خمسة قرون على الوجود العثماني: جدل التاريخ والإيديولوجيا

فاطمة حافظ

 

أطلت علينا في عام 2017 ذكرى مرور خمسة قرون كاملة على دخول العثمانيين للشرق العربي وذلك عقب انتصار السلطان سليم وجنوده على المماليك في معركة الريدانية الشهيرة عام 1517م، وعلى الرغم من تاريخية الحدث فقد أثار جدلا في مصر حول ما إذا كان يعد “فتحا” أم “غزوا”، والسؤال -على وجازته وسذاجته- يندرج بدوره ضمن الصراع الدائر حول هوية مصر المعاصرة هل هي إسلامية بحيث تنتمي إلى العالم الإسلامي ويُشكل الإسلام رافد رئيس من روافدها أم هي مصرية خالصة ذات امتدادات متوسطية ولا يربطها بمحيطها العربي الإسلامي إلا روابط واهية كما يردد أنصار القومية المصرية.

برز الصراع حول الهوية المصرية جليا عبر محاولات إعادة كتابة تاريخ مصر المعاصر الذي أعيدت كتابته مرات عديدة في أزمنة تاريخية مختلفة ليعبر عن التوجهات المختلفة لكل مرحلة، وعلى سبيل المثال فإن آخر التعديلات التي ضمها كتاب التاريخ للمرحلة الثانوية تختزل أربعة قرون من الحكم العثماني في حوالي صفحة ونصف تقريبا محملة بالأوصاف والنعوت السلبية لهذا العصر كـالجمود و”الانحطاط” و”التخلف”، وفي المقابل فإن الاحتلال الفرنسي الذي لم يزد عن ثلاث سنوات يشغل عشر صفحات كاملة ملؤها الثناء على صنيع الفرنسيين الذين وضعوا مصر على خارطة العالم الحديث بما حملوه إليها من المطبعة والطب الحديث، ويستخدم الكتاب في وصفه على الدوام مصطلحا محايدا هو “الحملة الفرنسية” فلا يوصف بأنه غزو أو احتلال أو ما شابه ذلك من المصطلحات ذات الحمولة السلبية.

فتح أم غزو

وعلى ضوء ذلك يمكن تفهم الجدل الذي أثارته ذكرى دخول العثمانيين إلى مصر في الأوساط الثقافية المصرية وبخاصة أنها تأتي في ظل تأزم العلاقات السياسية مع الدولة التركية، وعلى هذا شحذت الأجهزة الثقافية الرسمية كامل طاقتها للتنديد بالوجود العثماني واعتباره بقعة سوداء ضمن تاريخ مصر المعاصر[1] وعلى أي حال فقد تضاربت آراء الباحثين بشأن الوجود العثماني وكيفية النظر إليه وقد اختزلها تياران أساسيان:

تيار القائلين بالغزو: وهو يعتقد جازما أن الوجود العثماني لم يكن سوى احتلالا لمصر استمر بضعة قرون أفقدها استقلاليتها ومكانتها كدولة محورية في الشرق، والمنتسبين إليه هم من المؤرخين والمثقفين المحسوبين على الدولة (عاصم الدسوقي) أو المؤرخين المؤمنين بالقومية المصرية ممن يرون أن مصر تنتمي إلى الدائرة المتوسطية بأكثر من الدائرة الإسلامية (عماد أبو غازي، ناصر إبراهيم)، وهم يستندون في دعواهم إلى الحجج التالية:

1- أنه لم يكن ثمة مبرر يدفع العثمانيين إلى التوجه إلى الشرق “الإسلامي” متخلين بذلك عن فتوحاتهم في أوروبا “المسيحية” سوى الرغبة في السيطرة والهيمنة على الشرق.

2- المجازر التي ارتكبها السلطان سليم بحق المماليك والمصريين والتي ورد ذكرها لدى بعض المؤرخين المعاصرين كابن إياس تبرهن أنه لم يكن فتحا وإنما غزوا عنيفا استخدمت فيه القوة لإخضاع المصريين للحكم العثماني.

3- قيام السلطان سليم بنهب خيرات مصر واصطحاب خيرة العمال والصناع المهرة معه حين مغادرته القاهرة إلى استانبول، وقد تواصل هذا النهب المنتظم طيلة قرون من خلال الجزية السنوية التي كانت مصر تمد بها الخزانة العثمانية سنويا.

4- حرم الوجود العثماني مصر من تطوير قدراتها الاقتصادية والانطلاق صوب “الثورة الصناعية” وهو ما وقف حائلا دون تشكيل نخب اقتصادية وسياسية تكون دعامة النهضة المصرية.

تيار القائلين بالفتح: ويتشبث بفكرة أن الوجود العثماني لا يمكن نعته بالغزو أو الاحتلال، وهو يتشكل من المؤرخين المختصين بالعصر العثماني (نيلي حنا، حاتم الطحاوي، عماد هلال)، وبعض الدارسين للغة العثمانية، وحسب هؤلاء فإن الوجود العثماني لا يعد غزوا للأسباب التالية:

1- أن العثمانيين توجهوا إلى الشرق مدفوعين بعوامل موضوعية أهمها إمكانيات التحالف بين الصفويين والمماليك في مصر والشام.

2- لم يعمد العثمانيون إلى تغيير نمط الإنتاج الاقتصادي لصالحهم كما فعل البريطانيون حين ربطوا الاقتصاد المصري بعجلة الاقتصاد البريطاني وتوسعوا في إنتاج القطن ليمد المصانع البريطانية باحتاجاتها، وأعاقوا قيام صناعات مصرية.

3- لم يلجأ العثمانيون إلى تغيير لغة المصريين أو عاداتهم أو معتقداتهم كما فعل الفرنسيون في الجزائر.

4- لم يقابل المصريون العثمانيين بالثورة والاحتجاج؛ فخلال ثلاثة قرون كاملة ليست هناك ثورة واحدة موجهة ضد الوجود العثماني، وعندما ثار المصريون ضد الوالي التركي خورشيد باشا في مطالع القرن التاسع عشر كانت ثورتهم موجهة إلى عسف المماليك ولم تستهدف بحال المساس بالوجود العثماني أو إسقاط شرعيته[2].

وحين النظر في هذه الطائفة من الحجج والحجج المضادة نجد أن حجج القائلين بالغزو قابلة للنقض، فالدلالة اللغوية والاصطلاحية لكلمتي ” فتح” و”غزو” واضحة تمامًا، فالفتح هو دخول قوات غازية لبلد والسيطرة عليها والاستقرار فيها، أما الغزو فهو الهجمات السريعة أو الغارات التى لا تؤدى إلى النصر النهائى والاستقرار، ولذلك يقولون غزوة بدر وغزوة أحد، ولا يقولون غزوة مكة أو غزوة خيبر، بل يقولون: فتح مكة وفتح خيبر وفتح الشام وفتح مصر[3] ومن جهة أخرى فإن الاستناد إلى أقوال المؤرخ ابن إياس لا يعد حجة فهو أحد أبناء المماليك وحياده تجاه العثمانيين محل شك، أما القول بأن الوجود العثماني حرم مصر من إنجاز ثورتها الصناعية فينبغي أن نتذكر أن أوروبا نفسها لم تكن قد عرفت الثورة الصناعية في ذلك الوقت.

المركزية الأوروبية وتوظيفاتها

وعلى مستوى آخر من التحليل ثمة تشابه بين رؤية القائلين بالغزو مع نظرية المؤرخين الأوربيين حول المركزية الأوروبية، إذ يفترض الأخيرين أن تاريخ العالم في القرون الخمسة الأخيرة هو تاريخ أوروبي، وأن الشعوب غير الأوروبية كانت خارج التاريخ لأنها كانت في حالة ركود وخمول تام إلى أن حانت لحظة تلاقيها مع الغرب الأوروبي الذي حمل إليها مشاعل التنوير، ولذلك يكتب المؤرخ البريطاني هوج تريفور- رابر Huge Trevor-Roper  ما نصه “أعتقد أننا لسنا بحاجة للاعتذار إذا كانت دراستنا للتاريخ تتمحور حول المركزية الأوروبية”[4].

ووفقا لهذه الرؤية الغربية فإن شعوب الحضارات الكبرى الإسلامية أو الصينية أو الهندية يرد ذكرها في الكتابات الأوروبية باعتبارها هوامش تابعة للمركز أو أقاليم انحطاط وليس لها أي دور فاعل في التاريخ، وإنما يبدأ تاريخها الحديث في التشكل عند لحظة إلتقائها بالغرب، وجاء صغود هذه الرؤية في وقت كان الاستعمار الغربي قد بلغ ذروته فكانت بمثابة الواجهة الأكاديمية للإمبريالية الغربية بما روجته من أكاذيب حول انحطاط المناطق المحتلة وكون الاستعمار كان مدفوعا بنشر رسالة المدنية والتحضر في هذه المناطق الخاملة، وإذا كان المؤرخون الأوربيون قد وظفوا هذه المقولات لتبرير الاستعمار الغربي فإن المؤرخين المصريين يحذون حذوهم باستدعاء هذه المقولات التي تعرضت للنقد والتقويض مرارا وتوظيفها لخدمة أغراض سياسية لا تمت للتاريخ أو المعرفة التاريخية بصلة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] أنظر على سبيل المثال الملف الخاص الذي أعدته جريدة القاهرة تحت عنوان “500 عام على دخول العثمانيين لمصرhttps://getpocket.com/a/read/1976555838

وانظر أيضا مقال عرفة أحمد عرفة ” 500 عام على الغزو العثمانى لمصر مصـر الدرة الأغلى فى عمامة السلطان سليم

http://arabi.ahram.org.eg/News/105084.aspx

[2] عماد هلال، نظرية العصر الجاهلى فى تفسير تاريخ مصر فى العصر العثماني، القاهرة: جريدة القاهرة، 27 يناير 2017.

[3] نفس المرجع السابق.

[4] نقلا عن: نيللي حنا، مصر العثمانية والتحولات العالمية، ترجمة مجدي جرجس، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2011، ص 12.

المصدر: https://islamonline.net/23773

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك