العلماء العثمانيون: شيخ الإسلام نموذجاً

فاطمة حافظ

 

منذ تأسست الدولة العثمانية في أخريات القرن الثالث عشر الميلادي تقريبا احتل الدين ممثلا في المؤسسة الدينية موقعا بارزًا ضمن البنية الداخلية للدولة، وتعبيرا عن ذلك برز منصب “شيخ الإسلام” في وقت مبكر وتعددت صلاحياته وتمددت حتى صار يلي في الأهمية مباشرة منصب “الصدارة العظمى”.

تقليد إسلامي أم كنسي؟

هناك اتفاق بين المصادر على أن أول ظهور رسمي لمنصب شيخ الإسلام أي الشيخ الذي يترأس المؤسستان الدينية والقضائية كان في عهد السلطان مراد الثاني الذي عهد للملا شمس الدين الفناري بمنصب شيخ الإسلام عام 1424م، غير أن هناك اختلافا بينها في دواعي إنشاء هذا المنصب، إذ بينما يذهب بعض الدارسين إلى أن الدولة العثمانية لم تستحدثه من العدم وإنما هو امتداد للتقاليد الإسلامية المتواصلة عبر قرون التي تمنح بعض العلماء الراسخين في العلم مكانة خاصة في الدولة إذ تتمتع آرائهم الدينية بحجية وموثوقية، كما تمنحها لمن يشغل منصب “قاضي القضاة” ومعلوم أن شيخ الإسلام كان يُختار من بين قضاة الدولة المرموقين .

وعلى الجهة المقابلة ينحو بعض الدارسين الغربيين – كهاملتون جب وهارولد باون- إلى أن المنصب مستوحي من التنظيم الكنسي البيزنطي الذي يترأسه بطريرك القسطنطينية وحجتهم أنه لعب دورا مشابها للدور الذي لعبه شيخ الإسلام في الدولة العثمانية إذ كان يقوم بدور استشاري للدولة ودور آخر أكثر أهمية وهو التسويغ الديني لسياسات وقوانين القياصرة البيزنطيين ذات الطابع العلماني ، غير أنه لا يسعنا التسليم بالادعاء المتعلق بظهور المنصب لأن فتح العثمانيين للقسطنطينية جاء تاليا لتأسيس منصب شيخ الإسلام بحوالي ثلاثة عقود، فحتى ذلك الوقت لم يكن ثمة احتكاك مباشر بين الطرفين يبرر الزعم بأن العثمانيين تأثروا بالتقليد البيزنطي، ومن جهة أخرى فإن منصب شيخ الإسلام لم يستحدثه العثمانيون من العدم إذ كان معلوما لدى عدد من الدول الإسلامية فقد ظهر في العهود الأخيرة للدولة العباسية، كما كان منتشرا في أقصى الشرق الإسلامي في الهند وفارس منذ القرن الثالث عشر.

وبعيدًا عن هذه الأسباب وتلك فإن بعض الدارسين يرون أن المنصب أنشئ لتلبية احتياجات واقعية للدولة؛ ومن هؤلاء أكرم كيدو الذي يميل إلى أن السلطان مراد الثاني كان بحاجة ماسة إلى عالم معترف بسلطانِه بين العامة والخاصة حتى يستطيع إنقاذ الناس من الفتنة التي أثارها الشيخ بدر الدين في مطالع القرن الخامس عشر بعقيدته الباطنية وترهاته الدينية التي ترى الأديان على حد سواء، ويستطيع كذلك أن يحل المشكلات الدينية التي تعترض الدولة والأفراد على السواء .

وعلى أي حال فإنَّ المنصب الذي تأسس في الربع الأول من القرن الخامس عشر قد استمر طيلة خمسة قرون كاملة (1424-1922م)، وقد تعاقب عليه مائة وأحد وثلاثون شيخًا بعضهم يعد من كبار علماء الإسلام كمنلا خسرو في عهد السلطان محمد الفاتح، وإمام الثقلين ابن كمال باشا الذي تعين في عهد السلطان سليمان القانوني وخلفه تلميذه أبو السعود أفندي.

وفي الحقب الباكرة كان الشيخ يتولى منصبه لمرة واحدة فقط إلى أن يتوفاه الله إلا أن السلطان سليمان القانوني عزل شيخ الإسلام سيفي زادة محي الدين وهكذا أصبح العزل ممكنا بل صار هو القاعدة التي سار عليها الخلفاء من بعده، لكن احتمالية عودة الشيخ لمنصبه ظلت قائمة إذ تولى بعض الأشياخ المنصب بضع مرات كصنع الله أفندي الذي تولاه أربع مرات على فترات مختلفة، وبعض هؤلاء لم يكن عثماني الأصل كفيض الله أفندي الذي انحدر أجداده من تبريز، غير أن عربيًا واحدًا على الأقل قد تولاه وهو جلبي علاء الدين العربي أفندي في عهد السلطان بازيد الثاني .

العلاقة مع الدولة

تعددت مهام شيخ الإسلام وتراوحت بين المهام الدينية والتعليمية والقضائية، ففي البدء كانت مهمته الرئيسية إصدار الفتاوى للدولة والأفراد بوصفه مفتيا لاسطنبول، وفي عهد بازيد الثاني أضيف إليه مهمة التدريس في المدارس والمراكز التعليمية التي أنشأتها الدولة ، ثم أراد سليم الأول أن يضيف صلاحيات “قاضي عسكر” وهو أرفع منصب قضائي في الدولة إلى عهدة شيخ الإسلام علاء الدين الجمالي الشهير بالزنبيلي لكن ورعه وتقواه حالا دون قبوله ذلك إلا أنها أنيطت بمن خلفه من شيوخ الإسلام، ثم أضيفت له أخيرًا مهمة اختيار العلماء والقضاة للعمل في الوظائف المختلفة وكذلك تعيين شيوخ الطرق الصوفية.

ومع تعددية تلك المهام وتنوعها إلا أنها لا ينبغي أن تحجب عنا الأدوار التشريعية والسياسية لشيخ الإسلام فمنذ القرن السادس عشر لعب ابن كمال باشا وأبو السعود أفندي دورا بارزا في قوانين نامة التي أصدرها السلطان القانوني، وفي القرن التاسع عشر قامت مشيخة الإسلام بتقنين الفقه الإٍسلامي في “مجلة الأحكام العدلية”، ويبدو الدور السياسي أكثر بروزا فقد كان السلطان بحاجة إلى موافقة شيخ الإسلام قبيل إعلان حالة الحرب ومن ثم كان يطلب منه إصدار فتوى في حالات الحرب أو معاهدات السلام أو الاعدامات السياسية للمعارضين السياسيين أو في حالات التمرد والشغب داخل الدولة أو في أي من الولايات التابعة لها أو في حالة إقصاء بعض القيادات السياسية من مناصبها، كما كان يُطلب منه تأييد سياسات الدولة التحديثية التي كانت تلقى معارضة اجتماعية واسعة وضمن هذا السياق تبرز فتاوى جواز الطباعة وتحديث الجيش والمؤسسة الطبية.

وبالنظر إلى عظمِ مهام شيخ الإسلام وجمعها بين الشئون الدينية والشئون السياسية والتشريعية جنح بعض الدارسين الغربيين إلى أن المهمة الأساسية لشيخ الإسلام كانت إضفاء المشروعية الدينية على سياسات الدولة، غير أن هذا الادعاء تنقضه الوقائع الكثيرة التي شهدت معارضة لشيوخ الإسلام لسياسات السلطان ونذكر منها معارضة الشيخ علاء الدين الجمالي لأمر السلطان حين أمر بإعدام مائة وخمسين من حفاظ الخزائن وحاجج السلطان سليم في ذلك فغضب السلطان وقال له “إنك تتعرض لأمر السلطنة وليس ذلك من وظيفتك فأجابه بل أتعرض لأمر آخرتك وأنه من وظيفتي” ولم ينته الأمر إلا بتراجع السلطان عن موقفه ، من جهة أخرى ينبغي ألا نغفل أن عددا من شيوخ الإسلام قام بتقديم استقالته احتجاجًا على الأوضاع السياسية أو لخلافات مع الصدر الأعظم .

الخلاصة أن مؤسسة شيخ الإسلام لعبت دورًا محوريًا في توجيه السياسة العثمانية الداخلية والخارجية، ومع أهمية هذا الدور فإن الدراسات التي تناولته تعد قليلة نسبيا وجلها باللغات الأجنبية، ولذا فإن الحاجة ماسة لمتابعة البحث فيه بصورة أكثر عمقا على ضوء الوثائق العثمانية الرسمية وعلى ضوء الآثار الفكرية التي خلفها شيوخ الإسلام والتي تجمع بين المؤلفات الفقهية والمؤلفات السياسية.

المصدر: https://islamonline.net/23451

الأكثر مشاركة في الفيس بوك