياسي وتبريره قيامه به القانون الخلقي على القانون الطبيعي.

ويرمز إلى هذين التغليبين في الفكر الحديث السياسي ما يعرف عن الليبراليين من ميل إلى الحرية الاقتصادية ( رمزا للقانون الطبيعي) وعن الاشتراكيين من ميل إلى العدالة الاجتماعية ( رمزا للقانون الخلقي). وبحسب غلبة أحد القانونين ودرجة المزج بالقانون المقابل ينقسم كلا الموقفين إلى يمين ويسار ووسط يتفرع هو بدوره إلى فريقين أحدهما يميل إلى اليمين والثاني إلي اليسار مع عدم تحدد للوسط الخالص الذي لا يلتزم(33) بأي من التطرفين ( من هنا البنية المخمسة الأبدية لكل وحدة من وحدات المجتمع السياسي ). والمعلوم أن يسار الليبراليين(34) ( اعترافا بوجوب شرط العدالة الاجتماعية اعني شيئا من التوزيع العادل والتخطيط الاقتصادي ) ويمين الاشتراكيين035) ( اعترافا بوجوب شرط النجاعة الاقتصادية اعني شيئا من الحرة الاقتصادية وتشجيع الدوافع الطبيعية للعمل المنتج اعني الملكية الخاصة) متقاربان. وإذن ففكرهما السياسي يسعى إلى وسطية عملية معتدلة تقرب مما يمثل غاية الفكر السياسي الإسلامي لجمعها بين الحرية غاية قانون الإنسان الطبيعي والعدالة غاية قانون الإنسان الخلقي.

وإنه لمن العجب العجاب أن يكون الفكر الإسلامي السياسي الحالي متصفا بكل شوائب التطرف في حين أن حلوله كان ينبغي تكون أكثر الحلول وسطية, مما يعني أن تطرفه لا ينبع من مضمون حلوله بل من الظرف الذي حددها. فالصراع السياسي في المجتمعات ذات التجربة الديموقراطية العريقة يكاد ينحصر بالتدريج فيهما فيصبح التداول في الحكم والمعارضة جاريا بين فريقين متقاربين تقاربا يجعل الجماعة الوطنية في جميع مجالات الحياة الجماعية أقل صداما وأقرب إلى التعاون والتآخي رغم التنافس الخلاق بين الفئات والأفراد منها إلى التخاون والتعادي بينها في حالات هذا الصدام رغم التقاعس الجامد كما هو الشأن في المجتمعات الفاقدة لهذه التجربة..

ذلك هو منطق القوى السياسية في المجتمعات البشرية عندما تعمل في ظرف تغلب فيه المجتمع على الفصام الثقافي والحضاري فتخلص من الجمع الذي يخلط بين العمل السياسي الأداتي لتسيير الشأن العام والعمل الحضاري الأعمق لإنتاج مقوماته. والمعلوم ان هذا الفصام تعاني منه الأمم ذات التاريخ الطويل وذات القطائع الثقافية اعني الأمم المنبعثة بعد فترة من الانحطاط مثل الحضارة العربية الإسلامية أو الصينية أو اليونانية الخ...فالفعل السياسي (فعل المجتمع السياسي) ينحصر في أبعاد محددة تميزه عن الفعل الحضاري الأشمل (فعل المجتمع المدني ) عندما يكون توزيع العمل في المجتمع توزيعا سويا. ذلك ان مجال السياسة المباشرة في المجتمعات التي تجاوزت العلاقات السياسية المتوترة والعنيفة بين الحكم والمعارضة يقتصر على تسيير الشأن العام. أما الفعل الحضاري الأعمق فينسحب على مجال أوسع وأبعد غورا: هو مجال العمل الرمزي الشامل الذي يصاحب كل الأبعاد غير المباشرة من الحضارة والمجتمع.

والمعلوم أن المجتمع العربي الإسلامي- مثله مثل كل المجتمعات ذات التاريخ الواصل بين حقبتين قديمة- وسيطة وحديثة- معاصرة فضلا عن تعرضها لعوامل التهديم القصدي لهوياتها خلال مرحلة الإستعمار المباشر وغير المباشر بعد الاستقلال الصوري- لم تنقسم فيه الأعمال الجماعية انقساما سليما إلى الآن أو هي ما تزال محكومة بما يطغى عليه من المؤثرات الظرفية. لذلك فأنت تجد هذه البنية الفصامية التي طغت على حياتنا السياسية بنية حزبية وفكرية مضاعفة. فنخب المعارضة الأصلانية والعلمانية في البلاد العربية عامة تتألف من مجموعتين كلتاهما مصابة بالفصام الثقافي الذي يمكن ان نعتبر حده الأقصى ممثلا بنخب تونس وحده الأدنى بنخب مصر ( إفراطا في التغريب وتفريطا في التأصيل ), مما يعني أن مصر- ومن يماثلها من شعوب الأمة- ستكون أو الخارجين من الأزمة وتونس - ومن يماثلها من شعوب الأمة - آخرة الخارجين منها. ومن علاماته عدم حسم الصلة بين الهوية بما فيها من ثابت الماضي حدثاً ومتغيره معنىً وبين غليان الحاضر بما فيه حدثاً ومعنىً وثابت مشروع المستقبل معنىً ومتغيره حدثاً(36) .

الأولى: تغلب الأساس المستمد من مقومات الهوية الحضارية والتاريخية للأمة رغم خضوعها لمنطق التوزيع الحزبي الذي وصفنا. وضمنها يندرج الإسلاميون والقوميون بيمنهم ويسارهم وبوسطهم وفرعيه المتيامن والمتياسر. ولا يزال هذا الأساس مسيطرا على توزيع القوى السياسية عندنا بحكم سيطرة الفصام الحضاري رغم كونه ليس هو الأساس الحقيقي لتميز القوى السياسية.

الثانية: تغلب الأساس المستمد من مقومات الفعل السياسي الاقتصادي للمجتمع. وضمنها يندرج الاشتراكيون والليبراليون يمينا ويسارا ووسطا بقلبه وفرعيه. أما الأحزاب الحاكمة فهي الأحزاب التي استطاعت أن تجمع الأوساط من كل هذه الأحزاب. وهذا هو الأساس الدائم لتميز القوى السياسية في الحالات السوية للأمم التي جاوزت الصراع حول مقومات الهوية فأصبح الإجماع حولها بتقاسمه الجميع.

لذلك فنحن نعتبر المجموعة الأولى إلى زوال بمجرد أن يحصل الإجماع حول مقومات الهوية فتتقاسمها جميع القوى السياسية إذا هي لم تتحول إلى حركات سياسية فعلية تخدم القيم الإسلامية بدلا من استخدامها. ذلك أن هذه القيم ينبغي أن تتعالى على الجدل إلا إذا فضل المتطرف من النخب العلمانية والأصلانية أن تبقى الأمة الإسلامية مصابة بالفصام الذي ما تزال تجر أذياله منذ الفتنة الكبرى لعلتين تاريخيتين: قديمة هي الفصام الثقافي الطوعي الذي فرضه فقهاؤنا المستندين إلى الشرع المنزل(37) المحصور في فقه سد الذرائع الموروث عن عصر الانحطاط وحديثة هي الفصام الثقافي المضطر الذي فرضه فقهاؤنا المستندين إلى الشرع الوضعي(38) المحصور في قانون محاربة الشرائع الموروث عن عصر الاستعمار.

فالإسلام السياسي لم ينجح في فعل إيجابي واحد معارضين أصحابه كانوا أو حاكمين منذ بدايات النهضة إلى الآن, رغم دوره الفعال في كل نجاح سلبي أعد لكل نجاح إيجابي حصل في تاريخنا المعاصر. فهو الذي حقق الشروط الفعلية لكل نجاح في حروب التحرير. لكن دوره السياسي في هذه الحروب حصر في دور الوقود الذي استفادت منه القوى السياسية العلمانية فبدت وكأنها قد استعملت حماس أصحابه غير المتروي لتنال ثمرات كل الثورات. ذلك أنه بمجرد أن ينتهي دور الأداة وحلول أوان الحصاد تستبعد القوى الإسلامية وتتقدم القوى التي تعمل من ورائها عمل محرك الدمى التي يجعلها الحماس تتخبط بلا حساب ودون تخطيط.

ولعل ما نراه في انتفاضة الشعب الفلسطيني الحالية والسابقة وحتى الانتفاضات الأولى التي سبقت نكبة 48 أكبر دليل على ما نقول لكونه القاعدة التي لم يشذ عنها بلد عربي واحد وبخاصة في المغرب العربي حيث غابت الحاجة إلى القومية لتجاوز التعدد الديني والطائفي فكان العامل الديني أهم عوامل تحريك الجماهير ضد الاحتلال الاستعماري: كلما عجزت القوى العلمانية على تحريك الوضع تترك القوى الإسلامية "تتخمر" في حماس غير محسوب لكونه عملا غير معد لما بعده ومقصورا على الفعل الآني دون تحكم في إيقاع الأفعال ومآلاتها مما ييسر على القوى العلمانية المتحالفة في المدى البعيد مع قوى العصر في العالم أعني القوى التي تستخلفها على مصالحها في بلادنا ييسر عليها لجمها وإرجاعها إلى الفعل السلبي المتمثل في الصمت أو الثورة الهدامة.

وما كان توظيف العلمانيين قوى الإسلام السياسي المتبوع بالتخلص منها بعيد استكمال المرحلة السالبة من الفعل ليحصل لو كانت هذه القوى ذات نخب قيادية مدركة لطبيعة الفعل السياسي فلا تقتصر على الغايات الدينية العليا التي لا تضمن الوجود السياسي الفاعل لكونها ليست منه إلا عندما يبلغ بها الظرف إلى أصولها العميقة بل تضمن خططها بالإضافة إلى ذلك أهدافا سياسية وسيطة أهمها شروط البقاء قوة سياسية ( أعني خاصة عدم الوصول بالفعل المباشر إلى القطع مع منطق العصر ) فلا تزول بمجرد تحقق ثمرة المرحلة السلبية من فعل النهضة والتغيير في الصراع السياسي الداخلي أو من فعل الثورة والتحرير في الصراع السياسي الخارجي.

ولعل من أسخف الحجج التي نسمعها الفهم السيئ لمفهوم الجهاد وتصريفه في المعارك الدائرة ( في كل أنحاء العالم وفي فلسطين أو في الفيليبين على وجه الخصوص ) بصورة جعلته يشوه الإسلام أكثر مما يخدم قضاياه فينفر منه كل عاقل ما دام يبني الفعل السياسي على التأثير الآني فيتنكر لأخلاق الحرب التي وضعها الإسلام. فعند المتكلمين باسم الإسلام يكاد القتل حاليا أن يصبح فيه غاية فيحول دون النجاح السياسي ثم هو حتى في حالة النجاح يحول دون بناء دولة قابلة للتسيير السلمي لكون السلوك يتوجه بعد الفراغ من الصراع الخارجي إلى الاقتتال الداخلي بدوافع أهلية أو بتوظيف أجنبي كما نرى ذلك في أفغانستان والجزائر والسودان وحتى باكستان.

لذلك فإني لا أستبعد أن يكون قادة مثل هذه الأعمال ضحايا لعملاء المخابرات الأمريكية ( إن لم يكن بعضهم منها ) لكون هذا الحد من الرعونة التي تميز سلوكهم السياسي لا يمكن تفسيره حتى لو تصورنا أصحاب هذا السلوك مصابين جميعا بالغباء السياسي: فبن لادن وكل من يفكر تفكيره في تصور الجهاد قتالا بدائيا هم عندي مخربون وعملاء إذا لم يكونوا ضحايا فكرهم البدائي لكون ما يبذرونه من أموال لتشويه سمعة الإسلام والمسلمين وخلق الأعداء لنهضتهم ( مثل التحالف الذي هو بصدد التكون بين الهند وروسيا وإسرائيل وأمريكا ضد ما يوصف بالإرهاب الذي صار يوسم بكونه إسلاميا) لا يمكن ان توفره ثروة شخص مهما كبرت, ثروة تعجز جميع القوى في العالم التي يدعي بن لادن معاداتها عن تجميدها وهي مكنوزة في بنوكها أو مرصودة في شركاتها لو لم تكن في خدمتها.

وعندي أن مثل هذه الثروة لو كان صاحبها صادقا فعلا في الدفاع عن قضايا الإسلام الحقيقية لكانت كافية لتحقيق أهم شروط النهضة دون حاجة إلى قتال. فلو آمن صاحبها حقا بعزة الإسلام واعتبر نفسه جنديا في خدمته لسلم كما يقتضي العقل السليم بان هذه الخدمة تكون أفعل واكثر تأثيرا في تغيير التاريخ بتعميم تعليم العربية على أبناء كل المسلمين في العالم وببناء معاهد علمية راقية أو بتوفير المنح للمعاهد العلمية ولأفضل العلماء لتمكين المسلمين من أدوات الإرادة الحرة أعني العلم والتقنية تمكينا لا يبقيهم مغلوبين في كل بقاع الدنيا بحكم عدم فهمهم سر القوة الحقيقي أعني العلم والعمل المنظم ذا المدى والنفس الطويلين.

أما الفزات البدائية والبدوية فهي نار هشيم لا حول لها ولا قوة لكون أقصى ما يمكن ان تصل إليه هو توظيفها المحلي من قبل القوى العلمانية وتوظيفها الدولي من قبل القوى الأمبريالية. فطالب الرياضيات والباحث الفيزيائي وكل العلماء والمهندسين والإنشائيين في الاقتصاد والبناء الحضاري أفضل المجاهدين إذا ربوا تربية إسلامية صادقة لو كان هؤلاء السذج يفهمون. لم تعد الحرب تنادي قبائل وخيلاء فرسان بل هي تواص بالحق يؤسس لمجتمع العلم والتكنولوجيا وتواص بالصبر يؤسس لمجتمع العمل والإنتاج. وليست الحرب بالمعنى التقليدي إلا أدنى أدوات السيادة. فاليابان خسر الحرب بالمعنى التقليدي ولم ينجه منطق الكاميكاز البدائي. ولما فهم معنى الحرب الحقيقية ربحها وصار من الأسياد. وكذلك فعلت ألمانيا وأوروبا التي ركعتها الحرب الثانية.

ولا نحتاج إلى التدليل على فشل الحركات الإسلامية في الفعل الإيجابي الحاكم بأمثلة نضربها من الماضي البعيد أو القريب أعني من معارك التحرير في بدايات دخول الاستعمار أو في بدايات خروجه من الأرض العربية, بل يمكن أن نستمد هذه الأمثلة من الحاضر المباشر في جل بقاع العالم. فيكفي مثالا ما يجري في السودان وأفغانستان من تآكل ذاتي ضمن الحركة السياسية الإسلامية التي وصلت إلى الحكم. كما لا نحتاج إلى التدليل على الفشل في الفعل الإيجابي المعارض إذ يكفي مثالا ما يجري في مصر والجزائر والأردن وتونس وقس عليها كل المعارضات الإسلامية الأخرى التي هي دون هذه نضوجا.

لذلك فلا بد من أن يعيد الإسلام السياسي النظر في مفاهيمه وخططه ليصبح فعلا سياسيا ضامنا لشروط البقاء الدنيوي مع شروط بقائه إسلاميا بالمعنى القيمي للدين بعد التخلص من حصره قيم الإسلام في أدواتها الفقهية الضيقة, إذا كنا نريد للمسلمين أن يسهموا في عصرهم بمنطقه فلا يواصلوا تجاهل شروط الفعل المؤثر: لابد إذن من طرح سؤال النهج السياسي الإسلامي طرحا جذريا, طرحا يبحث عن العلل الذاتية التي تستمد أصلها من مفهوم هذه الحركات لطبيعة العلاقة بين الفعل السياسي بما هو أداة والقيم التي يسعى إلى تحقيقها بما هي غاية يكون الوصول إليها ثمرة عمل منظم يقبل التقويم بمراحل التقدم نحو الغاية أعني بما يتحقق منها. والمعلوم أن ذلك لا يكون إلا بمقتضى شروط الفعل التي من أهمها تربية المواطنين السياسية ذات المدى الطويل كما يمكن أن نستوحي ذلك من التربية النبوية التي دامت عشرين سنة ولم يدع صاحبها أن المسلمين في عصره قد صاروا آلات تطبق الفقه بإطلاق بل بشر يجتهدون فيخطئون: لذلك فالقرآن الكريم لم يخل من ذم الكثير من سلوكاتهم مثل تلكؤ البعض منهم في الجهاد أو مجادلتهم للرسول في الفيء الخ.. .

ذلك أن هذه التربية لا يمكن ان تكون, كما يتصور الفقهاء الذين تحولوا إلى قادة سياسيين دون كفاءة سياسية تذكر إذا قضينا في الأمر بالنتائج, مجرد وصفات محددة مسبقا وذات مضمون ثابت هو تطبيق الفقه الميت الذي لا يكاد يبقى منه شيء صالحا رغم صحة الشعار القائل بصلاح الإسلام لكل زمان ومكان. فهذا الشعار لا يمكن أن يكون مفهوما عند من يخلط بين القيم المجردة التي يصح فيها مثل هذا الشعار و القيم المعينة التي هي تاريخية بالطبع ومن ثم فالصلاح لكل زمان ومكان ممتنع فيها.

ومعنى ذلك أنه لم يبق بوسع أحد ممن يؤمن بدور المسلمين في التاريخ الكوني أن يرضى بالجواب المراوغ الذي يفسر به المتكلمون باسم الإسلام السياسي فشله في الفعل الإيجابي سواء انتسب إلى الحزب الحاكم أو إلى الحزب المعارض تفسيره بعوامل عرضية وغير كافية حتى وإن سلمنا بدور ننسبه لها من جنس عامل التآمر بين العلمانيين في الداخل والقوى الاستعمارية في الخارج أو عامل عدم وجود الديموقراطية في تقاليدنا العربية الإسلامية . فإسهام الإسلام السياسي في النهضة الأولى كان مستجيبا لشروط الفعل السياسي الناجح فأسس لما نسميه اليوم بالحضارة العربية الإسلامية.

المقالة الثانية

الفصل الثاني: الأسباب النظرية لفشل الإسلام السياسي

ترجع كل هذه الأسباب إلى ما أطلقنا عليه اسم سوء فهم الوظيفة التي يؤديها المثال الأعلى في صلته بتحقيقاته المتوالية في التاريخ: إذ الفعل السياسي ليس هو إلا عملية التحقيق المتدرج للمثال في الواقع. فماذا يعني ذلك؟ بلغت السذاجة ببعض قادة الأحزاب السياسية الإسلامية ونخبها إلى حد جعلها تتصور العمل السياسي مقصورا على التعبئة الجماهيرية للوصول إلى الحكم وتطبيق برنامج ناجز وخارج عن كل اجتهاد يتضمن الخطأ والصواب لكونه مقصورا على تطبيق ما يضفون عليه صفة شرع الله.

فتكون مهمة الدولة التي يحكمونها مقصورة على فرض تطبيق الشريعة بالقوة العامة في مجال القيم الإسلامية التي يتصورونها محددة تحديدا نهائيا وليست مادة لاجتهاد لا يتوقف ( القيم الجمالية والقيم الخلقية والقيم النظرية والقيم العملية والقيم الوجودية ). وبدلا من أن تبقى المثل الإسلامية العليا مثلا لا يمكن لأي تعين أن يستنفد إمكاناتها اللامتناهية والمفتوحة إلى الأبد وأن يكون هدف العمل الديني والخلقي تحقيق الممكن الإنساني منها من خلال ممارسة الدين عن قناعة ذاتية فإن مؤدى برنامجهم هو تحويلها إلى مجرد ممارسة خارجية تفرضها دولة بدائية لا يكاد يتجاوز بعدها الروحي دور شرطة العبادات كما نراه في بعض بلاد العرب التي تزعم تطبيق الشريعة.

لذلك فإن المثل العليا الإسلامية ستصبح بمثل هذه التصورات القاصرة قوانين بدائية يعاقب من لا يطبقها لا فرق بينها وبين قانون الطرقات. فلا يبقى للتربية الروحية ولا للدعوة الدينية ولا للتوبة ولا للجهاد الأكبر معنى, إذ يكفي النفاق العام واتباع بعض العلامات الخارجية ( كاللحية بالنسبة إلى الرجل والزي بالنسبة إلى المرأة ) وببعض العبارات والأفعال للظهور بمظهر المسلم حتى ولو كان ذلك في تناقض تام مع كل القيم الروحية الحقيقية أعني العملة المعهودة في عالمنا مثل الكذب والنفاق وتعاطي المحرمات سرا والتلاعب بمقدرات الأمة والعمالة لأعدائها إلى حد جعل أعدى أعداء الأمة حماة العروش والكروش.

ولعل من دواهي هذا الموقف ما آل إليه دور رجل الدين في الإسلام السني. فهو أقرب إلى كونه مجرد مهرج منه إلى سلطة معنوية : فهو يتدخل في أتفه الأمور باسم عدم الفصل غير المفهوم بين الدنيا والآخرة وبين السياسة والدين لكأن الدنيا والسياسية ليس فيهما مستويات متعددة أو لكأن الآخرة والدين ليسا قيمتين أعلييين ترفعان مستوى الدنيا والسياسة. ومن علامات هذا التردي ما نلاحظه من تقابل تام في موقف الساسة العرب من رجال الدين المسلمين ومن البابا عندما يزورهم فتراهم يتوسلون إليه متذللين خانعين في حين تراهم يعاملون الفقهاء والمفتين وعلماء الدين معاملة لا تليق حتى بسواقهم وحجاب أبوابهم.

لقد صارت الدعوة إلى تطبيق الشريعة في كل الحركات الإسلامية دعوة إلى تطبيقها الخارجي وشعارا لاستبلاه الجماهير ما دامت دعوة لا يتقدم عليها السعي الصبور لتربية هذه الجماهير تربية إسلامية تمتد على أجيال متوالية كما يتبين من التربية النبوية للصحابة والتابعين. إنها ليست دعوة لتربية تؤدي في الغاية إلى الاستغناء عن هذا التطبيق بالفرض الخارجي, بل هي مجرد دعوى ديماغوجية لتطبيق قوانين خارجية لا تنتج عن قناعة عند الخاضعين لها ولا عند مطبقيها: ذلك أن الكل يعلم أن التلاعب بالقانون ممكن سواء كان سماويا أو إنسانيا واحترامه ممكن سواء كان إنسانيا أو سماويا والأمر في الحالتين رهن تربية المواطنين الخلقية وسلوكهم الطوعي.

فجميع الحركات الإسلامية تريد تطبيق قيم المؤسسات الاجتماعية الأساسية ( أعني الأسرة والمنشأة والمدرسة والدولة والمعبد ) تطبيقا غير تاريخي ودون جهد سياسي طويل النفس يحصل الممكن من القيم الروحية بالتربية والدعوة ومن ثم فهو تطبيق غير مناسب للتدرج التربوي الذي يقتضيه تحقيق قيم الإسلام بمنهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أعني قيم الأسرة ( التي نهتدي بها في تحديد قوانين التربية والأحوال الشخصية ) وقيم المنشأة ( التي نهتدي بها في تحديد قوانين الاقتصاد والملكية والعقود والإلتزامات ) وقيم المدرسة ( التي نهتدي بها في تحديد قوانين التعليم والمعرفة والخبرة ) وقيم الدولة ( التي نهتدي بها في تحديد قوانين السياسة والتشريع والتأسيس) وقيم المعبد ( التي نهتدي بها في تحديد قوانين الدين والعبادة والتربية الروحية ) بحسب ظاهرها في شكل قوانين ميتة وجامدة متناسية شروطها الروحية تحقيقا لذرائعها الموجبة وحيلولة دون ذرائعها السالبة.

لست أفهم كيف ينسى البعض أن الرسول وهو من هو قد قضى عشرين سنة في تربية المسلمين عليها وأن القرآن الكريم مليء بالأدلة القاطعة على عدم اكتمال ذلك بل وعلى تعذره حيث يرد الحديث في النفاق والتلكؤ عن الجهاد حتى بين الصحابة وعدم تطبيق كل تعاليم الإسلام تطبيقا مثاليا لكون البشر ليسوا ملائكة. ولست أفهم الحركات السياسية التي تدافع مثلا عن حق الرجل في الزواج بأربع نساء في المطلق من دون شرط إسلامه الحقيقي فتجعل من مسألة إصلاح قانون الأحوال الشخصية موضوعا لمعركة سياسية خاسرة من البداية لتناقضها مع روح العصر والشروط الاجتماعية والاقتصادية وتوق النساء والرجال على حد سواء للأسرة الضيقة فضلا عن حطها من الثورة الإسلامية بالدفاع عن تصورات رجعية يندى لها جبين كل مسلم صادق.

هل يمكن أن تعد هذه الحركات صادقة في دعواها أم إن ذلك مجرد غرض سياسي لكونه مؤثرا في الرأي العام الشعبي تمسكا بالتقاليد الجاهلية التي عادت فسيطرت على الفقه رغم استنادها الشكلي على حجج تبدو قرآنية وهي في الحقيقة منافية كلا المنافاة للقيم الإسلامية؟ وإلا كيف يحق للرجل ما يزعم الفقهاء من دون ما يصاحب هذا الحق من واجبات؟ أليس من شروط الحقوق التي يطلب بها المسلم واجبات المسلم وقبل ذلك وبعده ان يكون مسلما؟ أليس أول هذه الواجبات تقدير الأسرة وفهم حقوق المرأة والأبناء وشروط التعدد كما ورد في الآيات الكريمة التي تضبط دواعيه وشروطه؟ أما كان من الأفضل البحث في أفضل إصلاح للأحوال الشخصية بدلا من الدفاع المبدئي عن أشياء منافية لكل قيم الإسلام إذ تنتسب إلى التقاليد لا إلى قيم الإسلام الحنيف؟

ولا أفهم الحركات السياسية التي تدعو إلى تطبيق الحدود في مجتمع لم يتلق التربية الإسلامية التي تجعل من يتعدى عليها يتمنى تطبيقها عليه لكونه يؤمن بان العقاب الدنيوي يحرره من العقاب الأخروي؟ ولا أفهم الحركات السياسية التي تنفي الحرية الدينية دخولا في الملة أو خروجا منها. فمتى كان الدين مجرد انتساب سياسي يدخله المرء بالولاء أو بعدم الولاء للعلامات الخارجية وليس هو إيمانا أهم خصائصه الصدق مع الذات ومع الله؟

هل كانت هذه الحركات تسلك هذا السلوك فتقف مثل هذه المواقف التي هي مواقف فاشلة سياسيا فضلا عن كونها ليست من الدين في شيء, لو كانت حقا تؤمن بجدوى التربية الروحية والدعوة الدينية وقوة الإسلام الذاتية فتؤسس عملها السياسي على تحقيق شروط تجاوز مجتمعات الضرورة إلى مجتمعات الحرية التي تعد الممارسة الحرة للعقيدة أسماها الممارسة الناتجة عن القناعة. لو كانت تعلم ذلك لركزت في برامجها على تخليص الإنسان من الذرائع السلبية ( ما يحول دون الحياة الروحية من شروط اجتماعية اقتصادية وسياسية) وتمكينه من الذرائع الإيجابية ( ما يساعد على الحياة الروحية من نفس الطبيعة ) مما يتعلق به العمل السياسي: مثل الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والصحية والتربوية الخ...

بذلك فقط يكون لهذه الحركات برنامج سياسي حقيقي غايته توفير شروط الممارسة الروحية السامية أعني ما به يتجاوز الإنسان الضرورة ليشعر بالحرية فيفكر في الممارسة الروحية السامية. كيف لمسلم صادق ولسياسي ذكي أن يعتقد الإيمان قابلا لأن يكون بالإكراه بقاء فيه أو خروجا منه في حين أن القرآن الكريم مليء بالآيات التي تنبه النبي فضلا عن غيره إلى وجوب التخلص من مثل هذا الوهم وفي حين أن المجتمعات البشرية كلها تزداد ضيقا بكل معتقد مفروض من الخارج وخاصة مما يؤدي إليه من حياة منافقة ليس لها من الروح إلا المظاهر الخارجية فيصبح الصدق الديني منعدما ويعوضه التنافس المقيت في ممارسة التقاليد الخارجية ؟

الخاتمة

اعتمدنا في المحاولة التي نقترحها لتفسير الوضع السياسي الراهن المتميز بفشل الصحوة في المجال السياسي رغم قوتها في المجال الروحي والحضاري على فرضية فلسفية ذات فرعين صالحين لفهم مستويي الإسلام السياسي الداخلي والخارجي أعني مستويي تعامله مع القوى الفاعلة في مصير السياسة العربية الإسلامية وعلاقاتها بالقوى السياسية الداخلية وبالقوى السياسية الخارجية خاصة في ظرف صار فيه العامل الخارجي بالغ التأثير بمقتضى أمرين مهمين هما الطبيعة الكونية للرهان الحضاري الذي تمثله المعركة بين غايات الصحوة الإسلامية ومآزق الفكر الغربي المسيطر على النخب الفاعلة في العالم ( وخاصة بتوسط إسرائيل وأمريكا ) واندراج نخبنا الفاعلة من غير الإسلاميين في هذا المنطق وتمكنها من الإمساك بالأمور ثمرة لقبولها بمنطق سادة العصر:

1- فرع نظري ويتعلق بالعلة التي أدت إلى سوء فهم الوظيفة التي يؤديها المثال الأعلى عامة والمثال الأعلى الديني خاصة وكيفية الربط بين الحصول الفعلي والإمكان المثالي في تحقيق القيم بأصنافها الخمسة المناسبة لمقاصد الشريعة ( وصلتها بأصناف القيم ) والمعتبرة لمنطق العصر المتحكم في الفعل المؤثر في الساحتين الداخلية والخارجية,

2- وفرع عملي ويتعلق بالعلة التي أدت إلى سوء فهم العلاقة بين الصراع العقدي المذهبي والصراع السياسي الحزبي ظنا أن الأول هو عين الثاني ( هكذا يحاول البعض تأويل الفكر المنسوب إلى مدارس علم الكلام معتبرا إياها أحزابا سياسية بقراءة ماركسية سخيفة تبناها لسوء الحظ من يعد من كبار الفقهاء ) سوء الفهم الذي انتهى إلى قتل الفكر النظري لحصره في الغايات المباشرة أعني في ما يؤدي إليه سوء الفهم المشار إليه في النقطة السالفة.

وقد نتج عن سوء الفهم الأول وهم قاتل للفعل السياسي الموجب وما يتصف به من مرونة وتدرج أعني وهم تطبيق بعض تعينات الشريعة بالقوة وبصرف النظر عن التعامل الفعال مع منطق العصر الذي يتحكم في الرأيين العامين الداخلي والخارجي من خلال توظيف الدولة توظيفا يفرض ممارسة فهم معين للعقيدة والشريعة. وطبعا فإن هذا الفهم ما كان ليحصل لولا الظن بأن ممارسة الشعائر الظاهرة كافية بديلا من القناعة الذاتية, أعني لولا نفي جوهر الإيمان مواصلة لسلوك فقهاء عصور الانحطاط. والغريب أن أصحاب هذا السلوك يرددون القول بان المجتمعات العربية والإسلامية تعيش وضعا أشبه بالوضع الجاهلي ويتناسون أن التربية النبوية اقتضت عشرين سنة لهداية الجاهلية الأولى وكان مجمل تنبيه القرآن للرسول تجنيبا إياه للعجلة الممكنة: دعوته لمجرد التذكير والإقناع ومنبها إياه بأنه لو كان فظا غليظ القلب لانفضوا من حوله.

كما نتج عن سوء الفهم الثاني وهم قاتل للفكر السياسي الموجب وما يتصف به من نسبية وتناسب مع الظرف أعني وهم رفع الفقهاء إلى مقام السلطة التشريعية ظنا بأن الكفاءة التقنية وحفظ المدونات الفقهية وبعض الشواهد الشعرية والأحاديث كافية بديلا مقبولا من الشرعية التمثيلية للإرادة الجماعية ( وهو المدلول الحقيقي من مفهوم الإجماع بما هو مصدر تشريعي مستند إلى عصمة الأمة لا الإجماع الذي حصره الفقهاء في إجماعهم ) التي تطابق مفهوم الانتساب إلى السلطة التشريعية بالمعنى الحديث أعني شرعية البيعة العامة أو الشرعية الديموقراطية التي لا يثبتها إلا الانتخاب الحر والنزيه. ومعنى ذلك أن الفرع النظري من فرضيتنا يفسر فساد شروط الممارسة السياسية عند الأحزاب الإسلامية ببيان علله النظرية وأن الفرع العملي منها يفسر فساد شروط النظرية السياسية عندها ببيان علله العملية.

وقدمنا على هذا العلاج للوجه العملي من أزمة الواقع السياسي العربي دراسة حول أزمة الفكر السياسي العربي الذي انتكس فعاد إلى فكر من جنس الفكر المتقدم على ثورة ابن خلدون الفلسفية فحاولنا فيها بيان نسق الحلول التي قدمها الفكر العربي الإسلامي للمسألة السياسية والكيفية التي توصلت بها هذه الحلول إلى تجاوز العلاج الكلامي الذي نكص إليه فكر النهضة إلى العلاج العلمي الذي نسعى إليه للتخلص من الحرب الأهلية العربية في مستويي الفكر والواقع السياسيين.

ويجمع بين الوجهين تحليل ابن خلدون للحرب الأهلية العربية الإسلامية بمراحلها الخمس وما يتميز به فكره من اعتدال وبراجماتية عجيبة تجعلنا نفهم التسامح العجيب الذي عرف به فكر السنة في أحكامه على خلافات العصر الأول إذا قيس بفكر الشيعة في أحكامها عليه. فلا أحد من السنة يكفر أحدا من الفرقاء أو يبدعه استنادا إلى فرعي التعليل الخلدوني: فالحقيقة الاجتهادية غير معلومة على التحديد سواء سلمنا بوحدتها أو من باب أولى بتعددها. لذلك فالجميع يتعايشون ويتسامحون بعضهم مع البعض طلبا للحقيقة والصواب دون تكفير حتى ولو أدى الخلاف إلى الحرب.

ـــــــــــــــ

(1)الحرب الأهلية الحديثة بدأت قبل ذلك. لكن أوارها اشتعلت بحق في نهايات حرب التحرير عندما بدأ المستعمر ينصب من سيخلفه في القيادة السياسية والفكرية في بلادنا. ولعل من الأمثلة الجارية حاليا حرب الجزائر الأهلية وما تقدم عليها في تونس باسم الحرب بين الثعالبية والبورقيبية بداية وبين اليوسفية والبورقيبية غاية. وقس على ذلك في جل بلاد العرب رغم كون ذلك أكثر وضوحا حيث وجد الاستعمار الفرنسي الذي له نزعة تبشيرية أكثر من الاستعمار الانجليزي. فكل أحزاب فرنسا تتصف بصفتين متلازمتين: العلمانية والمسيحية. أولاهما بديل مؤقت من أخراهما ومدخل إليه: أغلب العلمانيين معادون للدين الإسلامي وخدم طيعون للدين المسيحي أو على الأقل للكنيسة. وهذا ثابت على الأقل في تونس والجزائر وقد رأيت ما يماثله في مصر.

(2)انظر في ذلك بحثنا حول الفلسفة العربية في مائة عام الذي هو تحت النشر في العدد المقبل من نشرية مركزالحضارة والدراسات الإسلامية القاهرة

(3)رغم أن اسم المجتمع المدني في مدلوله الاصطلاحي الحالي لم يكن موجودا في الفكر الفلسفي والديني القديمين والوسيطين فإن المسمى ليس بالأمر الجديد. ذلك أن مقومات العمران ليست حادثة بحدوث أسمائها حتى وان كان تمييزها بعضها من البعض موازيا لهذا الحدوث. لذلك فان لمفهوم المجتمع المدني ما يناظره في الفكر الفلسفي القديم والوسيط وكذلك في الفكر الديني. فعند أفلاطون يعد المجتمع المدني أبعاد العمران الخمسة السالبة. إنها الأمور التي حاول محوها لإزالة العوائق أمام العمل السوي للمجتمع السياسي عنده: خصوصية الحياة الزوجية وخصوصية الملكية وخصوصية المعرفة الحسية وخصوصية الذوق الشخصي أو الفن وأخيرا الخصوصية المتعينة أو الشخص الإنساني ذاته بما هو فرد لا يرد إلى الجماعة. لكن أرسطو بخلاف أفلاطون ( وهو القائل بالعكس منه بالعيني قبالة الكلي وتقدمه الجوهري عليه ) أرجع لهذه الخصوصيات منزلتها ودورها في حياة العمران. ومن ثم فالموقف السلبي والإيجابي من المجتمع المدني أو ما يعد أساسا له ليس بالأمر الجديد وهو ملازم للفكر الفلسفي منذ أول فلسفتين تامتين.

(4)ما كان فكرة مجردة وغير محددة في الفكر الفلسفي اليوناني وظل كذلك عند فلاسفتنا المنتسبين إليه ( من الفارابي إلى ابن رشد ) تغير تغيرا جوهريا وتحدد تحددا دقيقا في الفكر الديني الإسلامي. فمن الغزالي إلى ابن خلدون تحدد المفهوم وتحددت وظائفه: فهو قد أصبح مؤلفا من مصدرين هما الصراع البشري في مجال إنتاج القيم المادية والصراع البشري في مجال إنتاج القيم المعنوية ( ويرمز إليهما عندئذ بالاقتصاد والدين ويمكن أن يرمز إليهما الآن بثقافة القيم المادية وثقافة القيم الرمزية وبصراعيهما في المجتمع) وأصبحت وظيفته إفراز السلطان السياسي الدنيوي والسلطان الروحي المتعالي عليه. وبذلك فهو منبع ما يسميه الفكر السياسي العربي بأهل الحل والعقد ويسميه الغزالي معتبري الزمان الذين ينسب إليهم شرعية اختيار الحاكم( فضائح الباطنية ). إنه منبع السلطان الحاكم ومنبع السلطان المعارض ومنبع كل تغير في القيم السائدة. لذلك فهذا المنبع الذي يبدو دون السلطان السياسي عقلانية هو في الحقيقة منبع كل القيم والعقلانيات المتوالية في التاريخ: لذلك فابن خلدون يرجعه سلبا إلى مركزي التصدي للتجاوزات السياسية ( الثورات الدينية والأزمات الاقتصادية ) ويرجعه إيجابا إلى مصدري القيم: قيم العدل المادي في الجباية والحقوق وقيم العدل المعنوي في المنازل والأوضاع الاجتماعية ( وضع الناس في ما هم أهل له من المنازل ورفض الجاه الذي هو اغتصاب للحقوق متنكر باستغلال النفوذ) والحريات. وهو يعتبر العمران البشري مؤلفا من مادة هي هذان الأمران اللذان يقبلان اسم المجتمع المدني وصورة هي بعدا الدولة أي المالية والجيش بعداها اللذان يفسدان العمران بخنق مادته وقتلها: فيفقد الناس الأمل ويتوقف العمل فيموت العمران. وأعجب ما في الأمر هو التطابق الذي يربط بين نوعي القيم في التصور الديني: فإرث الأرض يرمز إلى القيم المادية وهو لا يكون بحق إلا لمن وعدهم الله بذلك أعني من تتعين فيه القيم المعنوية. ومن دون هذا التطابق يفسد العمران لكون الظلم واغتصاب الحقوق ( فساد القيم المادية ) والعسف وقهر الناس ( فساد القيم المعنوية ) يؤديان إلى فساد العمران.

(5) وقد حاول هيجل أن يجمع بين التصورين الأفلاطوني ( أهمية دور الدولة ) والأرسطي ( التسليم بإيجابية التناقضات الضرورية في المجتمع المدني وهو أول من أطلق عليها هذا الاسم ) وذلك في كل كتاباته السياسية وخاصة في مبادئ فلسفة القانون. أما ماركس فهو قد مال إلى الحل الأفلاطوني المعكوس: فبدلا من نفي العوائق الآتية من المجتمع المدني مباشرة مثله حاول نفيها بتوسط نفي الدولة ( في نقده لنظرية الدولة الهيجلية التي يعتبرها وهما لا حقيقة له وهما يخفي حقيقة الدولة بما هي أداة سيطرة الطبقة الغالبة ) التي هي ليست شيئا آخر عنده عدا التعبير المتنكر عن تناقضات المجتمع المدني التي يتصور الثورة قادرة على تجاوزها بمجرد بلوغ البروليتاريا إلى تحقيق دكتاتوريته مرحلة انتقالية للاستغناء عن الدولة.

(6) مثلما هو الشأن في كتابات جرامشي أنظر مقالة:Norberto Bobbio, Gramsci and the concept of Civil Society pp/73-99 in Civil Society and the State edited by John Keane, Westminster 1988

(7)لأن الإسلام يعلل كونه الدين الخاتم بهذه الخاصية: فهو الدين المنزل الأخير الذي يبين أن الشرائع اسماوية السوية أو غير المحرفة هي عينها الشرائع التي تقتضيها الطبيعة البشرية أو الفطرة. لكن هذه الطبيعة أو الفطرة لا يقصد بها الطبيعة مبا هي ضديد ما يحصل في التاريخ وإلا لبقينا في المقابلة بين الشريعة والطبيعة, بل الطبيعة هي ذاتها سنة إلاهية ومن ثم فمفهوم الفطرة طبيعة من نوع جديد هو المعاني الوجودية التي يزول التنافي فيها بين الطبيعي والتاريخي وبين الطبيعة والشريعة. فالشريعة المبنية على الهوى تكون منافية للطبيعة لكونها ثمرة العمل الإنساني الذي يجري على غير علم بالطبيعة الفطرية التي كلف الإنسان بعدم التنكر لها في عمله التاريخي بالإفراط والتفريط المزظفين للعاطفة الدينية من أجل سلطان مستخدمي الدين (سورة آل عمران ).

(8)وهما صياغتان حدثتا في العشرية الأولى من القرن التاسع عشر بفارق سنتين فاصبحتا منذئذ جوهر الفكر الفلسفي والديني الغربي بالإيجاب ( معهما أو منهما ) أو بالسلب ( ضدهما أو حولهما ). فأما الصياغة الأولى فيمثلها كتاب هيجل تجربة الروح أو علم ظهور العقل Phänomenologie des Geistes ( 1807). ,أما الصياغة الثانية فيمثلها كتاب شيلنج استقصاءات فلسفية في جوهر الحرية الإنسانية وما يتصل بها من الموضوعاتPhilosophische Untersuchungen über das Wesen des menschlichen Freiheit und die damit zusammenhängenden Gegenstände . لكن التوحيد الذي يغلب عليه البعد النظري والميتافيزيقي متقدم على هذا التوحيد الذي يغلب عليه البعد العملي والميتاتاريخي. ويمثل البعد المتقدم فيلسوفا العصر الحديث دون منازع عنيت ديكارت ولايبنتس. فالأول قدم مشروعه صراحة للكردينال ده برول للمساعدة على الإصلاح الديني في المسيحية الكاثوليكية ( الأوراتوار ). والثاني عمل كل حياته لتحقيق الصلح الفكري والفلسفي بين فرق المسيحية للتصدي السياسي للإسلام.

(9) وما أشبه البارحة باليوم في هذا المجال. فالذين تكلموا باسم الفلسفة سابقا مثلهم مثل الذين يتكلمون باسمها اليوم حصروها في نتائجها الميتة التي صارت عندهم حقائق نهائية ثم أضافوا إليها عقيدة سخيفة تتمثل في تصور الدين مجرد ظاهر ( وعند المحدثين مجرد ايديولوجيا ) باطنها هو الحقيقة النهائية التي تمثلها الفلسفة في تعينها النهائي حيث كانت الفلسفة في رسائل اخوان الصفاء ذلك الخليط الأفلاطوني المحدث العجيب تؤدي الدور الذي صارت تؤديه الماركسية عند مفكرينا اليوم. لذلك فلا عجب إذا وجد هؤلاء في أولئك أجدادا لهم.

(10) أنظر في ذلك كتابينا الاجتماع النظري الخلدوني والتاريخ العربي المعاصر الدار العربية للكتاب تونس 1983 و محاولة في العلاقة بين السلطان الروحي والسلطان السياسي الدار العربية للكتاب تونس 1991.

(11) (119الفكر السياسي الفلسفي متخلف مضمونيا ومنهجيا. فمضمونيا بقي هذا الفكر مجرد بحث في المماثلات السطحية بين النموذجين وما يتصور بنية المجتمع في بعديه السياسي والمدني. ومنهجيا بقي الفكر الفلسفي يبحث عن المدينة المثلى والفاضلة وينفي كل ما يوجد في التاريخ الحقيقي بوصفه مخالفا لما تقتضيه طبائع الأشياء. لكن الفكر الديني رغم عدم خلوه من مثل هذين العيبين وخاصة عند المتطرفين من فرقه فإنه يسلم بشرعية ما يحدث في التاريخ الفعلي بوصفه ما يريده الله لكون ما يريده الله فيه دائما حكمة وسر ولا يمكن نفيه من دون سقوط في المثنوية التي تعتبر خروجا عن الإسلام. وليس من الصدفة أن يكون التاريخ والقصص التاريخي في القرآن من أهم آيات الاعتبار الديني والروحي لمعرفة ما يريده الله وتداول الأمم التي يورثها الله أرضه فيستخلفها فيه.

(12)بحيث لم يبق الصراع من أجلهما أمرا مكروها بل هو عين مجال التدافع من أجل تحقيق القيم العليا: من هنا ضرورة الجمع بين الدين والسياسة خلافا لما تعتقده الفلسفة السياسية من ضرورة تخليص الإنسان من القيم المادية التي تعد من أدران الدنيا بل يعد الجسد نفسه ومتعه من أدران الدنيا في نظرهم. لذلك حاول ابن خلدون ان يميز بين تصوره للسياسة بما هي علم عمل القوى الاجتماعية الفعلية المنتجة بصراعها التاريخي للقيم المادية والمعنوية وتصور الفلاسفة لها بوصفها علم النظام المثالي الذي لو وجد لأغنى عن السياسة أصلا.

(13) من مفارقات هذا التعريف لصورة العمران ومادته امران: الأول هو نسبة الواقع التاريخي الفعلي للأولى ونسبة الواقع الرمزي والمخيالي للثاني والثاني هو نسبة القيم المادية المعنوية للمجتمع المدني وليس للمجتمع السياسي. ولكي نفهم ذلك ينبغي العودة إلى تعريفنا المجتمع المدني: فهو جماع ارتباط المجتمع المحدد بما يتعالى على كل تحدد يفرضه المجتمع السياسي ( تحديد في المكان: رقعة الدولة ) وفي الزمان ( تاريخ الدولة ) وفي السلم ( نظام تقسيم الأعمال والمنازل في الدولة ) و في الدورة ( كيفية تحول المحدودات الثالثة السابقة بعضها إلى بعض وأثرها بعضها في البعض ) أعني بالطبيعة عامة والحياة عامة وبالتاريخ الإنساني عامة وبالدورة الكونية عامة وبما يتعالى على ذلك كله في الإمكان التصوري. فيكون المجتمع المدني من ثم ممثلا للامتناهي والمطلق رغم عدم التحدد والتناهي. لذلك كان الواقع الفعلي هو المحدد والمتناهي والواقع الرمزي والمخيالي هو اللامحدد واللامتناهي ومن ثم فهو مصدر كل القيم بما فيها من مطلق وكلي يتعالى على كل تحديد وتناه. ومن ثم يكون الربط الديني بين الصراع والتدافع من أجل القيم العليا بالصراع والتدافع من أجل إرث الارض وجعله النجاح في الجمع بين النوعين من القيم علامة الصلاح والصدق: وبذلك يصبح الدين تحقيق القيم في التاريخ بأدوات هذا التحقيق التي لا تغفل كونها أدوات ودون فصام بين الدنيا والأخرى وبين نوعي القيم.

(14) انظر في ذلك كتابنا إصلاح العقل في الفلسفة العربية مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الثالثة بيروت 2001.

(15) الرتبية المبنية على سلم القوى الطبيعية والتي يقاس عليها تنظيم المجتمع السياسي المثالي يجعل المجتمع ظاهرة طبيعية خاضعة لسلم ثابت أو واجب التثبيت بحيث يصبح كل تغير لهذا السلم انحطاطا. ثم هو نظام يسلم من البداية بأن المجتمع واحد مثل النفس الواحدة وبأن الصراع بين قواه من جنس الصراع بين قوى النفس الواحدة وليس من جنس الصراع الذي من الرتبة الثانية إن أبقينا على هذا النموذج أعني الصراع بين النفوس التي هي متصارعة مع ذواتها في داخلها. لذلك فالصراع السياسي عند ابن خلدون صراع لا يقاس بما يجري في النفس ولا حتى بما يجري بين النفوس بل هو صراع بين قوى اجتماعية: العصبيات التي يمثلها بظاهرة طبيعية من جنس معقد هي ظاهرة الدوائر المتقاطعة التي تحصل من رمي الحصى في الماء مميزا بين ظروف الرمي: في مناخ عصبية الدم أو عصبية الولاء أو عصبية الشرعية الناتجة عن التقادم والجمع بين السلطانين الروحي والزماني أو الرئاسة والملك.

(16) السلمية المبنية على سلم العلاقات الأسرية والتي يقاس عليها تنظيم المجتمع المدني المثالي يجعل المجتمع ظاهرة طبيعية خاضعة لعلاقات ثابتة أو واجبة التثبيت ويكون فيها سيد واحد والبقية توابع. لكن المجتمع المدني مؤلف من أسر ومن ثم فحتى لو أبقينا هذا النموذج فإنه لا يكون صالحا لتنظيم العلاقات ببين أربابها: المشكل هو النزاع حول الحقوق والواجبات بين هؤلاء الأرباب أي بين الأسر لا داخل الأسر. والقلب الخلدوني يتمثل في قيس ما يجري داخل الأسر على ما يجري بينها بعكس ما يفعل الفلاسفة الذين يقيسون ما يجري بين الأسر بما يجري داخلها. ونفس العكس نجده في الرتبية السياسية: ما يجري بين النفوس لا يقاس بما يجري فيها بل ما يجري فيها يقاس بما يجري بينها. والآلية هي في الحالتين واحدة: صراع قوى هي بدورها متصارعة وليست واحدة والقانون المتحكم فيها هو حصيلة صراعها وليس قانونا متعاليا عليها: أي إنها هي عينها مصدر حالتها السوية أعني أن الصراع بين القوى السياسية ( العصبيات ) هو الذي يولد التعديل الذاتي بينها عند وصولها إلى علم قوانين المحافظة على ذاتها فتدرك الحدود التي عليها وضعها لبقائها في أحسن حال ( العصبية مفضية للهرج إذا لم تضبط نفسها بسياسة عقلية أو دينية ). وكذلك الشأن بالنسبة إلى نزاع الحقوق: الصراع من لأجل الحقوق يقتضي وضع حدود لمنع الظلم. و العدل المانع للظلم ليس قيمة متعالية على النزاع بل هو مداره: فهو حصيلة توازن القوى في هذا النزاع مثله مثل النزاع من أجل السلطة. وابن خلدون يعتبر الأمرين لا يختلفان في الوجود عنهما في الدين لكون الدين عامة والإسلامي خاصة لا يمكن ان يكون صحيحا إذا كان منافيا لما تقتضيه طبائع الأشياء: الشرائع والطبائع عند ابن خلدون لهما نفس الواضع أعني الله. فالشرائع طبائع في التاريخ والطبائع شرائع في العالم.

(17) أما الضوابط الجنائية والإجرائية فيها جميعا فهما جوهر الأساس الروحي للدولة: فمن دون الأولى يصبح لكل إنسان حق أخذ حقوقه بنفسه فلا يبقى للدولة أصل احتكار القوة ومن دون الثانية يصبح حسم النزاعات مستحيلا لكونها تبقى جميعا مفتوحة إلى ما لا نهاية لذلك كان جوهر الإجراءات ضبط آجال الإجراءات وكيفياتها المناسبة لتيسير ضبط الوقت.

(18) درسنا علاج ابن خلدون للأزمة في الكثير من أعمالنا وخاصة في أقدمها في هذا المجال كتاب الاجتماع النظري الخلدوني والتاريخ العربي المعاصر الدار العربية للكتاب تونس 1983 وفي أحدثها في هذا المجال كتاب أفاق النهضة العربية دار الطليعة بيروت 2000.

(19) والمحركان هما الأمل في مجال إنتاج القيم المادية ( كما يؤكد ذلك ابن خلدون عند حديثه عن أسباب فساد اقتصاد البلاد إلى حد التقاعس عن العمل بل والهجرة من الوطن إلى أوطان أخرى يكون العمل فيها غير مستقل باستغلال السلطة –الجاه والمصادرة- أو بالجباية ) والحرية ( أو الرئاسة الإنسانية بلغة ابن خلدون ) في مجال إنتاج القيم المعنوية ( كما يؤكد ذلك ابن خلدون عند حديثه عن أسباب فساد حكم البلاد من خلال النخب المتملقة التي تبعد المبدعين وتستحوذ على الحظوة فيعم الكذب والنفاق وتذل الشعب فتفقده القدرة على الصدق والدفاع عن النفس أو بلغة ابن خلدون تفقده معاني الإنسانية فتجعله عيالا على غيره ). ولا أعتقد أنه يوجد وصف أكثر دقة لما عليه الأمر اليوم في الوطن العربي والعالم الإسلامي.

(20) والحاميان هما نظام الجباية الذي حدده الإسلام والعدالة كما ضبط آلياتها ومعاييرها الإسلام في مجال القيم المادية ونظام الرعاية ( رعاية النخب ) والتربية في مجال القيم الروحية من نفس المنطلق الروحي الذي يطابق السياسة العقلية كما يحاول ابن خلدون تحديد مقوماتها أعني الحرية والعدالة اللتين يضمنها تعالي القانون على الجميع ( وازع الوازع ) في مجال إبداع القيم بصنفيها وحفظها وتبادلها واستهلاكها.

(21) عقد وازع الوازع وضرباه عند ابن خلدون المقدمة الباب الثالث الفصل 51 ص, 540 :" وحكمه ( حكم الوازع) فيهم: تارة يكون مستندا إلى شرع منزل من عند لله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه الذي جاء به مبلغه, وتارة سياسة عقلية يوجب انقايدهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم"

(22) ابن خلدون, المقدمة الباب الثاني الفصل الرابع والعشرون في أن الأمة إذا غلبت أسرع إليها الفناء ص.260- 261.

(23) مبدأ عدم التأثيم أنظر ابن خلدون المقدمة دار الكتاب اللبناني ط.3 بيروت 1967 الباب الثالث الفصل 30 في ولاية العهد ص.371-386 وخاصة ص.377-378"والأمر الثالث شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصحابة والتابعين.فاعلم أن اختلافهم إنما يقع في الأمور الدينية وينشأ عن الاجتهاد في الأدلة الصحيحة والمدارك المعتبرة. والمجتهدون إذا اختلفوا فان قلنا إن الحق في المسائل الاجتهادية واحد من الطرفين ومن لم يصادفه فهو مخطئ فإن جهته لا تتعين بإجماع فيبقى الكل على احتمال الإصابة ولا يتعين المخطئ منهما. والتأثيم مدفوع عن الكل إجماعا. وإن قلنا إن الكل على حق ,عن كل مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطأ والتأثيم. وغاية الخلاف الذي بين الصحابة والتابعين إنه خلاف اجتهادي في مسائل دينية ظنية. وهذا حكمه".

(24) مبدأ العقدين أنظر ابن خلدون المقدمة المقدمة الباب الثالث الفصل 51 ص, 540:" وحكمه ( حكم الوازع) فيهم: تارة يكون مستندا إلى شرع منزل من عند لله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه الذي جاء به مبلغه, وتارة سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم"

(25) مبدأ الفصل بين الوزع الذاتي والوزع الخارجي انظر ابن خلدون المقدمة الباب الثالث 3 الفصل 6 ص.221- 222:" ولا تستنكر ذلك ( دور التأديب ) بما وقع في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشرعية ولم ينقص ذلك بأسهم بل كانوا أشد الناس بأسا لأن الشارع صلوات الله عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم لما تلا عليهم من الترغيب والترهيب. ولم يكن بتعليم صناعي ولا تأديب تعليمي وإنما هي أحكام الدين وآدابه المتلقاة نقلا يأخذون أنفهسم بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق. فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم. قال عمر رضى الله عنه: من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله حرصا على أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه ويقينا بأن الشارع أعلم بمصالح العباد. فقد تبين أن الأحكام السلطانية والتعليمية مفسدة للبأس لأن الوازع فيها أجنبي أما الشرعية فغير مفسدة لأن الوازع فيها ذاتي"

(26) الإنسان المستخلف وفلسفة التربية الخلدونية: المقدمة ص. 1042-1043:" ومن كان مرباه بالعسف سطا عليه القهر وضيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه الكسل وحمله على الكذب و الخبث وهو التظاهر بغير ما ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا.وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى انسانيتها فارتكس وعاد أسفل سافلين. وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف"

 

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=253&idC=3&idSC=12

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك