الإسلاميون ومفهوم الدار: من قسمة الخارج إلى تقسيم الداخل

أنـور أبـــو طه

 

مفهوم "الدار" مفهوم تراثي، أنتجه الفقهاء اجتهادًا في ضوء تحولات الاجتماع السياسي الإسلامي التاريخي، سواء في علاقة السلطة بالمجتمع، أم في تجمُّع المسلمين السياسي (سلطتهم) بالعالم والدول من حولهم، حربًا، وسلمًا، وموادعة. وهو بذلك مفهوم لبيان موقف الفقهاء تجاه المعمورة (العالم)، والتقسيم "الإسلامي" لهذه المعمورة.

 

ومفهوم "الدار" من مباحث "السلفية الجهادية" المهمة فيما يقومون به من أعمال حربية ضد الدول والحكومات، وصولاً إلى حدث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001م، الذي أكسب التصور الفقهي التراثي للعالم أهمية معاصرة، فعملية القاعدة في برجي التجارة العالمية استندت -فيما استندت إليه- إلى هذا المفهوم، وفق التصريح الشهير لزعيمها أسامة بن لادن عندما قال: "إن هذا الحدث قد قسَّم العالم إلى فسطاطين"، ويقصد بذلك إلى دار حرب ودار إسلام، أو دار كفر ودار إسلام وإيمان، وفق التقسيم الفقهي التقليدي، وعليه "فغزو" الولايات المتحدة في إحدى صوره وأسبابه كان لاعتبارها دار حرب ودار كفر.

 

ولا يخفى بذلك أهمية هذا المفهوم، وتحديدًا في تشكيل بنية الوعي الإسلامي المعاصر في حراكه السياسي الخاص بالداخل الإسلامي، وعلاقته من ثَم بالعالم الراهن، وما قد ينتجه هذا الوعي من نتائج وِفَاقِية أو صراعية.

 

مفهوم الدار والبحث عن أصل له

 

عبدالقادر بن عبدالعزيز

 

ومفهوم "الدار"، والتقسيم الفقهي للعالم، لا نجد له أصلاً مباشرًا وواضحًا في القرآن الكريم، وفق ما قدمه الفقهاء من تفريق بين دار إسلام، ودار كفر، ودار حرب، وغيرها من التقسيمات، بل يتم التوسُّل عمومًا بالأحاديث النبوية، وبشكل أدق بالسيرة النبويّة ووقائعها التاريخية، ولكن السنة لم تكن تقدم تصورًا لتقسيم العالم، بقدر ما قدمت أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله إمكانية لتفسيرها وفق مقتضى الواقع التاريخي الذي أفرزته ظروف نشوء الخلافة الإسلامية، وامتدادها بالفتوحات على رقعة العالم القديم؛ ولذلك ارتبط مفهوم "الدار" بالنفوذ السياسي للخلافة عبر بسط النظام الذي تقوم عليه على البلدان، أو انحساره عنها.

 

والرأي المتقدم من خلو القرآن من إشارة واضحة إلى التقسيم المذكور، ترفضه "السلفية الجهادية" وعلى رأسهم منظرهم عبد القادر بن عبد العزيز في كتابه "الجامع في طلب العلم الحديث"، مؤكدًا حصول الإجماع بين علماء الأمة من السلف والخلف على هذا التقسيم، وأن هذا الإجماع لا بد أن يستند إلى دليل من الكتاب، ولكنه عند ذكر الآيات التي يقدمها دليلاً على رأيه، لا يقدِّم إلا آيات عامة تفيد قضايا عامة أخرى، كعموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم للعالم، الأمر الذي سيفضي إلى انقسام العالم بين مؤمن بدعوته وكافر بها، وفرض هجرة المسلم من الأرض، وغير ذلك من الآيات. وكلها لا تتضمن تصريحًا بالتقسيم الفقهي التقليدي. وتبقى المسألة محض اجتهاد فقهي واجه به الفقهاء ما فرضته حركة الاجتماع الإسلامي تجاه المجتمعات والدول الأخرى، سواء بالفتح، أو الدعوة، أو الدفاع عن أرضهم ومعتقداتهم.

 

وأما شكل هذا التقسيم الذي يذهب إليه ابن عبد العزيز فهو إعادة إنتاج المدونة الفقهية لهذا التقسيم، إلا أنه يعرضه وكأنه ثابت من ثوابت الدين، ومعلوم منه بالضرورة، وأن لا خلاف، سواء حول أصل التقسيم أو ما يتفرع من تقسيمات أخرى.

 

وأصل التقسيم الذي يعرضه هو أن الدار: إما دار إسلام وإما دار الكفر، و"دار الإسلام هي البلاد الخاضعة لسلطان المسلمين وحكمهم، وأن دار الكفر هي البلاد الخاضعة لسلطان الكافرين وحكمهم". وأما كيف يتعيّن نوع الدار (مناط الحكم) إن كانت إسلامية أو كفرية، فالرأي عند ابن عبد العزيز هو "نوع الأحكام المطبقة فيها والتي تدل على من له الغلبة فيها". وهو بذلك يحصر تعريف الدار بأنها إسلامية بمسألتي نوع الحكم، ومدى توفر القوة والغلبة للسلطة على المجتمع، الأمر الذي يوفّر قدرة فرض الأحكام الإسلامية، وهو بذلك لا يكترث بأي محدد آخر، فلا عبرة بمن يسكن هذه الدار إن كانوا مسلمين، أو كفار من أهل الذمة وغير ذلك، ولا عبرة بإقامة أحكام الإسلام إذا لم تكن هناك من قوة وسلطة قهرية تحميها، بل ولا عبرة إن كان هناك مسلمون في الدار يستطيعون إقامة أحكامهم ويتمتعون بالأمن، ولا عبرة بالحدود الجغرافية للدار إلا في حدود سلطة هذه الدولة التي تقيم هذه الأحكام. ليصل إلى النتيجة التي يريدها وهي "إن البلاد التي أكثر أهلها المسلمون، ولكن يحكمها حكام مرتدون بأحكام الكفار بالقوانين الوضعية هي اليوم ديار كفر وإن كان أكثر أهلها مسلمين يمارسون شعائر دينهم، كإقامة الجُمع والجماعات وغيرها في أمان، فهي ديار كفر لأن الغلبة والأحكام فيها للكفار، أما إظهار المسلمين لشعائر دينهم فليس هذا راجعًا إلى شوكة المسلمين، ولكن لأنه مأذون فيه من الحاكم الكافر، ولو أراد أن يبدِّل أمنهم خوفًا وفتنة بشوكته وجنوده لفعل كما هو واقع في كثير من البلاد اليوم باسم محاربة الإرهاب والتطرف الديني".

 

من الخارج إلى الداخل الإسلامي!

 

إن هذه الثنائية الحادة في العقل السلفي بين دار إسلام/ دار كفر، والقائمة في الجدل الفقهي التراثي كشكل من أشكال علاقة الداخل الإسلامي مع العالم الخارجي، تحوّلت على يد "السلفية الجهادية"، إلى ثنائية في قلب الداخل الإسلامي، وأداة تَحْكُم بها على المسلمين بالإقصاء بل والحرابة؛ إذ ما دامت ديار المسلمين وبلدانهم ديار كفر وردة فهي دار حرب "يجوز للمسلمين قتال أهل هذه الديار وقتما شاءوا"، وهي ضمن المنطق السلفي ليست دار كفر من النوع الذي توصف به دار العهد؛ لأنه ما من عهد قائم بين "خليفة المسلمين الغائب" وبين أهل هذه الديار من المسلمين، وبذلك فإن الشكل الوحيد المتبقي هو العلاقة الحربية؛ لأن العلاقة الأصلية مع الكفار بحسب العقل السلفي هي الحرب، وعليه "لا تجوز موادعة الكفار (= دار الكفر) على الصلح وترك الحرب إلا بالنظر إلى مصلحة المسلمين، كأن يكون بهم ضعف؛ لأن الله فرض قتال الكفار حتى يكون الدين كله لله، ولم يفرض مسالمتهم ومصالحتهم إلا عند الحاجة...، ولا يجوز عقد الهدنة إلا من إمام المسلمين أو من يُنيبه، ونظرًا لغياب هذا الإمام في زماننا فلا اعتبار لأي معاهدات دولية يعقدها الحكام الكافرون لصدورها ممن ليست لهم ولاية شرعية على المسلمين".

 

والنص المتقدم هو رأي عبد القادر بن عبد العزيز الذي وافق فيه رأي سيد قطب، الذي عرّف دار الإسلام بأنها "كل بلد تطبَّق فيه أحكام الإسلام، وتحكمه شريعة الإسلام، سواء كان أهله كلهم مسلمين، أو كان أهله مسلمين وذميين، أو كان أهله كلهم ذميين، ولكن حكامه مسلمون، ويطبقون فيه أحكام الإسلام، ويحكمون بشريعة الإسلام"، وسيد قطب هنا لا يقيم وزنًا إلى نوع السكان القاطنين للدار. وما دامت البلدات العربية -بحسب سيد قطب- لا تحكم بشريعة الإسلام فهي دار كفر حُكْمًا. والرأي نفسه كرره قادة "السلفية الجهادية" من أمثال صالح سرية، ومحمد عبد السلام فرج، وأيمن الظواهري.

 

إن مفهوم "الدار" الذي هو عماد "الرؤية الانقسامية للعالم"، يستثمره ابن عبد العزيز ليطاول قسمة ديار المسلمين نفسها، ومن ثَم من فيها من المسلمين، ولئن كان مدخل القسمة سياسيًّا يتعلق بنظام الحكم، فإن الأمر سرعان ما يتحول إلى مدخل عقدي باعتبار دولة الإسلام دولة فكرة وعقيدة في الأساس. ويتم نقل مفهوم "الدار" من ساح العلاقات الدولية إلى ساح العلاقات الإسلامية.

 

إن نص العقل السلفي الجهادي الذي ينظر إلى العالم وأقسام المعمورة من نافذة الحكم والسياسة سرعان ما تفضي قسمته تلك إلى إيمان وكفر، وإسلام وشرك، وعهد.

 

إنه نص يتجاوز نزعة الخطاب الأيديولوجي السلبي، ليقيم بنيانًا لوعي مفارق للواقع تمامًا، فهو يبني نموذجه السياسي ويُعليه، ويشيِّد مؤسساته، ويرفع أركانه، بشكل افتراضي (نموذج مفترض)، ولكنه يتعامل معه وكأنه متحقّق، لينطلق من ثَم إلى محاكمة العالم والدول والأفراد وفق موقفهم من هذا النموذج السلفي المفترض، إن كان قبولاً به، أو رفضًا له، ويحكم عليهم بالإسلام أو الكفر، بالسلم أو الحرابة ليُنْزِل بهم القصاص.

 

هدم النص وبناء التصور الافتراضي!

 

وهذا النموذج السلفي المفترض في وعيه بالذات، وبالعالم، وبالدور المنوط به من لدن الله، نموذج ينتظم ويتواصل ويتحدد نتيجة حوارية داخلية مغلقة تدور حول النصوص المقدسة ورموزه وتاريخه، يبدأ من النص وينتهي بالنص، من دفّة كتاب الفقيه والمرجعية الفقهية التراثية وصولاً إلى كرّاسات التنظيمات الجهادية ومنشوراتها، وحديثًا مواقعها على الإنترنت.

 

ولكن هذا النموذج سرعان ما يتضاءل ويَصْغُر من العالم الحقيقي إلى حدود وتخوم جماعته الصغيرة التي سرعان ما ينشق الأمراء عن بعضهم، ليصير طباق النموذج على الأمير الجديد وبعض الأفراد من حوله.

 

إنه وعي زائف لا بالنص المرجعي والفقهي أيضًا، وهنا المفارقة، فهو خطاب يهدم النص ليعيد بناءه وفق تصور افتراضي، ويهدم العالم ليضم عالمًا افتراضيًّا، هو تعبير مأزوم لعلاقة مع نصٍ أُنتج بالتفاعل والتثاقف مع العالم، ليعيد قراءته وإنتاجه في الدائرة الداخلية المغلقة فحسب، قراءة تفصل الذات عن تاريخيتها. وهو تعبير مأزوم في رؤيته للعالم والعصر، إن لجهة علاقاته الدولية، أو نمط دوله الحديثة القائمة على القانون والمواطنة والفردنة وتداول السلطة ومدنيتها وغير ذلك.

 

وهذه القراءة يفسرها رضوان السيد في كتابه "الصراع على الإسلام" بوصفها نتاج ثقافة الهوية الطهورية "وإذا كانت ثقافة الهوية من جهة ثقافة صون وحفظ للذاتية التي تتوهم تهددها، فإنها من جهة ثانية ثقافة طهورية، ثقافة المقدس والمدنس، وهي من أجل ذلك ثقافة انفصالية، إنها تحاول الانفصال عن العالم لحفظ الذات، ولكن مصدر التهديد للذات ليس محددًا بحيث يمكن سحقه أو مقاومته على الأقل، إنه العالم كله، ومن أجل ذلك فإن رموز الخيرية التي تستعمل للذات (التقوى والجهاد والاستشهاد) تقابلها رموز الشر التي تدل على العالم الآخر (الجاهلية)".

 

القراءة الإخوانية لمفهوم "الدار"

 

وإذا كانت "السلفية الجهادية" بمفهوم "الدار" تستند إلى المرجعيتين النصية والفقهية لتضع الإسلام في مواجهة عالم الكفر والجاهلية، خارجيًّا كان أو داخليًّا، فإن جماعة الإخوان وضمن توجهها التوافقي مع العالم، والتصالحي مع المجتمعات، سعت لقراءة مفهوم الدار التراثي بما يحقق هذا التوجّه.

 

ونحن لا نجد معالجة في نص البنّا لهذا المفهوم، إلا أن الإخواني الفقيه عبد القادر عودة قدّم قراءة مختلفة تمامًا عن قراءة "السلفية الجهادية"، وتحديدًا في الحكم على بلاد المسلمين اليوم. يقول في كتابه "التشريع الجنائي": "دار الإسلام هي البلاد التي تظهر فيها أحكام الإسلام، أو يستطيع سكانها المسلمون أن يُظهروا فيها أحكام الإسلام، فيكون من دار الإسلام كل بلد سكانه كلهم أو أغلبهم مسلمون، وكل بلد يتسلط عليه المسلمون ويحكمونه ولو كانت غالبية سكانه من غير المسلمين، وأيضًا كل بلد يتسلط عليه غير المسلمين ما دام فيه سكان مسلمون لا يوجد ما يمنعهم من إظهار أحكام الإسلام".

 

إن رأي عبد القادر عودة جعل مناط الحكم على الدار إن كانت دار إسلام أم لا، هو مسألة "إظهار أحكام الإسلام"، دون اعتبار بمن يسكن الدار إن كانوا مسلمين أم لا، وعبارة "إظهار أحكام الإسلام" لا تعني بالضرورة قضية الحكم بما هو دولة إسلامية، معتبرًا أن البلد إن تسلّط عليها غير المسلمين أي كانت حكومتها غير إسلامية، وفيها مسلمون يقيمون الأحكام، (وأقلها وفق فقهاء الزيدية أحكام الصلاة والشهادتان)، فهي دار إسلام ويفهم من هذا الحكم والرأي أن كل الدول التي يستطيع الإنسان المسلم أن يقيم فيها تعاليم وأحكام دينه، ويظهر شعائره تعتبر دار إسلام، وإن تحول نظام الحكم، وأصبح غير إسلامي بعد أن كان يحكم بشريعة الإسلام، وذلك كواقع معظم كل دول العالم الإسلامي في هذا العصر.

 

حزب التحرير ومفهوم "الدار"

 

 

تقي الدين النبهاني

 

ولا يختلف موقف حزب التحرير الإسلامي ومؤسسة تقي الدين النبهاني قيد أنمله عن موقف "السلفية الجهادية" ومنظرهم ابن عبد العزيز، إذ يعرّف النبهاني في كتابه "الشخصية الإسلامية" دار الإسلام بـ«البلاد التي تخضع لحكم الإسلام، ويحكمها المسلمون، سواء أكان سكانها مسلمين أم كانوا ذميين».

 

ووفق تعريفه فهو لا يجعل من انتماء السكان الديني عاملاً محدداً في تعريف الدار، ويكتفي بمعيار الحكم وطبيعة النظام السياسي في تعيين الدار، إن كانت دار إسلام أو دار كفر، إلا أنه أيضاً يشترط أن يكون السلطان والقوة للمسلمين في الدار التي تحكم بالإسلام، وإلا فالدار دار كفر وحرب، وبمصطلحه، أن يكون أمان أهلها بأمان المسلمين، أي بقوتهم وسلطانهم، فلو عين الكافر حاكماً مسلماً وحكم بالإسلام فالدار دار كفر وحرب؛ لأن أمانه بأمان الكافر الذي عينه لا بأمان المسلمين.

 

ووفق تعريف النبهاني الذي يتطابق فيه مع جمهور المرجعية الفقهية من الفقهاء، يصل للنتيجة التي هي حكمه على بلاد المسلمين راهناً بالكفر قائلاً «إن جميع بلاد المسلمين اليوم هي دار كفر، لأنه لا تحكم بالإسلام».

 

وضمن منطق التصعيد النصي الداخلي المغلق يستمر النبهاني في حجاج لا يقيم وزناً وفرقاً للاختلاف بين مفهوم "الدار" التراثي، وعموم ساكنيها من المسلمين، فدار الكفر هي حكماً دار حرب، «كلاهما بمعنى واحد» كما يقول: و«المسلمون مأمورون بالحرب، أي بالقتال حتى يقول الناس لا إله إلا الله، أو حتى يخضعوا لأحكام الإسلام، فإن خضعوا لأحكام الإسلام وقع عنهم القتال ولو ظلوا كفّاراً، وإن لم يدخلوا تحت حكم الإسلام يحاربون، فسبب حربهم كونهم كفاراً لم يستجيبوا للدعوة، وسبب وقف القتال قبولهم الحكم بالإسلام».

 

ومعلوم أن المسلمين في البلدان الإسلامية يقولون لا إله إلا الله ويقيمون الشعائر، ولكن الأمر لا يمنع من قتالهم وحربهم لأنهم يعيشون في دار الكفر ـ وفق حكمه ـ التي لا تحكم بالإسلام لأن إسلامهم لا يشفع لهم بشيء ولا يحول دون حربهم.

 

والنبهاني في موقفه هذا يعتبر أن أصل العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين هي الحرب، وليس السلم، أو حتى الدعوة والهداية، ولكن مفهوم الدار يجعل المعركة مع المسلمين أنفسهم كما أوضحنا سابقاً عند حديثنا عن مفهوم "الدار" لدى "السلفية الجهادية".

 

وأما المآلات التي توصل إليها حزب التحرير في بيان طريقة تغيير "دار الكفر" - وهي هنا "بلاد المسلمين" - وهي طريقة حرب وقتال الممتنع عن الحكم بالشريعة سواء كان حاكماً أو محكوماً، هذه المآلات تخالف نهج حزب التحرير الذي قصر الطريقة على حمل الدعوة بالصراع الفكري والسياسي، ونص على عدم استعمال الحزب للقوة المادية سواء للدفاع عن نفسه أو ضد الحكّام.

 

أبو حنيفة ورأيه المهدور!

 

لقد طمس كل من عبد القادر بن عبد العزيز وتقي الدين النبهاني، فيما قدّماه من مفهوم للدار، رأيًا مشهورًا للفقيه أبي حنيفة، وهو أول من قدّم مفهوم "دار الإسلام" (150هـ/ 767م)، وقد قدمه ضمن وجهة داخلية، أي في سبيل الدفاع عن إسلام الجماعة، وسلامة الأمة ومستقبلها، في وجه الجماعات الحزبية المكفِّرة للآخرين من المسلمين، ممن لا يوافقونها في توجهاتها، معلياً الجماعة على السلطة، يقول أبو حنيفة: إنه يشترط لتحوُّل الجزء الذي تَغَلَّب عليه أهل الكفر والحرب من دار الإسلام إلى دار حرب شروط ثلاثة، الأول: أن تتحقق متاخمتها واتصالها بدار الحرب بشكل كامل، وذلك بأن لا يتوسط بينهما أي إقليم إسلامي. الثاني: أن يزول الأمان الأول الذي كان قبل زوال سلطة المسلمين واستيلاء الكافرين عليها. الثالث: أن تظهر أحكام أهل الكفر فيها، وذلك بأن يصبح نظام الحكم النافذ فيها لأهل الشرك والكفر، وأن لا يُحكَّم فيها حكم المسلمين.

 

إن أبا حنيفة لم يكتف بالشرط السياسي السلطوي في تعريف الدار، بل إن وجود الجماعة المسلمة مع زوال سلطانهم لا يحيل دار الإسلام إلى دار كفر، لأن شرط تحولها هو بتمام الشروط الثلاثة مجتمعة، فإذا وجدت الشرائط كلها صارت دار حرب، وأما عند تعارضها تبقى على ما كانت عليه، وهو الإسلام، وضمن هذا التوجّه يقول أحد فقهاء الحنفية المتأخرين الأسبيجاني (من القرن السابع الهجري) ممن بقي ملتزماً برأي أبي حنيفة «... قد تقرر أن بقاء شيء من العلَّة يُبقي الحكم. وقد حكمنا بلا خلاف بأن هذه الديار قبل استيلاء التتار عليها كانت من ديار الإسلام، وأنه بعد الاستيلاء عليها بقيت شعائر الإسلام كالأذان والجُمع والجماعات وغيرها، فتبقى دار إسلام».

 

وما تقدم من رأي أبي حنيفة وبعض تلامذته هو تلازم السلطة والجماعة، فإن افترقا تُقدَّم الجماعة، ولا ينتفي حكمها بوصفها دار إسلام بانتفاء السلطة وحدها، والجماعة هنا كل من سكن ديار الإسلام الأصلية من مسلمين وذميين، أي من كان أمانهم بأمان المسلمين، وهي إشارة واضحة إلى ركائز دار الإسلام التي تحققت في القرن الأول وهي وحدة الأمة، ووحدة الدار، ووحدة السلطة.

 

ولكن مأزق "السلفية الجهادية" و"التحريريين" هو أن حكم الهجرة من الدار التي تصبح دار كفر ـ وهو الحكم الأصلي بنص الآيات التي يُستَشهد بها ـ هو حكم متعذِّر، فيتعلق الأمر حينئذ بالجهاد، جهاد السلطة الكافرة، وجدل الهجرة أم الجهاد بقي بفعل ثقل التراث الفقهي، مؤثراً في العديد من تاريخ البلدان الإسلامية بعد وقوعها تحت سلطة الاستعمار الحديث كالهند والجزائر وليبيا وغيرها من الدول.

 

ولكن إذا كانت الهجرة هي التي أقامت دولة الإسلام في المدينة، والجهاد هو الذي حماها، فإن مفهوم الهجرة والجهاد بمفهوم السلفية المعاصر هو الذي يُفرِّغ دار الإسلام التاريخية من ساكنيها، وفي حال تعذره فإن مفهوم الجهاد هو الكفيل بتفكيك وحدة الأمة (الجماعة) التاريخية في بلدانها

 

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=875&idC=1&idSC=3

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك