إتيقا الاختلاف عند إيمانويل لفيناس

عبد الله موسى

 

يجد القارئ لفلسفة لفيناس اهتماما كبيرا تجاه الآخر أو الغير، من خلال تأسيسه للعلاقة الإتيقية بين الأنا والآخر، إذ يؤكد دوما على ضرورة أن تكون هذه العلاقة علاقة تواصل ومشاركة، علاقة قائمة على المحبة المتبادلة، علاقة روحية لا نزاع فيها، قائمة على الاعتراف بالآخر والتواصل معه، إنها علاقة مشاركة ومحبة، قوامها الاحترام المتبادل والشعور بالمسؤولية تجاه الآخر؛ فالهوية لديه تكمن في الاختلاف لا التطابق، لأن الآخر يفقد غيريته إن كان مشابهًا للأنا. في حين أن الاعتراف بغيريته هو اعتراف بإنسانيته، وبالتالي، فإن الهوية تبنى على أساس الاختلاف، فهي المغايرة اتجاه الآخر، عكس الفلسفة الغيرية التي اعتقدت أن معرفة الآخر هي معرفة للذات. بمعنى أن الأنا والآخر يشتركان في كونهما ينتميان إلى النوع الإنساني، لكن لا تشابه بينهما فهما مختلفان، ولكن هذا الاختلاف لا يؤدي إلى الصراع والنزاع. إنه علاقة إنسانية إتيقية.

الشيء الذي يعكس موقفه من الحرية في المجتمعات الليبرالية، والتي يقول عنها إنها كثيرا ما تدفع الأنا إلى ممارسة العنف ضد الآخر ومن ثم سلبه إنسانيته، بل وتدفع الدولة والجماعة إلى ممارسة العنف ضد جماعات أخرى كالعنف الاستعماري مثلا.

ومن ثم بناء كون أخلاقي يراه انطلاقا من حرية الذات الأساسية لكل فعل أخلاقي، لكي ينتقل ذات الفعل إلى احترام الأفق المؤسّس على الاعتراف والمؤدي إلى التضامن. تلك هي النزعة الإنسانية التي رمى إليها في حديثه عن إنسانية الإنسان الآخر.

يُجمع أعلام «فلسفات الاختلاف» في الفلسفة المعاصرة، من أمثال: هيدجر، دريدا، دولوز، ليوتار، فوكو، فاتيمو، أكسل هونيث. على رفض منطق الهوية المكرس وجملة المفاهيم المرتبطة بها مثل الكونية، الوحدة، الحضور، التطابق، التماثل، التي أطرت ولا تزال تاريخ الفلسفة. ورفض مفهوم «النزعة الإنسانية» بطرحها القديم الذي ظهرت به لأول مرة سنة 1808. رفض ينبني في مجمله على أربع نقاط أساسية حسب "فيري ورونو"

أولا: رفض لمفهوم الحقيقة؛ ثانيا: رفض كل مرجعية للكلي والشامل. ولكل إقرار بتاريخية المقولات الميتافيزيقية التي تجعل من الإنسان (أو الذات) محور مشروعها، وتجاوزها من أجل التشريع 'للتفكير على نحو آخر»؛ ثالثا: تأكيد موت الفلسفة أو نهايتها؛ رابعا: إعطاء أولوية البحث الأركيولوجي.(بوطيب، ر.2011: 298) لتقطع مع تقليد في التفكير تميز بكثافة حضور مقولات الذات والإنسان والكلي.

إن فلسفات الاختلاف تُحدّد بأكثر عمق بكونها رفضا للتمثل الذي يشرع للمماثل والمشابه ويقصي المختلف والمغاير. ويؤدي هذا النقد والتجاوز للتماثل كآلية للتفكير والمعرفة والحُكم القائمة على منطق الهوية ومقولة الكلي المجرد إلى إقصاء كل ما يشير أو يدل على الآخر المختلف الذي يشترطه مفهوم الاختلاف كمعطى أنطولوجي محايث للوجود الإنساني. إضافة إلى تعدد القيم لكسر تقييد الإرادة بثنائي القيمية، وتعدد القيم يفتح المجال لرأي الآخر دونما دوغمائية.

وعليه، ولبلورة علاقة فلسفة الاختلاف بالإنسان كذات أو كذاتية مستقلة وقائمة بذاتها وتتمتع بالقدرة على صنع مصيرها بنفسها، في مقابل هذا الرفض للهوية والجوهر والذات والعقل ككيانات مطلقة وثابتة وسرمدية ولا تاريخية، تبلورت «مبادئ» جديدة تتمحور حول مفهوم الاختلاف كمعطى أولي، لا يمكن نفيه أو اختزاله أو الحد منه أو استيعابه في أية هوية متعالية ومغلقة.

الاعتراف والغيرية:

في خضم هذا المعطى الأولي يخالف لفيناس التعريف الذي وضعته الفلسفة الغربية للهوية بأنها تماثل وتطابق من خلال المعادلة الرياضية أ=أ أو الشيء هو، هو، وهو تعريف يرفضه لفيناس، لأنه يجعل الآخر مشابها للأنا، وبالتالي فاقدا لغيريته. في حين الاعتراف بغيرية الآخر اعتراف بإنسانيته، لذا نجد لفيناس يؤكد على مسألة الاختلاف في تعريفه للهوية قائلا: "إن الهوية هي الاختلاف (وليس التطابق)؛ أي عندما يتم تحديد الأمور عندها تختلف عن غيرك في الأفكار وفي الشخصيات الأخرى، حيث لا يمكن أن تعتبر الشخص هو نفسه "الهوية" بحجة أنه ولد هنا أو هناك، أو في هذا اليوم وليس في اليوم التالي" ( (Levinas, E. 1991: 39. بمعنى أن الهوية تُبنى على أساس الاختلاف، إنها المغايرة تجاه الآخر، مقابل أنطولوجيا الفلسفة الغربية التي ترد الآخر إلى الهُوle même(Levinas, E. 1992: 121)، في حين معرفة الآخر هي معرفة للذات. يؤكد لفيناس على أن الآخر ليس شبيها لأنا، في النوع الإنساني، ممالا ينفي اختلافه عنه (الأنا).

في ذات الصدد، يعبّر الباحث "عبد العزيز بومسهولي" عن ذلك من خلال مبدأ الاعتراف الذي يعد مبدأ جوهريا في صلب علاقة الإنسان بالآخر. هذا الاعتراف بطبيعة الحال لن تتم معاينته عن كثب إن لم يتحقق شرط الحرية (بوطيب، ر.2011: 30). على أساس أنها الخاصية الجوهرية التي تجعل من وجود الإنسان مع الآخر متكافئا ونديًا، لكي ينتقل ذات الفعل إلى احترام الأفق المؤسّس على الاعتراف والمؤدي للتضامن... تلك هي النزعة الإنسانية التي رمى إليها لفيناس في حديثه عن إنسانية الإنسان الآخر.

من هذا المنظور ومن ذات النزعة المعبر عنها في فكر لفيناس، أصبحت الغيريةAltérité: تعبّر عن كون كلّ من الشّيئين غير الآخر ويقابله العيني، فهي التّمايز والاختلاف والتّباين. وإذا كان الغير Autrui في اللّسان الفرنسي يشير إلى الشّخص الآخر، إلى الأنا الآخر إلى إنسان غيري أنا، فإنّ الآخر(L’autre) يشير إلى أي شخص غيري مثلما قد يشير إلى أيّ شيء آخر. (في اللسان العربي لا فرق بين الغير والآخر بالإضافة إلى أن الآخر عند العرب يشير فقط إلى أحد اثنين دون أن يعني ذلك أن بينهما اختلافا أو بالأحرى تناقضا أي إلى تكثر كمي.) حيث يصبح مشكل الغيرية داخل العلاقة مع الغير أكثر صعوبة. كأن نشعر بشدة اختلافنا عن أجدادنا وأكثر اختلافا عن الجيل السابق لهم، أو ما نعبر عنه بصراع الأجيال..

يحدِّد إيمانويل لفيناس أنطولوجيا جديدة لا تتأسس على معرفة الذات، بل على الطيبة تجاه الآخر، أنْ تكون، هو أنْ تكون للآخر، أي أن تكونْ طيِّبًا. إنها أنطولوجيا تؤسس امتيازات الآخر تجاه الأنا. فحقوق الإنسان هي أولاً حقوق الإنسان الآخر: فالمحبة المنظَّمة تبدأ بالآخر. وبالطيبة تجاه الآخر تؤكِّد الأنا ذاتها وتبني ذاتها كائنًا بشريًا. الطيبة هي الجواب الحقيقي لتوسُّل وجه الآخر. هي الطيبة التي تنشئ علاقة مع اللامتناهي (فكرة اللامتناهي تتعلق بتجربة الغيرية وبالعلاقة مع الآخر بوصفها علاقة اجتماعية تتمثل في الاصطدام مع وجود خارجي بإطلاق، لا تناهي هذا الوجود لا يمكن أن يحتوي الآخر، ويضمن ويكون هذه الخارجية التي تظهر في المقاومة المطلقة التي يبديها الوجه ضد كل موضعة). الذي يعبِّر عنها وجه الآخر. ومن ثم لا يحدِّد هنا لفيناس الفلسفة على أنها محبة الحكمة، بل على أنها "حكمة المحبة في خدمة المحبة" (Levinas, E. 1992: 83)، إذ عبر لفيناس عن مبدأ المسؤولية أمام الإنسان الآخر وبشكل أساسي بالطيبة اتجاهه. فبالطيبة يصبح الإنسان فاعل سلام، باعتبار السلام لا يتطابق مع نهاية القتال لقلَّة المقاتلين، وبخسارة البعض وانتصار البعض الآخر؛ أي مع نشوء المدافن أو نشوء الإمبراطوريات الشاملة المستقبلية. على نحو ما تبشر به إمبراطوريات الفوضى، حتى وإن وصفت بالفوضى الخلاَقة. على السلام أن يكون سلامي أنا، بعلاقة تنطلق من الذات نحو الآخر، بالرغبة والطيبة، حيث الأنا تقوم وتستمر بدون أنانية (Levinas, E. 1997: 83).

إنما دفع إيمانويل لفيناس إلى الاهتمام بإنسانية الإنسان والحديث عن السلام الكوني، والسعي إلى تحقيقه بالتركيز دائما على الإتيقا. هو تأكيده على أن تحقيق السلام مرهون أو متوقف على ربط السياسة بالأخلاق والإتيقا وجعلها خادمة للإنسان، لا قاتلة لإنسانيته من خلال اندفاعها للحروب. فالسلام كما يرُومه لفيناس هو ذاك السلام الذي يتأسس على علاقات المحبة والطيبة والمسؤولية الجامعة بين الأنا والآخر، ولا يعني أبدا انتهاء معركة بانتصار طرف وهزيمة أو موت طرف ثان. لأن المعارك التي تنتهي بالمدافن وتقتيل للإنسانية، انتهاؤها ليس سلاما، وإنما إعدام للإنسانية لن تنساه الذاكرة. يجب أن يكون السلام صادرا عن الطيبة. يقول لفيناس: "ينبغي أن يكون السلام سلامي أنا، صلب علاقة تنطلق من الأنا نحو الآخر وصلب الرغبة والطيبة" (Levinas, E. 1992: 217)، وأن السلام يتطلب علاقة التآخي بين الأفراد، ليست علاقة الانتماء إلى النوع الإنساني فقط، إذ هناك فرق بين العلاقتين. أما علاقة الانتماء أو التشابه في الانتماء إلى النوع الإنساني فقط، فإنها لا تفضي إلى السلام وعلاقات الأخوة، بل إلى النزاع، لأنها علاقة تغذي فكرة التشابه بين الأنا والآخر، وتحول الآخر إلى شبيه، مما يجعل الحرية التي تطالب بها الأنا حرية مطلقة، كما يجعلها تطالب الآخر بما تفعله أو تتصوره هي، في حين أن للآخر غيريته التي وجب علينا احترامها، فالآخر ليس مثيلا أو شبيها للأنا، والعلاقة بين الأنا والآخر ليست علاقة تطابق. أما علاقة الأخوة أو التآخي، فإنها تقرب البشر بعضهم لبعض، وتخلق بينهم التواصل والمشاركة والمحبة. ولتأكيد اهتمام لفيناس بإنسانية الإنسان الآخر، نجده يلح على ضرورة أن تكون هذه العلاقة علاقة تواصل ومشاركة، علاقة قائمة على المحبة المتبادلة، علاقة روحية لا نزاع فيها، إذ يقول: "وحدها العلاقة بين كائن وآخر، يمكن أن تكون روحية، وما يهم هو المتاجرة الروحية بين الكائنات، ولا يتعلق الأمر هاهنا بالاحترام، ولكن بالحب" (Levinas, E. 1991: 78-79)، إذ يكمن الإنساني في انفتاح الأنا على وجه الآخر والشعور بالمسؤولية تجاهه، في مقابل "إنساني" في معناه الكلاسيكي الذي لم يعبر عن المعنى الحقيقي لإنسانية الإنسان. لذا، نجده ينتقد هذا المعنى الكلاسيكي لمصطلح "إنساني" ويعطي له معنى جديدا، فهو "انفتاح الأنا على الآخر، والشعور بالمسؤولية تجاهه.

الآخر في تصور لفيناس:

ومن تجليات النزعة الإنسانية في فكر لفيناس، دعوته إلى التعامل مع الآخر كذات وليس كموضوع، وهي المعاملة التي أطلق عليها اسم البينذاتيةl’intersubjectivité، مؤكدا في أكثر من موقف، على أننا في تعاملنا مع الآخرين، إنما نحن نتعامل مع الأرواح، لا مع الأشياء، لذا وحتى تصبح علاقتنا بالآخر علاقة أخلاقية إنسانية، وجب الاقتراب من الآخر، والاعتراف بغيريته واحترامها، والتحاور معه والشعور بالمسؤولية اتجاهه، ومشاركته بدلا من إقصائه، وهي كلها أسس وشروط رأى لفيناس أنها ضرورية لبناء علاقات إنسانية مع الآخرين.

إلا أن ما ينبغي الإشارة إليه، يتعلق بحديث لفيناس عن الآخر في أشكاله الثلاثة: فالآخر القريب، هو الآخر الملموس اللامجرد، فنحن مسؤولون عنه، مسؤولية أخلاقية تلزمنا باحترامه والاعتراف بوجوده. أما الآخر البعيد، فهو المجهول الذي لا نعرفه، والذي وجب علينا احترام حريته، وذاك وجه من أوجه مسؤوليتنا تجاه الإنسانية، وهناك آخر لا يدخل في علاقة ملموسة معنا، وجب أن نتعامل معه باحترام القواعد ونترك العدالة توجهنا في ذلك، شريطة أن تكون عدالة مؤسسة على الأخلاق/الإتيقا. وهذا ما يشير إليه روبيرتو طوكسانو موضحا لفلسفة لفيناس، حيث يقول: "... يجب أن نكون حذرين أمام واقعة وجود بعض الوجوه التي لن نراها أبدا. فمثلا مشكل استعمال العنف من طرف الجماعة لا يحد من العنف الموجه ضد الجار، ولكنه يمتد أيضا إلى العنف المفروض من طرف جماعة على شعوب نائية. حالة حرب أفغانستان بالنسبة إلى أمريكا) كيف يمكننا أن نتعامل مع الآخر المجهول والبعيد؟ أو مع الآخر المختلف".(كثير، إ والخطابي، ع. 2003: 50) والوجه الثالث للعلاقة الممكنة بين الذات والآخر، هي تلك العلاقة القائمة على إرادة الهيمنة والتسلط، حيث تسعى الذات لبسط هيمنتها وإرادتها على الآخر، ولا ترى فيه بالتالي ندّا لها، وإنما فقط موضوعا لسلطتها. إن العلاقة مع الغير لا يمكن تأسيسها انطلاقا من مبدأ المعرفة(تحويل الغير لموضوع للمعرفة ومن ثمة للتملك) ولا على أساس الحاجة(تحويل الآخر إلى مجرد وسيلة وأداة لإشباع حاجات الذات) ولا انطلاقا من إرادة الهيمنة (تحويل الغير لموضوع للهيمنة والتسلط). يجدر بنا إعادة تشكيل مفهوم الذات ذاته، وتأسيسه داخل سياق الإتيقا وهو ما يعني النظر للذات لا ككائن متعالي منغلق على ذاته ومكتف بها، وإنما باعتبار الذات "ذات مضيافة«le sujet est un hôte»." تفهم الضيافة هنا انطلاقا من تصور مخصوص للذات في علاقتها بالغير. (Levinas, E. 1994: 52-53).

ولحل معضلة الأنا تجاه الآخر المختلف، يعمد لفيناس إلى نفي اعتبار الآخر مجرد شيء، بل يجب معاملته كشخص ينتمي مثلنا إلى دائرة النوع البشري. بالحوار والمقابلة والتلاقي وجه لوجه نزيل سوء التفاهم بين الأنا والآخر. من أجل أن تبدأ الذات في التجليl’épiphanie للآخر دون تزييف في لحظة المقابلة والتلاقي. يقول لفيناس في هذا السياق: "من المؤكد أن الآخر يمنح نفسه لكل قدراتي ويقع تحت حيلي وجرائمي ويقاوم بكل قواه ومصادره غير المتوقعة حريته الخاصة… توجد خارجيته الحقيقية في نظرته التي تمنعني عن كل غزو. تتكون هنا علاقة مع مقاومة كبيرة مع الآخر المطلق، مع المقاومة الإتيقية…" (Levinas, E. 1992: 81).

إتيقا المسؤولية:

يؤسس لفيناس مبدأ المسؤولية تجاه الإنسان الآخر. هذه المسؤولية التي تعطي معنى واحتراما للوجود البشري. فأن أكون أنا، ذلك يعني عدم القدرة على التهرُّب من المسؤولية (Levinas, E. 1992: 94-95). وهكذا، إنما يحقق الإنسان ذاته ليس بانعكاس تفكيره على ذاته، بل بأن يصبح مسؤولاً عن الآخر. ومن ثم يصبح المطلوب هو التعبير عن هوية الأنا انطلاقًا من المسؤولية. يقول لفيناس: «عندما يقترب مني الإنسان الآخر آتيًا إلى لقائي، فإنه يناديني ويتوسَّل إليَّ: إنه ينادي مسؤوليتي، وأن أجيبه، فذلك يعني أن أجيب عنه. وعندما اكتشف وجه الآخر، أصبح مسؤولاً عنه. بالطبع، أستطيع أن أتوارى عنه. لكنني لا أستطيع ذلك من وجهة نظر إنسانية. يفرض الوجه ذاته عليَّ فلا أستطيع أن أمتنع عن سماع ندائه، أو أن أنساه، أو أن أتخلَّى عن مسؤوليتي أمام بؤسه» (Levinas, E. 1992: 97).

إنَّ مسؤوليتي تجاه الآخر تفرض ذاتها عليَّ مهما كان موقف الآخر مني. فالعلاقة مع الآخر ليست تماثلية، لأنني مسؤول عن الآخر من دون أي مقابل، حتى لو كلفني ذلك حياتي. فالمبادلة تخصُّ الآخر وحده (Levinas, E. 1992: 104). في هذا الصدد استحضر مقولة أدونيس التالية: "أنت لا تكرهني أنت تكره الصورة التي كونتها عني وهذه الصورة ليست أنا، إنها أنت!". وإذن، مسؤوليتي عن الآخر تقوم بأن أذهب نحو الآخر دون أي اعتبار لتوجُّهه نحوي، أو، بطريقة أوضح، أن أذهب نحوه بطريقة تجعلني، بمعزل عن العلاقات المتبادلة التي سوف تقوم بيني وبين قريبي، أقوم بخطوة إضافية نحوه (Levinas, E. 1992: 117-118). إن تصور لفيناس يقوم على اعتبار حقيقة الغير مرتبطة بالضعف والهشاشة من جهة، وأنه من مسؤولية الذات مساعدة الغير من جهة ثانية. يمثل هذا التحول في ربط حقيقة الذات بالمسؤولية، عوض الحرية، نقطة ارتكاز لفيناس في مقاربة علاقة الذات مع الغير.

وغير بعيد عن مسألة التطابق والتماثل يحلَق بنا لفيناس إلى أقصى ما يمكن أن يتصور عليه مسؤولية الإنسان بقوله: عندما أصبح مسؤولاً عن الآخر، أصبح مسؤولاً عن موته: دعوة الوجود في سبيل الآخر أقوى من خطر الموت. هذه الدعوة يسمِّيها لفيناس الدعوة "للقداسة"؛ فعندما يخاف الإنسان من موت الآخر أكثر مما يخاف من موته، آنذاك يفضِّل أن يموت بدلاً من أن يقتل. وهكذا يحقق الإنسان إنسانيته عندما يقرِّر أن يعيش في سبيل الآخر؛ أي أن يضع نفسه في تساؤل وأن يخاف من القتل أكثر مما يخاف من الموت.إنمبدأ المسؤولية تجاه الغير في فلسفة لفيناس يحيلنا إلى مفهوم مركزي داخل نسقه ألا وهو مفهوم "تجربة الوجه". وكما يقول لفيناس: "دلالة الوجه تكمن في البعد الجديد الذي يفتحه في إدراك الوجود".(Levinas, E. 1992: 117) (ما يجب الانتباه إليه بداية أن ما يقصده لفيناس بالوجه هو كل جزء من البدن يتجلى فيه الضعف ويمكن أن يوجه ضده العنف. إن اللقاء بالآخر يتم بتوسط الوجه؛ النظر في وجه الآخر، وليس في عينيه هو الذي يشعرنا بالمسؤولية تجاه هذا الوجه العاري والمعرض لكل أشكال العنف وخاصة القتل).

وعليه، يغدو اكتشاف وجه الإنسان الآخر في تعاليه. يجعلني أعي إمكانية ولا إمكانية القتل في آنٍ معًا. وهذا الوعي هو تأكيد لضميري الأدبي. "إنَّ العلاقة بالوجه هي على الفور أخلاقية/إتيقية". فالوجه هو ما لا نستطيع قتله، أو هو على الأقل "لا تقتل أبدًا"، كما يؤكِّد لفيناس. صحيح أنَّ القتل هو فعل مبتذَل، حيث باستطاعتنا أن نقتل الآخر. وهنا لا تبدو الأخلاقية كضرورة أنطولوجية. لأن تحريم القتل لا يجعل القتل مستحيلاً حتى ولو كانت سلطة التحريم موجودة في الضمير الصالح ((Levinas, E. 1992: 118. واللامتناهي الذي هو أقوى من القتل يقاومنا بوجهه". هذا اللامتناهي هو وجهه، هو التعبير الأصلي، هو الكلمة الأولى أَنْ "لا تقتل" ((Levinas, E. 1992: 334. إن نظرة الآخر، بمقاومتها القتل، تشلُّ قدرتي وتجرِّد إرادتي من سلاحها. إنَّ "فكرة اللامتناهي لا تتعدَّى على العقل بل تتحكَّم باللاعنف نفسه؛ أي أنها تؤسس الأخلاقية" ((Levinas, E. 1992: 334-335. وهنا الفلسفة، في نظر إيمانويل لفيناس مرة أخرى، لا تبدأ بعلم الوجود، أو الأنطولوجيا، بل تبدأ بعلم الأخلاق. وعلم الأخلاق ليس شعبة من علم الفلسفة، بل هو "الفلسفة الأولى" ((Levinas, E. 1992: 335. والأخلاق انعكاس للروح أكثر من الضمير المألوف تداوله في الفلسفة الكانطية.

إنَّ أمر "لا تقتل" ليس قاعدة بسيطة للسلوك، بل هو مبدأ الخطاب نفسه ومبدأ الحياة الروحية. (Levinas, E. 1992: 283) إنه من خلال الوجه يتجلى الآخر للأنا، بل إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمتلك وجها ويتميز عن الآخرين بوجهه بينما الأشياء والكائنات الأخرى ليس لها وجه ولا تتميز عن بعضها البعض بهذه الخاصية، لأن لها نفس الملامح والصفات. وبالتالي، الوجه إنساني أو لا يكون. وأن تجلي وجه الآخر للأنا يتم عبر النظرة، والنظرة ليست مجرد الرؤية الحسية بل التمعن والتحديق والإبصار لأنه كما يقول هيدجر: "ليس المهم أن نرى بل الأهم أن نبصر في ما نراه"(Levinas, E. 2001: 172) والوجه ليس مجرد الجبهة والأنف والفم والعينين والوجنتين، بل هو بصمة الشخصية ورمزها العلني وأكثر الملامح مجلبة للانتباه. إن الوجه يدعوني إلى تحمّل مسؤولية لا متناهية تجاه الآخر. وجه عار ومجرد ومكشوف، لا يخفي أي سر وراءه، موجود خارج عالم الظواهر. وكل ما فيه قد ظهر منه موازيا للآخر يترك فيه بصماته وآثاره، عندما يمرّ من أمامه وينفتح عليه. يقول ليفناس: "إن الوجه ليلمع داخل أثر الآخر".(Levinas, E. 2001: 191)

مما يستدعي ضرورة التمييز بين السلام والتسامح، لأن الوصول إلى الآخر يمر انطلاقا من الذات التي لا تُوقع للغير ما تراه ضررا بالنسبة إليها. ولأن جوهر الاختلاف قد يعود إلى تنشئة اجتماعية ونفسية وليس إلى ما هو عقدي وإيديولوجي كما يتصور البعض.

خاتمة:

يبدو لنا أنَّ تفكير لفيناس حول مسؤولية الإنسان تجاه الآخر واتجاه الميزة الملزمة لوصية "لا تقتل"، يشكِّل مساهمة غنية جدًا لتأسيس فلسفة اللاعنف. فلسفة تمنع كل إقصاء أو ممارسة للعنف ضده. لكن كيف يمكن لقيمة المسؤولية أن تكون قيمة كونية مؤسسة "للإنساني"؟ حاول ليفناس أن يعطي الإنسانية اللمسة التي تنقصها، لكي تصبح إنسانية بحق، حيث تحدّث عن الصداقة ونادى بضرورة احترام الآخر والاعتراف بحقوقه والسماح له بالمشاركة. ولذلك، نظر لإنسانية الإنسان الآخر l’humanisme de l’autre homme يتعلق الأمر بالأقليات والمعدمين والمهمَشين وذوي الحقوق. في مقابل ممارسة جميع أشكال الاستبعاد والسحق والتمييز والإقصاء والعنف تجاههم. تستلزم هذه الوضعية حسب لفيناس أن نعيد التفكير في "الإنساني"، وأن نعيد تحديدا التفكير في مكانة الغير وادعاء غيريته، وما نجم عن هذا الربط بين الغير والغيرية. وروح هذا الطرح لها بعد مسيحي تجاه وزن الأقليات بدل وزن "سقراط" الذي فضل أن يقع عليه الظلم بدل أن يظلم الآخرين. وعليه، تستلزم هذه المراجعة، حسب لفيناس، أن نعيد قراءة تاريخ الفلسفة الغربية التي أهملت الربط بين الغير والغيرية، واستتباعاتها القيمية والعملية المتمثلة في تهميش واستبعاد الغير، بدءا بالفلسفة اليونانية ذاتها. باعتبار هذه الأخيرة لم تفكر في الإنسان إلا من جهة معرفية؛ أي كونها اقتصرت على تحديد شروط ومقتضيات تحصيل المعرفة اليقينية. ولاعتبار ثان، أن فلسفة ليفناس هي فلسفة اللامتناهي، هذا الأخير لا نحصل عليه بعد امتحان المعرفة التي تحاول فهم الواقع ولا عبر مجرد نقيض للمتناهي، بل عبر الأفق الذي يتعالى على كل معرفة. وهو كذلك رغبة في المطلق وليس مجرد حاجة تنبع من الذات. تتعلق رغبة الإنسان باللامتناهي النابع من وجود لا ينقصه شيء. ولذلك يظهر الآخر في هذه العلاقة كشيء مرغوب فيه. ولاعتبار ثالث، أن حقوق الإنسان تظل ناقصة أو مفرغة من طابعها الإنساني، وأنها لا تخدم الإنسانية، طالما أنها تجد قوامها في الدولة، ولكي تصبح خادمة للإنسانية، وجب أن تؤسس هذه الحقوق على الإتيقا؛ أي علاقات يكون أساسها التواصل والحب والحوار والمشاركة بين الأنا والآخر علاقات يسودها التآخي والشعور بالمسؤولية، كما سلف ذكره.

إن الاختلاف هو الأرضية الواقعية التي تقف عليه حياة الناس، وهو أساس الوجود البشري. فكل إنسان هو شخص مختلف عن غيره، ولا وجود لأي إنسان إلاّ في حالة اختلاف. فالعقل الإنساني يتعامل مع واقع الاختلاف بالوعي العلمي على أنه جزء من الواقع الموضوعي للعالم المادي وللمجتمع البشري. وإن العلاقة الإنسانية تقوم على الاحترام المتبادل بين المختلفين لحق كل منهما في الاختلاف، والاختلاف بين الناس يشكل الدافع المشترك للحوار المشترك بين الأنا والأنا الآخر. في مقابل كل ما يحيل على فكر المطابقة أو التماثل أو التشابه. تلك هي إتيقا الاختلاف الغائبة والمنشودة في فكرنا المعاصر.

قائمة المصادر والمراجع:

- المصادر:

1- Emmanuel Levinas(1991), Difficile liberté, Essai sur le penser-à l'autre, grasset.

2- Emmanuel Levinas(1992), éthique et infini, paris, le livre de poche, biblio - essais,.

3- Emmanuel Levinas(1992),totalité et infini, essai sur l'extériorité ,paris, le livre de poche, biblio-essais.

4- Emmanuel Levinas(1997), Difficile liberté essai sur le judaïsme , Albin Michel.

5- Emmanuel Levinas(1991), entre nous, Essais sur le penser – à – l'autre, paris, grasset.

6- Emmanuel Levinas(1994), Humanisme de l'autre homme, Paris, Le Livre de Poche, Biblio-essais.

7- Emmanuel Levinas(2001), en découvrant l'existence avec Husserl et Heidegger,Librairie philosophique. j.Vrin.

- المراجع:

8- إدريس كثير والخطابي عز الدين(2003)، مدخل إلى فلسفة إيمانويل لفيناس، (من الفينومينولوجيا إلى الاتيقا)، المغرب، منشورات الاختلاف، الصخيرات، ، الطبعة الأولى.

9- راشد بوطيب(2011)، "نقد الحرية أو التاريخ المنسي للتفكيكية"، ورد ضمن كتاب جماعي بعنوان: جاك ديريدا: ما الآن؟ ماذا عن غد؟ (الحديث، التفكيك الخطاب، إشراف محمد شوقي الزين، الطبعة الأولى 2011، الناشر: دار الفارابي، بيروت، لبنان (منشورات الاختلاف).

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A5%D8%AA%D9%8A%D9%82%D8%A7-%D8%A7%D...

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك