فك العلاقة بين الطائفية والمقاومة

معتز الخطيب

 

تحولت فتوى الشيخ عبد الله بن جبرين المناهضة لـ"حزب الله" إلى كرة ثلج تدحرجت عبر مواقع الإنترنت ثم بعض الفضائيات في خضم الحديث عن المقاومة اللبنانية. الأمر الذي أثار ردود أفعال كثيرة وفتاوى مضادة وبيانات صادرة من هنا وهناك. ونود هنا العودة إليها مرة أخرى لبيان جملة من الأفكار، يمكن للفتوى أن تشكل أنموذجًا للتحليل والاستدلال في كيفية تعاطينا مع مسائل الفتوى والسياسة والإعلام، وإدارة علاقتنا بالآخرين: سنة مع شيعة، أو خصوم الوهابية مع بعض المنتسبين إليها، فضلاً عن طرح تساؤل مهم من شأنه أن يعالج العديد من الاندفاعات التي قد تظهر هنا وهناك، وهو: لماذا قاوم الشيعة في لبنان دون العراق؟ وهذا المقال لن يناقش مضمون الفتوى الذي نرفضه بكل تأكيد، لكن ليس هدفنا هنا تناول المضمون، بل ما أحاط به.

فتوى ابن جبرين .. توقيتها وأبعادها

فتوى ابن جبرين أول من نشرها موقع موقع نور الإسلام (موقع وهابي متعاطف مع القاعدة) وتلقفها موقع وكالة الأنباء السعودية المستقلة (شيعي) وأرسلها في رسائله الأسبوعية إلى الناس، ثم اهتم بها – على مدى أيام – موقع إسلام أونلاين.نت عبر مساحات متعددة (فتاوى وأخبار واستشارات والدعوة والدعاة)، تبعه موقع الجزيرة. نت، وفضائية الجزيرة، وغيرها، وبيانات من شخصيات علمية سعودية وغير سعودية، ومن الإخوان المسلمين ومن مجمع فقهاء الشريعة في أمريكا وغيرهم، وبدأت تتبارى الجهات الإعلامية بالتعليق عليها والاتصال بالعلماء والفقهاء والسياسيين لأجل ذلك.

وكان لافتًا أن هنالك تركيزًا كبيرًا على فتوى ابن جبرين تحديدًا، وتحدثت المصادر السابقة عامة بما يوحي بأن الفتوى صدرت في ظل الحرب على لبنان مؤخرًا، ولذلك جاءت الردود قاسية وتتحدث عن أن "الوقت ليس وقت إصدار مثل هذه الفتاوى" (نائب مراقب الإخوان بمصر) فيما اعتبرها آخرون "انخراطًا في اللعبة السياسية" (د. محمد إمام-جامعة الأزهر) وطالب البعض المفتي بهذا "بالصمت والتواري عن الأعين" (د. سيف الدين عبد الفتاح).

وفي الحقيقة أن تلك الفتوى صدرت عن الشيخ ابن جبرين منذ أربع سنوات فقط!. فقد صدرت بتاريخ 7 صفر 1423هـ ورقمها في موقع الشيخ (4173) في حين أن الفتاوى في الموقع نفسه تزيد على (13000)!. فهؤلاء جميعًا لم يدققوا كما هو مطلوب منهم، واندفعوا ووقعوا في فخ التثوير الإعلامي الذي نفخ في الفتوى وبالغ في حجمها.

وقد ساهم الإعلام في زيادة التباس علاقة الطائفية بالمقاومة، حين ركز على تلك الفتوى وضخمها حتى بدت كأنها تمثل تيارًا عريضًا، في حين أنها تعبر عن موقف بضعة أشخاص في مقابل العشرات من الرموز العلمية إن لم نقل المئات، التي تقف مع مبدأ المقاومة كمبدأ. حتى من داخل السعودية نفسها. هذا فضلاً عن التركيز في موقع إسلام أونلاين مثلاً على مسائل الشيعة والسنة خلال هذه الفترة تحديدًا لظنه بأن هذا وقت فتح هذه الموضوعات لنفي شبهة الطائفية.

والواقع أن توسيع الاهتمام بتلك الفتوى إلى درجة مبالغٍ فيها، والانشغال بفتح ملفات: الشيعة والسنة، والزواج من الشيعي، ونحو ذلك، أعطى الموضوع أكبر من حجمه، وساهم بأثر سلبي في الأمر، فعمّق البعد الطائفي في وعي القارئ والمتابع دون المتعمق، فأكدنا ما نريد نفيه في هذه المرحلة تحديدًا.

لقد كان الأولى أن نركز على مبدأ المقاومة نفسه، وأن المقاومة فعل متجاوز للمسألة الطائفية، فلم يقل أحد سابقًا إن المقاومة في فلسطين سنية، والمقاومة في لبنان شيعية، خاصة حينما حررت جنوب لبنان، فالحديث عن تصنيفات طائفية لمبدأ المقاومة الذي لا يحتمل تلك التصنيفات حديث مغرِض وغير صحي، وإنما يأتي هذا بهدف أغراض عدة، بعضها سياسي حيث هنالك خوف من بعض زعماء المنطقة من نشأة هلال شيعي وما شابه، بدعم إيراني، وبأثر من الحديث عن نفوذ إيراني كبير في العراق، ولبنان وغير ذلك. وهذا بالمعايير السياسية لا يمكن إنكاره، دون المبالغة في تقديره، لكن لا ينبغي أن تجرنا سياسات الحكومات إلى كوارث دينية أو طائفية يتم تسخيرها لمصلحة العدو، (وهو هنا إسرائيل ومن يساندها).

بل بعض المقالات الصحفية المتسرعة راحت تتكلم عن "صمت مريب" للدعاة والعلماء (هكذا بإطلاق!) من الحرب على لبنان، وعن تصنيفات سطحية لذلك الصمت والحديث على أساس طائفي!، وقد صدرت البيانات والمواقف العديدة من علماء كثر ودعاة تؤيد مبدأ المقاومة بعيدًا عن الاعتبارات الطائفية.

إعادة تحديث الفتوى ونشرها – مع أنها قديمة جدًّا- أظهرت إلى أي مدى يشكل التعامل غير الواعي مع الإنترنت خطرًا، من حيث إن إمكانياتها في التحديث وإظهار المخفي وإسقاط التاريخ، دون اعتبار للتوقيت ومحل تنزيل الفتوى وسياقاتها يؤدي إلى كوارث وفتن. فضلاً عن أن مفاعيل الجدل مع تلك الفتوى تمكن قراءته على أنه تصفية حسابات مع الوهابية السعودية تحديدًا، والتي يمثل الشيخ ابن جبرين أحد أبرز وجوهها، وهذا ما حقق غرضًا للشيعة (الأعداء التاريخيين لهم) ولغير الوهابيين عمومًا، فقد بدت تلك لحظة مناسبة جدا، حتى قال البعض: "إن الوهابيين المتشددين فقدوا صلتهم بنبض الشارع وباتوا يفكرون في العالم الإسلامي مثلما يفكر الناس العاديون بل إنهم يفكرون فقط في عالمهم الوهابي" (الداعية عبد العزيز القسام).

لكن يجب القول فعلاً: إن نبض الشارع كان أكثر وعيًا من تلك الاعتبارات الطائفية، حيث كان إلى صف المقاومة ولم يلتفت إلى تلك الاعتبارات التي تسكن رؤوس بعض النخب الدينية.

الشيعة مقاوِمين ومهادِنين!

الإرباك في تفسير ما يحدث من وقائع في العراق ولبنان إنما يأتي من التصنيفات الطائفية نفسها، التي تُدخلنا في أنفاق متعرجة، وخطوط ليست مستقيمة. فلو انطلقنا من فكرة أن المقاومة "طائفية" وبدأنا نصفها كذلك في لبنان والعراق، سنواجه مشكلات عدة. فالذين قاوموا في لبنان مقاومة مسلحة هم شيعة، والذين تخاذلوا عن المقاومة المسلحة في العراق هم شيعة، والذي دعم كلا الموقفين هو إيران الدولة الشيعية. بل أكثر من ذلك، الذي تدخل لمنع المقاومة المسلحة لمقتدى الصدر وتياره في العراق هو النفوذ الإيراني أيضا وبعض المرجعيات الشيعية. كيف نفسر هذا إذن؟

أول خطوة في سبيل الفهم المنسجم، هي نزع الصبغة الطائفية عن الموضوع، في لحظة التفسير، وليس بإطلاق. كيف ذلك؟ سأشرحه بالآتي:

هذه الأحداث يمكن تفسيرها بأنها محكومة بالمصالح السياسية، لتلك الأطراف وللدول التي لها نفوذ فيها، (وتحديدًا إيران). فالمصالح هي التي تحرك المواقف، وهذه المصالح متلونة، بعضها مصالح طائفية وبعضها مصالح نفوذ وسلطة وكلاهما موجود في العراق، وهذا يجعلنا ندرك خطأ الحديث عن "شيعة" ككتلة منسجمة ومتناسقة في كل مكان من هذا العالم، بدليل تلك المفارقات التي تحدثنا عنها. وبالمقابل لا يمكن الحديث عن إيران فقط كمحرك لهذه الأحداث والأمور، بل هناك تقاطعات في المصالح سواء في العراق أم في لبنان، والمسألة معقدة. ففي لبنان مثلا، لا شك أن هنالك تأييدًا ودعمًا إيرانيًّا وسوريًّا لحزب الله، لاعتبارات عدة، أولها العداء لإسرائيل، وهذا هدف مشترك بين جميع المسلمين، فبمنطق السياسة وبمنطق الدين يجب أن يتوحدوا عليه ويزيحوا كل الاعتبارات الأخرى. ومع ذلك، لا يمكن نفي أن قيادة حزب الله الروحية تقع في إيران وليس في لبنان، فحزب الله يؤمن بمبدأ (الولي الفقيه) والذي هو علي خامنئي.

حين الحديث عن الشيعة لا يمكن الحديث عنهم كأنهم تيار واحد، فهنالك مرجعيتان مختلفتان ومتنافستان أيضًا، هما قم والنجف، ويمكن للمواقف أن تتغير بناء على هذا، وبناء على التداخلات بين السياسي والفقهي، وعلى ذلك فهنالك تياران: من يؤمن بولاية الفقيه (المتمثلة في إيران بخامنئي) ومن لا يؤمن بها. وعلى هذا ستختلف الاعتبارات الفقهية والمواقف السياسية بحسب هذه الانتماءات. فليس كل مراجع الشيعة في العراق يؤيدون جانب مهادنة الاحتلال، فهنالك مراجع تناصر المقاومة السنية مثل جواد الخالصي وأحمد البغدادي وغيرهما. والنفوذ الإيراني (دينيًّا وسياسيًّا) يسعى لمد ولاية الفقيه إلى أبعد مدى، وكذلك تثبيت مرجعية قم وتهميش مرجعية النجف، لتمثل إيران قبلة الشيعة في العالم دينيًّا وهي الساعية لتصبح قوة إقليمية سياسيًّا وعسكريًّا.

العديد من الناس ذاكرتهم قصيرة، خصوصًا وقت الأزمات، فينسون بعض التفاصيل والأحداث التاريخية، فربما تدفع حاجة الناس وتعطشهم الآن إلى رمز للأمة يجسد آمالها في الصمود والتصدي للعدوان، ربما يدفعهم ذلك إلى الظنّ بأن من يدافع عن الأمة ويصون كرامتها الآن هو حزب الله الشيعي فقط، ونحن لا ننكر أبدًا فضل الحزب في ميدان المقاومة، لكن علينا أن نتذكر جيدًا أننا بهذا نهضم فضل إخوتنا الفلسطينيين الذي قدموا - ولا يزالون - الغالي والرخيص منذ ما يزيد على نصف قرن من الزمن باستمرار.

وعلى أهمية لبنان وكل بقعة من بقاع العالم الإسلامي، ففلسطين تقع في المركز من قلب العالم الإسلامي لرمزيتها ومكانتها، دينيًّا وسياسيًّا أيضًا؛ كونها تمثل نواة المشروع الاستعماري وامتدادًا له. ويجب ألا تغيب عنا المقارنات البسيطة أيضًا من حيث إن المقاومة الفلسطينية باستمرار كانت محاصرة من العالم ومن دول الطوق، ومن الداخل من خلال السلطة الفلسطينية المحكومة باتفاقات دولية وموازنات مصالح مختلفة عن حسابات المقاومة، في حين أن المقاومة اللبنانية المسلحة الممثلة بحزب الله تتلقى دعمًا ماليًّا وعسكريّا كبيرًا من إيران التي تمولها بميزانية ضخمة سنويًّا، ومن سوريا الملاصقة لها على الحدود، وبالقدرات الاستخباراتية أيضًا التي جعلتها تصل إلى حد التجسس على إسرائيل نفسها! فضلاً عن أنها خارج حدود ما يسمى بدولة إسرائيل.

هذا فضلاً عن أن العودة إلى تاريخ الصراع في لبنان يجعلنا نتذكر الصراعات التي دارت داخل لبنان بين الأطراف السنية وحركة أمل الشيعية، ثم الصراع بين أمل وحزب الله، تلك الصراعات أسفرت عن تمركز المقاومة المسلحة في يد حزب الله فقط، لحسابات متعددة، ليس الآن مجال الحديث عنها، لكن يجب ألا يغيب عنا ذلك أثناء إطلاق الأحكام الكلية والتاريخية.

ثم يجب ألا يحملنا القرب الجغرافي على أن نتناسى باقي أجزاء المقاومة في باقي دول العالم الإسلامي على الخصوص. فلسنا مركز العالم الإسلامي ولا مركز الكون كذلك.

نقطة أخرى قد تسبق لأذهان المتسرعين المنفعلين، وهي الميل إلى الأحكام العامة ذات النزعة الثقافية، فقد يرى البعض أن حزب الله يقدم النموذج الثوري الشيعي الذي يجسد معاني البطولة، بخلاف النموذج السني، وربما يزيد القول: هذا دليل على أن مكون ثقافة المقاومة مكون راسخ في الثقافة الشيعية. والحقيقة أن هذا منزع طائفي أيضًا؛ سواء قلنا إن مكون ثقافة المقاومة مكون سني أو شيعي، فينبغي أن ننفي فكرة التصنيفات الطائفية الثقافية فهي داء يمكن أن يصيب ثقافتنا وتفكيرنا ويهدد مجتمعاتنا، وحتى لو مضينا في مناقشة تلك المقولات السطحية سنواجه بوقائع تنقضها، فهل كانت انتفاضة الشيعة في جنوب العراق تعبيرًا عن ثقافة المقاومة ثم نضبت تلك الثقافة مع دخول الأمريكان للعراق؟ وهل حزب الله يعبر عن الشيعة في العالم، وشيعة العراق "استثناء"؟ ولماذا لم تدفع أحداث بن لادن في 11 سبتمبر (ونحن نرفضها) إلى القول: إنها أحداث تعبر عن "ثورية النموذج السني"؟. وأين المقاومة الفلسطينية من هذا كله؟ وماذا عن المقاومة في أفغانستان والشيشان وغيرها؟ هذه الانزلاقات خطرة على التفكير والوعي العام، وعلينا أن ننقي عقولنا وأفكارنا منها؛ لأن رائحة الطائفية المريضة تفوح منها.

الخلاصة

الخلاصة التي يجب التنبه لها، هي أن الخطوط الواصلة بين المقاومة والطائفية ليست خطوطًا مستقيمة على طول الخط، وبأنه وقت الحروب والأزمات يجب توحيد الصفوف وتأجيل الخلافات، وعلينا أن نتمهل في إطلاق الأحكام وألا يحملنا الانفعال والحشد الإعلامي وأجنداته، على هضم حقوق الآخرين، وتناسي حقائق التاريخ، والحقائق على الأرض أيضًا. وكذلك يجب ألا يحملنا تديننا على أن نفهم كل ما يجري على أنه يجري وفق اعتبارات دينية فقط، فالواقع ليس كذلك.

الأمر الأخير، أنه لا يجب قراءة اللحظة التي نحن فيها منعزلة ومفصولة عن الخارطة الجغرافية الكاملة، وسياقاتها، وحسابات الدول والطوائف؛ فمهما تعالينا على الحسابات الطائفية لا يمكن نفي أن هناك تكتلات طائفية تسعى لأغراضها يجب أن نكون واعين بها، دون الانزلاق للدخول في منطقها.

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=280&idC=3&idSC=12

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك