ما الفرق بين أن نحيا وأن نعيش؟

فتحي المسكيني

 

في كتابه السلطة السيادية والحياة العارية (ترجمة فرنسية: باريس، سويْ، 1997)، نبّه الفيلسوف الإيطالي المعاصر جورجيو أغمبن، مستأنفاً بعض إشارات حنّا أرندت، إلى أنّ اليونان القدامى كانوا يشيرون إلى معنى الحياة بلفظتين اثنتيْن مختلفتين: zôè - (مجرّد الحياة الطبيعية بعامة) وbios - (طريقة الحياة أو نمط الحياة الخاص بالبشر). كأنْ نقول بالعربية: بين الحياة (وهو ما نتقاسمه مع النبات والحيوان والإله، مثلا) وبين "العيش" (الذي ينفرد به بنو البشر). كلّ الكائنات الحيّة لها zôè، ومساحة الحياة لديها أوسع من مدينة البشر، لكنّها لا تملك bios، وبالتالي لا تملك bios politikos؛ أي "حياة مدنية أو سياسية"؛ بالعربية: هي "تحيا" لكنّها لا "تعيش". وعلينا أن نسأل: إلى أيّ مدى يمكننا أن ندّعي، نحن "المحدثين" و"ما بعد المحدثين" (دونما انتماء قومي أو ثقافي حقيقي إلى هويّة الحداثة أو ما بعد الحداثة من داخل تاريخها الروحي الخاص)، أنّنا نلتزم بالفرق اليوناني بين مجرّد الحياة وبين رغد العيش؟ وهل هو فرق يصمد أمام المراجعة الفيلولوجية، إذْ يبدو مثلا أنّه فرق متعسّر في الكلمة اللاتينية vita؟ أم أنّ أغمبن قد قدّم صيغة متحجّرة أي مفهوميّة عن فرق سائل ومرن وغير مستقرّ بين zôè - اليونانية (مجرّد الحياة بعامة) وbios - اليوناني (طريقة الحياة أو نمط الحياة الخاص بالبشر)؛ وذلك دون سائر اللغات "غير الفلسفية"؟

ولكن ألا نعاني في كثير من المواضع من خلط مزعج بين مجرّد الحياة وبين معنى العيش؟ اللاّجئون مثلا، هل هم مجرّد "أحياء"؛ أي لهم "حياة عارية" (nuda vita)، حسب عبارة أغمبن، المأخوذة من القانون الروماني، أم يمتلكون "نمط عيش" يختصّون به؛ أي لهم "eu zèn؛ أي "حياة كريمة" (bonne vie)؟

هذا الفرق بين zôè (مجرّد الحياة) وbios (طريقة الحياة) من المؤكّد أنّه ليس ترفا خطابيّا أو صدفة لفظيّة، بل يبدو أنّه يخترق النصوص الفلسفية الأولى (أرسطو مثلا) كما يوجد عميقا في الكتب المقدّسة.

نذكر مثلا:

- أرسطو، كتاب النفس (المقالة الثانية خاصة)؛ حيث يميّز أرسطو بين "مجرّد الحياة" (وهي صفة كلّية لدى الحيوان والنبات بعامة) و"العيش" (اذي يعني عنده طريقة الحياة التي يتفرّد بها أو يختص بها كائن حيّ معيّن، لاسيّما الإنسان).

- الإنجيل (الذي كُتب باليونانية) يحتوي استعمالات تبيّن أنّ "الحياة الأبديّة" هي zôè (مثلا هي مذكورة 126 مرة: إنجيل متى 7: 14؛ 18: 8؛ 19: 16؛ لوقا 1: 75؛ 10: 25؛ 12: 15...)، في حين أنّ "لذّة العيش" أو حتى خيرات "المعاش" هي bios (مثلا: لوقا 8: 14؛ 8: 43؛ 15: 30؛ 21: 4/ يوحنا 2: 16؛ 3: 17..).

- هذا العارض التأويلي نجده أيضا، راسخا في النص القرآني: فالتمييز بين "الحياة" وبين "العيش" ليس فقط هو مستعمل بشكل بيّن، بل قد تمّ إثراؤه بمفردات أخرى من قبيل "الإحياء" و"المحيى" و"الحيوان" و"الحي" و"الأحياء" (وهذا مبثوث في جميع السور بشكل لافت جدّا، ولا نحتاج إلى حصره أو ذكره)، وذلك على خلاف مفردات العيش، فهي لئن كانت كثيرة أيضا في صيغها، من قبيل "العيشة" و"المعاش" و"المعيشة" و"المعايش"، إلاّ أنّ علينا أن نشير إلى أنّ لفظة "العيش" نفسها غير واردة في القرآن، علاوة على أنّ عدد الآيات الذي ورد فيه معنى العيش قليل جدّا (8 سور) بالمقارنة مع الآيات التي وردت فيها لفظة الحياة أو ألفاظ الحياة (ما يقارب 170 آية).

والسؤال الفلسفي هو: كيف نفهم هذا التوكيد على "الحياة" والإعراض إلى حدّ ما عن معنى "العيش" في نصّ ديني كبير ومؤّسس لأنفسنا العميقة، مثل كتاب القرآن؟ كيف نتأوّل أطروحة الأديان التوحيدية حول الحياة، وذلك في ضوء الآراء الفلسفية الأساسية حول طبيعة العلاقة بين الحياة والعيش من أرسطو، الذي دشّن أطروحة المماهاة بين "الحياة" و"النفس"، إلى هابرماس مثلا، الذي تساءل عن "مستقبل الطبيعة البشرية" في ضوء أطروحة "تحسين النوع" أو "اليوجينيا"، في عصر صار فيه "الاستنساخ" الجيني، وبالتالي التكنولوجي للبشر مطروحا؟ هل تاريخ أشكال الحياة هو تاريخ نماذج العيش؟ أم أنّ الحياة ميدان "بيولوجي" يجب أن يبقى حكرا على علماء البيولوجيا بجميع أطوارها؟ ولكن إلى أيّ حدّ بقيت "الحياة" مشكلا علمياّ صرفا، ولم تقع تحت سياسات العيش "البيو-سياسية" للدولة الأمنية الحديثة، كما أرّخ لذلك فوكو الأخير بشكل مثير؟ وإلى أيّ مدى يمكن المماهاة بين الشفرة الوراثية (ADN) وبين هويّة البشر؟ أو بين "الجينوم" البشري و"نمط العيش" البشري؟ ألسنا نبدو أكثر من جيناتنا في كل مرة؟

في حقيقة الأمر، لا يخلو كتاب فلسفي أساسي من أفلاطون إلى نيتشه ومن دلتاي وهوسرل إلى حنّا أرندت وفوكو وأغمبن ودريدا، إلخ... من طرح مثير حول معنى "الحياة". ومن ثمّ أنّ علينا أن نبني استشكالا مخصوصا، حتى نستطيع أن نستدعي المفاهيم المناسبة لمعالجة نمط الصعوبات الخاصة بمصطلح الحياة حين يستعمله الفلاسفة. ومن ثمّ، فإنّ التمييز الرشيق الذي أشار إليه أغمبن في لغة اليونان بين zôè - (مجرّد الحياة الطبيعية بعامة) وbios - (طريقة الحياة أو نمط الحياة الخاص بالبشر) هو لن يكون المقام الإشكالي الوحيد الذي يجدر بنا أن نعتمد عليه في بلورة مسألة الحياة. صحيح أنّ اليونان قد عرفوا، كما نرى إلى ذلك في كتاب أخلاق نيقوماخوس لأرسطو، وكما أكّدت عليه حنّا أرندت في كتابها الوضع الإنساني (1958)، التمييز بين "الحياة التأمّلية" (bios theoretikos) و"الحياة العمليّة" (bios praktikos)، إلاّ أنّهم لم يعرفوا طريقة المحدثين في طمس الفرق بينهما، وخاصة حرص الدولة الحديثة على بلورة نظرة "بيو-سياسية" تكسر الفصل اليوناني (أرسطو) بين bios (العيش الخاص بالمدينة، وهو معنى الحياة المدنية) وzôè (الحياة، باعتبارها تقع في مساحة "oikos" أو العيش في المنزل).

على الرغم من أنّ مفهوم "الحياة" (das Leben, la vie, the life..) قد ظلّ يعمل داخل نصوص الفلاسفة في كل العصور، فإنّه كان لابدّ من انتظار القرن التاسع الأوروبي، حتى يتبلور سياق فلسفي قادر على الاشتغال على الحياة، باعتبارها مشكلا محوريّا وليس طورا بدائيّا من طبيعتنا أو مجرّد موضوعة جانبية. ولكن منذ شوبنهاور ونيتشه فقط، صارت الحياة مفهوما فلسفيا حاسما. لكنّ دلتاي هو الذي بلور المفهوم الذي صار حسب غادمير منطلقا لتأويلية الحياة في أفق القرن العشرين، ونعني مفهوم "Erlebnis"، وما ترجمه الفرنسيون والإنجليز بعبارة تعني "التجربة المعيشة"، وهو مصطلح أدخلته الكانطية الجديدة في معجم الفلسفة بوصفه "المادّة نفسها التي تشكّل الوعي" (غادمير، الحقيقة والمنهج، ت. ع.، دار أويا، طرابلس 2007، ص 120).

يقول غادمير: "من المدهش اكتشاف أنّ الاسم Erlebnis، على خلاف الفعل Erleben، لم يصبح شائعا إلاّ خلال عقد السبعينيات في القرن التاسع عشر فقط، أمّا في القرن الثامن عشر فلم يكن موجودا بالمطلق، ولم يكن يعرفه حتى شيللر وغوته. وعلى ما يبدو، فإنّ أوّل ظهور له كان في إحدى رسائل هيغل...والظاهر أنّ هذه الكلمة قد دخلت الاستعمال العام في الوقت الذي بدأت فيه تُستخدَم في كتابة السيرة." (نفسه، ص121)

تكمن أهمّية هذه الإشارة الاصطلاحية في توقيتها الفلسفي: إنّ سياقا محدّدا هو الذي جعل نحتها ممكنا أو مطلوبا. وحسب غادمير من نحت هذا المصطلح هو هيغل، ولكن ليس هيغل النسقي (أي في مؤلفاته الكبرى، من قبيل فينومينولوجيا الروح أو علم المنطق ) بل هيغل اليومي، كاتب الرسائل، هيغل الذي لا "يدرك عصره في الفكر" فقط، بل يدركه أيضا في سيرته الخاصة بما هو "فرد حديث". وفضلا عن ذلك هيغل، وهو يتحدث عن "نفسه"، إذ إنّ العبارة وردت في أصلها بهذه الصيغة، حيث قال هيغل: "meine ganze Erlebnis"، "خبرتي كلّها" أو "تجربتي كلّها"، أو "تجربة حياتي بأكملها"...

يفيدنا هنا تعليق غادمير في هامش أثبته في كتابه الحقيقة والمنهج (نفسه، الهامش 112، ص 121) قائلا: "من الواضح أنّ هيغل كان يبحث عن مصطلح شامل لم يوجد بعد (كما يتكلّم عند استعماله كلمة Erlebnis في صيغة المؤنث)".

يهمّنا أن نطرح هنا السؤالين التاليين: 1. ما هو المعنى الذي نحت من أجله هيغل مصطلح Erlebnis؟ ثمّ 2. ما دلالة التأنيث هنا؟

لا يمكن الإجابة عن هذين السؤالين إلاّ بشكل مؤقّت. مثلا: أنّ "تجربة الحياة" التي أراد هيغل التعبير عنها كانت تتعلّق بهيغل "نفسه"، وليس بمشكل "الحياة" بعامة، وهو ما كان هيغل تعرّض له في أنحاء شتى من مؤلفاته النسقية. وأعلى دلالة للحياة عند هيغل الفيلسوف التأمّلي هي "الروح"، والتي تعني "الله" أيضا. إلاّ أنّه لابدّ أنّ معنى Erlebnis الخاص بهيغل /الشخص، إنّما يتعلق بشيء آخر غير المعنى النسقي أو الفينومينولوجي أو اللاهوتي أو المسيحي لمفهوم الحياة. ومن ثمّ أنّ Erlebnis لفظ يشير أوّلا وأخيرا إلى تجربة خاصة في الحياة، وليس إلى الحياة نفسها أو إلى الحياة بمجرّدها. كذلك: فإنّ تأنيث هيغل للفظة في أوّل استعمال لها لم تقع الإشارة إليه، إلاّ لأنّ الألمان من بعده قد ارتأوا إثبات صيغة المحايد للفظة (das Erlebnis)؛ وهذا الوضع "المحايد" مثير للتساؤل، لاسيّما وأنّه يشير إلى تجربة حياة لا يمكن أن تتمّ إلاّ بشكل "خاص" أو "حميم"، وبالتالي غير محايد تماما. والمفارقة هي: كيف نعيش بشكل غير شخصي؟ أليس هذا هو معنى مصطلح "مجرد الحياة"، والذي خو خاصية النبات والحيوان؟

ويهمّنا هنا أن نفهم طريقة غادمير في رسم ملامح تاريخ مصطلح Erlebnis في الاستعمال المعاصر، وهو استعمال دخل جميع اللغات العالمة مثل الفرنسية والإنجليزية، ولكن أيضا بما فيها العربية المعاصرة، ربما مع كتاب وشعراء الرومنسية، مثل جبران ونعيمة والشابي...

يرجع غادمير لفظة Erlebnis إلى الفعل Erleben الذي كان موجودا قبلها. وظهر في عصر غوته. يعني هذا الفعل: "أن تبقى حيّا، حيث يحدث شيء ما" (نفسه). المعنى إذن، هو تجربة شيء ما "بأنفسنا". هناك دلالتان إذن: 1. التجربة أو ما هو مجرّب، حيث أصبح ثمرة دائمة؛ 2. ما جرّبناه بأنفسنا أو بخبرتنا الخاصة.

هاتان الدلالتان توجدان حسب غادمير في معنى Erlebnis من حيث إنه "قد أخذ جذره من أدب السيرة. وجوهر السيرة- لاسيما سير الفنانين والشعراء في القرن التاسع عشر- هو أن تفهم الأعمال انطلاقا من الحياة."(نفسه). علينا أن نحتفظ بالمعنى المزدوج لمصطلح Erlebnis: أنّه في نفس الوقت شيء 1. مجرَّب؛ و2. له تأثير خاص لأنّه يتمتع بأهمّية دائمة في حياتنا (نفسه، ص 122). خيط الإشكال إذن هو وجه الربط بين معنى "التجربة" حين نقول إنّنا عشنا تجربة ما في الحياة (والذي يخرج عن المعنى الفيزيائي والعلمي للتجريب على الظواهر الطبيعية) وبين طريقتنا في عيش ما نجرّبه على أنفسنا، حيث تكون حياتنا نفسها هي مادّة التجريب (وكل مغامرات الفرد المعاصر، الوجودية منها والمجتمعيّة هي توفّر نماذج عيش أو "أشكال حياة" ذات توقيع خاص تماما في كل مرة). يتعلق الأمر إذن بنوع من "العيش الخاص" أو "العيش الحرّ"، ذاك الذي يتجاوز مجرّد الحياة، أي مجرّد الوجود مثل وجود النباتات أو الحيوانات. وعندئذ لا يمكن لنا أن ندّعي أنّ لدينا "نمط عيش" خاصّا، أي يحمل توقيعنا، إلاّ إذا كان هذا "المعيش" قد نجح في الجمع بخيط رفيه ولكن أصيل وصحّي بين أن "نجرّب" شكلا من الحياة بعامة وبين أن يحمل هذا التجريب توقيعنا الشخصي.

وتاريخيّا علينا أن نذكر عنوان كتاب وضعه دلتاي، هو يلخّص كل الإشكال الفلسفي الذي نريد بيانه، هذا العنوان هو "المعيش والشعر" (Das Erlebnis und die Dichtung)؛ إلاّ أنّ غادمير يلاحظ أنّ نشر الكتاب جاء متأخّرا نسبيّا، حيث لم يظهر إلاّ سنة 1905، بل أكثر من ذلك: إنّ دلتاي قد استعمل لفظة Erlebnis في المقالة المخصصة عن غوته، والمنشورة سابقا سنة 1877، لكنّه "لا يقدّم شيئا عن التحديد الاصطلاحي اللاحق للتصوّر"(نفسه). ويبدو أنّ دلتاي قد أتى إلى استعمال لفظة das Erleben / تجربة العيش، في سياق مقارنة عقدها بين غوته وروسو، ولكن ليس روسو صاحب المؤلفات النسقية، بل روسو الذي يسرد تجارب "الاعترافات" (Les Confessions). يقترن معنى تجارب العيش إذن بأدب السيرة، ولاسيما حين يكون على لسان المؤلف نفسه. هو بعبارة غادمير "المادة الأساسية للخلق التخيّلي بأسره" (نفسه، ص 123). ولكن لنحترس من أخذ معنى "السيرة" في المعنى المحصور للفرد المعزول وكأنّه صنم بلا ذاكرة ولا بيئة ضاغطة. نحن لا "نعيش" إلاّ بقدر ما نمسك خيطا سرديّاً بين تجربة شخصية وتاريخ مجتمعي في عصر معيّن. وإنّ السرد هو طقس العبور من مجرّد الحياة (وهو مشكل لا نسيطر عليه إلا بقدر ما نسعى إلى "معرفته") إلى معنى العيش الذي يخصّنا (وهو مسألة لا ننتمي إليها إلاّ بقدر ما نرغب في "فهم أنفسنا").

ولكن "من" بإمكانه أن يمسك هذا الخيط الإشكالي بين مجرّد الحياة وبين نماذج العيش في أفق أنفسنا العميقة من أجل إحداث "توقيع" محايد وشخصي في كرّة واحدة؟ - لا ريب أنّ المتنافسين على المعنى أو على معنى المعنى كثْرُ. إلاّ أنّ "الفيلسوف" بعامة هو الأجدر به. وذلك أنّه يوجد بلا رجعة بين "الحياة" (وهو اختصاص الآلهة أيضا) وبين "العيش" (وهو اختصاص الفانين). ولأنّ الإله "حكيم" (sophos) ومن ثمّ لا يحتاج إلى "طلب الحكمة" أو التفلسف (philosophia) ولا يجدر به ذلك (كما قال سقراط في محاورة المأدبة 204 أ أو فيلابوس 278 د)، فإنّ الإله "يحيا" لكنّه لا "يعيش". إنّه ليس كائنا "متناهيا"- قال هيدغر في درس شتاء 1928/ 1929: "أن نكون هنا في العالم بوصفنا بشراً هذا يعني أن نتفلسف. إنّ الحيوان لا يمكنه أن يتفلسف، والله لا يحتاج إلى التفلسف. إنّ إلهاً من شأنه التفلسف لن يكون إلهاً، وذلك لأنّ ماهية الفلسفة هي أن تكون إمكانية متناهية لكائن متناه".

وحده من يتفلسف، أي من يحتمل كينونته في العالم في جملتها بوصفها أمرا يدعو إلى التساؤل، بإمكانه أن يمسك بثقل انفعال المسافة بين مجرّد الحياة (مثل النبات والحيوان) وبين معنى العيش (مثل الفانين، ولكن القادرين أو المحكوم عليهم بأن يسائلوا عن معنى حياتهم). ومن ثمّة نفهم أنّ التفلسف لم يكن في أوّل أمره ادّعاء للحكمة (مثل الآلهة) أو علماً نظريّا معزولا عن عالم البشر، بل كان دوما "فنّا في العيش" البشري، باعتباره امتيازاً لا يتمتع به إلاّ "الفانون" أي الكائنات المتناهية التي أرادت أن تجعل من "تناهيها" فضيلة ميتافيزيقية وليس "خطأ" لاهوتيّا. وكان الرومان، كما بيّن ذلك فوكو الأخير في دروس تأويلية الذات، يعتبرون الفيلسوف "مستشارا في الوجود". وذلك يعني مستشارا في التدرّب على الإمساك المناسب بذلك الخيط الرفيع بين مجرّد الحياة وبين معنى العيش، وهو ما يتطلّب قدرة كبيرة على "التعايش" مع هذا النوع من "التجربة". وتعني الألفاظ الدالة على التجربة في اللغات الهندو-أوروبية، كما بيّن ذلك جان غرايش باقتدار، على معنى "العبور"، إلاّ أنّه عبور مشوب بنوع من "الخطر" و"المجازفة". الفلسفة هي تمرين مرح على العبور من مجرّد الحياة إلى معنى العيش الذي يجدر بنا أن نتقاسمه مع بني جنسنا من الفانين. وهذا يعني من دون أيّ "تألّه" قد يدّعيه أحدنا على الآخر؛ وذلك على خلاف أيّ دين مسلّح، يزعم أنّه يعلّم الناس العبور من "الحياة الدنيا" إلى "الحياة الآخرة" بواسطة القتل.

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D9%85%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D...

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك