فقه الفتنة

عبد الرحمن الحاج

 

 

يستحق مفهوم الفتنة في التراث الإسلامي والخطاب الفقهي السياسي المشكَّل حوله دراسة علمية واسعة، ذلك أن هذا المفهوم المركب الأبعاد يبدو واسع التأثير في تشكيل ميراثنا التاريخي والثقافي، وفي شكل خاص نظريات الإمامة وأحكامها الفقهية وعلاقات الانتماء والولاء العقدية.

وعلى رغم أن مصطلح «الفتنة» ورد في القرآن قرابة 60 مرة في 35 سورة، إلا أن أياً من المعاني السياقية لمفردة الفتنة لا صلة لها بمفهوم الفتنة الفقهي الذي اعتمده فقهاء «أهل السنّة والجماعة» (وتبعاً لهم فقهاء الطوائف). فالمعنى الرئيس للفتنة في استخدام القرآن هو السعي الى تغيير معتقدات المؤمنين سواء بالإكراه المادي والمعنوي أو من دونه. وفي رأينا، فإن هذا المعنى – بحسب ما أفضت إليه دراستنا له - هو المعنى الوحيد لهذا المصطلح الذي تتفرع عنه كل الاستعمالات الأخرى له في القرآن الكريم، وهو من جهة دلالته - كما هو واضح - يتعلق بالحريات الدينية، وبذلك فإنه يحمل بعداً جنائياً بالدرجة الأولى، وتالياً بعداً سياسياً واجتماعياً، وبما أن الفتنة شكل من أشكال العدوان الديني فقد وصف القرآن الفتنة بأنها (أكبر من القتل) و (أشد) منه، ذلك أن الفتنة ههنا تستثير غرائز البقاء على أساس أنه قائم بانتفاء بقاء الآخر، فمن جهة هي عدوان على حرية الإنسان، ومن جهة ثانية فإنها تستثير «شهوة» القتل والانتقام.

ويستعمل الفقهاء مصطلح الفتنة بمعنى اقتتال المسلمين في ما بينهم مع عدم قدرة عموم المسلمين على تمييز الحق من الباطل في هذا الاقتتال، وهو ما اصطلح عليه العلاّمة ابن تيمية في فتاويه بـ «قتال الفتنة»، سواء أكان هذا الاقتتال ناجماً عن اختلاف حول الإمامة (وقد وصف تاريخياً بـ «الفتنة الكبرى») أم كان حول مصالح الجماعات المسلمة، وتدخل في إطاره الثورة على الإمام من جانب أقلية دينية أو بغاة يريدون خلع الإمام ونزع شرعيته بتأويل ديني. ومع أن ثورتهم في حد ذاتها لا تعتبر فتنة (فهي بغي أو حرابة)، لكنها تعتبر مثيرة للفتنة، إذ قد تقتضي فلتان سلطة الإمام وانهيارها (أو «هيبة الإمام» بتعبير فقهاء الأحكام السلطانية).

شدد الفقهاء أحكامهم في ما يتعلق بالفتنة، وبنوا منظومتهم الفقهية على أساس حفظ وحدة المسلمين وأمنهم، انطلاقاً من أن الأمن والاستقرار يمكنان المسلمين من تحقيق سعادتهم في الدنيا وأداء واجبهم في تبليغ إسلامهم للعالم (الشهادة على العالمين). لا تخلو الأحكام الفقهية عموماً من هذه المقاصد. والباحث في كتب علماء الفقه السياسي سيجد تشدداً واضحاً ومتواصلاً في هذا الشأن، بل في الإمكان القول إن مفهوم الفتنة أسس لجملة أحكام جوهرية تتعلق بشروط الإمامة والانتخاب وتداول السلطة، بل وسلطات الإمام الواسعه وواجباته، بحيث يمكننا أن نصف جملة الفقه السياسي الإسلامي بأنه «فقه منع الفتنة»، بمعنى أنه مؤسس على حفظ المسلمين من وقوع الفتنة.

لقد نظر علماء السنّة إلى أنفسهم بصفتهم «أهل السنّة والجماعة» (وهذا مصطلح طارئ على أية حال) وليسوا طائفة من الطوائف، بل هم «الجماعة» المسلمة الكبرى الممتدة منذ صدر الإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكل الانقسامات الأخرى هي مجرد طوائف منشقة عن الجماعة الكبرى، وهي في مجموعها تهدد أمن الجماعة المسلمة الكبرى، إذ تنازعها على الدوام السلطة والثروة والمعنى، فإن هذا المنظور - الذي لا يزال سارياً في تلافيف الوعي الإسلامي السني - كان له الدور الأكبر في بلورة فقه منع الفتنة وبناء ترسانة من الأحكام الفقهية تتعلق بالإمامة لحماية «الجماعة» من فتن الطوائف، إضافة إلى جملة من الأحكام والقولات العقدية التي تضمن الولاء وتشكل سياجاً معنوياً كتيماً. وفي الإمكان القول إن الفقهاء نجحوا عملياً في تهميش تأثير الانقسامات الطائفية ومؤمنيها في الحياة العامة، فيما خلف هذا الفقه - في المقابل - فقه مضاد لدى الطوائف الأخرى تجاه الأكثرية المحتكرة موضوعياً لمفهوم الجماعة المسلمة.

لقد أدى نظام الخلافة الملّي قبل ولادة مفهوم المواطنة وعلى مدى زمني متطاول إلى ضبط الاجتماع الإسلامي ولفترات طويلة ضمن فقه منع الفتنة، لكنه أيضاً عجز في بعض الأحيان عن الاستمرار في هذا الضبط، فكان أسوأ الأحداث الطائفية حيث انفجر المكبوت التاريخي، ومشاعر «المظلومية» دفعة واحدة، لتسود لغة انتقام دموية، لم يلبث عنفها أن يكون هو ذاته سبب زوالها.

ساعد إذاً نظام الخلافة على تمكين الفقهاء من إحكام القبضة على الفتنة، وإن كلفهم ذلك مقايضة البيعة بإمامة العهد أو إمامة المتغلب، بمعنى آخر كلفهم إهدار الشرعية! وهو أمر حاولت «الشرعية الثورية» وراثته في إطار الدولة الحديثة، لكنها لم تخلف إلا الديكتاتوريات التي أرهقت العباد وهتكت ما كان مستوراً من ولاءات وانقسامات بدل أن تفككها، خصوصاً مع إخفاقها في تثبيت مفهوم المواطنة وتأمين القدر الأدنى من الشعور بالانتماء إلى وطن تتحقق فيه مصالحهم وتطلعاتهم.

وفي إطار حديثنا عن المنظور السياسي الفقهي للفتنة، نشير إلى أن الانقسامات (المنبثقة عن الجماعة الكبرى) مستمرة في وجه من الوجوه بوجود منظومتها الفقهية الخاصة بها، إذ منها يستمد أتباعها معنى الفعل والترك، فهل ما نشهده اليوم من أحداث في منطقتنا هو الفقه المضاد لفقه منع الفتنة؟ أم هو فقه انحلال الرابطة الوطنية؟

الواقع أن ما حدث في لبنان شيء من هذا. إذا كان العراق مختبراً فعلياً لهذا الفقه المضاد، والذي يصلح أن يسمى «فقه الفتنة» بكل المعايير حيث استحضرت فيه كل رمزيات التاريخ والعقائد والفتاوي التاريخية، في لبنان الأمر مختلف: الرابطة الوطنية قائمة في شكل أفضل بكثير من الرابطة الموجودة في بلد مثل العراق حكمه ديكتاتور أحمق بقوة النار، صحيح أنها هشة، لكنها موجودة وكان في الإمكان تطويرها، غير أن عقل الطوائف أو امتدادها يبلغ مداه في فتنة وشيكة.

يتفهم المرء الصراع السياسي وحق الأطراف في الدفاع عن مصالحها، غير أن اللجوء إلى لغة السلاح والتهديد به وفي إطار طائفي محدد (سني - شيعي) سيجعل الفتنة مقبلة لا محالة، ومهما تفهمنا أسباب ما قام به «حزب الله» أخيراً - على سبيل المثال - في لبنان بعيداً من أوصاف التخوين والعمالة المتبادلة منه ومن الأطراف المختلفة معه، فإن ما قام به الحزب ستكون له تداعياته الفكرية والسياسية في المدى القريب لا محالة، لا بل أخطر من ذلك ستكون له تداعيات ميدانية نأمل ألاّ تلهب المنطقة عراقاً جديداً، وعندئذ يرتبط - لا سمح الله - اسم الطائفة التي ينتمي إليها «حزب الله» بالفتنة، بعد أن كلفتها حرب العراق معنوياً الشيء الكثير، وإذا حدث ذلك، وهو ما لا يريده عاقل أبداً، فسيحرم الشيعة إجمالاً من العيش في شكل طبيعي مع الآخرين خارج إطار الريبة والفتنة في المستقبل.

لا أدري إن كان في إمكان فقهاء السنّة اليـوم أن يـؤسسوا فقـهاً جديداً لمنع الفتـنة يتجاوز أحكام الفقهاء التقليدية ويضمن حقوق الطوائف رافعاً عنها الظلم المحيق بها حيث وجد، لتكون شريكة حقيقية في الوطن، أو أن في إمكان فقهاء الطوائف الأخرى أن يطوروا فقهاً يتجـاوز شهـوة الانتقام والانقيـاد الى مظلوميـة تاريخيـة مزمنـة لا يكون فيها القتل وهتك العرض والتخويف بالسلاح باسم الله! وإنما الشراكة والمساواة وحفظ الجماعة الوطنية.

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=879&idC=3&idSC=9

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك