الدستور وإشكالية تطبيق الشريعة والدولة المدنية بمرجعية إسلامية

نوفل سعيد

 

إنّ الدستور باعتباره منظومة قواعد قانونية تحتل قمة الهرم القانوني للدولة يمثل قانونها الأساسي، هذا القانون الذي يؤسس لمنظومة قيم وتصورات أخلاقية تستند عليها مجموع المنظومة القانونية والتشريعية بشكل عام. إن القاعدة الدستورية بهذا المعنى تمثل المرجع المبدئي الذي تستند إليه كامل المنظومة القانونية للدولة، ولا تكون هذه المنظومة مقبولة وقابلة للتطبيق في مجتمع ما إلا عندما تكون مستندة إلى الدستور وتستمد جذورها منه. بهذا المعنى يمكننا التطرق إلى الموضوع المعروض بحيث نتساءل بأي معنى يمكن للدستور بصفته يجسد قاعدة القواعد القانونية والمحتل لقمة الهرم القانوني داخل الدولة من أن يعكس فكرة للقانون تكون مستندة على فهم معين للشريعة لا يتعارض مع مدنية الدولة؟

إذا ما طرحنا الإشكالية العامة للموضوع بهذه الكيفية فإننا سريعا ما ندرك أننا لا نستطيع تقديم الجواب المناسب إلا إذا وضعنا أمام ناظرينا مفهومين مركزيين لطالما أثير حولهما الجدل والنقاش. هذان المفهومان هما: مفهوم الحاكمية، ومفهوم العلمانية.

1- مفهوم الحاكمية ومدنية الدولة

في هذا السياق نفهم الحاكمية بوصفها في المقام الأول بنية مصداقية (الهرماسي، 1431هـ-2010م.) تسمح بإضفاء المعنى على السياسة في علاقتها بمرجعية إسلامية ما، التي تبلورت في إطار حقبة تاربخية تميزت بكونها ردة فعل على تهاوي الأطر الرمزية والدلالية والاجتماعية الموروثة إثر صدمة الحداثة. بهذا المعنى يمكن أن نذكر بثنائية سيد قطب حاكمية / جاهلية كتنائية نابعة عن رفض عميق للدولة الوطنية الحديثة القائمة على " غير شريعة الله"، والتي تعني عنده " أن لا يقضي البشر في أي شان من شؤون حياتهم من عند أنفسهم بل لا بد من التسليم بأن لا إله إلا الله، يعني أن لا حاكمية إلا الله ولا شريعة إلا من الله ولا سلطان لأحد على أحد لأن السلطان كله لله"(قطب، 1964.) أما الجاهلية فهي في معناها ليست فقط المرحلة التاريخية التي عاشها العرب في الجزيرة العربية، ولكن أيضا كحالة دينية واجتماعية تتصف بالتيه وغياب الهداية والرشاد. وبناء عليه يصبح من اليسير اعتبار المجتمعات المسلمة المعاصرة التي "وإن لم تعتقد بألوهية أحد غير الله إلا أنها تعطي أخص خصائص الألوهية لغير الله، فتدين بحاكمية غير الله وتتلقى عن هذه الحاكمية نظامها وشرائعها وقيمها" هي مجتمعات جاهلية. من المفيد الإشارة هنا أن نظرية سيد قطب في الحاكمية تشكل استعادة لآراء أبو الأعلى المودودي التي تأثرت إلى حد كبير بأوضاع الهند في نهايات المرحلة الاستعمارية والنزاعات التي شهدتها بين المسلمين والهندوس، فكانت ترجمة صادقة لأيديولوجية صداميهة تهدف بدرجة أولى إلى استبعاد الآخر وحماية النفس من الذوبان والاندثار . في هذا الإطار الصدامي والجهادي إزاء القوى الخارجية المهددة لدار الإسلام وهيمنة الدولة الوطنية "الباغية" صيغ مفهوم الحاكمية ورديفه مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية كبناء مفهومي ونظريي ساهمت في صياغته وصقله العديد من أجيال المسلمين، انطلاقا من معطى الوحي ومن تأويل النص بناء على الحاجات المعيشية والمستجدات الاجتماعية ومتطلبات الصراع ضد الآخر والدولة المتجبرة.إلا أن مقتضيات الصراع الحضاري إزاء مشروع الحداثة وإزاء الدولة الوطنية الناشئة قد دفع بهذا المفهوم بصفته إنتاجا دلاليا طرفيا في دائرة المقدس، وأضفى عليه قدسية، فأصبح عنصرا داخلا في الصراع وكأداة فاعلة فيه، ولكن في نفس الوقت خارجا عنه ومتعاليا عنه بحكم القداسة التي أضفيت عليه. إن هذا التخارج والتداخل الذي صاحب نشأة مفهوم الحاكمية جعل منه مفهوما صعب التفكيك إلى درجة أن المساس به أو حتى مناقشته كاد أن يكون في وقت ما ضربا من ضروب الكفر والهرطقة، على اعتبار أن المجتمع "الإسلامي" لا يمكن أن يواجه الدولة إلا إذا شحنت خزاناته بالطاقة المفهومية الجبارة التي يوفرها مفهوم الحاكمية. على هذا الأساس انبنى مفهوم الحاكمية في صراع دائم مع مفهوم مدنية الدولة نظرا إلى أن هذا المفهوم قد قام على تحييد الدين وحشره في دائرة المسائل الشخصية البعيدة عن الشأن العام. من هذا المنطلق جاز لنا أن نتساءل هل من إمكانية في ظل الحالة العربية المستجدة لوضع دستور ولبناء دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية تستبطن فهما ما للحاكمية؟

2- ضرورة إعادة بناء مفهوم الحاكمية في أفق الدولة المدنية

إنّ التصدي لهذه المهمة مطلب ملح ومتأكد لأن مفهوم الحاكمية في بنيته الأصلية مثلما بينا ذلك مفهوم إقصائي واستبعادي بامتياز. لإعادة بناء هذا المفهوم في إطار الإشكالية التي نحن بصددها لابد من وضعه مقابل المفهوم الآخر وهو مفهوم العلمانية الذي يحتاج بدوره إلى إعادة بناء. في هذا الصدد ينبغي أن نصحح خطأ شائعا فيما يخص مفهوم العلمانية الذي هو في جوهره إنما يقصد به نفي سلطة الكنيسة عن الدولة وليس الدين. بهذا المعنى ينبغي أن تفهم العلمانية على أنها موجهة ضد ثيوقراطية الحكم الديني بقصد استبداله بالحكم المدني. فالعلمانية من هذا المنظور هي مرادف للمدنية، ولكن بوصفه نقيض الثيوقراطية وليس نقيضا للدين. فالعلمانية في جوهرها لا تعني إقصاء الدين عن الدولة بل لم تظهر العلمانية كمفهوم مضاد للدين وفي سياق مغاير تماما عن نشأة المفهوم إلا سنة 1905 في فرنسا. إن الوضعية فقط مثلما أسسها أوجست كونت الذي دعا إلى حذف المرحلة اللاهوتية والدينية من العقل البشري باعتبارها في نظره تعكس مرحلة الطفولة البشرية التي يجب تجاوزها إلى المرحلة الوضعية المستندة إلى التجربة والعلم. بهذا المعنى نفهم أن العلمانية هي المفهوم الذي يطرح مدنية الدولة وليس ثيوقراطية الدولة ضد الدين. فإذا فهمنا الدولة المدنية على أساس أنها "الدولة العلمانية"، هل يمكن لمفهوم الحاكمية مثلما ضبطناه سابقا أن يتعايش مع مفهوم العلمانية كأساس للدولة المدنية؟ وهل يصح أن يؤسس لدولة مدنية ذات مرجعية إسلامية أم أنه لا يمكن أن يؤسس إلا للدولة الدينية؟ بكل تأكيد إن مفهوم الحاكمية مثلما ورد على لسان المودودي ومن بعده سيد قطب لا يمكن أن يتعايش مع مفهوم العلمانية مثلما طرحناه، ويؤسس للدولة المدنية المفتوحة على الجميع بصفتهم متدخلين أكفاء لصنع القاعدة القانونية بصفة عامة والقاعدة الدستورية بشكل خاص.

3- الحاكمية حاكميات

إنّ الحاكمية هي في حقيقة الأمر حاكميات، وهنا فإني أصطف خلف المفكر محمد أبو القاسم حاج حمد عندما صنف الحاكميات إلى حاكمية "إلهية"، وحاكمية "استخلاف" وحاكمية "الكتاب".

أما الحاكمية الإلهية : فهي حسب حاج حمد تلك الحاكمية المرتبطة بعطاء خارق يتجاوز سنن الطبيعة وعقوبات خارقة تتجاوز المنطق الإنساني، وهي تلك الحاكمية التي سادت مع بني إسرائيل عبر توجيهات الله المباشرة للأنبياء كما كان يقول لموسى عليه السلام: "اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا." (البقرة آية 60) / " فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين" (الأعراف آية 166 ).

أما حاكمية الاستخلاف فهي حسب توصيف حاج حمد تلك التي حول فيها الله عز وجل البعض من صلاحياته من عنده إلى خليفته، ولذلك أورد الله عز وجل قضية علاقة سليمان بالجن، وأن الجن سخر له، وأنه يعرف لغة النمل، لم يورد الله عز وجل هذه المظاهر باعتبارها من المعجزات والخوارق بل أوردها من زاوية أنها دلائل ونسق لحاكمية الاستخلاف بتحويل بعض صلاحياته لخليفته (داوود وسليمان).

أما مع الإسلام ـ يضيف حاج حمد ـ فلا وجود لخوارق حسية لا شق بحر ولا تفجير لعيون ماء. فالقرآن لما نزل على الإنسان نزل عليه كتابا مفتوحا لكي يستنبط منه كل الأحكام والرسول صلى الله عليه وسلم استنبط الأحكام بحكم السنة وما أوحي إليه من الكتاب. فالرسول يؤسس دولة يكون فيها القرآنكتابا مفتوحا، والعلاقة فيه مباشرة بين القرآن والإنسان. بهذا المعنى تصبح حاكمية الكتاب نفيا لسلطة الثيوقراطية وانفتاحا على المجتمع، والمشرع إنما يشرع بالكتاب عبر الكتاب، وحاكمية الكتاب تتطلب حرية المجتمع في الاجتهاد والنظر والتأويل وذلك بناء على قوله تعالى: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، بما ينطوي ذلك على إبعاد لسلطة الفقهاء والعلماء والصحابة. بما أن الأمر المتعلق بتدبير شؤون الدين يبقى مفتوحا أمام المجتمع فإن المجتمع ضرورة يتمتع بحرية في الاجتهاد وحرية في استنباط الحلول التي تتلاءم مع مشكلاته دون وصاية من علماء الدين، بهذا المعنى فإننا نرى لا تناقض ولا تعارض بين الدولة المدنية والدين باعتباره مستبطنا لمعنى الحاكمية كحاكمية كتاب.

4 - الحاكمية والدولة المدنية في أفق البيع العربي

على ضوء ما تقدم، يمكن أن يثار سؤال حول ما إذا كانت حاكمية الكتاب مثلما طرحها محمد أبو القاسم حاج حمد تعد إيذانا بنهاية "الإسلاموية" مثلما تطرحها الحركات السياسية المعاصرة وانفتاحا على مرحلة جديدة يصفها.Post-islamist البعض بـ "ما بعد الإسلاموية" لا شك في أن صعود الأحزاب الإسلامية إلى سدة الحكم في عدة دول عربية فيما أصبح يسمى بـ "الربيع العربي" زاد من حدة ومشروعية هذا السؤال، على اعتبار أننا ما فتئنا نلاحظ ـ بتدرج ولكن أيضا بثبات ـ انخراط هذه الأحزاب في حلول سياسية أملتها عليها واقعية سياسية وليدة وضعيات اجتماعية ضاغطة – حلول في جوهرها- لا تمت بصلة إلى مرجعية إسلامية واضحة. فعلى المستوى الاقتصادي لم تبدع الأحزاب الإسلامية الحاكمة حلولا إسلامية بديلة، إنما انخرطت بصفة أو بأخرى في المنظومة الاقتصادية الليبرالية الموروثة وإن ببعض التعديلات الطفيفة استنتها بشكل محتشم مما سمي بال"مالية الإسلامية" التي لا تعارض في جوهرها آليات الاقتصاد الليبرالي. الاستنتاج نفسه يمكن أن نسوقه كذلك على المستوى الاجتماعي، وبالخصوص فيما يتعلق بموضوع المرأة، فالأحزاب الإسلامية لم تفلح إلى حد الساعة في استنباط بديل مغاير عن الطرح الموروث عن "الدولة الوطنية" الحديثة فيما يتعلق بدور المرأة الاجتماعي ومركزها القانوني. من الجائز عندئذ، حسبما رأينا، التساؤل في ظل هذه الأوضاع المستجدة عن مدى صمود الأطروحات الإسلاموية القائمة على الحاكمية التي سادت وروج لها زمن الاضطهاد والمطاردة أمام تحديات الوضعيات السياسية المستجدة التي تولدت مع موجة التغييرات الطارئة بعد بزوغ "الربيع العربي" وصعود الإسلاميين إلى الحكم. في نفس هذا الإطار يجوز أيضا التساؤل هل أن هذه الوضعيات الجديدة ولدت فضاء مدنيا جديدا بعيدا عن الدولة، مستعصيا على الأطروحات الإسلاموية المعهودة؟ وفرض على الإسلاميين الحاكمين نوعا من التأقلم الضروري مع وضعيات اجتماعية وثقافية جديدة خلقت نوعا من الفضاء المدني المستحدث يحمل سمات وتوصيفات مستعصية إلى حد ما على البدائل الإسلامية القائمة على مفهوم الحاكمية بمعناها القطبي التي صنعت زمن الاضطهاد والمطاردة السياسية؟

إننا ندرك بمعنى ما أن الإسلاميين الحاكمين اليوم قد وجدوا أنفسهم أمام مجتمعات قد صاغت نفسها بشكل من الإشكال وإن في ظل الدولة الوطنية الحديثة اللاديمقراطية والمعادية في الكثير من الأحيان للإسلاميين ووجدت لنفسها حلولا مبنية على تسويات ثقافية وحضارية وسياسية إزاء مسائل هامة تقع في جوهر اهتمامات الإسلاميين كتلك المتعلقة بالمرأة والهوية والاقتصاد. لابد أن يدرك الإسلاميون اليوم أن المجتمعات التي يرومون حكمها قد اختطت لنفسها دائرة مدنية صلبة خارجة عن إطار الدولة مستعصية عن البدائل الشمولية الجاهزة. بهذا المعنى تصبح حاكمية الكتاب مثلما تم طرحها من قبل حاكمية لازمة وضرورية للإسلاميين حتى يتمكنوا من خلق البدائل ووضع الحلول غير الصدامية، بل المتماشية مع الحلول والتسويات الثقافية والحضارية والسياسية التي توصلت إليها المجتمعات العربية الراهنة، هذه المجتمعات التي بدا ظاهرا للعيان اليوم أنها ذات خصوصيات وملامح لا تتقبل الإسقاطات الفكرية الجاهزة من قبيل الحاكمية الإلهية وحاكمية الاستخلاف كما طرحناها من قبل.

5- خاتمة

في المحصلة، نعتقد أن الأمل الذي لا يزال متاحا للإسلاميين اليوم، يتمثل في الولوج بقدم ثابتة في زمن حاكمية الكتاب، بما تعنيه من استنباط حلول مستجدة تكون إسلامية بمقاصدها، ولكن في الوقت نفسه مساوقة لهوية المجتمعات، بمعنى آخر لم يعد ممكنا للإسلاميين القبول بفكرة تجهيل هذه المجتمعات والتفكير في فرض حلول جذرية تقلب رأسا على عقب التسويات التاريخية التي توصلت إليها هذه المجتمعات في مسار صياغة هويتها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قائمة المصادر والمراجع

1.قطب، سيد. (1964). معالم في الطريق. القاهرة : مكتبة وهبة .

2.الهرماسي، عبد اللطيف. (1431 ه- 2010 م). ظاهرة التكفير في المجتمع الإسلامي. (ط1). بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون ومركز الجزيرة للدراسات.

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B3%D8%AA%D9%88%D8...

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك