الوعي الهرمينوطيقي وتجديد الفهم الدّيني (جدلية الإحالة والإستحالة)

محمد أحمد الخضراوي

 

إنسان الحداثة والمشروع الهرمينوطيقي:

 

ما تزال شروط إمكان القراءة اللاهوتيّة بعيدة عن المواصفات الموضوعيّة لكونها خاضعة للإكراهات الإيديولوجيّة ولابتزاز الثقافات المهيمنة. فهي لا تحظى باستقلاليّة تنأى بها عن التّوظيفات الانفعاليّة والإشكاليّة التّي تطغى على العلوم الإنسانيّة بصفة عامّة. فالقراءة، داخل هذا المجال محكومة بالعشوائيّة وبالتعسّف، لأنّها منقادة إلى التصوّرات السائدة وإلى المناهج المحتومة والتّقليبات الإيديولوجيّة اللاّمتناهية. وقد عملت هذه القيم المتنقّلة والعقليّات الاستبعاديّة على اجتثاث النصّ القرآني الكريم من حقيقته الميتافيزقيّة وتبخيسه واقعيّته الدّينية، فاختزلته إلى حادثة لغوية تتماثل مع مختلف النصوص البشريّة باعتبارها نظائر لسانيّة تتساوى من حيث البناء والتشكّل وعناصر التّركيب والبناء.

 

والواقع أنّ هذه المغالطة القصدية (المبيّتة) تخضع إلى ترسّبات وإلى أحكام مسبقة واستبداديّة تريد أن تنتهي بمقولة "الحدوث اللّغوي" إلى إلحاق القراءة القرآنيّة بالمناخات التخمينيّة والأنساق المنهجيّة التّي تنتجها العلوم الإنسانيّة في المجالات الأدبيّة، لتفرض التبعيّة على النصّ القرآني الكريم للنصوص البشريّة وللمناهج التّي ينتجها في الإنسان الرّاهن التّاريخي. ونحن بإزاء أزمة العلوم الإنسانيّة وقلب القِيَم ومصارعة الميتافيزيقيا، نلاحظ أنّ المناهج التّي تعرض لقراءة الكتاب الدّيني، ما تزال تحت خطّ الموضوعيّة لأنّها تهدر الوقائع الغيبية والحقائق الدّينية لصالح المقاربات النظرية والتمثّلات الذهنيّة التّي تمارس تحليل النصوص وفقاً لخلفيّات فكريّة وأحكام جاهزة. والقراءة بما هي إنتاج للمعنى، تخضع إلى تصوّرات ذاتية تنحدر من مجال التجربة الخاصّة بكلّ إنسان. أي أنّها تتنزّل في إطار المرئيّات والمدرَكات الحِسّية التّي يستمدّ منها النظام الذهنيّ مرجعيّته القرائية لتكون المواقف الافتراضيّة والنسبية أساس الصناعة المعنى، وليكون عالم الخيال هو العالم الموضوعي في حين أنّ آيات القرآن الكريم تحظى باستقلاليّة دلاليّة ومقاصديّة، لكن دون أن تطمس الواقع أو تعمل على تغييب الكائن المفكّر. فهي تحوّل على الواقع اليوميّ وعلى الوجود الطبيعيّ وعلى الحقائق الميتافيزيقيّة من خلال توسيع الدّلالة اللّغوية التّي تربط بين الأسماء والأشياء، والمفاهيم والمعاني. وهنا تظهر استقلاليّة الدّلالة الدينيّة عن المقاربات النظريّة والافتراضيّة المطروحة في مجال الإنسانيات، وليست ميسوريّة قراءة القرآن الكريم([1])، أي مقروئيته (قابليته للقراءة وللفهم ضمن مجال التلقّي والاستقبال)، إمكاناً لمشروعية تسوية الدّيني بالبشريّ، وتسويغ الإسقاطات المنهجيّة على قراءة الدّيني ونزع صبغته القدسيّة عنه وهذا توجّه، أسماه جابر ابن حيّان "علم الدّين الوضيع" لكونه بعيدا عن الموضوعيّة. بل إنّ "الميسورّة" دليل بذاتها على الحضور الإلهيّ في عالم النّاس عبر إعجاز القرآن وهو التّجاوز باللّغوي (تجاوز اللّغوي باللّغويّ) إلى آفاق التأمّلية والمطابقة بين متطلّبات العقل ومقتضيات الحقائق الروحانيّة.

 

وقد قايس جابر بن حيّان بين مدلولات العلم وعلاقتها بالكلمة الإلهيّة العُليا، حين كتب أنّ حدّ العلم الإلهيّ أنّه العلم بالعلّة الأولى، وحدّ علم الشّرع أنّه العلم بالسنن النّافعة إذا استعملت على حقائقها من الأشياء النّافعة فيما قبل الموت أو ممّا ينفع فيما بعده. وحد علم الدنيا الشّريف أنّه العلم بما أغنى الإنسان عن جميع النّاس في قوام حياته، وحد علم الدنيا الوضيع، أنّه العلم بما يوصل إلى اللذّات والمنافع وحفظ الحياة قبل الموت([2]). في ذات السّياق تحدّث الفارابي عن الفيلسوف الحقّ والفيلسوف البَهْرج  الذي تعلم العلوم النظريّة ولم يعوّد الأفعال الفاضلة، ولا الأفعال الجميلة، بل كان تابعاً لهواه وشهواته، وتحدّث عن الفيلسوف المزوّر ذي القصور الفكريّ الذي يضمحل وتضمحل أفكاره قليلاً قليلاً، والفيلسوف الباطل الذي يصنع صورة وهميّة للسعادة لا ينالها([3]). وهذا يعني، أنّ القراءة الدينيّة عملية التزامية وليست ممارسة مفتوحة على الجاهزيات الفكريّة والثقافيّة أو الدّوافع الذّاتويّة (المصلحيّة) لأنّ النصّ القرآني الكريم لا يخضع إلى المعطيات التجريبيّة، فرديّة كانت أو جماعيّة لكونه منتهى القول وأساس الدّلالة.

 

فالعبارة، يقول ابن عربي، تجوز منها إلى المعنى المقصود بها. ولهذا سمّيت عبارة، بخلاف الإشارة التّي هي الوحي، فإنّها ذات المشار إليه: الوحي ما تقع به الإشارة القائمة مقام العبارة من غير عبارة. فإنّ العبارة تجوز منها إلى المعنى المقصود بها، ولهذا سمّيت عبارة بخلاف الإشارة التّي هي الوحي فإنّها ذات المشار إليه. والوحي هو المفهوم الأوّل والإفهام الأوّل ولا أعجل من أن يكون عين الإفهام عين المفهوم منه. ألا ترى أنّ الوحي هو السّرعة ولا سرعة أسرع ممّا ذكرنا([4]). أي أنّ الوحي دليل بذاته على ذاته. وهذا يشبه قول ابن خلدون من جهة أخرى: إنّ الخوارق في الغالب تقع مغايرة للوحي الذي يتلّقاه النبي ويأتي بالمعجزة شاهدة بصدقه، والقرآن هو بنفسه الوحي المدعى وهو الخارق المعجز.

 

فشاهده في عينه ولا يفتقر إلى دليل مغاير له، كسائر المعجزات مع الوحي. فهو أوضح دلالة لاتّحاد الدليل والمدلول فيه([5]). فالوحي من مختلف الزوايا، ووفقاً لسائر التّحليلات، يشكّل نقطة مرجعيّة لحقول التجربة البشرية ولمجالات الثقافة والفكر متى ما أرادت البحث في الحقائق الدينية والميتافيزيقية بطريقة موضوعيّة ومتجرّدة من المسبقات اللادينيّة.

 

لأجل هذه المرجعيّة، كان المعمار القرآنيّ قائماً على جلاء العبارة وشفافيّة الدّلالة. يقول محمد الفاضل ابن عاشور: إنّ القرآن العظيم كلام دالّ على معانيه دلالة مأخوذة بالطريق الواضح العادي لدلالة الكلام العربي. فليس هو على ذلك بمحتاج إلى التفسير احتياجاً، ولكن حاجة القرآن إلى التّفسير إنّما هي حاجة عارضة نشأت من سببين: مناسبات النزول، والمتشابهات([6]).

 

 ويبقى التّأويل مع كلّ هذا، شرطاً منهجيّاً للفهم. لأنّ العلاقات الدلاليّة بين الأسماء ومسمّياتها الميتافيزيقيّة تتجاوز الإشارة الطبيعيّة والتجربة الحسّية إلى وظيفة تعبيريّة ذات بناءات ذهنيّة تجسّد اليقين من خلال المعرفة الدّقيقة لوظائف التّواصل الدّينيّ. فدلالات القرآن الأصلية التّي هي واضحة بوضوح ما يقتضيه من الألفاظ والتّراكيب، تتبعها معان تكون دلالة التّراكيب عليها محلّ إجمال أو محلّ إبهام. إذْ يكون التّركيب صالحاً على التّرديد لمعان متباينة يتصوّر فيها معناه الأصليّ ولا يتبيّن المراد منها، كأن يقع التّعبير عن ذات بإحدى صفاتها، أو يكنّى عن حقيقة بإحدى خواصها أو أحد لوازمها، على الطرائق البيانيّة المعهودة في اللّغة العربية وغيرها، فينشأ عن ذلك إجمال، يتطلّب بياناً أو إبهام يتطلّب تعييناً([7]). وهكذا، رسم محمد الفاضل ابن عاشور، المرتكزات التقنيات لفعل التّأويل الدّيني المنضبط.

 

وفي ذات السّياق، وفي تلاقٍ تأويليٍّ بين المنظور التّأويلي المسيحي الذي يُحيل فيه شلايرماخر فعل التّأويل إلى لغة النصّ في تشكّلها القواعديّ (النحْو) من جهة، وإلى العلوم عامّة من جهة ثانية([8]) وبين الفكر التّأويلي في الإسلام، يطرح محمد الطاهر ابن عاشور المسألة العلوميّة بشكل واضح، وهو ينتقد نمط الدّراسة والتّدريس بجامع الزّيتونة ويقوم بتوصيف آليات طلائعيّة للقراءة الدينيّة، منفتحة على علوم العالم: "إنّ الكتب القانونيّة التّي تدّرس بالجامع الأعظم، أكثرها من المؤلّفات القديمة التّي تغيّرت الآن مسائلها تغيّراً واضحاً على أنّ كثيراً قد ترجمت فيها كتب جديدة مناسبة وكثير بقي غير مترجم للعربيّة مثل الجيولوجيا (علم طبقات الأرض) والتّاريخ الطّبيعيّ والاقتصاد وعلم العمران والفلسفة.

 

أمّا كتب الفلسفة عندنا مثل "المواقف" فهي مأخوذة من فلسفة اليونان مغيَّرة بما يناسب قواعد علم الكلام. فلا ينبغي أن تكون معدودة لدراسة الفلسفة. وبالجملة، فالحاجة اليوم إلى مترجمين نابغين لينقلوا ما يحتاج إليه من هاته العلوم لأهل اللّسان العربي فيكفوهم كلّ الخبط في ما لا طائل تحته، ويسمو بهم إلى منزلة قرنائهم من الأمم المعاصرة. ونحن وإنْ كان بين يدينا من كتاب بعض هاته العلوم ما يسدّ الخلة، مثل الحساب والجغرافيا والهندسة والمساحة والهيئة، ولكن أي نحن عن الطبيعة والكيمياء والجيولوجيا والفسيولوجي والزوولوجي وحوادث الجوّ، والطبّ والرياضة البدنيّة والاقتصاد والسياسة، والتّاريخ، وعلم العمران، والفلاحة، والصّنائع، والفلك، والجبر، وتهذيب الأخلاق، والتجارة، والموسيقى([9]).

 

ولا شكّ أنّ مثل هذا الإجراء المنهجيّ لتطوير بنية الفهم الدينيّ لا ينتظم إلاّ من خلال المحتويات العلميّة التّي حضّ محمد الطاهر ابن عاشور على دمجها في صلب الدّرس الدّيني. وهو في ذات الوقت، يرتقي بنسقيّة الاستقبال العلميّ للمعارف الشرعيّة عبر مكتسبات الحداثة ومنجزاتها. ولا شكّ أنّ تجديد العقل الإسلاميّ بهذه الطّريقة العلميّة يهدف إلى توسيع دائرة المعنى ومواءمته للوقائع وللزمنيات التاريخيّة التّي يتعاطى خلالها المتلقّون مع الكتاب الكريم تفسيراً وتأويلاً، لأنّ  قراءة القرآن بحث دائم ومتجدّد عن المعنى. والكائن المفكّر (القارئ) هو وحده المسؤول عن تمثّل الدّلالة وفقاً للروابط المعرفية التّي يقيمها مع سائر العلوم انطلاقاً من العبارة القرآنيّة. أي أنّ النّصوص الدّينيّة، بلغة الألمانيّ شلايرماخر، تؤوَّل وفقاً لخصوصياتها التّي لا تفهم إلاّ في إطار العالميّة([10]).

 

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ نظرتنا إلى التّأويل القرآنيّ سترتبط نظريّاً بالمفاهيم والطروحات التّأويليّة الرّاهنة التّي سنرسم تصوّراتها وتطوّراتها عبرالمنطلقات الزمانيّة للمصطلح المذكور. ونحن نرى أنّ النّظريات الفكرية والثقافيّة الكبرى في العالم تتناقض وأنّ الشّروخ والتصدّعات التّي تحدث على مستوى المعتقدات الدّينية تعكس آثار الصخب الإيديولوجيّ المتولّد عن هذه التناقضات، زالذي يُهيمن على الأجواء الثقافيّة وعلى العقل الاجتماعيّ العالميّ. ويظلّ التّأويل الإسلاميّ متغايراً في مساراته الإجرائيّة المتعلّقة بأصول الدّين وثوابته نظراً إلى التزامه بالقضايا العمليّة التّي يترتّب عنها الحلال والحرام، إذن لا تكون إلاّ دقيقة وصحيحة ومستندة إلى أدّلة نقليّة([11]). لذا، كانت قوانين التّأويل تستبعد الجوانب الذاتويّة في قراءة النصّ القرآنيّ الكريم، وهي التّي يتجاوز أصحابها حدود الموضوعيّة ليفسّروا القرآن بالاستحسان وبالهوى ويضعون الكلام على غير موضعه كما قال ابن عبّاس([12])، أو يدعون أنّ النّصوص ليست على ظاهرها بل لها معان باطنيّة لا يعرفها إلا المعلّم وقصدهم نفي الشّريعة([13]). وهذا يشبه اعتبار أركون النّصوص الدّينيّة مجازات عالية([14]) خالية من الواقعيّة، لينفي بذلك كلّ الوقائع الدينيّة المشخصّة في الحياة اليوميّة على مدار التّاريخ، وهو وهم وخيال إيديولوجي لا يستقيم إنْ على المستوى النظريّ أو على المستوى الإجرائيّ، لأنّ حدود الأشياء لا تدرك بتناسخ الأفكار الإقصائيّة، وإنّما بالإبحار العلميّ في فضاءات اللّغة وتقنيات القراءة الدينيّة بعيداً عن التّخمينات والافتراضات وإلزام النصّ بما لا يلزم من المفاهيم الجاهزة والقيَم المنقولة. ذلك أنّ التّأويل أو فنّ الفهم، هو نمطٌ من الإدراك والفهم والاستيعاب ليس القارئ ببالغه إلاّ عبر نظام الاجتهاد، بما في المصطلح من تعبير حقيقيّ عن بذل الجهد واستنفاذ الطاقة الذّهنية من أجل البلوغ بالعبارة إلى أقصاها والنفاذ إلى مكامن الدّلالة الباطنة حتّى تتكشّف حقيقة المعنى. وهنا، نلاحظ أنّ التّأويل يتناقض مع التبعيّة الفكريّة من جهة، وأنّ حرّية القراءة ليست شأناً إيديولوجيّاً، وإنّما هي خصائص ذاتية للقارئ تعكس شخصيّته العلميّة. ونحن نرى، أنّ هذه المواصفات التحرّرية تتسوّغ بالمبادئ الشرعيّة ذاتها. فقد استطاع نولدكه أن ينفي عن النبي محمد أنْ يكون تعلّم القرآن عن أحد من النّاس، لأنّه استبعد "أن ينزلق شخص متفوّق وواثق بنفسه مثل محمّد إلى تبعيّة أحد معاصريه([15]). فكانت الحرّية أساساً لإثبات النبوّة ولكلّ عقل يسلك ذات المسار.

 

 

الهرمينوطيقا والتلقّي الجديد: شكّ القراءة:

 

حين افتتح ديكارت الحداثة الفكريّة، جعل الأنا محوراً للحقيقة، ومنح الذّات البشريّة الواعية موقعاً مركزيّاً في قراءة العالم وبنائه عقلانيّاً من خلال الكوجيتو الشّهير([16]) الذي افتتح عصر الحداثة الفلسفيّة([17]). وحين لخّص العقلانيّة في كونها قناعة ذاتية وتجربة إدراكيّة تحصل للكائن المفكّر عن طريق التّحليل والاستنباط، زعزع هذه العقلانيّة، فنفى عن الإنسان – المفكّر كلّ إمكان للتّفكير الموضوعيّ والحيادي، لأنّ فعل الإدراك لا يتمّ إلا من خلال التصوّرات والعواطف والمشاعر المتضاربة، فتغلب بذلك المغالطات والتخيّلات والأوهام على الحقيقة الموضوعيّة وعلى المعرفة الشّفافة([18]). ومثل هذه التصوّرات للسانيات المفهوميّة لذى الإنسان، جعلت الكوجيتو الديكارتي أكثر شساعة وقابليّة للتّأويل، لأنّه، كما حدّث بذلك دولوز، مفهوم إبداعيّ مفتوح على عديد الاحتمالات المسبقة والضمنيّة والذّاتية، وكلّها تسوّغ للكائن البشريّ، أيّاً كانت مداركه العقليّة، إمكانات الفهم الثقافيّ، كما هو الحال بالنسبة إلى الشخصيات الحواريّة مثل الفلاسفة أو الأخرى الطبيعيّة (فاقدي الذّكاء) أو بالنسبة إلى الشخصيات المفهوميّة (المصابين بالعتَه) غير أنّنا في مجال الحياة العمليّة لا نفرّق بين مختلف هاته الفئات (الحوارية والطبيعية والمفهوميّة)، فالشخصّيات المفهوميّة (المعتوهة) قد تسكن أجساد الفلاسفة حين تتباين أشكال التّفكير ويتناقض الفكر مع الواقع وينعدم التّمييز([19]).

 

من أجل هذا، أقرّ ديكارت في التّأمّل الميتافيزيقيّ الثالث، المشار إليه أدناه، بعدم الكمال الذّاتي للإنسان-المفكّر، نظراً إلى الخلل الإدراكيّ والقصور المفهوميّ اللّذين تتّصف بهما الطبيعة البشريّة في الفهم وفي التّفكير وفي الاستقبال الذي يتمّ على نحو شكوكيّ يدعم التمشّي الافتكاري المُعلن في الكوجيتو كأساس للطريقة عنده (مقالة في الطريقة)([20]). والشكّ الديكارتيّ، هو شكّ قصديّ، مؤقّت ومنهجيّ، وليس شكّاً ريبيّاً قائماً على النفي الأعمى لكلّ شيء، فهو طريقة للوصول إلى الحقيقة وإلى اليقين من خلال الوظيفة النقديّة التّي تتمحّص بها الأشياء وتستبين صدقيّتها. وهو من جهة ثانية يؤكّد مبدأ الذّاتية، لأنّ تحرّر الكائن المفكّر يبدأ من تدمير المسبقات الفكريّة التّي تشكّلت بها مكوّناته الذّهنيّة. لذا، كان هذا الشكّ المنهجي ذا خصوصيّة عند ديكارت، لأنّه يستهدف الموروث السكولائي (المدرسي) المتمثّل في نظام التّدريس الخاضع للكنيسة بطريقة تقليديّة تكرّس الحفظ والاستنساخ وتمنع التحليل والنقد([21]).

 

ولهذا، توزّعت مبادئ الطّريقة عنده إلى أربعة: أوّلها، التمحيص الدّقيق لكلّ معلومة متلقاة حتّى تثبت صدقيّتها ويستحيل التشكّك بها. والثاني: توزيع الإشكاليات محلّ الدّراسة إلى وحدات وأجزاء يتسنّى معها إيجاد الإجابات والحلول. والثالث، هو توجيه البحث في تسلسل منظّم ينطلق من البسيط إلى المركّب. والمبدأ الرّابع يتمثّل في تصنيف الأجزاء والعناصر المقسّمة، وإحصائها من أجل إنجاز عمليّة الفحص والاستقصاء واستخلاص النتائج([22]). والجدير بالملاحظة، هو أنّ المنهجيّة المذكورة في الوعي بالأشياء، لا تسعى، بحسب ديكارت، إلى البحث عن تخطئة المواضيع محلّ الدّراسة والبحث ولا تعمل على نفيها([23])، وإنّما سعت إلى إثبات وجود الذّات المفكّرة ضمن إطار الحرّية، ولهذا،كان المنهج الديكارتيّ أساساً للتّشريع الديمقراطيّ ولسيادة الإنسان في العالم([24]). وستظلّ الحداثة تدين بالعقلانيّة لديكارت([25]). وعقلانيّة ديكارت منهجيّة لأنّها تعتمد على نقد العقل ذاته. أي أنّها ليست تلك العقلانيّة الدوغمائيّة التّي ينغلق فيها العقل على ذاته ويُقصي كلّ ما عداه، إنّما هي العقلانيّة النقدية التّي تخضع بطواعية للشكّ وللنّقد الذّاتي ([26]).

 

وهكذا، نستحصل من الشكّ الديكارتي ثلاثة أمور: أوّلها أنّ الشكّ قصديّ إراديّ، إلاّ أنّه طريقة لإدراك الحقيقة عبر النّقد وليس عبر النقض المسبق والنفي المبيّت مع سابق التصوّر والإصرار، لذلك كان مؤقتاً ومنهجيّاً. والأمر الثاني: يتمثّل في تأكيد مبدإ الذّاتية، ويعني استقلاليّة التّفكير، لأنّ الإنسان في اعتبار "ديكارت" "شيء مفكّر"([27]). أي أنّه عقل لكنّه لا يمتلك صفات الكمال والإطلاقية والتّعالي. لأنّ العقل أو الرشاد، كما يسمّي ذلك ديكارت، ليس صياغة بشريّة، وإنّما هو عطاء إلهيّ([28]) فلا يكون سلطة مطلقة بإزاء الحقائق السماويّة المنزّلة بالوحي([29]). والأمر الثالث، هو أنّ الشكّ ينتهي إلى التفكير الحقّ، وهو معرفة الله سبحانه وتعالى. فيتحوّل العقل المتشكّك إلى عقل إيماني، حين يكتشف من خلال الظواهر والأفعال الميتافيزيقيّة، الحقيقة الموعيّة وهي أنّ الله وحده هو الممسك بنظام العالم، ثمّ يُدرك مواصفات هذا الإله، بما هو المُهيمن والقادر الذي لا نهاية لوجوده ولا حدود لكماله([30]).

 

ويترتّب عن هذا السياق، أنّ الشكّ الديكارتيّ-القصديّ، تأسّس على العلميّة التّي انتهت به في ميدان الإيمان، إلى الاعتراف بالوجود الإلهيّ الأسمى، وذلك بعد أن تشكّك بالإنسان- الشيء المفكّر المسكون بالخطإ وبالوهم، والذي يبحث في ذاته على المطلقيّة وعلى اللانهائيّة، دون أن يطالهما، فكان ذلك، في ذاته، دليلاً على وجود مطلق ولا نهائيّ لله ذي الجلال والكمال، فتحوّلت معادلة الكوجيتو طبقاً لهذا التّأسيس الفلسفيّ إلى المقايسة التالية، "أنا أشكّ، إذن أنا موجود. أنا أشكّ، إذن فالله موجود"([31]).

 

يتبيّن من خلال سياق المؤلّف، أنّ التقديس مسألة فكرّية – اعتقاديّة لأنّها تدخل في إطار الكلّيات الإيمانيّة. لذلك تتباين، بهذا المنظور الفلسفيّ، مع المعتقدات اليهوديّة والمسيحيّة التّي تعتمد تجسيد الله وتشخيصه في مجال الإيمان الميتافيزيقيّ وخلق العالم. ونودّ، قبل إقفال القول في منهج التفكير الفلسفي الجديد الذي تأسّس مع ديكارت، أن نتبيّن أنّ منتهى ما بلغه هذا المفكر العقلاني، هو إدراك المسافة المفهومية التي تفصل مجال المقدس الإلهي عن المجال البشري الذي لا يكون إلا دنيويا ومحدودا في دنيويّته. وسنختزل القول بإجراء مقاربة بين هذه الرؤية الفلسفيّة ونموذج من الإدراك الإسلامي، كما ورد في كتاب "قانون التّأويل"، يرى أنّ إهدار مفهوم "المقدّس"، كما يؤدّي إلى الشكّ الارتيابي الذي ينفي الحقائق الدينية، يؤدّي إلى تشويه الدلالات الغيبيّة. فالعقائد اليهوديّة والمسيحيّة ألْغت حقيقة الإله الواحد الأحد فوقعت في الخلط والتشويه والتشبيه وفي كثير من الخيالات (اللاّعلميّة). يقول محمد بن العربي مناهضاً معتقد التجسيد ومحقّقاً لمعنى القداسة: "وليس يخفى أنّ من اعتقد أنّ الباري يحويه مكان أو يشتمل عليه زمان، باطل بالأدّلة المعلومة فيه القاطعة عليه([32]). وقد جعل سبب التّلبيس على هذه المفاهيم، يتعلّق بالانزياح والعدول عن ظواهر الدلالالت الدينية([33]).

 

أمّا الرّفض للمعاني الغيبيّة، فهو مناهض للمبادئ الإسلاميّة متى تعلّق الأمر بقضايا الميتافيزيقيا: "وأمّا من اعتقد في الدّار الآخرة أنّها خيالات وتمثيلات، فلا يخلو أن يريد به أنّه لا معنى لها، ولا حقيقة وراءها، فهذا مذهب النّصارى والفلاسفة، وهو باطل قطعاً، لأنّ فيه تكذيب الرُّسل، والحكم عليهم بالاستخفاف بالنّاس والتّغرير بهم([34]). بهذا المعنى، تكون القداسة هي اعتقاد الكمال، وعدم تشبيه الله بما عداه من الكائنات الوجوديّة "واعتقِد (بكسر القاف) التّقديس لمن قال وصمّم ) ] لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [(سورة الشورى: 11)([35]).

 

ذهب محي الدين بن العربي إلى أنّ الذّوات المقدّسة نوعان، هناك ذوات مقدّسة لذاتها، وهي كلّ ذات كونيّة لم تلفت قطّ إلى غير الاسم الإلهي الذي تكوّنت عنه، ولم تحجبها الدنيا عن الله. وهي مرتبة لم ينلها غير النبي محمد صلى الله عليه وسلّم. وهناك وذوات مقدّسة تقديساً لا من ذاتها (تقديس عرضي) بسبب الغفلات والانقطاعات المتكرّرة عن الله. أمّا الذّوات المحجوبة عن الله بالدّنيا، فهي ذوات غير مقدّسة([36]). والقدس الطهارة، يقول محيي الدين بن عربي: وهي ذاتية، فالله هو "القدّوس" والقدس حقيقة إلهيّة تسري في المقدّسين، وعرضية تتعلّق بالإنسان كلّما ارتبط بالحقائق الإلهيّة. وهذه القداسة معنوية أساساً ويتفاوت النّاس فيها. من ذلك تقديس النفوس بالرياضة والمجاهدة. وهي تهذيب الأخلاق. ومنها تقديس المزاج بالمجاهدات، وتقديس العقول بالمكاشفات والمطالعات وتقديس الجوارح بالوقوف عند الأوامر والنّواهي المشروعات. وما يبيّن أنّ هذه الطهارة معنويّة قول النبي صلى الله عليه وسلّم لأبي هريرة حين كان جُنباً، فانتزع أبو هريرة يده من يد النبي صلى الله عليه وسلّم تعظيماً له لكونه غير طاهر لجنابة أصابته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "إنّ المؤمن لا ينجس"([37])، فعرَق المؤمن طاهر وسؤره طاهر([38]). وضروريّ أن يكون مدلول الطهارة معنويّاً، لأنّ الله تعالى منزّه عن الجسميّة والحيز، كما يقول الرّازي. فالله تعالى ليس بمتحيّز ولا يختصّ بشيء من الجهات، وأنّه  تعالى غير حالّ في العالم ولا مباين عنه في شيء من الجهات (...) وقد اتّفق الفلاسفة على إثبات موجودات ليست بمتحيّزة ولا حالّة  في المتحيّزة مثل العقول والنفوس والهيولي([39]). والهيولي هو الطاقة الإنسانيّة الباطنة القابلة للإدراك والتصوّر وللتصوّر، أي المادة الأولى التي تنطوي على قابليّة الإدراك والفهم.

 

نتاج القول، إنّ العقل الديكارتيّ تجذّر في المنطق الحداثيّ، حتّى ذكر الفيلسوف هيغل (ديكارت) بوصفه "بطل الفكر الإنسانيّ"([40]). إلاّ أنّ منهج الشكّ المنهجيّ عند الرّجل، اتّخذ امتدادات وهوّيات بعضها جذريّ حاسم كمثل الشكّ الارتيابيّ الذي رفض من خلاله دافيد هيوم وبشكل راديكالي ونهائيّ والميتافيزيقيا الدينيّة اعتماداً على اتّجاهه التجريبيّ المتأسّس على اعتبارات حسّية خارجيّة بالتحايث مع الإحساس الباطني (كما تعيشه تجربة الخارج). والشكّ الارتيابيّ بحسب التحليل، وقع الإلتجاء إليه بسبب العجز البشريّ عن استيعاب قضية الخلق والخالقيّة وعن إدراك الحقائق الوجوديّة الأولى. لذلك استند هذا النمط الفلسفيّ إلى الممارسة الارتيابيّة في قراءته للعالم([41]). ومثْل الشكّ الارتيابي، ظهر الشكّ العدميّ الذي لم يهادن الفكر الميتافيزيقيّ في كلّياته وفي تفاصيله. وزعماء هذا الاتّجاه الذين أسماهم بول ريكور الفيلسوف المسيحيّ، أساتذة الشكّ، هم: كارل ماركس وفريديريك نيتشه وسيغموند فرويد([42]) الذين استعملوا التأويل كتقنية جاهزة لتفنيد حقائق الميتافيزيقيا. إلاّ أنّ فلسفة الشكّ لا تعدّ من الهرمينوطيقا في شيء لأنّ الهرمينوطيقا بحث عن الحقيقة من خلال اللامعنى وليس دحضا لها([43]). وهكذا، فإنّ اللحظة الديكارتيّة نوّرت زمان الحداثة، واكتسحت مختلف مجالات الفكر والعلوم بما في ذلك العلوم الإنسانيّة ومناهج القراءة والكتابة (التأليف) التّي اتّخذت صياغات وأنساقاً تعدّت فيها وبها الإبداعات والمفاهيم والمناهج.

 

يمكن أن نتبيّن، على ضوء ما تقدّم، أنّ فكر الحداثة تحوّل باتّجاه التّحليل والتّقييم والنقد المنهجيّ بدل ما كان سائداً في القرون الوسطى من الاستنساخ والنقل الميكانيكيّ للموروثات المعرفيّة الذي هيمن على مختلف قطاعات الثقافة والفكر، فكان ذلك تأسيساً لحرّية الإنسان الجديد. وبما أنّ قراءة النصّ الديني قد غلبت عليها في أوروبا، العقليّة المدرسيّة بما تعنيه العبارة من جمود وتقليد وعجز فكريّ ومعرفيّ، أغلق آفاق الفهم، وصنع السقوط العلميّ والانهيار المنهجيّ، فإنّ عقل الحداثة، أعاد تأصيل الدّرس الديني ضمن مُدركات مفهوميّة وميتودولوجيّة جديدة تمثّلت في ظهور "الهرمينوطيقا" لتؤسّس فنّ الفهم الجديد. عبر الحرّية والشكّ المنهجيّ ومشاركة من القارئ في صناعة المعنى.

 

إذا نظرنا خارج الحقل الفلسفيّ، فإنّ شلايرماخر الألماني صاحب المشروع الهرمينوطيقي الحديث، ينضوي تحت رؤية إصلاحيّة دينيّة، تتنزّل في إطار المشروع الاحتجاجي الذي تعترض من خلاله الطائفة البروتستانتيّة على دوغمائيّة الكنيسة الكاثوليكيّة. والبروتستانتيّة تعني الإنكار والاعتراض والاحتجاج، حسب ايتيمولوجيا الكلمة الفرنسية. وإذا كانت إرادة الإصلاح المسيحيّة ظهرت عبر قرون عديدة في تاريخ هذه الدّيانة([44]).

 

إلاّ أنّ المحاولات الإصلاحيّة المثمرة برزت على يد التيولوجي الألماني مارتن لوثر، مؤسّس المذهب البروتستانتيّ، ذي المواقف الحاسمة، حيث أنكر الفلسفة واتّهم الفلاسفة اليونانيّين بالوثنيّة، وطالب بفصل الدّين عن الدّولة، إلاّ أنّه وقف في ذات الوقت مع الدّولة الإقطاعيّة في حرب الفلاّحين عام 1525م، ودعا الدولة إلى قمع الفلاحين، لأنّ المؤمن-المسيحيّ لا بدّ من أن يبدي الولاء والخضوع للدّولة. وجاهر لوثر بالعداوة للكنيسة المسيحيّة وأراد الإطاحة بسلطة البابا ورفض عصمة رجال الدّين، وأنكر أن يكون بين الله وبين الإنسان وُسطاء كما تفعل الكنيسة. وكانت النتيجة أن حوكم وأُحرقت كتبه. وبما أن الإنجيل ليس سوى شهادة مكتوبة تنسب إلى عيسى المسيح بصفة شخصيّة، أي أنّه كلام عيسى –بالرواية غير المباشرة- وليس وحياً منزّلاً من الله ذاته، فإنّ المسيحيّة ليست ديناً كتابيّاً، وإنّما هي ديانة الإنسان([45])، لأنّ عيسى في العقيدة البروتستانتية هو الله ذاته وليس ابن الله([46]).

 

وما يهمّنا من هذا السّياق، أنّ الإصلاح الدّيني الذي اعتمد على القطع مع التّقاليد الكنسيّة المتّبعة في تدريس الكتاب المقدّس، فظهرت الهرمينوطيقا البروتستانتيّة التّي دعت إلى قراءة النصّ الإنجيليّ وفهمه في ذاته النصّية([47])، حيث تكمن الحقيقة الدينية في اللّغة. وبحسب هرمينوطيقا لوثر، فإنّ النصّ الدّيني يقرأ ضمن أربعة مستويات: المعنى الحرفيّ أو التّاريخيّ من جهة، وثلاث معان روحيّة من جهة أخرى، أحدها: المعنى المجازيّ الذّي يحيل إلى المبادئ والمعتقدات الكلّية للكنيسة، ثمّ المعنى الأخلاقيّ الذي ينتظم خلال صور بلاغيّة مجازيّة ترسم المعاني الوعظيّة بطريقة تعبيريّة تتجاوب مع إمكانات التلقّي لدى المستقبل-المؤمن وتفتح على الممارسات اليوميّة. والمعنى الثالث باطنيّ وعميق يُحيل إلى الآفاق الغيبيّة والروحانيّة غير المتحدّدة بالخطاب الظّاهر([48]).

 

تظلّ محاولات لوثر، رغم أهمّيتها التاريخيّة، غير ذات امتدادات ابستيمولوجيّة. إلاّ أنّ المسألة المعرفيّة تأسّست في القرن التّاسع عشر مع لاهوتيّ بروتستانتي آخر هو فريد يريك شلايرماخر الذي ولدت معه الهرمينوطيقا، كما قال ذلك الفيلسوف المسيحيّ بول ريكور، حيث انصهرت فيها جملة من العلوم، وهي التّفسير الإنجيليّ والفيلولوجيا والقوانين القضائيّة، فأحدثت بذلك انقلاباً في مجال الفهم([49])، وتحوّلت (الهرمينوطيقا) إلى مسألة فلسفيّة([50]).

 

لا شكّ أنّ اللحظة التاريخيّة ساهمت في رفع مستوى التّنظير العامّ وانتشار المعرفة المتعدّدة واستقبالها إيجابيّاً. ففي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر اللّذين يمثّلان عصر الأنوار ذي المنطلق الفرنسي، ازدهرت الأطروحات اللّّيبيراليّة وهيْمنت العقلانيّة، وتكثّفت النضاليّة العلمانيّة ضدّ سلطة الكنيسة المناهضة للديمقراطيّة وللمجتمع المدني ولتحرير الإنسان، وكان ذلك التّنوير يتعمّق ويتكثّف بزعامة المفكّرين والفلاسفة أمثال مونتاسكيو وديدرو،وجان جاك روسو، وفولتار، وآخرين حتى أنجز شروطه العلمانية. وما يهمّنا في هذا المضمار، هو رصد الساحة العمليّة التّي يمارس فيها فعل التّأويل، وهي العلوم الإنسانيّة والتّاريخ، بحسب ما كتب ريكور وغادامار([51]). وقد نشأت العلوم الإنسانيّة في القرن الثامن عشر، كما حدّد ذلك ميشال فوكو ([52]). وأعلنت مارتين فورنيي أنّ ولادة العلوم الإنسانيّة تمّت في القرن التاسع عشر، إلاّ أنّ انطلاقتها العمليّة كانت خلال القرن العشرين، بل إنّها بهذه التّسمية لم تظهر في الجامعات الفرنسية بصفة رسميّة إلاّ عام 1958، بحسب المصدر ذاته([53]). والمهمّ، أنّ هذه العلوم الإنسانيّة تعبّر عن الزّمان التّنويري، وعن التوفيقيّة الحضاريّة، بوصفها جزءا من التّنظيم الإجتماعي الذي تولّدت فيه. أي أنّها عكست واقعا فكريّا جديدا استند إلى المكتشفات العلميّة، واحتضن قضايا الإبداع، واعتمد الهرمينوطيقا باعتبارها مشروعاً حداثيًّا حرّا قطع مع الأحادية والهيمنة المؤسّساتيّة على المعنى.

 

ضمن هذه التحوّلات الفكريّة، ظهرت هرمينوطيقا اللاّهوتي الألماني فريديريك شلايرماخر، وهو مؤلّف دينيّ وتيولوجي مختصّ في الشّريعة البروتستانتيّة، ورجل كنيسة بصفة أدقّ. وقد وصف من قبل المسيحيين المختصّين في علوم اللّاهوت بكونه "قدر النصارى" وأنّ القرن العشرين كلّه يعيش على انجازاته الفكريّة لأنّه التيولوجي الأكبر على مدى مائة عام الأخيرة، كما تنقل ذلك ماريانا سيمون في كتاب عنوانه "فلسفة الدّين" في نتاج شلايرماخر([54]) الفلسفي([55]) . ويرجع تمايز شلايرماخر إلى كونه أوقف هيمنة الكنيسة على المعنى الدّيني وفتح الأناجيل على التّأويل العامّ([56]). وما ذاك إلاّ لأنّ التّأويل فنّ (فنّ فهم الخطاب) كما سيأتي، وليس علماً مستقلاًّ بمنهجية نهائيّة ذات قواعد وأساسات مكتملة([57]). وما دام إنجازاً فنّياً، فلا يتبرّر احتكار المعنى واختزاله إلى دلالات زمانيّة ضيّقة. ويتحدّد التّأويل لدى شلايرماخر بثلاثة أمور: الأوّل: أنّ غايته ومنتهاه هو الفهم في أقصى معانيه([58]). والآخر: هو التّعريف الذي يجعل من الهرمينوطيقا "فنّ التّأويل" أو "فنّ اكتشاف المعنى"([59]). والحدّان يُحيلان إلى البعد الفلسفي لهذا الفنّ([60]). أنّالفلسفة، في توصيف دولوز، هي فنّ اختراع المفاهيم والتصوّرات([61]). ولأجل أن يكون اكتشاف المعنى إبداعا، جعل شلايرماخر من التّأويل فنّاً مستقلاًّ بذاته([62]) وجعل من الفهم فنّاً كذلك([63]). والأمر الثالث الّذي يتحدّد به التّأويل، عند شلايماخر هو كونه: يتجسّد ضمن نظامين: نظام النحو (نحو اللّغة) المتعلّق ببنية النصّ اللّساني كأساس لفهم الخطاب([64])، والنّظام الآخر، هو الطابع التقنيّ الذي ينفذ إلى المعاني المقاصديّة الكامنة وراء المظهر اللّغوي([65]). وجامع القول، إنّ النصّ لا يتحدّد من خلال وظيفة النصّ منقطعة عن التّأليف وظروفه التّي تجمع بين المؤلّف وواقعه([66])، وإنّما يتحدّد انطلاقاً من الذّات المؤوّلة، أي: القارئ الذي يكرّس مشروع الفهم عبر آليات منهجيّة يستخرج بها مخفيات النصّ وكوامنه([67])بطريقة غيريّة تفيد أنّ الفهم هو الإختلاف([68]) كما يصرّ على هذا، غادامير، باعتبار أنّ الفهم هو فعل تأويل دائم([69]).

 

هنا، تكون الهرمينوطيقا تقنية للفهم المنهجيّ، ويصير الفهم قاعدة أساسيّة كلّما تعدّدت أنماط التّأويل. ولهذا، سعى شلايرماخر إلى تأسيس هرمينوطيقا عامّة، يضع خلالها قواعد وقوانين كلّية تنظّم مسألة "الفهم" بوصفه القاسم المشترك بين مختلف التأويلات([70]). وكان هذا التفكير الإجرائي نقطة انعطاف تحوّلت الهرمينوطيقا بموجبها إلى مسألة فلسفيّة([71]).

 

وبما أنّ شلايرماخر رجل دين كما تقدّم، فإنّ تقنية القراءة الدينيّة عنده، ستعتمد أساساً على فهم النّصوص الإنجيليّة وفق منظور جديد يقوم على تجاوز القراءات التّاريخيّة (الحرفيّة) واستنباط معاني مستحدثة بفهم قصدى يتسوّغ في إطار التّأويليّة العامّة وتتواءم معه الدّلالات الدينيّة([72]). وهكذا يتجسّد الفهم الممكن للكتب السّماوية لدى كلّ قارئ بحسب زمانية الاستقبال. لأنّ الينيّة لم تتّسم بصفات القداسة إلاّ لكونها ذات قابليّة للفهم([73]).

 

وبإزاء التباعد الزّماني بين لحظة القول وبين زمان الاستقبال وما يترتّب عنه من خفاء الدّلالات الحقيقيّة للنّصوص، فإنّ شلايرماخر يطرح إشكالية سوء الفهم من ناحية، والفهم الخاطئ اللّذين يردّان كلاهما إلى الخطأ في فعل القراءة، جرّاء احتجاب الدّلالة وراء أسلوب القول المؤلَّف الّذي يتأسّس على اللّعب بالكلمات أو على استعمال الأمثال والمجازات، بما يلبّس مقاصد المؤلّف ومراداته، فيكون لزاماً تجاوز الدّلالات الحرفيّة، واعتماد التعاطي التّأويليّ مع النصّ باعتبار أنّ المعنى لا يتناهى([74]). ويكتشف شلايرماخر، أنّ تصميم العبارة اللّسانية بتعقيداتها وتناقضاتها يستعصي على الإدراك الكلّي، فيكون الناتج أنّ فعل الفهم ممارسة لا نهائيّة([75]). أي، أنّها مستحيلة التحقّق.

 

وقد ذهب شلايرماخر في التّنظير إلى أنّ إعادة بناء المعنى يتنزّل في مجال الفهم الهرمينوطيقي ويتوجّب أن يسير في اتّجاهين، أحدهما: تأويل اللّغة المكتوبة في سياقيها النحوي والتّاريخيّ لاستخراج الدّلالات الموضوعيّة التّي يشترك في تعيّنها كلّ من المرسل والمستقبل، وإلى جانب التّأويل اللّغوي، يحدّد شلايرماخر خطأ آخر للفهم، وهو التّأويل التّقني الذي يستكشف المعنى من خلال الخصوصيات السياقيّة والأسلوبيّة التّي تشكّل الصياغة المقاصديّة للتّأليف وتنطوي على الأفكار المتضمّنة في النصّ([76]). وهنا، ومن خلال الربط بين الكلام والمفاهيم الذّهنيّة، تبدو العلميّة الهرمينوطيقيّة منهجاً في الفهم يزاوج بين اللّغة والتّفكير([77]). غير أنّ هذا المنحى المنهجيّ الّذي يجهد من أجل القبض على الدّلالة من خلال التّأويل، لا يتحقّق عبر الوسائل المعرفيّة لإنتاج المعنى فحسب، بل هناك انبثاقة باطنيّة للفهم لا تخضع إلى الشروط العمليّة كما لا تخضع إلى أنشطة الفكر. وهي اللحظة الهرمينوطيقيّة التّي تقوم على الحدس وعلى الرؤية الباطنيّة([78]) التي تنتمي إلى ما وراء العقل، وهو طور آخر لا يتشخّص بالتعابير اللّسانيّة.

 

ننتقل في مجال الفلسفة، وفي إطار الهرمينوطيقا، إلى ألماني آخر جاء من بعد شلايرماخر، وهو دلتاي الذي أسّس القراءة التّأويلية في مجال العلوم الإنسانيّة التي وضع لها معالم فكريّة وحدّ لها حدوداً منهجيّة وجعل لها استقلاليّة عن العلوم المختلفة. كذلك أعطى علوم الروح (العلوم الإنسانية) أساسا هرمينوطيقيا، فحدد بذلك إطار المشكل الهرمينوطيقي([79]) و حاول إخضاعه إلى قوانين نهائية تكسبه طابع العلمية والموضوعية([80]).

 

ارتكز مجهود دلتاي على تحليل مسألة الفهم من جهة، و ربط منهج الفهم بالتجربة التي يكتسبها الإنسان في مجال الحياة عبر الواقعين الإجتماعي والتاريخي. وهكذا حصر فهم النصوص في القدرة على التعامل المنهجي مع قواعد التأويل سواء تعلق الأمر بالنصوص الدينية أم بالكتابات البشرية. ويهمنا في هذا السياق، تلك التفرقة التي استحدثها بين علوم الرّوح وعلوم الطّبيعة([81]). والأولى، هي العلوم الإنسانيّة مترابطة مع الإدراكات الباطنيّة (النفسية للقارئ و للمؤلف)، وترتكز على الفهم عبر طريقة الهرمينوطيقا والنّقد. أمّا علوم الطّبيعة، فتترابط مع العالم الحسّي الخارجيّ([82])، من خلال المناهج التجريبيّة، وتعتمد على تحليل الإدراك الحسّي-الإنسانيّ([83]) في علاقته بعالم الأشياء. ويقوم الاختلاف بين علوم الطّبيعة وعلوم الروح Sciences morales، على الاختلاف بين ما يحتويه كلّ من الموضوعين، وليس ذلك راجعاً إلى نمط المعرفة الخاصّ بكلّ منهما(

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=827&idC=2&idSC=6

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك