المؤسسات العربية وثقافة المراكز البحثية

إسلام فرحات

 

لعل من نافلة القول أن نؤكد على تصاعد الاتجاه داخل الدول الناهضة إلى الأخذ بنتائج البحث والاستقصاء الذي تقدمه مراكز متخصصة قادرة على إنارة الطريق أمام صانع القرار، وتوجيه بوصلته إلى الوجهة الصحيحة التي تحقق أهدافه من أقصر طرقها.وقد أضحت هذه المراكز أحد أهم ما يعتمد عليه صانع القرار في تلك البلدان في اتخاذ قراراته الحاسمة، سياسية كانت أو اقتصادية او تشريعية قانونية او حتى عسكرية..!!

وبحسب دراسة أعدها الباحث خالد وليد محمود بعنوان “دور مراكز الأبحاث في الوطن العربيِّ: الواقع الراهن وشروط الانتقال إلى فاعلية أكبر” فإن الباحثين اختلفوا في تحديد التاريخ الذي نشأت فيه مراكز البحوث والدراسات؛ فالبعض يتحدث عن بدايتها في صورها الأولى التي كانت في الجامعات الأوروبية في القرن الثامن عشر وكانت تعرف باسم “الكراسي العلمية”، وكان أولها نشأة كراسي الدراسات الشرقية في بولونيا وفي أوروبا وفي باريس؛ وأول ظهور لمركز أبحاث كان في بريطانيا سنة 1831م تحت اسم “المعهد الملكي للدراسات الدفاعية”، كما أنشئت أول وقفية في بريطانيا اسمها وقفية “ديمورنت” في جامعة أكسفورد؛ لتشجيع الدراسات الدينية.

وهناك تيار آخر يرى أن مراكز الأبحاث ظاهرة حديثة نسبيًّا في حقل العلاقات الدولية، بدأت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى حيث كانت بمثابة منابر للنقاش الجماعي أو لدراسة القضايا الساخنة التي تشغل المجتمع وصناع القرار.

أما في الولايات المتحدة فقد أُطلق على هذه المراكز اسم (Think tanks) التي ترجمت في العربية إلى (مراكز التفكير) أو (بنوك التفكير) أو (خزانات التفكير)، في حين أُطلق عليها في بريطانيا اسم “مراكز الأبحاث والدراسات”، لكن أثناء الحرب العالمية الثانية استخدمت عبارة (Brain Boxes) أي: “صناديق الدماغ”.

وقد كان أول ظهور لمركز أبحاث في الولايات المتحدة، وذلك من خلال تأسيس معهد كارنيجي للسلام سنة 1910م، وتلا ذلك إنشاء معهد بروكينجز 1916م، ثم معهد هوفر 1918م، ومؤسسة القرن 1919م. وعرفت مرحلة ما بعد الحرب الباردة توسع انتشارها ونشاطها ونفوذها في الدول الديمقراطية.

وبغض النظر عن تاريخ بداية تلك المراكز وهذه الثقافة التي انتشرت في العالم كلهن خاصة المتقدم، فإن نظرة على الأرقام تؤكد طبيعة التعاطي مع تلك الثقافة، كما تبين توابع إهمالها في عالمنا العربي أو ما يسمى بالعالم الثالث عموما عربيا أو غير عربي..

فمثلا تضم إفريقيا 550 مركزًا بحثيًّا، وآسيا 1197، في حين أن عددهم في أوروبا 1790، وفي أمريكا اللاتينية والكاريبي 722، وفي أمريكا الشمالية1912.. أما في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 329، وبحسب الدراسة المشار إليها سابقا فإن عدد مراكز الأبحاث حتى 2011م في الولايات المتحدة مثلا كان 1815 مركزًا بحثيًّا، وفي الصين 420، والهند 292، والمملكة المتحدة 286، وألمانيا 194، وفرنسا 176.

هذه الأرقام تعكس ثقافة الحكم والإدارة في تلك البلدان، وربما يتضح من خلال استعراض تلك الأرقام نتائج هذه الثقافة في طبيعة الاستراتيجيات والخطط التنموية ومردود ذلك على الفرد في تلك البلدان..

وهذا المردود هو السؤال المتكرر دائما لأولئك الذين يقيسون أهمية أي شيء بمردوده النفعي المباشر على المواطن، وهو معيار حيوي في إقناع الشعوب بتبني هكذا ثقافة وبالتالي اختيار الساسة على أساسها..

التأثير والجدوى

لكن السؤال الأهم ربما يتعلق بمدى تأثير تلك المراكز على صانع القرار على سبيل الحقيقة.. وهو سؤال يتعلق بالجدوى ولا يتعلق بالاستجابة.. بمعنى: هل لوجود مراكز الأبحاث أهمية فعلية لصانع القرار خاصة مع وجود الجامعات والاكاديميات؟ وليس السؤال بالطبع عن مدى اخذ صانع القرار بمنتجاتها فهي كما قلنا ثقافة مجتمع لابد من توطينها أولا…

وإجابة على سؤال الجدوى يقول د. عمر العبيدلي في دراسة له نشرها مركز الخليج للدراسات: وُجّه هذا السؤال للباحث والدبلوماسي الأمريكي المشهور، ريتشارد هاس، وقام بتوضيح كيف تكمّل مراكز الأبحاث المؤسسات القائمة، حيث إنّها تملأ الفجوة بين الحكومة والجامعات.

فيقول: يتطلّب العمل الحكومي متابعة تفصيلية يومية؛ ممّا يحرم الموظفين الحكوميين من الفرصة للتركيز، ومن وراحة البال، اللذين يعتبران من أهمّ عناصر البيئة المشجّعة للبحث العلمي. وأما الجامعات فهي تعاني من المشكلة المعاكسة، حيث إن بُعْدَ عملها عن القرارات الحكومية اليومية، والحرية الفكرية شبه المطلقة، يدفعان الباحثين الأكاديميين نحو الدراسات النظرية ذات الأهمية المحدودة – بحسب منظور صنّاع القرار.

وعلى سبيل المثال، يقوم الباحث المشهور أنتوني كوردسمان بدراسات أسبوعية، وشهرية، وفصلية، وسنوية، من خلال عمله، كخبير في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (Center for Strategic and International Studies) بواشنطن، تتناول أحدث المستجدات الأمنية الأمريكية. ونتيجة لدقّة، ورصانة، وسرعة إصدار دراساته، أصبح لها أثر ملحوظ، على تفكير كبار المسؤولين العسكريين الأمريكيين.

مثلاً نشر في يوم قمة كامب ديفيد (Camp David) – التي جمعت رئيس الولايات المتحدة باراك أوباما برؤساء الدول الخليجية – ورقة تحلّل ما حدث، وتقدّم توصيات لصنّاع القرار.

في المقابل لا يمكن للقادة العسكريين أنفسهم الاستناد على أعمال أساتذة الجامعة المرموقة جورجتاون (Georgetown) مثلا في قراراتهم اليومية؛ لأنّ دراسة الأستاذ الأكاديمي تستغرق عادة 3 سنوات أو أكثر، وتغطّي قضايا نظرية، وضعيفة الارتباط بالمستجدات اليومية، مثلاً: «ما هو الدور الأمريكي في الأمن الإقليمي الخليجي خلال آخر 50 سنة؟».

وإن سألت أكاديميّاً ما عن رأيه حول قمة كامب ديفيد، سيفكر في صياغة ورقة رصينة طولها 30 صفحة على الأقل، تتحدّث عن كلّ القمم السابقة، وتتطلّب أشهرًا، للإعداد، لكي يتشبّع المؤلف من خلفيّة شاملة حول الموضوع.

وإن قُدمت الدراسة إلى صانع القرار بعد إصدارها، سيعتبرها متأخرة؛ لأنّ اهتمامه انتقل إلى قضايا أخرى، فضلاً عن أنّه يجدها طويلة ومملوءة بمعلومات، لا تساعده على اتخاذ القرار الأفضل، حيث إنّه يفضّل الصفحات الثلاث المكثفة الموجزة، التي أعدّها كوردسمان.

هي إذن حلقة مهمة بين الدراسات الأكاديمية ضعيفة الارتباط بالمستجدات نظرا لاستغراقها في النظرية، وبين حاجة صانع القرار السريعة لفهم طبيعة الحاصل واستشراف المستقبل.

السؤال هنا

ماذا عن الوطن العربي؟ وهل تنقصه تلك المراكز أم تنقصه ثقافة تفعيلها؟ وما هي معوقات عملها إن وجدت؟

والإجابة في الحقيقة لا تتعلق بالأرقام ولا بالكوادر وإنما تتعلق ببعض المعوقات الأساسية، ومنها:

أولا: الإرادة السياسية:

في كثير من الأحيان تغيب الإرادة السياسية في وجود مثل تلك المراكز ودعمها والأخذ بتوصياتها نظرا لبعد هذا المنهج العملي عن المنهج المصلحي التي تقوم عليه أغلب الأنظمة في مثل هذا العالم النامي…

ثانيا: غياب الدعم:

وهي أزمة ناتجة عن السابقة، فغياب الدعم وعدم وجوده سبب رئيسي لتردي أوضاع كثير من الباحثين الجادين وإحجامهم عن إنشاء مراكز بحثية قادرة على الإنجاز، ومن ثم البحث عن فرصة للعمل في مراكز أبحاث غربية تقدم مزايا ومغريات يتمتع بها الباحث وتساعده على الإنجاز…

وبحسب إحصائيات اليونسكو فإن نسبة التمويل العربي للبحث العلمي تتراوح بين 1,.% إلى 3,.% في الوطن العربي كله، في حين تصل في بلاد مثل السويد وفرنسا إلى 3%..

أما دولة الاحتلال الصهيوني فتصل النسبة فيها إلى 4,7% من موازنة الدولة، في حين انها تخصص 30% من موازنتها العامة للتعليم العالي..

هذه الأرقام تؤكد الحالة المزرية التي وصلت إليها المراكز البحثية في العالم العربي، مما حدا ببعضها إلى الاتجاه لـ “التمويل الأجنبي” وهو ما اوقعه في مشكلات بعضها أمني وبعضها أخلاقي خاصة في بيئة غير خصبة للتعامل النزيه والشفاف.

المصدر: https://islamonline.net/23436

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك