حول تجاذبات الإجابة عن سؤال التنوير في السياق العربي الإسلامي

جمال الدين بن عبد الجليل

 

يثير طرح سؤال التنوير في السياق العربي الإسلامي ردود فعل تتميز غالبا بالتنافر، وبإجابات متناحرة تدّعي صفة التنوير لنفسها بشكل احتكاري نافية إيّاها عن الآخرين، و مكرّسة من خلال ذلك أسلوبًا سجاليًّا في المقاربة ينزلق بيسر إلى فضاء المناظرات الكلامية كما عهدناها في السياق القروسطي بين مختلف الفرق و النّحل. ويتجاذب مسار الإجابات المتحققة في سياق الفكر العربي الإسلامي المعاصر حسب رأيي قطبان أو طرفان أساسيّان1 يهيمنان على فضاء السؤال والجواب أو تشكّل الخطاب فيما يتعلّق بقضايا التنوير.

فالطرف الأوّل يحيل إلى الانقطاع عن ذات تاريخية متحققة وعلاقة الاغتراب معها كسبب رئيس للتّيه عن الإجابة ويدّعي الأسبقية التاريخية والمعرفية في حيازة الجواب الشافي لمتعلّقات التنوير وما على الباحث المعاصر إلاّ النّبش والحفر في طبقات التاريخ و تحقيق العودة إلى الذات بشكل ارتجاعيّ إحيائيّ واضح. تتّسم مقاربة هذا الطرف لموضوع التنوير بأنّها تُنَاظر دوما بشكل انتقائي بين إجابات متقابلة أو متوازية ترتبط من قريب أو بعيد بقضايا التنوير، فلأنّ الطرف الآخر المقابل يعتمد العقل كمرجعية والعقلانية كمنهج، نجدهم ينبشون ويبرزون كلّ ما من شأنه أن يشير إلى إعلاء لمكانة العقل وقيمته في التراث العربي الإسلامي، ليس لما للعقل من مكانة حقيقة و لكن لمجرّد مواجهة الخصم، وقسْ على ذلك مواضيع و قضايا الحرية وحقوق الإنسان وغيرها. هذا التعامل التبريري والانتقائي السطحي يوهم متعاطيه بامتلاك إجابة ذات مرجعية ضاربة جذورها في أعماق الذات المستعادة المتّسمة بطبيعة ماهويّة صلبة، غير أنّها في الحقيقة تعبّر عن عمق حالة الاغتراب و الاستلاب المُعَانَى منها التي تعطي الإحساس بتحقيق الغَلَبة ضدّ الخصم المفترَض ولو لحين ، وتدفع إلى سلوك يشبه ممارسة "الدّعارة" في تحقيقه لنشوة تنويرية عابرة، فترى صاحب هذا الخطاب ينام حينا مع الجاحظ وأحيانا أخرى مع المعرّي أو التوحيدي أو الإثنين معا ومرّة مع الرّازي و أخرى مع إخوان الصفا وإلى غير ذلك، ونرى التّنادي برموز العقل و ملامحه في التاريخ العربي الإسلامي يتعالى، ويطفو فجأة ذكر طبقات المعتزلة والفلاسفة القدامى وكلّ ما يمكن التقاطه من هذا التاريخ في شتّى مجالات الأدب و العلوم مّما يمكن أن يدلّ ولو من بعيد على أصالة مواضيع التنوير في سياقنا العربي الإسلامي. تقف هذه المقاربة غالبا عند هذا الموقف الارتجاعي التبريري الذي لا يخلو من نَفَس تبجيليّ، ممّا يجعلها عقيمة على مستويين : المستوى الأوّل في العلاقة بتاريخ الفكر العربي الإسلامي التي تميل إلى جعله ميتاتاريخا منفصلا عن شبكة الإحداثيات المركّبة التي أدّت إلى تحقّقه و تكرّس تعاطيا لاتاريخيا مع هذا التاريخ، فيصير التاريخ المستعاد بما هو بنية مركّبة حاضرا منشودا وتختلط التعريفات في سياقاتها وحدودها. المستوى الثاني في العلاقة الرّاهنة مع الحاضر بما هو سياق تعريفيّ وفضاء للإبداع والتجاوز، حيث يكرّس الحضور الضاغط والمهيمن للماضي أو التاريخ فيه علاقة مأزومة مشدودة مغتربة بالذات الراهنة ممّا يعسّر من إمكانية الفكاك من أسر الماضي في تعريف الحاضر و تشكيله. ويصير الخصم المفترض هنا، وهو " التنوير الغربيّ " موجِّهًا لردود الفعل متحكِّمًا فيها بما يضعه من تحدّيات ويفرضه من إرادات الهيمنة، ممّا يجعل أفق الجواب منحسرا في ردود الأفعال، متّسمًا بالتبريريّة والذرائعيّة. يبقى الخطاب المنتَجُ ضمن هذا السياق خطابا يوهم بالتأسيس، وقد يرفعه كهدف مُعلَن، غير أنّه يبقى دون القدرة على تحقيقه جدّيَّا، وهنا يكمن عقمُه البنيويّ.

أمّا الطرف الثاني فيُحِيل مباشرة إلى نموذج التّنوير في مسار تحققه التاريخي في السياق الأوروبي منذ القرن السابع عشر ميلادي، ويغرف منه نازعا عنه تاريخانيّته بما هو نتاج فكريّ ضمن إحداثيّات و صيرورة تاريخية معيّنة ، لا يمكن التعاطي معها بطريقة استنساخية حتّي ضمن فضائها السياقي. فالتنوير كما تمّت مقاربته في القرون الثلاثة الأخيرة قبل القرن العشرين في السّياق الأوروبي، لا يعطي انطباعا مسطّحا بسيطا في تعريفه بل يُحيل إلى سيرورة جدليّة لا تخلو من نتوءات يتحقّق من خلالها التجاوز الذاتي. ويبدو بجلاء كيف أنّ ارتباط مفهوم التنوير منذ المراحل التأسيسية بمفهوم الأنسنة2 كان ارتباطا وثيقا، حيث أنّ الانفصال عن المجال اللاّهوتي كمرجعية و كفضاء في عملية بناء أنساق معرفية مستندة إلى مرجعيات و مناهج العقل وحده، كان علامة فارقة ومؤشّرا حاسما لحركة الأنسنة وتطوّر مفهوم التنوير فيما بعد. فتحرّر العقل من سلطة و سلطان اللّاهوت والانعتاق من ربقه، وبالتالي قدرة العقل على وضع قواعده و تعريفاته بشكل متحرّر عن اللاّهوت، كان محدّدا هامّا لبلوغ هذا العقل "رُشده" المبتغىَ على قول فيلسوف التنوير إيمانويل كانط، فالتنوير عنده ليس إلاّ خروج الإنسان من حالة العجز و القصور (عدم الرشد) و تحقيقه للرّشد من خلال اعتماده على عقله وحده دون الخضوع لأقوال الآخرين3 و يختصر المقصد الأقصى للتنوير في القدرة على التفكير بشكل ذاتي مستقلّ4 و في القدرة على الممارسة النقدية المتواصلة، فهو عنده متماثل مع النقد الذي يعني النقد الذاتي. فالتنوير تميّز في سياقه الأوروبي على المستوى المفاهيمي في رفضه لسلطة اللاّهوت5 و تأكيده على مطلب الانعتاق منها و الخروج عليها.

أمّا علاقة التنوير في تمظهراته التاريخية بالآخر خارج السياق الأوروبي ، فهي علاقة لا تخلو من الوقوع في حالات تناقض بين التنوير من جهة كمفهوم نظريّ ونسق قيمي يُعْلِي من شأن الإنسان و يرفع من مقامه و يثبّت مطلب حرّيته كحقّ تكوينيّ له كإنسان لا يمكن إسقاطه عنه من أيّ سلطة مهما كانت. و من جهة أخرى كممارسة تاريخية بدعوى نشر التنوير و ذريعة تحضير شعوب و ثقافات أخرى، فكانت هنا الحركة الإستعمارية مع روافدها المسيحية التبشيرية و التنويرية التحضيرية خاصة في القارّتين الأمريكية و الإفريقية ذات ملامح مغرقة في الإقصائية الإلغائية و الدموية و إنكار وجود الآخر بقوّة الهيمنة و فتك السلاح و ليس الحجّة و البرهان العقليّين.

ضمن هذا السياق كان التقاء العالم العربي في أواخر القرن الثامن عشر مع أحد تمظهرات التنوير من خلال النموذج الفرنسي لتحقّقه و ذلك بعد الثورة الفرنسية التي نادت بقيم التنوير و سيادة العقل بأقلّ من عقد واحد في1798م حيث هاجمت أساطيل نابوليون بونابرت و مدافعه سواحل فلسطين و نزلت جيوشه بمصر ، و بعد أقلّ من أربعة عقود من نجاح ثورة العقل و التنادي بقيم الإخاء و المساواة و العدالة، قام نابوليون الثالث في عام 1830م باحتلال الجزائر احتلالا استيطانيّا دام 132 سنة حاول فيه منذ البدء طمس معالم الثقافة العربية الإسلامية و إلغاءها، فقام بتحويل أحد أعرق المساجد في الجزائر العاصمة "مسجد كتشاوة" إلى كاتدرائية تحمل إسم الرّئيس ثمّ الإمبراطور الفرنسي المتنوّر.

هذا التلاقي و التماسّ الأوّل بين السياق العربي و تمظهرات التنوير و إفرازاته التاريخية المتميّزة بنزعة هيمنة توسّعية و النظرة المركزية الأوروبية جعلت حركة تنزيل و تطبيق الأنماط العملية المعبّرة عن التنوير في السياق الأوروبي تفقد مصداقيتها الإقناعية و الأخلاقية و تستفزّ على طرف المتلقّي العربي الحذر والشكّ. إنّ محاولات الاستنساخ لتمظهرات التنوير و تنزيلها في السياق العربي الإسلامي دون الأخذ بعين الاعتبار هذه المُسْبَقات التاريخية ، يُعتبر في رأيي إصراراً على تكريس إفشال الرغبة في تحقيق التنوير كمشروع منتمٍ للسياق الحضاري والثقافي الاجتماعي العربي الإسلامي و معبّر عنه، ويغذّى من حيث يدري أو لا يدري النزعات المعادية للتنوير تحت ذريعة الهوية المهدّدة. هذا الطرف الثاني يقود أيضا إلى تكريس خطاب يُحيل و يُؤكّد على استحالة تحقيق و تأسيس مفهوم للتّنوير ينتمي للسياق العربي الإسلامي ينبثق منه و يعبّر عنه.

إنّ المخرج من مأزق هذين الطرفين المهيمنان على فضاء تشكّل الخطاب في السياق العربي الإسلامي يكمن في رأيي في الممارسة التنويرية في ذاتها أي في طرح سؤال التنوير و الإجابة المباشرة عنه بشكل ينبع و يتولّد من السياق التاريخي و الثقافي الحضاري لطرح التساؤل، فلنجب إذن عن سؤال ماهو التنوير بالنسبة لنا ضمن سياقنا؟.

ــــــــــــــــــــــــــ

1.أسقطت من الأخذ بالاعتبار هنا طرفا ثالثا يتميز برفض التنوير كمفهوم و كخطاب فكري جملة و تفصيلا بشكل مسبق و يعتمد فهما تقليدويّا ماضويّا في التعاطي مع الهويّة و في تعريف المفاهيم ، سبب إسقاطي لهذا الطرف التقليدوي هو غياب الأرضية المشتركة لبناء حوار فكري معه يشترط القبول المبدئي بالاختلاف في وجهات النظر و طرق المقاربة دون ممارسة سياط التكفير و الالغاء للآخر المغاير.

2. الأنسنة أو الأنسنية أو الإنسانوية أو النزعة الإنسانية أو المذهب الإنسانوي يقابل في اللغات الأوروبية بمصطلح Humanism

3. أنظر مقالة كانط التي أصدرها في سنة 1784 في المجلّة الشهرية البرلينيّة  تحت عنوان : الإجابة عن سؤال ماهو التنوير؟.

   „A u f k l aer u n g ist der Ausgang des Menschen aus seiner selbst verschuldeten Unmündigkeit. Unmündigkeit ist das Unvermoeِgen, sich seines Verstandes ohne Leitung eines anderen zu bedienen... Habe Muth dich deines eigenen Verstandes zu bedienen! ist also der Wahlspruch der Aufklaerung.“  Beantwortung der Frage: was ist Aufklaerung? Immanuel Kant; Berlinische Monatschrift. Dez. 1784

4.  „Die Maxime, jederzeit selbst zu denken, ist die Aufklaerung“ Immanuel Kant.

5. اللاّهوت أو الثيولوجيا و هو التمظهر التاريخي المدرساني النسقي الممأسس للدين في سياقه الأوروبي و أجد أنّ الإستعمال و الإسقاط المباشر لهذا المصطلح في السياق العربي الإسلامي يسبّب الكثير من سوء الفهم والإشكال و الخلط المفاهيمي، حيث أنّ ما يقابلها في السياق العربي الإسلامي هو مصطلح أصول الدين أو مباحث العقيدة و يختلف هذا مع الإحالات المفاهيمية السيميائية و الدلالية لمصطلح اللاهوت أو الإلاهيات ، و تنبغي هنا الإشارة إلى التمايز المفهومي و التعريفي بين مصطلحي و مفهومي كلاّ من الدين و اللاّهوت و عدم التماثل و التطابق بينهما و التفصيل في هذا الأمر يحتاج بذاته مقالا آخر.

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=626&idC=2&idSC=5

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك