الاستهواد.. علم اليهوديات المعطَّل

عز الدين عناية

 

عقب انتهائي من مناقشة رسالة الدكتوراه التي أعددتها في جامعة الزيتونة، خلال السنة الجامعية 1997، حول "المقاربة الدينية لليهودية في الفكر العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين"، حرصت على نشر ملخّص على صفحات مجلّة أو دورية مشرقية، أملا في إشاعة نتائج البحث، ورغبة في لفت النظر لعديد الأخطاء الرائجة، والتنبيه إلى أوضاع الدراسات العربية المتعلّقة بهذه الديانة، من حيث تدنّي "علموية" الخطاب فيها، مقارنة بدراسات موازية في بلدان أخرى. خصوصا وأن حاجة البلاد العربية تستلزم النهوض بهذا المبحث، لما تعيشه من صراع مزمن مع دولة، تستند إلى التراث العبري مرجعية حضارية لها. غير أنه رفضت كلّ المجلاّت الحديثَ عن هراء خطابنا وكشْف سقطاته، إن لم أقل جهالاته في مسائل عدة، متعلقة بالتراث العبري وبالديانة اليهودية، حتى أرسلت الملخّص إلى مجلّة "الحياة الثقافية" بتونس، التي كان يديرها الرّوائي حسن بن عثمان سابقا، فقبلت نشره.

من خلال متابعتي للحقل لاحظت تفشّي وهْم شائع بين العرب أنهم يعرفون إسرائيل، وبالتالي لهم إلمام بدينها، بناء على ما قيل في القرآن الكريم والسنة النبوية، وعلى ما يكابدونه من صراع مستمر مع إسرائيل. والأمر غير ذلك، فليس هناك في شتى أرجاء البلاد العربية قسم جامعي، يتولى تدريس اليهودية أو المسيحية بمناهج علمية، ما عدا ما يأتي عرَضا ضمن دروس بعض أقسام الدعوة الإسلامية، أو أقسام اللاهوت المسيحي في دول المشرق، والتي لم تعانق فيها الدراسة العلمية، بل لازالت تدور في حيز المقاربة اللاهوتية.

وأعترف أن دراستي "الأكاديمية" لليهودية في الجامعة الزيتونية في قسم "الأديان والمذاهب" سابقا، لم تتجاوز شروحات لامية الإمام البوصيري (ت 1295م) وترديد مقاطعها:

لُعِن اليهود مع النصارى لا تكن بهم على طريق الهدى مدلولا

فالـمُدَّعو التثليث لا تحفل بهم قد خالفوا المنقول والمعقولا

والعابدون العجل قد فتنوا به ودّوا اتخاذ المرسلين عجولا

فما كان هناك مقرّر علمي محدّد، بل شذرات متناثرة جمّعت من هنا وهناك، وما كان حتى الأستاذ المكلَّف بتدريس الأديان يعلم أن من سبق من أبناء الزيتونة قد ألفوا في هذا الباب، مثل الشيخ عبدالعزيز الثعالبي (1944-1876) طيّب الله ثراه. وأمام ذلك النقص الفادح، عوّلتُ مع ثلّة من طلاب الدراسات العليا حينها، على الانهماك للتحصيل الذاتي في ما يتعلق بالمسيحية واليهودية وديانات الشرق الأقصى. تم ذلك رفقة الفلسطيني، الأستاذ عامر الحافي، المدرّس في الوقت الحالي بجامعة آل البيت بالأردن، والباحث الغامبي الدكتور حسن سعيد جالو، وآخرين تقطّعت بهم السبل، فنأوا عن مواصلة السير في طريق وصفها صاحب “المنقذ”، بقوله: "إن اختلاف الأديان، واختلاف الأيمة في المذاهب بحر عميق غرق فيه الكثيرون وما نجا منه إلا الأقلّون".

فلازالت جوانب لا حصر لها من اليهودية غائبة عن التناول في الفكر العربي، مثل: التصوّف العبري، وعلم الكلام العبري، والأدب التوراتي، والاتصال والانفصال بين لغة القرآن ولغة التوراة، وأساطير التلمود، وتراث الكابلاه، والتراث المسيحاني، وحركة الأفكلارونغ. وإن جرى التطرّق لهذه المجالات وغيرها، فباتهام اليهود –حقا وباطلا- أنهم نهبوها من العرب. حتى صرنا نعاني من ادعاء معرفة باليهودية، يشبه أوهام الفكر الأوروبي القروسطي بشأن التّراث التلمودي، والذي يتلخّص في توهّم الكابوتشي هنري دي ساغن أن التّلمود اسم أحد الأحبار، وادّعاء أن إحدى الأبواب تتعلّق بالبيض، دون التنبّه أن المباحث التلمودية، في التقليد العبراني، تتسمّى بمفردات الاستهلال.

وقد نمت حول هذه الأوهام ادعاءات بمحاصرة إسرائيل، وفي الحقيقة كنا نحدّ من وعينا، جرّاء وصاية السياسي على عقلنا وفكرنا في التعامل مع ديانة إبراهيمية. إذ تهيمن السياسة هيمنة شاملة على نظرتنا لإسرائيل، مما خلق رؤية اختزالية تجاهها. وهي نقيصة أو بالأحرى عمى، يشبه عمى الألوان الذي يصيب الفرد. فخلال المعرض الدولي الأخير للكتاب بالجزائر 2007، منعت ترجمة عربية لكتاب التلمود من الدخول، ولمن لا يعرف السفر، فهو مدوّنة فقهية وأسطورية نشأت مشافهة، جرى تأليفها في المشرق العربي بين بابل والقدس، ولا تمت للصهاينة بصلة، كما يروج خطأ.

فالترويج المكثّف للخبر السياسي الاستفزازي، في غالب الأحيان، بشأن فلسطين، منع لفت النظر لما وراء إسرائيل. فقد خاض العرب صراعا مريرا ومهينا مع هذا الكيان المغتصِب، غاب منه عنصر أساسي وهو الوعي بتراثه الديني، ذلك من جانب، ومن جانب آخر، تكاد تنعدم الإحصاءات أو الدراسات أو المتابعات أو الاستطلاعات التي تتناول اليهود وتراثهم في البلاد العربية في الراهن الحالي.

كان الراحل نزار قباني قد أشار بنباهة إلى هذه الغيبوبة التي عشناها على مدى عقود، بقوله:

أمارس التشخيص خلف حضرة الإمام

يقول: اللّهم امحق دولة اليهود

أقول: اللّهم امحق دولة اليهود

يقول: اللّهم شتت شملهم

أقول: اللّهم شتت شملهم

يقول: اللّهم اقطع نسلهم

أقول: اللّهم اقطع نسلهم

يقول: أغرق حرثهم وزرعهم

أقول: أغرق حرثهم وزرعهم

وهكذا يا سادتي الكرام

قضيت عشرين سنة..

أعيش في حضيرة الأغنام

أعلف كالأغنام

أنام كالأغنام

أبول كالأغنام

أدور كالحبّة في مسبحة الإمام

فالمقاربات المختلفة للديانة اليهودية التي جرت خلال القرن المنصرم كانت مرتبكة ومتشجنّة، خضعت لضربين: إما رؤى دينية، استوحت مقولاتها من فهم محدّد لما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية ومدونات التراث الإسلامي، أمثال مؤلّفات: أحمد شلبي في  "مقارنة الأديان.. اليهودية"، ومحمّد سيد طنطاوي في "بنو إسرائيل في القرآن والسنة"، وعبدالله التلّ في كتبه: "جذور البلاء" و" الأفعى اليهودية في معاقل الإسلام "، وعبد الكريمالخطيب في "اليهود في القرآن"؛ أو كتابات ذات منزع قومي عروبي حاولت النظر لليهودية بعين الغيرية، ما جعلها تسقط في شوفينية تعيسة، مثل مؤلّفات: كامل سعفان في "اليهود تاريخا وعقيدة"، وأحمد سوسة في "العرب واليهود في التاريخ"، وحسن ظاظا في "الفكر الدّيني اليهوديّ أطواره ومذاهبه" وفي "أبحاث في الفكر الديني اليهودي"، وقد ذكرنا غيضا من فيض من هذه الكتابات. عجز النوعان عن الخروج بالمقاربة اليهودية من المزايدات الدينية والقومية إلى المتابعة العلمية، مما جعل المؤلّفات العربية في هذا الحقل داخلية ولا تتمتّع بأية مصداقية علمية على مستوى عالمي.

لقد ساد خلط وخشية مفادهما، أن دراسة اليهودية وتدريسها مسوّغ من مسوّغات التطبيع الديني مع إسرائيل، وأن فتح هذا الباب مدعاة لاختراق العقل الأكاديمي، حتى نشأت محرّمات في الحقل. خلال السنة الفارطة جاءني طالب عربي يتابع تعليمه بكلية الدراسات الشرقية في روما، يستشيرني في بعض المسائل، وقد كان لديه شغف بالتخصّص في علوم الديانات، فأشرت عليه بدراسة اللّغة العبرية، نظرا ليسر تعلمها لمن له إلمام باللسان العربي، لقرب مبناها ومعناها من العربية. فما راعني إلا خشية الطالب من مخابرات بلده إن عاد، فهم لا يسمحون بالسفر خارجا لمن يدرس العبرية، إلى جانب مراقبة كل من تسوّل له نفسه بتعلّم هذه اللغة، لذلك فهو يفضّل تفادي "وجع الرأس". على خلاف حالة هذا الطالب العربي، كنت ألاحظ كَلَف الطلاب الإيطاليين اليهود في كليتي الدراسات الشرقية بنابولي وروما، حيث أشتغل، بتلازم تعلّم العربية جنب العبرية معهم.

حين أتمعن في خلو الجامعات والكليات العربية من أقسام متخصّصة في علوم الديانات، أقول: إن العرب في حاضرهم أجهل الشعوب بالأديان، فكيف ستكون الحال لو لم يحدثهم القرآن عن النصارى والعبران!؟

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=642&idC=2&idSC=8

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك