الجدل الفقهي حول أسلحة الدمار الشامل

عبد الرحمن الحاج

 

لم يؤد حدث انفجار القنبلتين الذريتين في نياغازاكي وهيروشيما إلى إطلاق نقاش فقهي حول أسلحة الدمار الشامل حسب علمي، ولم يثر أيضاً ضرب مدينة حلبچا الكردية بالأسلحة الكيماوية جدلاً فقهياً حول هذا الموضوع، وحتى اليوم - وفي ذروة الجدل العالمي حول مساعي إيران لامتلاك السلاح النووي- فإن الخطاب الفقهي ما يزال بعيداً عن نقاش حقيقي وجاد في هذا الموضوع، ولا أدري إن كان هناك نقاش داخل إيران في ذلك، وأياً ما يكن الأمر فإن الخطاب الفقهي يبدو في هذه القضية غير موسمي، على خلاف ما يفترض فيه التعلق بالحوادث والأحكام التفصيلية والنوازل، وربما يكشف هذا الجدل جانباً من المشكلة في الخطاب الفقهي.

 

وعلى الرغم من أن الإسلاميين والفقهاء لم يكونوا مهتمين كثيراً ببناء أحكام فقهية يتعلق بموضوع أسلحة الدمار الشامل في الأحداث إياها، إلا أنهم ناقشوا المسألة وأسسوا أحكاماً لها في إطار التنظير الفقهي لـ"الدولة الإسلامية"، وأحكام الجهاد "المعاصرة"، وذلك في ظل تطور أدوات القتال وظهور "الكفار" على أهل الإسلام، قد يكون لهذا المكان الذي نوقشت فيه أحكام أسلحة الدمار الشامل بعيداً عن الأحداث دلالته في التوكيد على استحواذ استعادة الخلافة ودولة الإسلام على التفكير الفقهي في المجال السياسي.

 

قضيتان أساسيتان هما مدار النقاش الفقهي لأسلحة الدمار الشامل هما: امتلاك السلاح للردع، وثانيهما استخدام السلاح، ومن حيث المبدأ ليس هناك تمييز فقهي في الأحكام بين مختلف أنواع أسلحة الدمار الشامل (الكيميائي والبيولوجي والنووي) وإن اختلفت درجة الخطورة فيما بينها، ويميل الذين تناولوا هذه المشكلة من منظور فقهي إلى وجوب امتلاك هذه النوعية من الأسلحة للردع استدلالاً بالآية الكريمة: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم"، وعلى أساس أن حفظ "بيضة الإسلام" ـ حتى لو لم تأت نصوص صريحة بوجوب امتلاك القوة ـ فإن على أهل الإسلام تحصيل كل ما من شأنه تحصين دينهم ودولتهم من الأعداء وذلك وفق ما تقتضيه مقاصد الشريعة والمصلحة المرسلة.

 

وباستثناء الشيخ جودت سعيد الذي يرى أن امتلاك أسلحة الدمار الشامل يشجع على صناعتها، ويعزز استخدام مبدأ العنف والتدمير أساساً لحل الصراعات وهو أمر يناقض مقاصد الشرع، فإن لا أحد تناول فقهياً أسلحة الدمار الشامل يذهب إلى عدم وجوب امتلاك أسلحة الدمار الشامل، وللتوضيح فإن جودت سعيد ـ الذي عرف بالدفاع عن فكرة اللاعنف في المجال الإسلامي ونذر حياته لذلك ـ لا يرى جواز امتلاك أسلحة الدمار وليس فقط "عدم الوجوب"، وفي سياق رده على الآية "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم"، أن القوة لا تعني بالضرورة العنف، وأن قوة الكفاح السلمي تفوق قوة عنف أسلحة العالم، معتمداً في ذلك على إعادة تعريف مفهوم القوة في إطار العالم الحديث ومبدأ؟ ادفع بالتي هي أحسن؛ فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم؟.

 

في قضية استخدام أسلحة الدمار الشامل ثمة تمييز بين استخدامها ابتداء وبين استخدامها رداً بالمثل، مرة أخرى لا يختلف الذين تناولوا هذه القضية في جواز المعاملة بالمثل، إذا استخدمت أحد أسلحة الدمار الشامل ضد أهل الإسلام على أساس أن المعاملة بالمثل حق أقره الشرع بنص قاطع في القرآن الكريم في الآية: ?فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم?، بل أكثر من ذلك يذهب هؤلاء إلى وجوب استخدامه حتى لو تحقق النصر للمسلمين بدونه لأنه معاملة بالمثل.

 

غير أن من يذهب إلى وجوب الرد بالمثل لا يتوقف كثيراً عند أحد أهم مقاصد الشريعة الإسلامية "حفظ النفس"، والنفس هنا ليست بالضرورة هي النفس المسلمة، الشريعة جاءت لحفظ النوع البشري وأسلحة الدمار الشامل تعمل لإبادتها، وليس من الهيِّن فقهياً إجازة استخدام هذا النوع من السلاح للرد بالمثل حتى لو تحقق الانتصار بدون استخدامها.

 

الخلاف حول استخدام أسلحة الدمار الشامل ابتداء لحسم المعركة يبقى في حدود تفسير معنى "الضرورة" الموجبة لاستخدامه؛ إذ ثمة اتفاق على إجازة الاستخدام عند الضرورة، والمسألة مناطة بتقدير المصلحة المعبر عنها بالضرورة، فيما إذا كان ـ مثلاً ـ للعدو إمكانية الرد بالمثل، أو كانت النتائج المترتبة على استخدامها قد تعود على المسلمين بالضرر الفادح في المستقبل.

 

تستند الحركات الإسلامية الراديكالية (كالقاعدة وأخواتها) إلى مبدأ الضرورة ذاك، بالإضافة إلى الحكم الفقهي المجمع عليه أن دم الكافر مهدور، ولهذا السبب فإن بعض هذه الحركات كان يسعى فعلياً لامتلاك هذه الأسلحة، ولا شك أن تسويغات الحركات الإسلامية الراديكالية لاستخدام هذا النوع من الأسلحة ضد المدنين في "بلاد الكفار" لا يمكن أن يستند إلى هذا الأساس الفقهي ذلك أن النقاش الفقهي الآن هو حول معارك عسكرية وحرب قائمة مباشرة، ثم إن المشكلة عند الإسلاميين تكمن أيضاً في مفهوم "المدني والحربي" فالإسلاميون ـ واستناداً إلى الفقه السياسي التراثي ـ لا يميزون بين العسكري والمدني، وإنما يميزون بين "المسلم والحربي"، والحربي (أو الكافر، لا فرق) هو كل من ليس مسلماً ولا يخضع لأحكام أهل الإسلام، في كل الأحوال فإن نقاش الإسلاميين وحتى معظم الفقهاء الذين تناولوا هذه المسألة يعتمد على مرجعية الفقه السياسي التقليدي وتصوره للعالم السياسي الذي ينتمي إلى حقبة ما قبل الدولة الحديثة، ولا يمكن بناء نقاش فقهي علمي في إطار هذا التصور التاريخي للعالم.

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=154&idC=1&idSC=3

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك