بين 1918 و2018: مئة سنة على نهاية الحرب العالميّة الأولى: كيف صنعت هذه الحرب مصيرا جديدا للعرب؟

فهمي رمضاني

 

بحلول سنة 2018،  انقضى  قرن  على نهاية الحرب العالمية الأولى،  ذلك الحدث الّذي لم يشهد له التّاريخ مثيلا حيث مثّل منعرجا حاسما في تاريخ العلاقات الدوليّة كما ترتبت عنه جملة من الآثار والنّتائج ساهمت بعمق في نحت المشهد الجيو-سياسي للعالم المعاصر. فممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الحرب الكونيّة قد عصفت بكلّ السّائد والمألوف إذ تأثر بها وبصورة مباشرة أو غير مباشرة كلّ ركن صغير من المعمورة. ولعلّ كلّ من يريد اكتناه رمزيّة هذا الحدث والحفر في معانيه ودلالته ودراسته دراسة مستفيضة سيلاحظ أنّ عديد المسائل لم تحظ إلى اليوم باهتمام أقلام المؤرّخين خاصّة علاقة العرب بهذه الحرب الأوروبيّة  إذ من المتعارف عليه أنّهم شاركوا فيها سواء كانوا مشارقة أم مغاربة على الرّغم من أنّ لم يكن لهم فيها ناقة ولا جمل. كما أنّ مصيرهم التراجيدي والدراماتيكي- والّذي تبدّدت من خلاله جميع الأحلام العربيّة- ظلّ مرتبطا بما أقرّه المنتصرون في هذه الحرب. هذا هو الأمر الّذي يجعلنا نلقي نظرة فاحصة على هذه العلاقة  بعد مضيّ ردح لا بأس به من الزّمن (قرن) مستأنسين في ذلك بالمقولة البروديليّة (نسبة للمؤرّخ الفرنسي” فرناند بروديل”) الّتي ترى أنّ المؤرّخ لا يمكنه فهم البنى الاقتصاديّة والاجتماعيّة وسبر أغوارهما إلّا عبر”المدى الطويل” أي ضرورة توفّر مسافة زمنيّة تخوّل له النّظر والتّحقيق الخلدونيين للحدث التاريخيذ إذ  أنذ “الحاضر والماضي يضيء كلّ منهما الآخر”.

“الحرب العظمى” على نحو مّا سميت إبّان اندلاعها أو ” الحرب الأوروبيّة” كما سمّيت في “الولايات المتّحدة الأمريكيّة”،  تعدّ أهمّ حدث هزّ أركان القرن العشرين.  فقد ساهمت فيه عوامل متداخلة ومتناقضة لا يتّسع المقام هنا لذكرها وتحليلها،  فقط يمكننا الإشارة إلى ما ميّز الجوّ الدولي وخاصة الأوروبي منه من نزعة للسّيطرة ورغبة جامحة للهيمنة على أكبر قدر من المستعمرات وذلك تزامنا مع بروز الإمبرياليّة كمرحلة جديدة ميّزت اقتصاديات البلدان الأوروبيّة. وقد انطلقت هذه الحرب من منطقة البلقان الّتي كانت تسمىذ” مخزن البارود” لتشمل العالم قاطبة خاصّة بعد انضمام الولايات المتحدة الأمريكيّة سنة 1917. في هذه الفترة كانت جلّ المنطقة العربيّة خاضعة إمّا للاستعمار الأجنبي أو للسلطنة العثمانيّة: ففي المغرب العربيّ أحلّ الاستعمار الفرنسي سيطرته على كلّ من تونس والجزائر والمغرب فيما خضعت ليبيا للاستعمار الإيطاليّ. أمّا المشرق العربي هو الآخر،  فقد كان يرزح بدوره تحت سيطرة السلطنة العثمانيّة الّتي كانت تمرّ بفترة ضعف شمل جلّ الميادين حيث عرفت آنذاك” بالرّجل المريض” الأمر الّذي جعل القوى الأوروبيّة تفكّر في اقتسام تركة هذا الرّجل  وهو ما عرف في الأعراف الدوليّة ” بالمسألة الشرقيّة”. وقد أفرز هذا الضّعف ولادة حركات معارضة ذات اتّجاه قوميّ حيث ميّزت المشرق العربي آنذاك شبه يقظة قوميّة كما تبلور كذلك موقف من الإمبراطوريّة العثمانيّة  خاصّة مع تزايد الإحساس بالانتماء العربيّ وذلك تزامنا مع ما كانت تعيشه منطقة المشرق العربيّ من حالة اختمار فكريّ  تعود جذورها إلى نهضة القرن التّاسع عشر. في مقابل ذلك نجد انتشار فكرة الجامعة الإسلاميّة الّتي كان يدعو إليها آخر سلاطين الدولة العثمانيّة والّتي كان لها  صدى قويّ مشرقا ومغربا. ولكنّ السّؤال الّذي يطرح نفسه هنا: هل كان للعرب وعي بما يجري على الضفّة الأخرى من المتوسط؟ هل توقّع العرب اندلاع حرب كونيّة؟.

الأمر الّذي لا يختلف فيه إثنان هو أنّ الحرب الكبرى فاجأت العرب إذ لم يتوقّع أحد أن تسير الأحداث بتلك الوتيرة السّريعة لتتحوّل الحرب من أوروبيّة إلى كونيّة شملت جلّ مناطق المعمورة. وعلاوة عن ذلك،  فإنّ وسائل الاتّصال الحديثة لم تكن متوفّرة في بداية القرن العشرين على النّحو الّذي نعرفه اليوم، فكان من الصّعب للعرب أن يتعرّفوا عمّا كان يجري في الضفّة الأخرى من المتوسّط والإلمام بمختلف التّفاصيل والجزئيات. كما أنّ الصّحافة الّتي كانت الوسيلة الوحيدة لبناء الرّأي العامّ هي في جلّها صحافة عربيّة إذ من النّادر أن تفد جرائد غربية إلى المنطقة العربيّة: ففي تونس مثلا كانت الصّحافة أغلبها مشرقيّة  أو وطنيّة  وحتّى لو افترضنا أنّ هناك اطلاعا وإلماما لما يحدث في أوروبا آنذاك فقد ظلّ نخبويا مقتصرا على النّخبة المثقّفة من رجال الحركة الوطنيّة كعلي باش حامبة والبشير صفر وآخرين فيما بقيت عامّة النّاس على دراية قليلة إن لم نقل منعدمة بالأوضاع الأوروبيّة. أمّا في مصر فقد كان هناك تأثير قويّ للجامعة الإسلاميّة نظرا لارتباطها المتواصل بالمشرق الإسلاميّ كما إنّ الحضور الإنجليزي  قد ساعد على تبلور وعي جنيني بأوضاع  أوروبا قبيل الحرب. ولكن يبقى ذلك الوعي مقتصرا على طبقة صغيرة من المجتمع كما أسلفنا الذّكر. وعموما  لم يتوقّع العرب اندلاع حرب بهذه السّرعة ولذلك  وجدوا أنفسهم أمام فكّي كمّاشة: إمّا الانخراط في الحرب إلى جانب السلطنة العثمانيّة أو القبول بالتّجنيد والمشاركة إلى جانب فرنسا وانكلترا.

ممذا لا شكّ فيه أنّ هذه الحرب هي حرب أوروبيّة بالأساس كانت نتيجة لتناقض المصالح الاقتصاديّة بين القوى التقليديّة (فرنسا وبريطانيا) والقوى الصّاعدة المطالبة بحظّها من المستعمرات كألمانيا وإيطاليا. وعموما لم يكن للعرب ناقة ولا جمل في هذه الحرب رغم انخراط السلطنة العثمانيّة إلى جانب ألمانيا. ولكنّ ذلك لا يمنعنا من إلقاء نظرة إلى الرأسمال البشريّ العربيّ الّذي شارك في هذه الحرب: ففي المغرب العربيّ جنّدت فرنسا عشرات الآلاف من المغاربة ألقت بهم في ساحات المعارك وقد لاقى أغلبهم حتفهم نظرا لقلة خبراتهم الحربيّة وكذلك لاصطدامهم بحرب عصريّة قاتلت فيها الدبابات والغواصات والطّائرات. أمّا المشرق العربي فقد كان منقسما: إذ انخرط جزء منه في الحرب إلى جانب السلطنة العثمانيّة بقيادة أنور باشا فيما فضل آخرون المشاركة ضمن جيش الشريف حسين فيما سمّي بالثورة العربية. وعموما نفتقد إلى اليوم أرقاما دقيقة لمشاركة العرب في هذه الحرب وعن مدى مساهمتهم في المجهود الحربي وكيف كان تفاعلهم مع الأوضاع آنذاك؟

في خضم هذا كلّه كانت تراود  شقّا لا بأس به من العرب  بعض الأحلام  إذ لم تبرح أذهانهم فكرة تكوين دولة عربيّة غير خاضعة لا للأتراك ولا للاستعمار الغربي وقد جسد هذا الحلم الشريف الحسين الّذي تحالف مع الأنقليز وأعلن الثورة ضدّ العثمانيين.

ظهر منذ بدايات القرن العشرين نوع من الوعي القومي العربي تدعّم بتعزز الإحساس بالانتماء العربيّ الّذي يروم التّخلص من رقبة النير العثماني وتكوين دولة عربيّة مستقلّة وقد استبدّت هذه الفكرة خاصّة بالشّريف حسين في مكّة إذ وعدته بريطانيا بتحقيق حلمه ما إن تضع الحرب أوزارها على شرط أن يقاتل إلى جانب الأنقليز ضدّ العثمانيين. أمّا في المغرب، فقد وعد الاحتلال الفرنسي بتحسين الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة للمستعمرات في حالة فوز دول الوفاق. وبذلك قاتل المغاربة كذلك ضد الإمبراطورية العثمانيّة. بيد أنّ كلّ هاته الوعود ستتبدّد وستذهب هباء منثورا وذلك بعد إمضاء ما يعرف “بسايكس بيكو” وصدور وعد بلفور إذ لم يكن للغرب الإمبريالي نوايا لتحقيق الوعود العربية وخاصّة تكوين دولة عربية مستقلّة يكون مركزها الحجاز وفضلا عن ذلك فإنّ المصالح الاستعماريّة وخاصّة بعد اكتشاف النّفط في الموصل تقتضي عدم السماح بنشأة دولة عربية غير خاضعة. ولذلك نكثت بريطانيا وعودها حيث أمضى كل من البريطاني”مارك سايكس” والفرنسي “جورج بيكو” معاهدة “سايكس بيكو” في ماي 1916 والّتي وضعت منطقة الشّرق الأوسط تحت الانتداب البريطاني والفرنسي إذ تحصّلت فرنسا  على الجزء الغربي من الهلال الخصيب (سوريا لبنان) ومنطقة الموصل في العراق. أمّا بريطانيا  فامتدّت مناطق سيطرتها من بلاد الشام الجنوبي متوسّعة تجاه الشّرق لتضمّ بغداد. يمكن القول هنا أنّ فرنسا وبريطانيا قد عملتا على إحكام سيطرتهما على المناطق الإستراتجيّة في المشرق العربي خاصّة النفطيّة منها. أمّا الطّعنة الأخرى الّتي سيتعرض إليها العرب خلال الحرب هو صدور وعد بلفور في 2 نوفمبر 1917  والّذي تمّ بموجبه إعطاء فلسطين كوطن قومي لليهود. وبذلك بدأت تظهر في الأفق خريطة جغراسياسيّة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط تتمثل أهمّ سماتها في سيطرة القوى الغربيّة الإمبرياليّة على أهمّ المناطق الإستراتجيّة وزرع كذلك نواة أولى لدولة يهوديّة كحاجز لمنع قيام أيّ وحدة عربية. ستتحدّد هذه السيطرة وتتوضّح معالمها بعد أن تضع الحرب أوزارها وإقرار معاهدات السّلام خاصّة معاهدة سيفر في 1920  والّتي تخلّت بموجبها الإمبراطوريّة العثمانيّة على أغلب أراضيها كما تمّ إقرار الانتداب الفرنسيّ والبريطانيّ على أغلب بلدان المشرق. وبذلك تكون نهاية الحرب قد رسمت مصيرا جديدا للعرب. فماذا جنى العرب من هذه الحرب؟

على الرّغم من النتائج السلبيّة والتراجيديّة الّتي خرج بها العرب والّتي تمثّلت أهمّها في تقسيم المنطقة العربيّة إلى مناطق نفوذ بين القوى الكبرى وفشل الثورة العربيّة بقيادة الشريف الحسين وتفكيك الإمبراطوريّة العثمانيّة فإنّنا يمكننا أن نسجّل بعض النتائج الإيجابيّة: فمشاركة العرب في الحرب ساهمت في ازدياد وعيهم بعديد المسائل: فقد فتحت الحرب مثلا أعين المغاربة على العالم الأمر الّذي ساهم في تطوّر المطالب الوطنيّة لا سيّما في المغرب العربي حيث نجحت في المدى البعيد في تفكيك البنيّة الاستعماريّة كما شهدت فترة العشرينات نشوء الأحزاب السياسيّة الحديثة  فقد تأسّس في تونس الحزب الحرّ الدستوري التونسي على يد عبد العزيز الثعالبي في 1920 كما تأسست كذلك الأحزاب الشيوعيّة في أغلب البلدان العربيّة ففي لبنان وتونس تكونت جل الأحزاب الشيوعيّة في الفترة بين 1919-1921. الأمر اللاّفت للانتباه كذلك هو هجرة الطلبة واليد العاملة إلى أوروبا بعد نهاية الحرب حيث أضحت هذه الأخيرة الوجهة المنشودة خاصّة للطلبة المغاربة الّذين يرومون مواصلة دراستهم. زيادة عن ذلك فإنّ زوال بهرج الخلافة من المخيال العربي ساهم في بروز حركة تجديد وتحديث حيث بدأ يتكرّس مفهوم الدولة الوطنيّة أو كذلك الدولة الترابيّة القطريّة  وقد عبّرت عن ذلك جل الأحزاب السياسيّة الحديثة النّاشئة بعد الحرب.

لقد حسمت الحرب العالميّة الأولى “المسألة الشرقيّة” إلى الأبد حيث انقضت القوى العظمى على أشلاء الرّجل المريض بعد أن وضعت الحرب أوزارها لتدخل بذلك المنطقة العربيّة  فترة جديدة من الخضوع بعد انهيار السلطنة العثمانيّة. لقد رسمت هذه الحرب مصيرا جديدا للعرب لا يتوافق مع  الآمال والأحلام الّتي كانت تحرّك الذّات العربيّة كما أنّ صدور وعد بلفور وتمكين اليهود من وطن قوميّ سيساهم في تعقيد أوضاع الشّرق الأوسط الأمر الّذي يخدم دائما  مصالح القوى الإمبرياليذة. ولا ريب أنّ الحالة الّتي تعيش عليها الآن المنطقة العربيّة شبيهة بالمشهد الّذي ميّز المنطقة بعد نهاية الحرب.

المصدر: https://www.alawan.org/2018/02/02/%D8%A8%D9%8A%D9%86-1918-%D9%882018-%D9...

الأكثر مشاركة في الفيس بوك