نقد الحوارات العربية

أ.د. سيّار الجَميل

 

هل ينجح العرب في حواراتهم التي كثيرا ما تسيء إليهم هذه الأيام باستخدام آخر مبتكرات العصر ، ونحن نرى أساليب مناقشاتهم ومداولاتهم ومجادلاتهم سياسية أم ثقافية ؟ ترى المتحدث منهم يبدأ هادئا مستأنسا ومرنا ، ولكن سرعان ما يتغّير وينقلب على عقبيه مهتاجا ويفقد أعصابه .. إن العرب لم يتربوا أبدا على امتداد القرن العشرين تربية حوارية ديمقراطية حرة لا في بيوتهم ولا في مدارسهم ولا في جامعاتهم ولا حتى في أروقتهم السياسية أو رحاب تجمعاتهم الحزبية ! وتكمن المشكلة الأساسية في من هو غير مستّعد لقبول رأي الآخر، كما ولم يستفد أبدا من تجربته هو نفسه، علما بأن العرب تميّزوا بمواريثهم الرائعة في أصول أدب الحوار والنقد والمجادلة منذ عصور خلت !

السؤال : ما الذي يفتقده العرب اليوم ؟ ما الذي ينقصهم ؟

1) غلبة العاطفة على العقل من دون أي تحكيم للرأي السديد على الرأي السائد! وغلبة وجهات النظر العامة على المعلومات الدقيقة والتسرّع في إطلاق الأحكام من دون التأكد من صحة الأقوال والنصوص والآراء والمعلومات ! والتناهي في ادعاء المعرفة ،بتغليب الوازع الأيديولوجي والعاطفي على النزوع العلمي والمعرفي .

2) الافتتان برأي العامة وترضية الناس والجماهير (= العامة في عرف الماضي ) على حساب رأى النخبة (= الخاصة في عرف الماضي ) ، وتسويق بضاعة يتقبلها الرأي العام ويهتاج لها بعيدا عن ذوى الاختصاص ، وذلك من اجل كسب عواطف الأغلبية وكثيرا ما تضلل الجماهير والأغلبية من قبل أولئك المنبريون والوعاظ الإنشائيون!

3) التربية الخاطئة للأجيال الجديدة بتعظيم الذات على حساب الموضوع ، والتسّتر على الخطأ ازاء النقد والمحاسبة ، وعدم الاعتراف بالخطأ . لقد بقي الإنسان في عالمنا يسمع ولا يتكلم ، يناور ولا يجادل ، يتستر ولا يكاشف ، يدارى ولا يواجه ، فلما يكبر ويواجه الآخرين يبقى يعاند ويكابر ولا يتراجع ولا يصحّح اذ تأخذه العزّة بالاثم !

4) الإصرار على الرأي الخاطئ بالمكابرة والمعاندة اذ يتخّيل صاحبه ، انه سيفقد قيمته واحترامه وشخصيته بل وحتى أخلاقه ، وهذا ما انطبع به وما ترّبى عليه من خلال مواريثه الاجتماعية .. ناهيكم عن القيم السياسية الضارة التي ترّبى عليها وبطريقة سيئة على امتداد قرن كامل !

5) انعدام كل من اللياقة الأدبية والأسلوب الحضاري في فن الإلقاء والتكلم والحديث وحتى الجدل مع بلادة التواصل وبلاهة الاستهلال وسوء الختام ! أن أدب النقد والحوار مفقود مع الأسف في بيئاتنا قاطبة، علما بأننا نمتلك ميراثا راقيا في أدب المحادثة والمشافهة ! يقاطع أحدنا الآخر دون احترام ! ويتهجم أحدنا على الآخر دون وازع من أخلاق! ويشارك كل من هّب ودّب في الحوار عن موضوعات يجهلونها، فكيف نتخيّل الصورة إذن ؟

6) والكّـل ينادى بالديمقراطية عندنا وهى من أعظم الظواهر البشرية ، ولكن للديمقراطية أساليبها وأدبياتها وآلياتها ، إذ لا يكفي أن تتحقق دعاواها ، فالأمر اخطر بكثير من حجم ذلك .. إنها تربية وأحكام وأسلوب ثقافة وحياة وأعراف مجتمع وأدبيات ومؤسسات .. فما أروعها تلك الديمقراطية التي يمارسها الإنسان في أدب الحوار ، من اجل بناء تكاملي للأجيال القادمة؟

أن تزايد وسائل الاتصالات ، وتزاحم الإذاعات ، وكثرة الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية مع الإقبال على القنوات التلفزيونية والفضائيات : بدايات تتفاقم فيها المثالب والسلبيات وتتعرّى من خلالها التناقضات ! وعلى الرغم من الرأي القائل بأنها : ظاهرة صحية في ان يمارس العرب ديمقراطيتهم وعلى طريقتهم الخاصة ، ولكن تبقى حاجتهم الأساسية إلى الكيفيات والأساليب والأدوات في أداء حواراتهم التي سوف لا يغيب عنها التشنّج والمكابرة والإصرار على الخطأ والتربية البليدة والمرجعيات العنيدة .. التي ليس من السهولة التنازل عنها او تلاشيها ؛ خصوصا عند ذلك المتعصّب الذي يغالي برأيه ، وسيبقى هذا النزوع يعيش لامد طويل ، وسوف تتوالد عن ذلك المزيد من التناقضات والانقسامات في التفكير الذي هو بأمس الحاجة إلى تربية حرة وجديدة .

وعليه ، أقول : أن من لا يؤمن بالحرية والديمقراطية والرأي الآخر ، فليس من حقّه محاورة الآخرين ! ومن لم يحترم رأى خصمه ، فليس له الحق الدفاع عن رأيه ، ومن يتـّقدم لأي محاورة او مجادلة ، فان عليه التنازل قليلا أمام المعلومات الصحيحة ويعترف أن لم يكن بخطئه ، فبعدم معرفته بالأمر ، وان يكون المحاور شجاعا مع نفسه ومع الآخرين ، وان لا يخشى ان اصطدم رأيه أو وجهة نظره مع الأغلبية ، فربما كانت تلك ” الأغلبية” مخدوعة على امتداد عقود من السنين ! وعلى المحاور مواجهة خصمه بالمعلومات والحقائق والأرقام لا بالنصوص والأقوال والمفبركات والأشعار ! وان يجيد لغة العصر ومستحدثاته وأساليبه والياته ، إذ لا يكفي استخدامه لمبتكراته واستهلاكه لمنجزاته وهو قابع في أقصى زمانه وانعزالياته ! وأن يكون مهـّذبا في لغته وألفاظه، ينّـزه نفسه عن السباب والكلمات النابية ! وان يتعلم أدب الحوار من عند الفضلاء القدماء لا من أساليب السفهاء واهتياج الجهلاء ، وكم اتمنى ان تقرأ الاجيال الجديدة اساليب حوار الاباء والاجداد ، وان يتفقه في قوله تعالى ( وجادلهم بالتي هي أحسن .. ) .. وكم اتمنى على وسائل الاعلام العربية ان تنتقي المذيعين المحاورين من خلال تمّيزهم الرائع .. وان يكون المحاور حليما مترويا صبورا.. عند هذا وذاك ، نكون قد وضعنا نحن العرب خطواتنا الحقيقية في بدايات الطريق الطويل ، لكي يأتي من بعدنا اكثر من جيل باستطاعته ان يفهم ويدرك ويجيد الحوارات العربية وما ذاك عليه ببعيد .

المصدر: http://sayyaraljamil.com/2006/08/31/1061.html

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك