ظاهرة القراءة المعاصرة للقرآن وآيديولوجيا الحداثة

ظاهرة القراءة المعاصرة للقرآن وآيديولوجيا الحداثة

عبد الرحمن الحاج*

بقيت إشكالية العلاقة بين الإسلام والحداثة رهينة جدل لا ينتهي منذ بدأت في القرن الماضي، ولا يختلف أحدٌ في أن «المعاصرة» هي موقف إيجابي تجاه الحداثة -بكل ما تعنيه من فلسفات وعلوم ومناهج وأدوات بحث، بل وواقع يبسط نفوذه على حياة العالم، بغض النظر عن حدود هذا الموقف(1)، وإذا حاولنا البحث في الدراسات التي اشتغلت على القرآن الكريم تحت مظلّة المعاصرة، فإننا سنقف على مرحلتين متمايزتين مرّت بهما تلك الدراسات:

المرحلة الأولى:

وهي التي بدأت مع الشيخ محمد عبده، حيث شهدنا ممارسة فعلية للتفسير والتأويل مستفيدة من معطيات العصر، وكان محمد عبده قد نعى على العلماء عدم الاستفادة من العلوم الغربية الحديثة (2)، وعندما شرع في تفسيره تأوّل القرآن طبقاً لتلك العلوم، والنظريات العلمية، مما جعل الداروينية (3) مقولة قرآنية، كما هو الحال تماماً مع اللاماركية، التي تعتبر ـ حسب عبده ـ من سنن الله في هذا الكون!، ثم تأوّل المعجزات تأويلاً وضعيا (4). كما سنجد امتداد ذلك لاحقاً مع طنطاوي جوهري في تفسيره «الجواهر"(5)، وهو تفسير يبرهن فيه على أن كل العلوم في الغرب موجودة في القرآن!، وأن القرآن قد سبق إليها!، ليطمئننا بذلك «إلى أننا سبقنا عصرنا إلى كل ما يتطاول به الغرب علينا من علوم حديثة"(6). ثم مع أبي زيد الدمنهوري في كتابه «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن"(7)، والذي خَلُصَ فيه إلى استنطاق القرآن بما يتلاءم مع أفكار العالم المعاصر، في المرأة والحدود، و.. الخ، إلى أن جاء المصطلح معبّراً في عنوان «التفسير العصري» مع مصطفى محمود(8) في بداية السبعينات.

تتميّز هذه المرحلة ـ التي امتدّت إلى أواخر السبعينيَّات ـ بعدّة خصائص:

- فهي لم تخرج عن مناهج التفسير التقليدية، ولهذا لم تتجاوز التأويلات «الإجرائية» التي تناولت بعض الآيات بما يتلاءم مع مقولات العصر الشائعة، حتى لو خرقت تلك التأويلات الأطر المنهجية التقليدية في التفسير. بل إننا نجد في هذه المرحلة كيف وصل التفسير إلى «مجرّد» تأمّلات(9) تتسم بالبساطة والسذاجة أحياناً.

- والاجتزاء يبدو ظاهرةً واضحةً، حيث لا يتم التأويل «المعاصر» إلاّ في تلك الآيات المتعلقة بالإشكالات الفكرية المعاصرة، أو تلك التي يشتبه بها في استنطاق الاكتشافات الحديثة!

ونظراً لاحتكام التفسير/ التأويل ـ في هذه المرحلة ـ إلى المناهج التقليدية في التفسير، فقد ظلَّ مصطلح التفسير مهيمناً كاسم لهذه العملية التأويلية، ولارتباطها بالعصر كان من الطبيعي أن يبرز مصطلح «التفسير العصري» أو «المعاصر» تعبيراً عنها.

المرحلة الثانية:

ويحيلنا إليها مصطلح «القراءة"(10) نفسه؛ الذي يشير إلى مصادر منهجيّة معاصرة هي مناهج النقد الأدبي واللسانيات الحديثة، فنحن هنا إذن أمام استخدام لـ «مناهج» و«أدوات» جديدة في دراسة القرآن، نستطيع أنْ نقدّر بدايته في نهاية السبعينيَّات وبداية الثمانينيات حيث كانت المناهج الأدبية واللسانية قد أخذت حضورها إلى جانب الدراسات الأخرى ـ في العالم العربي، وبدأت تتسرّب إلى كل شيء، فكان لنا أن نرى عام (1979م) «العالمية الإسلامية الثانية» لأبي القاسم حاج حمد، والتي اعتمد فيها على مزيج من المقولات اللسانية والفلسفية، ربما لأوّل مرّة(11)، وفي الثمانينيّات ظهرت محاولة أركون في «قراءة» التراث الإسلامي، وتأويل النص الديني(12)، ويعتبر أركون أكثر مَن توسَّع في استخدام المناهج الحديثة وخصوصاً اللسانية، وحسن حنفي الذي حاول أن يؤسِّس لتفسير معاصر اعتماداً على معطيات العصر المنهجية، ثم محمد شحرور في «الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة»(13) الذي اعتمد فيه على خليط من البنيوية والتاريخية، ونصر حامد أبو زيد الذي طرح في «مفهوم النّص» منهجه القائم على التأوّلية (hermeneutic) من خلال نقد تراث علوم القرآن... وغيرهم.

تتميّز القراءة المعاصرة، وهي المرحلة الثانية في الدراسة المعاصرة للقرآن بالخصائص التالية:

- مارست «قطيعة» جذرية في مناهج التأويل مع التراث، في حين تواصلت مناهج «التفسير العصري» معه، إلى حدّ التطابق، وهي «نقلة» سمحت بتجاوز عقبات المنهج التقليدي أمام التأويلات المتعسِّفة.

- سمحت بتأويل لـ «كامل النص»، من خلال نماذج قابلة للتكرار، أو ممارسة شاملة (محمد شحرور)، في الوقت الذي كان فيه التفسير العصري يتعثّر في ترقيعاته، فليس هنا اجتزاء أو تأملات، بقدر ما هي ممارسة وبحث معرفي يتوسل بجهود ذهنية كبيرة ومنظَّمة.

وإذا كان من ضرورات «الظاهرة» التكرار، والوضوح، فإننا نستطيع أن نصف «القراءة المعاصرة» بـ«الظاهرة»، خصوصاً منذ عقد التسعينات، حيث ساهم في هذا التحول الصَّخَبُ الذي تَمخضّ عن صدور كتاب شحرور «الكتاب والقرآن» تحت العنوان الفرعي: «قراءة معاصرة»، هذا الصَّخب الذي لم ينته بعد، والذي يعكس «استفزازاً» حقيقياً لمنظومة العقل المسلم المعهودة.

النظرية: النصّ والدلالة / السلفية والمعاصرة!

القرآن بوصفه «نصاً» وإن كان لا يتجاوز الحدود اللغوية، إلاّ أن مصدره الإلهي يجعل تلك اللغة لا تتجاوز وصفها «حاملاً» فكرياً، ولا تتعداه إلى السجن الثقافي(14). ولكن النصّ بوصفه «منجزاً لغوياً»، ونظاماً دلالياً، جهازٌ معقدّ لإنتاج المعنى، يتضمَّن مستويين للدلالة: «مستوى أولي: هو المستوى النظامي للدلالة، بمعنى أن الدلالة تتشكّل فيه طبقاً لقوانين التركيب (النحوي، المعجمي، الصرفي،...)، وهنا الدلالة (...) تنمو خطيّاً، وليس [هناك] (...) قراءة/ تأويل بالمعنى الحقيقي.

والمستوى الثاني: هو مستوى الدلالة «غير النظامي»، هنا لا يمكن النظر إلى النّص على أنه رصفٌ للكلمات، وتركيب للجمل فحسب، ولكن يُنظر إليه على أنه فضاء متعدد الأبعاد، حيث المعنى الكلي للجملة لا يساوي مجموع مفرداتها، والمعنى الكلي للنص لا يساوي مجموع جمله، وعلى هذا المستوى تكون القراءة والتأويل. وإن وجود المستوى الأول يجعلنا لا نفهم الكلام كما يحلو لنا، وإن لم يكن في الوقت نفسه كما يريده المؤلف.. هو مستوى يحكم القارئ والنَّاصّ معاً، فهو ليس فردياً بقدر ما هو جماعي»(15). وهكذا يصبح تأويل/ قراءة النّص اجتهاداً يتساوى فيه الجميع.

إذا كان هذا شأن «المساحة» التي يتم فيها التأويل، والتي تستلزم القدرة العقلية الاجتهادية أكثر من أي شيء آخر، فإلى أي حدّ يمتلك «السلف» سلطةً مرجعية للخطاب التفسيري المحاك عن النّص؟

إن إعطاء السلف «سلطة» تأويلية ترجح على سلطتنا، بحيث يتحول السلف إلى مرجعية يقوم على مقولات عدة أبرزها المعرفة باللغة، وبأساليب التعبير والبيان بها. ولكن هذه المقولات نفسها تنشَأ عن مسلَّمة أن اللغة مطابقة للنّص.. واللغة مجموعة ألفاظ، وأساليب تعبير ثابتة تتوسل بها. والنص بما أنه لغة فهو كذلك مجموعة ألفاظ... إنها في الواقع رؤية ساذجة للنص تفتقد تصور النّص كجهاز دلالي، فعملية التأويل هي عملية «فوق لغوية»، وإن كانت تستند إلى اللغة، والمفردات المعجمية ليست إلاّ أرضية ابتدائية تتحدد بها فضاءَات الدلالة النصّية، وحينئذ «أهل اللغة وغيرهم في معرفة ذلك سواء، وإنما يختصّ أهل اللغة بمعرفة الأسماء والألفاظ الموضوعة لمسميّاتها، بأن يقولوا إن العرب سمّت كذا بكذا، فأما المعاني ودلالات الكلام فليس يختصّ بها أهل اللغة دون غيرهم»(16)، هذا فضلاً عن أن اللغة -بهذا المعنى- أصبحت في متناول الجميع من الخلف، بعد أن تراكمت الجهود المدونة في جميع الألفاظ وتحليلها، وتعقيد اللغة والكشف عن أنظمتها المتعددة التي تقوم بها. فالسلف بعد ذلك لم يعد يمتلك تلك المرجعية التأويلية، بل إن القول بهذه السلطة والإقرار بها يوقف النص عن إنتاج دلالته في كل عصر، ويقطع امتداده في الزمن الصالح ثقافة تاريخية راحلة.

مقومات المشروعية:

مع تراكم البحث في دلالة النّص القرآني، أخذ علماء الإسلام في تأسيس قواعد لتناول النّص وقراءته/ تأويله. فقد كان علم أصول الفقه قد درس «الخطاب» كنّص، وجمل، ومفردات. فتناول بذلك المستويات الثلاثة لبناء «الخطاب» القرآني، وهو العلم الوحيد في العلوم الإسلامية الذي تجاوز الجملة لتقعيد الدراسة في النّص القرآني بشكل منهجي، بل إنه كان واعياً تماماً لمفهوم النّص إلى الدرجة الكافية(17) لتتعامل معه. فالمهمة التي نذر أصول الفقه نفسه لها منذ البداية هي النّص، وليس تقعيد اللغة؛ التي تعتبر بالنسبة له مقدِّمات ضرورية(18).

وعندما تقدم البحث فيه، تكشّف عن مناهج متعددة (اعتزالية، حنفية، شافعية،....)، ولكن رغم ثراء علم الأصول في دراسة النّص القرآني، إلاّ أن تلك المناهج الأصولية بقيت معزولة بشكل أو بآخر عن ممارسة التفسير والتأويل، أو لم تستنفذ تلك الآلة الأصولية؛ لأنَّه كان ينظر دائماً إلى أصول الفقه كوسيطٍ بين الأحكام العملية وحدها والنص الشرعي، فمهمتّه كانت ترى دوماً في بحث الأحكام العملية (كما يوحي بذلك اسمه)، وكانت نزعته المذهبية تدعم آفة العمل الفقهي «الاجتزائي» كآلية تلتقي مع المنهجية التقليدية في التفسير.

وإذا كان التفسير يقوم على مسافةٍ لغويةٍ بين خطابين: الخطاب القرآني، وخطاب التفسير نفسه، فإنه لمن المحال أن يتم اختصار هذه المسافة إلى درجة يمكن فيها للتطابق أن يأخذ سبيله إليها(19)؛ لأنَّ خطاب التفسير ناتجاً ثقافياً لا محالة، قائماً على النسبي والممكن، وحاصلاً في الأفهام على مقدار اختلافها وتفاوتها، فهو رهن بشروطنا التاريخية والزمنية، وبظروف ذاتية وإنسانية بحتة. وإذا كان التفسير كـ«خطاب» منتج ثقافي تاريخي، فأدواته بالضرورة منتج مثله (ثقافي وتاريخي).. أي أَنَّهُ ممكن التجاوز، فتلك الأدوات والمناهج ليست «فوق تاريخية».. إنها نسبيّة كنسبيتنا نحن منتجي الخطاب ذاته.

يصبح أصول الفقه ـ بناءً على ذلك ـ كغيره من الأدوات ومناهج البحث التي ولدت مشروطة بتاريخها، وإن لم يعني ذلك أنها لم تعد تحمل أي صلاحية للقيام بالدور التأويلي، وَإِنَّمَا يعني ذلك أنه ليس ثمّة ما يلزمنا بالوقوف عندها، أي ثمّة فسحة لإمكانية التجاوز والإضافة، بل والاستبدال الكلي.

من هنا تأخذ «القراءة» المعاصرة مشروعيتها، حيث حركة (الفهم/ التأويل/ القراءة) تستند إلى نسيج معرفي يحاول التكييف بين استرداف المنهج، وخصوصية الثقافة من جهة، وبين حداثة القراءة وتراثية المقروء من جهة ثانية، كما تحاول هذه الحركة التأويلية على مستوى آخر أن تقيم جسراً بين وعي المطلق ووعي التاريخ(20).

إنه من العسير إثبات وَقف «الاجتهاد» في إنشاء مناهج البحث وأدوات استكشاف وتحليل المعنى في النّص القرآني وغيره، وبالتالي فإن من لوازم ذلك وجود إمكانية قيام مناهج جديدة(21).

وهكذا يمكن القول إن القراءة المعاصرة تمتلك نظرية لها مشروعيتها، تلك النظرية التي تعتمد على مبدأ الاستفادة من «منجزات» الدراسات اللسانية الحديثة ومناهج النقد الأدبي المعاصرة، باعتبارها نتاج العصر الراهن أي الوليد الشرعي لهذا التاريخ المعاصر، (بغض النظر عن مدى سلامة هذا الوليد وصحته)، وإن كان السؤال لا زال يلحّ عن مدى سبق وتجاوز تلك المناهج والأدوات مثيلاتها التراثية؟!

يبقى أن أحد عيوب القراءة المعاصرة تجاهلها «للنزعة الوضعية» التي ألحَّ عليها أصحاب تلك المناهج أنفسهم(22)، تلك النزعة التي تناقض بشكل صارخ خصائص النّص القرآني، وتصطدم مع البعد الأهم وهو المصدرية الإلهية بكل ما يعني ذلك من تحرر واستقلال عن ثقافة تاريخية ما. وإمكان إطلاقية أحكام النّص واعتبارها فوق تاريخية(23).

والعيب الثاني الذي تسقط فيه أكثر تلك القراءات المعاصرة، تعاملها مع تلك المناهج والأدوات وكأنها كلها حقائق ثابتة وليست ـ كما هو الحال ـ نظريات لم تستقر، ولن تستقر كونها لا تحتمل القطع. إن الحقيقة التي ينبغي أن لا يُغفل عنها أن استنفاذنا لإمكانات النص القرآني دلالياً غير ممكن، بحيث إننا حين نظن ذلك نكون قد استنفذنا أدواتنا، واستهلكنا مناهجنا ذاتها وليس النص!. ذلك لأن النص القرآني نزل ليكون «عالمياً» خاتماً، فلابدّ أن لا يتوقف عن إنتاج الدلالة في كل زمان ومكان.

القراءة المعاصرة: من انتقائية المنهج إلى التوليف الإيديولوجي

كانت المناهج التراثية في التفسير تحول دوماً دون إقامة تأويل إيديولوجي، يستغرق كامل النص القرآني، مما جعل التأويلات الآيديولوجية التي مورست عليه تبدو نشازاً وترقيعاً فاقعاً، بحيث قلّما تحرر هذه الآيديولوجيا دون تعسُّف في التأويل، وتحميل النّص ما لا يحتمل. وهذا ما عزز الطريقة التجزيئيّة التي أشرنا إليها في البداية.

ولكن مع القراءة المعاصرة التي استبدلت المناهج نشهد للمرة الأولى تأويلاً آيديولوجياً لكامل القرآن، فيه كثير من التماسك ومسحة المنطقية‍! بحيث أمكن إقامة «توليفاً» شاملاً للنص، أتاح فرصة للبعض لكي يحوّل نصوص القرآن وكأنها «حواشٍ ماركسية»! ينفي من خلالها الله ذاتهَ!.. إن قراءة شحرور المعروفة نموذج صارخ لذلك؛ بحيث أن هذه القراءة حاولت مخاتلة النّص القرآني وخداعه أحياناً من موقف مضادٍ له، أو معادٍ له، لاستنطاقه بإيديولوجيتها!.

وبوصول القراءة إلى هذا التطوّر والمقدرة، استبّدت المخاوف في أوساط الدارسين الإسلاميين على ما آل التأويل مع هذا العبث الفاضح بدلالات النص القرآني، والخوف من كل تأويل «معاصر»، خصوصاً عندما أصبحت تلك الممارسات الإيديولوجية التأويلية مقرونة باسم «القراءة المعاصرة».

لقد تسبب ذلك في تزايد الشك بالغرب؛ كونه مصدر تلك المناهج والأدوات وحتى الإيديولوجيات! وفي تشكيك البعض في قيمة تلك الأدوات والمناهج الحديثة جملة وتفصيلاً(24). فما هؤلاء جميعهم من السذاجة والبساطة بحيث تمرر عليهم تلك التوليفات الغارقة في وحل الإيديولوجيا، ولكنهم وهم بعيدون عن تلك المناهج والأدوات (بحكم القطيعة الناشئة بينهم وبين الغرب) لم يكن من سبيل في مواجهة تلك القراءات سوى باتهامها وفضحها(25).

ومن الضروري التمييز بين «القراءة المعاصرة» كنظرية، وبين «القراءة المعاصرة» كتطبيقات قائمة ومنجزة حتى الآن، فثمّ مسافة تفصل بينهما؛ بحيث يمكن تلك التطبيقات محاولات فيها الكثير من الخيبة. وإذا كان لنا أن نذكر فضل تلك القراءات، فإننا نذكر نجاحها في التنبيه إلى قيمة المناهج الحديثة، وقدرتها العالية على ممارسة التأويل، وإن كان ما تمّ ممارسته عملياً من تلك المناهج والأدوات حدّ ضئيل في الغالب؛ لا يتجاوز بعض المبادئ الأولية فيها (كالبنية، أو الدراسة التزامنية...) وهي مبادئ اللسانيات البنيويّة، أو بعض مقولات التأوّلية الحديثة، وبعض مقولات الأسلوبية.

وفي المقابل نذكر أن الطريقة «الإيديولوجية» التي وظّفت لها تلك المناهج تحت مظلّة المعاصرة و«التجديد» كانت سبباً في تصعيد التوجس من أي محاولة جديدة في التأويل أو المراجعة النقدية، وهو أمرٌ يضاف إلى المساوئ العديدة التي أفرزتها تلك القراءات.

غير أن بعض الباحثين لم يقعوا فيما وقع فيه غيرهم من اتهام للمناهج التي اسْتُخدمت في تطبيقات «القراءة المعاصرة» فقد كان وعيهم لطبيعة تلك المناهج، والطريقة التي استُغلت فيها عميقاً، مما دفعهم للإصرار على التعامل معها والاستفادة منها دون توجّس(26).

إشكالية المنهج:

تتميّز مناهج النقد الأدبي الحديثة وأدوات البحث الألسنية ونظرياتها بتنوع وتعدد واسعين، وداخل منهج هناك مدارس واتجاهات.. وعندما تمت محاولات «القراءة المعاصرة» للقرآن الكريم من خلال تلك المناهج، لابدّ وأنها اصطدمت بهذا التنوع والتعدد، فكيف إذن مارست حضورها من خلال هذا الواقع؟

من الطبيعي والحال هذه أن تكون طريقة التعامل مع تلك المناهج «انتقائية»، ولكن هذه الانتقائية قلّما تقوم على معطى معرفي، أي قلّما يفرضها البحث المعرفي نفسه، فقد قام «معيار» هذه الانتقائية طبقاً للإيديولوجيا التي يحملها القارئ! فمعضلة الإيديولوجيا تفرض نفسها دوماً في القراءة المعاصرة، هي مبدأ وغاية في الوقت نفسه، هي خلفية مستترة وهدف واضح، فقد اختارت منهجها تبعاً لقدرتها على «تبريرها»، واستنطاق النّص بها. وهكذا عندما مورست «القراءة المعاصرة» كان الهدف هو البحث عن شرعية إيديولوجيتها، وأفكار مسبقة مرافقة لها، ولم يكن الهمُّ هو البحث عن موقف تأويلي أكثر قرباً من الصواب قط!.

إذا تجاوزنا قضية الانتقائية تلك، فسيوقفنا ما أشرنا إليه قبل قليل من الإشكالية الحقيقيّة لتلك المناهج التي تتمثل في استخدام مناهج وأدوات بحث أُنشئت وصيغت لدراسة وبحث النّص البشري الإنساني ـ بمعنى أنها مفعمة بالوضعية ـ لدراسة نصّ «إلهي» المصدر، مفارق للوضعية البشرية؟

إن أية قراءة تتجاوز هذه الإشكالية دون حلولٍ، ستقوم ـ بشكل أو بآخر ـ بأنسنة الله (سبحانه)! وإن تحييد تلك المناهج والأدوات عن جرعتها «الوضعية» أمرٌ في غاية الصعوبة؛ ولكنه ممكن. ولا يمكن بحالٍ الاستفادة من تلك المناهج دون ملاحظة هذه الإشكالية ووعيها. فالشرط الأساسي للقراءة بتلك الأدوات والمناهج لتحقق مشروعيتها هو مراعاة خصائص النّص القرآني، أي تطويع تلك المناهج والأدوات لخصائصه كنّص ديني إلهي المصدر(27).

التراث والمعاصرة/ النّص والمعاصرة

هل تقتضي «المعاصرة» قطيعةً جذرية مع مناهج البحث التراثية وتراكماتها المعرفية حول النّص؟ لا شك أن القراءة المعاصرة نحت هذا المنحى متجاهلةً تلك الجهود، وعندما نحاول استكشاف خلفيات هذه القطيعة فإننا سنعثر على أسباب عديدة، أدت بمجموعها إلى الجهل بالتراث وانقطاع الصلة مسبقاً، مما يجعله عسيراً عن البحث، فضلاً عن ارتباطه «جملةً» بمفاهيم بسيطة ولا معقولة عن النّص.

في وقت يعكس فيه هذا الموقف ـ في المقابل ـ عجز القارئ عن تناوله والتواصل معه، عجزا ارتبط في كثير من الأحيان مع إيديولوجيته المنبتة عن التراث أصلاً.

إننا نستطيع أن نعزو ذلك (القطيعة الجذرية مع التراث) إلى شيء أكثر تأثيراً برأينا، وهو «الرغبة المحمومة» في المعاصرة والأخذ بالجديد(28).

المناهج التراثية في المحصلة جهود بنيت من داخل لغة النص، وعلى ضوء معايشته، وعلى وعي حقيقي لمفهوم «النص». وتتضمن الكثير مما لم يتم استنفاذه أو الاستفادة منه. ولا شك أن تجاهل أو تجاوز ذلك الإرث الأصولي الضخم خسارة جسيمة في حق مناهج البحث والتأويل المعاصرة في قراءة النّص القرآني، ولن نبالغ إذا قلنا إن بعض المقولات الأصولية متجاوزة في جوانب عديدة لمقولات تلك المناهج الأدبية واللسانية الحديثة، كما هي في الوقت نفسه قاصرة عنها في جوانب كثيرة أيضاً. ومع ذلك تبقى تلك المناهج قادرة على «قراءة مشروعة» بحدّ ذاتها؛ إذا تُجنّبت صيغتها الوضعية.

النّص القرآني بوصفه «نصًّا دينيًّا»، لابُدَّ أن ينتج دلالته باستمرار، فهو «لا يخلق من كثرة الترداد»، وبوصفه نصّاً لرسالة خاتمة (أبدية) لابُدَّ أن يكون معاصراً باستمرار، بحيث يصبح على الدوام «مجاوزاً للتاريخ، وأمام الظروف الإنسانية لا خلفها»(29). وإن البحث عن «تجديد» لمنهج دراسة النص القرآني ضرورة، ليست لعدم كفاية الخطاب التفسيري فحسب، بل لفتح آفاق معناه، وتفجير إمكاناته، فالنَّص القرآني يتجاوز دوماً المنهج بقدر مما يفتح للمنهج آفاقاً لقراءته.

*********************

الهوامش

(*) كاتب وباحث من الجمهورية العربية السورية.

(1) كان سؤال الحداثة مستحوذاً على عقول المجتمعات «غير الغربية» دائماً منذ ما سمي بـ"صدمة الحداثة" التي بدأت باللقاء بالغرب، وتبعاً للإجابة التي قدّموها كانت هناك ثلاثة تيارات تبرز باستمرار: التيار المتشبّث بالتراث، والتيار المتغرّب، والتيار الإصلاحي.

(2) مقال للشيخ محمد عبده بعنوان: العلوم الحديثة والعالم الإسلامي، منشور في مجلة الأهرام بدءاً من العدد (36) (نقلاً عن: عاطف العراقي، الشيخ محمد عبده: مفكراً عربياً ورائداً للإصلاح الديني والاجتماعي (بحوث ودراسات عن حياته وأفكاره، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 1995م، ص389-395).

(3). الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، تحقيق محمد عمارة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1972م، ج6، ص153، (نقلاً عن أبي عاذرة عطية سليمان، مشكلتا الوجود والمعرفة في الفكر الإسلامي الحديث: عند كل من محمد عبده ومحمد إقبال (دراسة مقارنة)، بيروت، دار الحداثة، ط1، 1985م، ص69-70).

(4) المصدر نفسه، ص70.

(5) طبع في القاهرة عام 1923م.

(6) بنت الشاطئ، عائشة: القرآن والتفسير العصري: هذا بلاغ للناس، القاهرة، دائرة المعارف، ط1، 1970م، (سلسلة اقرأ، 335)، ص38-39. وأشارت إلى أنه ولد في ظروف صعود العلمانية عقب ثورة عرابي، وأنه جاء ردّ فعل «ليريحنا من مهانة الإحساس الباهظ بالتخلف».

(7) طبع في القاهرة عام 1956م، ثم منع من التداول بقرار من لجنة الأزهر (انظر الذهبي، حسين. التفسير والمفسّرون، القاهرة، ط، 19، ج4) وقد صنّفه الذهبي تحت «لون التفسير الإلحادي»!.

(8) ظهر المصطلح لأول مرّة مع مصطفى محمود عام 1970م، في مقالات مجلّة «صباح الخير» المصرية، ثم جمعها في كتاب تحت عنوان: «القرآن: محاولة لفهم عصري»، طبع في العام نفسه.

(9) كما في محاولة مصطفى محمود نفسها.

(10) يمكن اختصار مفهوم «القراءة» على أنه «موقف من النّص»، وهو بذلك أكثر من «تأويل»، وإن كان يتضمنه. استخدم هذا المصطلح لدى الباحثين العرب بمعنى التأويل والتحليل غالباً. حول مفهوم «القراءة» انظر: خالد السعيداني، إشكالية القراءة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر: محمد أركون نموذجاً. لنيل شهادة الدراسات المعمّقة، تونس، جامعة الزيتونة، 1998م، ص).

(11) نعتبر طرح أمين الخولي لـ«التفسير البياني» إحياءً لمنهج تراثي، أكثر منه منهجاً جديداً، كونه لا يمت إلى المناهج الحديثة بصلة كبيرة. ولذلك نعتبر تجربة حاج حمد في العالمية الثانية البداية.

(12) انظر حول جهد أركون في ذلك، خالد السعيداني، م. س، صص.

(13) طبع في دمشق عام 1990م، الطبعة الأولى.

(14) يذهب اللسانيّان المعروفان وورف وسابير إلى أن اللغة مرتبطة بالثقافة، ولا تنفك عنها. وبذلك حين نفكر فإننا نفكر بلغة، وبالتالي فنحن محكومون بثقافة تلك اللغة، والتي تصبح مع الزمن تاريخاً. كما أن التأوُّلية كمنهج لتأويل النص قام أساساً على مبدأ ارتباط النّص بظرفه التاريخي؛ لأنَّ الوعي الإنساني مموقع في التاريخ ولا يستطيع تجاوزه. كما أن العالم فيرث يرى أن السياق جزءٌ من النّص، والتاريخُ من السياقِ. وقد اعتمد نصر حامد أبو زيد على هذه المقولات لإثبات تاريخيّة النّص القرآني (انظر: مفهوم النّص: دراسة في علوم القرآن، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط1، 1990م، ص24-ص28، والباب الأول من الكتاب يشير إلى ذلك، فعنوانه «النص في الثقافة (التشكُّل والتشكيل)» من ص29-ص112).

(15) انظر للباحث: ميتافيزيقا النّص القرآني: إشكالية النّاص والمعنى، مجلة الملتقى، العدد صفر، بيروت، الملتقى الفكري للإبداع، أيار/ مايو، 1999م، ص5.

(16) الجصّاص، أبو بكر الرازي الحنفي (ت370هـ)، الفصول في الأصول، تحقيق: عجيل النشمي، الكويت، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ط2، 1994م، ج1، ص307.

(17) يذكر كثير من الباحثين إلى أن استعمال كلمة «نص» في التراث الإسلامي والأصولي خصوصاً، كان محصوراً في درجات قوة الدلالة وضعفها (في القطع والظن). وفي الواقع أننا نعثر لدى الأصوليين استخداماً لمصطلح «النّص» أشهر تعريفات النَّص المعاصرة. فكان الأصوليون يفرقون بين الخطاب ويذكرون أن له أنواعاً، أما النّص فلا أنواع له، وللكلام أقسام، وللخطاب «مفهوم» أو «مسكوت عنه»، اصطلح عليه أحياناً بـ «دليل الخطاب»، و«فحوى الخطاب»، و«لحن الخطاب». أما النّص فهو إما وصف للدلالة، أو وصف للخطاب، حيث يعرَّف النّص أحياناً بأنه «خطاب يمكن أن يعرف المراد منه». لمراجعة هذه المصطلحات انظر على سبيل المثال: (الزركشي، بدر الدين بن بهادر الشافعي (745-794هـ)، تحرير: عبد الستار أبو غدّه، ومراجعة: عبد القادر العاني، الكويت، وزارة الأوقاف والشؤون الدينيّة، ط2، 1992م، ج6/ص636، ص639، ص673، ص684، وج1/ 463، وحول مفهوم النّص راجع: ج1، ص462). ولكن ورغم أن الأصوليين كانوا على وعي بمفهوم النّص والخطاب والكلام. لم ينظّروا لتحليل النّص مجرّداً عن كونه نصّاً قرآنياً، ولهذا يغيب مصطلح «النَّص» ويبقى مفهومه حاضراً في تقعيد البحث الأصولي في كثير من المواطن. بل إن قضايا الأصول أسست على التعامل مع النّص، الذي يتطابق مع استعمالاته المعاصرة.

(18) عياشي، منذر: قراءة الذات للقرآن، مقدمة ترجمة كتاب: القرآن وعلم القراءة، لجاك بيرك، بيروت، داء التنوير، حلب، مركز الإنماء الحضاري، ط1، 1996م، ص22.

(19) تشير إلى ذلك كل كتب الأصول في مقدّماتها التمهيدية.

(20) منير، وليد: النص القرآني من الجملة إلى العالم، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1997م، سلسلة المنهجية الإسلامية، 14-15.

(21) مزيك، سامر وفا: حرية العقل في الاجتهاد، بحث تمهيدي لمرحلة الماجستير، بإشراف الدكتور طيب الإبراهيم، بيروت، كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية، 1998م، ص30.

(22) بارت، رولان: نقد وحقيقة، ترجمة: منذر عيّاشي، الأعمال الكاملة، 3، حلب، مركز الإنماء الحضاري، 1994م، ص16.

(23) انظر: ميتافيزيقا النّص القرآني، م. س، ص4.

(24) يقول الدكتور البوطي ـ مثلاً ـ «كنت ولا أزال أستهين به، وأشكُّ في قيمته وجدواه» «إن الدعاة إلى العلمانية، ومحترفي الغزو الفكري من يسعى لاهثاً إلى شطب الدلالات التي تحملها نصوص القرآن والسنّة الصحيحة، وحشوها بدلالات ومعانٍ جديدة، باسم (اللسانيات)، وما يقتضيه قانون (اللسانيات)، أي أنهم يحاولون أن يجعلوا من (اللسانيات) هذه بديلاً عن قانون الدلالة العربية المنبثقة عن الاصطلاحات التوفيقية في ربط المعاني بألفاظها الدالة عليها، وبديلاً عن القواعد التوفيقية الأخرى المتبعة في فقه اللغة. وأذكر أن حواراً جرى في أحد المؤتمرات بيني وبين الدكتور محمد أركون وهو أحد الذين يصرّون على الاستعاضة عن قواعد فقه اللغة، وقاموس الدلالات اللغوية، مما يسميه (الألسنية)، ومن ثم فهو يقرر ضرورة تفريغ القرآن من المعاني، التي كانت منوطةً به إلى اليوم، وملئه بعد ذلك بما توحي به قواعد الألسنية هذه، وحسب فهمه وقناعته، وهي نفسها الترنيمة التي يشدو بها دعاة (القراءة المعاصرة)». وإن أعمال بعضهم للسانيات هو «عملُ من يحلم بأن يجعل من هذه التجربة وسيلةً خفيَّة للعبث بحقائق ثابتة في دين الله وكتابه عن طريق العبث بقواعد فقه اللغة». (انظر: مقدمته لكتاب: نبيل خياط، وإذ أعيد قراءة الجهاد، دمشق، دار الفكر، ط1، 1997م، ص12-13).

(25) كانت هذه هي مجموعة ردود الفعل التي قوبلت بها القراءات المعاصرة، والملفت للنظر أن المتخصصّين في الدراسات القرآنية والأصولية قلّما كتبوا ردّاً عليها.

(26) انظر في هذا المجال تجربة وليد منير في كتابه «النص القرآني: من الجملة إلى العالم»، م. س. ومنذر عياشي الذي قدّم مقاربة لسانية للنص القرآني في كتابه اللسانيات والدلالة «الكلمة"(طبع: حلب، مركز الإنماء الحضاري، ط1، 1996م، ص92). وهو مهتمٌّ الآن بإنجاز دراسة لسانية في القرآن بعنوان: جنون اللغة في قراءة القرآن (أعلن عنها في بعض كتبه). ونبيل خيّاط، الذي أعلن عن مشروع لدراسة مصطلحات القرآن، دراسة لسانية في مجالس جودت سعيد، حيث قدّم نماذج منها خصوصاً عام 1997م. ومارس شيئاً من ذلك في كتابه «وإذ أعيد قراءة الجهاد»،م. س، ص21-33.

(27) يرى الدكتور العلواني أن أزمة التعامل مع الكتب التي أنزلت على الرسل، ليست في رفضها، ولكن «في تعامل من أنزلت عليهم معها تعاملاً بشرياً، محكوماً بما تعارفوا عليه فيما بينهم من مألوف لسانهم، وأنه ليس شيئاً سوى ذلك، وتجاهلهم للفرق الكبير بين اللغة حين يستعملها الإنسان للتعبير عن مكنوناته، واللغة حين يستعملها خالقه ليضمّنها نوره وهدايته». (انظر: العلواني، طه جابر. تقديم كتاب: النص القرآني: من الجملة إلى العالم، م. س، ص11. وحول أثر تلك الخصائص النص القرآني: إشكالية النّاص والمعنى، م. س).

(28) نلحظ هذا جلياً عند أركون في مجموع جهوده.

(29) عياشي، اللسانيات والدلالة، م. س، ص13.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=14

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك