حوار الشعوب هو ما يحكم الجميع

شاكر الأنباري

العالم يتغير بإطراد، ومقولة صراع الحضارات، أو حوارها، لم تعد تثير الإهتمام سوى لدى الأصوليات القومية أو الدينية، سواء كانت يهودية أو مسيحية أو إسلامية أو بوذية أو هندوسية. فالعالم يقترب يوماً بعد آخر من رسم حضارة واحدة لجنس بشري انتقل إلى هاجس الحفاظ على كوكبه المريض، والبحث عن كوكب آخر ينتقل إليه لاحقاً، أو جنس حي يتحاور معه بعد أن استوفت الحضارة العالمية الواحدة شروطها الرئيسية. فرغم وجود اختلافات بين شعب وآخر، إلا أنها لم تعد اختلافات حضارات، بل اختلافات شعوب قد يكون سوء الفهم هو الذي يقف وراءها ولا شيء غيره.



ربما لا يختلف شعب الأورغواي في أميركا الجنوبية عن الشعب الياباني أقصى الشرق إلا في الكم، لكنه يتشابه في النوع، التكنولوجيا واحدة وآليات الإنتاج والإقتصاد واحدة، ويمكن القول كذلك عن الإعلام والثقافة وسرعة التقاط الحدث، كلها تشابهت في كرتنا الأرضية. الحضارة واحدة تقريباً، والشعوب لا تحتاج إلا الى الحوار. حوار الشعوب هذا يمكن للمرء لمسه كل يوم، وهو يجري بتواتر وثبات، يبدو بطيئاً أحياناً لكنه يحفر في صخر الاختلافات، دون كلل. خلال أقل من شهرين جرت عشرات الندوات والفعاليات والمهرجانات التي شارك فيها مختلف الشعوب. قبل فترة اختتم المؤتمر الثالث لحركات التحرر النسائية الإسلامية أعماله في برشلونة بإسبانيا، وفيه سيدات أكاديميات ومثقفات، بعضهن يتقلدن مناصب سياسية هامة في بلدانهن، وأخريات تقلدن مناصب في منظمات دولية، وباحثات تنشر لهن كتابات عن المرأة والإسلام منذ ما يربو على الثلاثين عاماً. المؤتمر كان فرصة للنقاش حول حركات التحرر النسائية الإسلامية. لا يوجد تعريف محدد لماهية هذه الحركات، وحتى المشاركات في المؤتمر كان لكل منهن رؤية قد تتعارض تماماً مع رؤية الأخريات.هذه الحركات تسعى لأن تحصل النساء المسلمات، سواء في المجتمعات العربية والإسلامية أو في المجتمعات الأوروبية، على حقوقهن الكاملة المتساوية مع الرجال. والطريق الذي تسلكه الناشطات لتحقيق هذا الهدف هو قراءة القرآن والسنة ولكن بعيون نسائية. ولعل أبرز المشاركات الأستاذة الأميركية المسلمة أمينة ودود، التي أثارت زوبعة كبيرة قبل سنة حين أمّت عدداً من المصلين في جامع بمدينة نيويورك، وكررت ذلك لاحقاً في مدينة أكسفورد البريطانية. 



وفي دمشق أمسية شعرية فريدة، وعلى صالة في محطة الحجاز للقطارات وسط دمشق، ألقى مجموعة من الشعراء السويديين قصائدهم باللغة السويدية. الأمسية نظمها وترجم قصائدها شعراء عراقيون مقيمون في السويد، فيما قرأت الشعر المترجم الممثلتان السوريتان مي سكاف وأمل عمران. تسعة شعراء من السويد لبوا دعوة جمعية مقهى بغداد السويدية لقراءة شعرهم مقروناً بترجمة إلى اللغة العربية. الهدف بحسب المترجم العراقي جاسم، محمد «ليس مجرد الاستماع الى أمسية شعرية، بل اللقاء الحضاري بين الثقافة العربية والثقافة السويدية. جاسم، وهو مترجم للشعر السويدي إلى اللغة العربية، والشعر العربي إلى اللغة السويدية، لم يخف رغبته بأن يؤدي عمل الترجمة الذي يقوم به « إلى تعريف بلاد ألفرد نوبل بالشعراء العرب، لعل أحدهم يفوز بجائزة نوبل للآداب يوماً «التجربة سمحت للمؤدين العرب بالاقتراب من إحساس الشاعر، والإقتراب من لغة وحضارة بعيدة، على الأقل مكانياً. الممثلة المؤدية أمل عمران تفاعلت بقوة مع هذه التجربة، حتى أنها تمالكت نفسها بصعوبة وكادت تبكي وهي تقرأ ترجمة نص يصف الموت لشاعرة سويدية حاضرة.



أمل قالت أنها « أعطت للنص الشعري روحاً جديدة لأن من حقها أن تقرأ النص بحساسية لغته الجديدة «.آنا هالستروم الشاعرة السويدية أيدت أمل عمران وقالت « شعرت بسعادة غامرة، أحببت اللغة العربية لأن جرسها جميل، وأحسست أن شعري بعد ترجمته صار شيئأ آخر، لقد أضافت مي سكاف وأمل عمران وأضاف المترجم شيئاً جديدأ لشعري». كان الجمهور سعيداً بتذوق شعر مختلف، مقروءاً ومغنى ومترجماً. الشعر السويدي مليء بالمشاعر، ومكثف، الجملة فيه مختزلة وقوية، وهو مختلف عن الشعر العربي لأن بيئته مختلفة وبالتالي مفرداته مختلفة. الدكتور أحمد برقاوي أعجب بما سمع من ترجمة، وقال إن الشعر الذي يمكن ترجمته هو الشعر العظيم فقط، الشعر العادي يصبح أقل من عادي بعد الترجمة». الشاعر السويدي ماغنوس ويليام أولسن رفض مقولة عدم امكان ترجمة الشعر، لكنه وافق على أن «المترجم يجب أن يكون متمكناً من اللغتين، المترجم منها، والمترجم إليها «.



في ختام الأمسية قام العازف والمغنية السويديان المرافقان للشعراء بأداء أغنية عربية، باللغة العربية ، في توحد نادر بين ثقافتين كانتا بعيدتين جغرافياً. وصدر عن دار المدى، ضمن المناسبة، كتاب (إطلالة من حواف النهائي/ انطولوجيا الشعر السويدي من السبعينيات وحتى العقد الاول من الألفية ألثالثة)، بهذه المناسبة. وفي مقدمته المكتوبة لأنطلوجيا الشعر السويدي، يقول الشاعر السوري الكردي سليم بركات، وهو مقيم في السويد أيضاً، (السويد على حافة «النهائي»: ذلك ما أسمعه من المجادلات «المرئية» في كلمات هذا الشعر.. أزعم ذلك.. كثيرٌ من الهمس.. كثيرٌ من براعة النطق همساً، أو الصخب باعتدالٍ.. للجليد طباعُ الناريِّ هنا. شعر أهل «الشمال النهائي» انتقامٌ من الهدوء «اللامنصفِ»، شريك الوحدة المعذِّب؛ امتداحٌ للناريِّ في جمرة الجليد. 



أما الشاعر السويدي ماكنوس ويليم أولسن في دراسته عن الشعر السويدي من السبعينيات وحتى العقد الأول من الألفية الثالثة، المدرجة كخاتمة للكتاب فيقول:.. «إنَّهُ، على أيةِ حالٍ، لَتَحَد كبيرٌ للشعرِ السويدي أن يلتقي باللغةِ العربية.. وجَلِيٌّ، بالنسبة لِمَنْ لم يقتَرِبْ من تلكَ اللغةِ الفريدة إلا مسافةَ تَشَمُّمِها، أنَّها مرآةٌ عميقةٌ جداً لكنَّها صافيةٌ أيضاً.. قد يحدثُ أن تُديرَ القصيدةُ السويديةُ ظَهرَها رُعباً حينَ ترى صورتَها في طَيّاتِ المِرآة.. لكنَّ الأرجحَ أنّ تلكَ القصيدةَ سيكونُ بإمكانِها حقّاً أن ترى نفسَها، على ضوء جديد، من جِهَةِ جديدةِ وعندَها تَتَعَلَّمُ شيئاً ما مُهمّاً.. وربَّما يمكنُ للقصيدةِ العربيَّةِ أن تخرُجَ بِشَيءٍ ما من ذلك اللقاء). وفي كوبنهاغن كانت الثقافة العربية حاضرة أيضاً، تتحاور مع مئات المهتمين من أحفاد الفايكنغ. ندوات وأماس وأفلام وترجمات، كلها تناضل لكي تخترق ما يحاول دعاة الإنغلاق التمسك به. فعلى قاعة معهد الفيلم الدانماركي قدمت المخرجة والمنتجة السورية ديانا الجيرودي فيلمها (امرأة من دمشق)، وهو انتاج دانماركي سوري مشترك، عن حياة امرأة، يمكن القول إنها تنتمي إلى الطبقة الوسطى، هي أم لطفلتين وتعيش مع زوجها في أحد أحياء دمشق، وهي متعلمة حيث انها تتقن الأعمال الإدارية في المؤسسات الإعلامية، لكنها عاطلة عن العمل لأسباب شخصية أولاً واجتماعية ثانياً. فهي من جانب مشغولة بتربية طفلتيها الصغيرتين، ومن جانب آخر تقع تحت ضغط العائلة والبيئة الاجتماعية التي تنظر إلى عمل المرأة بريبة، ضمن توجهات دينية متزمتة بعض الشيء. فالعمل حسب رأي العائلة يبيح للفتاة الاختلاط مع الرجال وهذا ما سيجلب المعاصي، وكل ما هو غير مرغوب فيه. 



إذن حياة المرأة منال وطفلتيها والهموم الأسرية هي التي كانت موضوع الفيلم العام، وكانت المدخل الفني إلى ذلك اللعبة المشهورة (فلّه)، وقصة نشوئها في التلفزيون إلى أن تحولت الى لعبة تدخل البيوت وتسحر الأطفال سواء كمشهد بصري او كفكرة داخل البيت. الفيلم وثائقي لكنه من طراز خاص، حيث يمكن لمس الجانب الإبداعي في شخصية منال، والآخرين، عبر حركات متقنة ولقطات فيها لمسة شاعرية على الوجوه، وقد استغرق الفيلم ما يقرب الساعة تقريباً، الا انه جاء بعد حوالى 104 ساعات تصوير كما تقول المخرجة ديانا. وعن الفترة الزمنية التي استغرقها الإعداد للفيلم تقول ديانا كانت هناك حوالى ثلاث سنوات للإعداد وايجاد التمويل وملاحقة الشخصية المحورية وتصويرها واختيار الأمكنة الملائمة للتصوير، والتقطيع، للوصول الى الصيغة النهائية، وقد عرض الفيلم في امستردام ومونبيليه وليون وقبرص وأخيراً في كوبنهاغن. وكان مدخل الفيلم شخصية فلّه، ولمن تابع التلفزيون في السنوات السابقة لاحظ ما لهذه الشخصية من سحر على الأطفال، ففله تحضر كلعبة كارتون وكدعاية لبضاعة وكمؤدية أغنية للأطفال، وهي استيحاء بعيد لشخصية باربي المعروفة في أوروبا. 



التقطت احدى الشركات الصناعية هذه الشخصية لتحولها إلى لعبة بلاستيكية بأوضاع مختلفة، تتكلم وتبكي وتصلي وتلعب، لكن التحولات التي طرأت على مسار اللعبة هي التي أثارت اهتمام المخرجة. كانت سافرة الرأس، ثم تفتق ذهن الشركة لجعلها محجبة من أجل أن تباع في الأسواق الخليجية، مما يجعلها تتناغم مع الذهنية الأصولية في التعامل مع المرأة. وهذه هي نقطة التقاطع بين اللعبة فله والمرأة منال في الفيلم. وديانا الجيرودي خريجة اللغة الانكليزية من جامعة دمشق وهي منتجة في الوقت ذاته وتدير مع زوجها عروة نيربية شركة انتاج سينمائي باسم برواكشن فيلم، حيث تقوم الشركة بانتاج افلام وثائقية للتلفزيونات العربية والعالمية، كما قامت مع مجموعة من الشباب المهتم بالسينما الوثائقية بتنظيم مهرجان للفيلم الوثائقي عقد دورته الأولى السنة الماضية وشارك فيه حوالي 24 فيلماً من مختلف الدول، وعرضت الافلام على صالة الكندي وسط دمشق، وفي مدينة حمص وطرطوس. الندوة بعد الفيلم كانت غنية، شاركت فيها، إضافة إلى المخرجة ديانا، مخرجة ايرانية، والناشطة السياسية الدانماركية من أصل فلسطيني، أسماء عبدالحميد بالمناسبة هي محجبة وتدافع عن الإسلام ومرشحة للبرلمان على قائمة اليسار الشيوعي، وفي لقطة موازية رفض نائب رئيس البرلمان العراقي عن الإئتلاف الشيعي خالد العطية مصافحة وزيرة في إحدى الفعاليات البغدادية، وفعل الشيء نفسه القنصل الإيراني في مهرجان دمشق السينمائي لكن الممثلة الأجنبية التي يفترض أن تقدم له الورود ألقت بها جانباً بعد هذه الحركة). وكان هناك حوار مع الجمهور حول الفيلم وحول كثير من قضايا المرأة والإسلام وردة فعل المتلقي الأوروبي ومفهوم الشرق الأوسط ونظرة الدين للعمل والتحرر والحجاب والاندماج وغير ذلك.



وفي الفترة ذاتها نظمت مجموعة من المثقفين الدانماركيين،على رأسهم الشاعرة الدانماركية نينا مالينوفسكي، (ووركشوب) في دمشق أيضاً عن كيفية كتابة السيناريو، بالتعاون مع المعهد الدانماركي هناك، وقالت نينا أنها عاشت تجربة رائعة في اطلاعها على هموم بعض الكتاب السوريين في هذا المجال، وكانت فرصة أيضاً للإطلاع على حياة شرقية نسمع بها دون أن نراها. وبمناسبة أربعينية الشاعر الراحل محمود درويش أقامت جامعة كوبنهاغن حفلاً في مدرجها، حضره عدد كبير من مثقفي الدانمارك والعرب المقيمين هنا، حيث ألقيت قصائد درويش باللغتين العربية والدانماركية، وقيلت كلمات لمثقفين دانماركيين حول شعر درويش كما غنيت بعض القصائد بالعربية، وسط جمهور حاشد. الجمهور الإسكندنافي، في عاصمة الثلج، غنى، وبكى، وأنشد مع شاعر عربي راحل، لم تكن فلسطين هي الحاضرة في شعره فقط، بل الإنسانية جمعاء، وهذا ما جعله ضيفاً على قلوب الشعوب. وبعد أسبوع من هذه الأمسية كان الجمهور الدانماركي على موعد مع فعالية فنية وثقافية من نمط خاص، بمناسبة اصدار انطولوجيتا الشعر الدانماركي ترجمها الشاعر العراقي منعم الفقير والكاتبة السورية مي جلبي، حيث احتفى اتحاد الكتاب الدانماركي بصدور الكتاب مع تتويج غنائي أوبرالي ومقطوعات موسيقية وكلمات مؤثرة عن التواصل بين الشعوب عبر الفن والثقافة والحوار. ذلك كله حدث خلال أشهر، بعيداً عن نظرة العداء أو الريبة تجاه الآخر المختلف في الدين أو اللون أو المذهب، وبعيداً عن تنظيرات رجال الدين والسياسيين ودعاة الخصوصيات القومية والثقافية والأخلاقية، ولم تكن لتلك النشاطات أية علاقة بنشاط السفارات العربية في تلك البلدان. 



فلتلك نشاطات من نوع آخر. وأكيد أن هكذا نمط من حوارات الشعوب يجري في كل مكان من العالم، دون الإلتفات إلى معاهدات الحدود والحروب والقارات، فثمة توق عالمي بين الشعوب لمعرفة الشعوب الأخرى، كيف تفكر، وكيف تبدع فنها وأدبها، وكيف تفكر وتأكل وتمارس الحب. وقد يجوز أن توجهاً مثل هذا هو الذي سينقذ البشرية من حروبها ومجاعاتها وأزماتها. وسينقذها من صراع الحضارات بعد أن صار عنواناً لمؤامرات وهمية لا تجري سوى في العقول. واللافت من كل ذلك أن شعوب أوروبا كلها تتوق لمثل هكذا فعاليات وحوارات ومبادرات، عكس ما يحصل لدينا، في المشرق، والعرب خاصة، حيث تسود ثقافة التكفير والتخوين والإنغلاق في هوس محموم لخلق ثقافة عنيفة لا تؤمن بالحوار، ولا تريد أن ترى سوى ذاتها في مرآة الزمن.

المصدر: http://www.almustaqbal.com/v4/Article.aspx?Type=np&Articleid=320457

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك