التقارب مع إيران ضرورة لتفادي أي فتنة مذهبية

سماح عسكر

 

عندما كنا- ولا زلنا- نطالب بالعلمانية في بلاد العرب فهو عن يقين بطبيعة شعوبهم التي تخلط الدين بالسياسة، ويعانون من رواسب تاريخية وتصفية حسابات عرقية ومذهبية وجغرافية ، وهذا سبب أصيل في .."الحروب الدينية".. التي يعاني منها العرب الآن في سوريا واليمن والعراق..

لذلك فالعلمانية ليست مجرد شعار أو نداء للترفيه أو حالة فوق حد الكَفَاف، بل هي ضرورة كالماء والهواء، وتطبيقها الآن بكل مبادئها يحمي هذه الشعوب ويحقن دمائها بأسرع وأسهل وسيلة..

إيران كأي دولة مسلمة شعبها يخلط الدين بالسياسة، ومستوى التنوير فيها لا يزيد عن مستواه عند العرب، والعقل الإيراني الآن متأثر بخطاب الخوميني في السبعينات الذي يرفض أي مظاهر للاستعمار، ويرى كل تحالفاته أدوات للهيمنة موضع شك، وبما الدول (الاستعمارية) على بعد خطوات منه في الخليج فهو يرى دول الخليج مجرد أدوات للاستعمار، ولا يطمئن إليها ويتعامل مع قادتها بحذر.

هذه العقلية شبيهة بمعطيات الثورة على الأمويين في صدر التاريخ الإسلامي، وتداخل الثورتين على الاستعمار والأمويين خلقت شخص متمرد..مقاوم للظلم، ومن هنا كانت النفسية الإيرانية المشحونة بالانتقام، وهي نفسية يصعب التعامل معها إلا في إطار سلمي يعتمد على الحقوق الطبيعية للأفراد.

تشبه إلى حد كبير.."الزنبرك/السوستة"..كلما ضغطت عليها كلما ارتدت إلى وجهك، وهو تشبيه يفسر تمدد إيران الآن ونفوذها باضطراد مع كمّ الضغط عليها، فهي ليست مجرد دولة..هذه ثقافة ودين، وجيشها ليس مجرد سلاح..هذه شحنات نفسية لا حدود لها..مما شاع عن إيران عدم اهتمامها بحياة الجندي ولكن بقتل أكبر عدد من الخصوم وتحقيق الأهداف، ومن شاء فليراجع تاريخ الحرب العراقية الإيرانية، مع تفوق صدام حسين بالسلاح والإعلام ودعم دول الخليج والعرب وأوروبا وأمريكا ..إلا أنه فشل في هزيمتها وتلقت دولته صفعة لا زالت تعاني من آثارها إلى الآن..

هذه العقلية الإيرانية هي عقلية كل شيعي الآن في العالم، إنسان ثائر على الظلم والسلطة الفاسدة، ويكره الاستعمار وأدواته الامبريالية، وطبيعي بعد ذلك أن يرى السلفي الرئيس الروسي .."فلاديمير بوتين".. شيعيا بكثرة تحالفاته معهم، لأن بوتين نفسه يتبنى نفس المنطق..وهو مقاومة النفوذ الأمريكي ووقف الهيمنة الامبريالية..

الفرق الوحيد أن الشيعي يمكنه الاختيار بين وطنه وبين إيران وتقديم وطنه أحياناً، لكن هذه العقلية التفاضلية تسقط مع أول اختبار يثبت فيه أن إيران معه في خندق واحد.

لذلك أقول أن العداء مع إيران واستعداء شعبها وتكفيره يعني فتنة مذهبية محققة ستطال كل شيعي وكل سني يختلط به، وكلما كانت المسافة أقرب بين إيران ومجتمعات السنة كلما انطفأت بذور الفتن المذهبية..

هذه خلاصة يؤكدها الواقع

تابعوا كمّ التفجيرات التي طالت مساجد الشيعة في السعودية بعد اندلاع حرب اليمن بدعوى ولاء الحوثيين لإيران، تابعوا كم من السنة قتلوا في معارك تحرير الرمادي وتكريت وكم من منازل السنة ومساجدهم أحرقت.. تابعوا كم شيعي قُتِل في سوريا والعراق بعد اندلاع ثورة سوريا الملعونة، تابعوا كم من الشيعة جاء للجهاد في سوريا والعراق من القوقاز وباكستان والهند، كم من التداخلات والتعقيدات المذهبية التي نراها ونعجز عن تفسيرها..!

كذلك فالإيراني قليل الاختلاط بالعربي، وأكثر حياته لم يرى أو يقرأ لعربي واحد..والفتن المذهبية تتطلب الاختلاط حتى تشتعل، وبالتالي لا فرصة للإيراني كي يتورط مع العربي في حرب..

هذا يعني أن أي فتنة مذهبية سيتضرر منها العرب حصرا وليست إيران، وقد أشرت لذلك على صفحتي في الفيس بوك وتويتر منذ سنوات ولا زلت أرددها، أن المجتمع الإيراني من الداخل مجهول للعرب، والدولة نفسها ليست كما يُصوّرها الإعلام، وقد فوجئ صدام حسين بهذه الفروقات فور إشعاله للحرب مع الخوميني في الثمانينات فاستمرت الحرب 8 سنوات عجز صدام عن إيقافها، وكلما طلب التفاوض ووقف الحرب تشتعل أكثر..

هذا كان في زمن إيران فيه ليست قوية في الميزان العسكري، وكل ما لديها أسلحة قديمة لا تهتم بالحرب عن بعد، أما الآن فإيران تطورت كثيرا وصنعت السلاح وتقدمت علميا ولديها برنامج نووي وصاروخي من أرقى ما يكون، وهذا يعني أن أي حرب معها تعني قدرة عالية على التدمير وتوسع يفقد أطرافها السيطرة عليه..وهو ما أدركته أمريكا وفضّلت التفاوض عن اللجوء للخيار العسكري..واسألوا إسرائيل لماذا لم تضرب إيران حتى الآن رغم تجرأها على ضرب سوريا؟..هذا يعني أنها تعلم جيداً عواقب الحرب مع إيران..على ما يبدو أنهم أعقل كثيرا من عرب الخليج .

بالمناسبة..ما حدث مع صدام حسين ضد إيران ليس مرشح لتكراره مع السعودية، فالعراقيون أشداء في الميدان بخلاف الجيش السعودي الذي لم يُبدي كفاءة عالية في اليمن، كل ما تمتلكه السعودية وحلفائها من العرب مجرد طائرات يسهل لأضعف منظومة دفاع جوي إيرانية أن تسقطها..

لذلك فالحرب مع إيران ليست سهلة كما يظن الحمقى وبعض المتعصبين والمتشنجين الذين هددوا بها مؤخرا..

ولاعتبارات الدين والمذهب فتتوسع لتطال كل شيعي بخلاف ما يريده البعض من فصل بين الشيعة وإيران..وفي ذلك لي أقوال..

1-ما لا يفهمه عوام السنة أن المذهب الشيعي يتميز بالشحنة النفسية والعاطفية العالية..والتي تصل-أحياناً- لدرجة العشق..والعاطفة سلاح ذو حدين فعندما تحب تبالغ في الحب..وعندما تكره تبالغ في الكراهية...لذلك عندما أعدمت السعودية الشيخ.."نمر النمر".. طبيعي أن يثير ذلك حفيظة الشيعة في كل العالم بوصفه قيادة روحية، وبالتالي إيران هنا ليست وحدها طرف في المعركة..هذه قضية دينية بالأساس..

2-مستحيل أن تغير إيران وجهة نظر شيعة العالم تجاه السعودية، لكن يمكنها ضبطهم في إطار سلمي بعلاقات سياسية..بوصفها أكبر الدول الشيعية التي يتخرج من جامعتها في .."قُمّ"..عشرات الآلاف من شباب الشيعة سنويا..فالشيعي مهما كان توجهه يطمئن لإيران بوصفها.."حامية المذهب"..وإن اختلف مع سياستها وقادتها.

هنا الشيعي لا يرى إيران مجرد دولة أو شعبها من الأعاجم، بل يراها صديق وشعبها أشقاء، وهي رابطة روحية تجمع كل شيعة العالم بإيران..وهو يعني أن قطع العلاقة مع إيران يعني قطعها مع كل شيعة العالم، ولا أحسب من يتسابق الآن في قطع العلاقة أنه مقدر لحجم الخطورة التي ربما تطال نسيجه الاجتماعي.

بالمناسبة: قلت قديما أن جريمة قتل الشيخ.."حسن شحاتة"..زعيم شيعة مصر هي أحد نتائج قطع العلاقة مع إيران ، فالسلفيون الذين قتلوه –أو حتى من حرضوا على قتله- هم مجرد إفراز لهذه الكراهية بين الدولتين، بيد لو كانت هناك علاقة وتبادل ثقافي ما سمح ذلك بانتشار السلفية من الأساس، وهو ما عانت منه مصر منذ قطع العلاقة حتى الآن بانتشار الإرهاب وتمدد التيار السلفي وبالتالي .."مد طائفي"..مرافق لهذه الحالة..

الإنسان في الأخير عدو ما يجهل.

3-الذوق السني مختلف عن الذوق الشيعي، لأن خصائص الحياة لكل منهما مختلفة، فالسمك مثلاً يعيش في المياة لكن الإنسان يموت فيه، وهذا حال كل متدين لا يرى الفارق بينه وبين غيره، فالذوق السني يهتم أكثر بالصحابة وبالروايات السنية، أما الذوق الشيعي يهتم أكثر بآل البيت وبالروايات الشيعية، وهذا أكبر رابط يجمع بين إيران والشيعة...الذوق..وهو رابط كفيل باتحاد الهدف والتمكين له ولو على المدى الطويل..

4-هذا يعني أن التحريض على إيران الآن يعني تحريض على أي شيعي، وطبيعي أن نرى فتن طائفية وجرائم ذات خلفية مذهبية في مجتمعات السنة التي يشكل فيها الشيعة أقلية..وسيدفع ذلك بقية الشيعة للرد بوصفهم -كما قلنا- شخوص عاطفيين..وقد حدثت سوابق لذلك في الفتنة العراقية بعد سقوط بغداد، نظر السنة للشيعة بوصفهم موالين لإيران وخونة لصالح الاحتلال فساعد ذلك على تمدد داعش والجهاديين حتى أثمر ذلك عن نشوء دولتهم..

يوجد عقلاء في السعودية الآن يحذرون من المساس بشيعة المملكة، ويشيرون لفرق لديهم بين الشيعة وإيران..وهذا غير صحيح...هذا جهل منهم بطبيعة ونفسية الشيعي، وكذلك جهل بطبيعة العنف الطائفي الذي يرفع.."الهوية"..كسلاح وقت المعارك، فلا فرق بين الخصوم وقتها ..كلهم واحد..

وفي علم النفس يلجأ الإنسان في الأزمات .."للمشترك الهووي"..وهو تعبير يلخص أحوال الفتن الطائفية التي يكون فيها الحشد عن طريق قادة يتمتعون بصفات.."صدق وجاذبية"..وهذا كفيل لزرع الثقة في هؤلاء القادة حتى لو كانوا أغبياء أو سفهاء أو تجار حروب، في الأخير ما يجمع شعوب الطائفية هو.."الرابط الروحي"..الذي يشكل العنصر الأبرز في الهوية..

ولشرح ذلك فالهوية ليست واحدة..هذه دوائر مغلقة مع نفسها، فالمصري مثلا يطمئن للمصري، لكن يختلفان إذا أثيرت قضية الدين، وبالتالي أصبح لدينا مصريان..مسلم ومسيحي، كذلك فالسعودي يطمئن للسعودي، لكن يختلفان إذا أثيرت قضية المذهب، وبالتالي أصبح لدينا سعوديان ..سني وشيعي..

والسؤال كيف يلجأ الإنسان لتقديم دينه على وطنه؟

الإجابة: أن الدين هو أعظم.." قيمة بشرية".. ولأجلها يعيش، وبها يعتقد في حياة أخروية تعني الخلود، أما الوطن فهو .."قيمة دنيوية"..قد تزول مع استبداد الحاكم أو ظلم وجور المجتمع، أو مع مظاهر الفقر واستشراء الفساد، ومظاهر اللاوطنية تلك تكثر في مجتمعات العرب وصفها أكثر مجتمعات البشر فسادا وانغلاقا ومعدلات الظلم فيها عالية، وبالتالي نسبة الانتماء تكون في أقل معدلاتها

الخلاصة من وراء هذا البحث: أن فكرة عداء العرب لإيران هي فكرة حمقاء يرددها المتعصبون ويجهلون نتائجها ويعجزون حتى عن إدراك طبيعتها..ولو على أنفسهم

فكرة لم ينتج عنها سوى الكراهية والفتن الطائفية وتهديد مجتمعات العرب من الداخل، ومن لا يرى أثر ذلك الآن فهو أعمى.

الشعوب العربية ليست مهيأة لتقبل فكرة فصل الدين عن الدولة، ولا يعني أن السبب رفض الفكرة..لا..هذا غير صحيح..لأن العرب يطبقوا العلمانية كثيرا في معاملاتهم، حتى قوانينهم تعج بمبادئها، ولكن لن يتقبلوها إذا مست معتقدهم الرئيسي وهو.."الدين"..وبالأخص.."المذهب"..فما يحكم المسلمين الآن هم.."فقهاء مذاهب"..وليسوا.."فقهاء دين"..وبالتالي حين تتعرض مصالح هؤلاء الفقهاء للخطر سيشعلوا الحرب فورا ويحشدوا لها العوام..

 

هنا لا فرق بين إيران والشيعة..سيصبح أي شيعي هدف بوصفه ظاهرة لتمدد إيران من كثرة ما أشيع في مجتمعات السنة عن دور إيران في المد الشيعي، وسُصبح كذلك أي متعاطف معهم هدف أو مدافع بدعوى الحقوق، وهي الفتنة التي أقصدها وأعنيها بأن الفتن الطائفية لا تهتم كثيراً بالعدد بل بالقيمة، ولا يخرج أحد منها منتصر..فالجميع خاسر..ولكن بما أننا العرب نُجيد الجعجعة والصراخ فشرورنا لأنفسنا ولن يمس أعدائنا أي سوء..

المصدر: http://www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php?main_id=14232

الأكثر مشاركة في الفيس بوك