في اضطراب المفاهيم وسوء التفاهم!

قاسم المحبشي
 

«أعتقد أننا إذا استطعنا أن نصمت قليلاً فإن شيئاً ما يمكن فهمه».

يلاحظ المتأمل في المشهد الثقافي الراهن ونظام الخطاب السائد في حياة مجتمعنا العربي، أن هناك حشداً هائلاً من المفاهيم والكلمات والعبارات التي يتم تداولها وتكرارها في فنون القول والكتابة والمشاهدة، لا تعود إلى نظامنا اللغوي وسياقنا الثقافي العربي الإسلامي التقليدي ، بل جاءت من نظم وسياقات حديثة وحداثية مغايرة وتلقفناها جاهزة ومكتملة دون أي موقف نقدي أو جهد فكري، يتفحص معانيها ودلالاتها وهذا ما جعلها عرضة لكثير من سوء الفهم والتشوش والغموض، الذي لا ريب أنه واحد من الأسباب الخطيرة التي أفضت بنا إلى هذا المستوى من الإرباك والفوضى الثقافية العارمة، على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والأخلاقية والأيديولوجية والثقافية والفكرية والقيمية عموماً، التي يسودها عدم الاتساق بحيث بات الباحث أو الكاتب عاجزا عن تحليل أي ظاهرة من ظواهر حياة مجتمعاتنا ومشكلاتها المتراكمة أو الإمساك بخيوطها العامة والوقوف على أسبابها الحقيقية ونتائجها المحتملة.

كل شيء يهتز، كل شيء يتأرجح، الكلمات لا تعني ما تقول والناس لا يثقون بكلام بعضهم، بل إن المتكلم نفسه غير واثق من صحة ما يقول، ويعلم مسبقاً أن المستمعين إليه أو من يقرأونه لا يكترثون بما يقوله.

ولعل هذا هو ما دفعني للتفكير في البحث عن احتمالات ممكنة يمكنها أن تساعد على المدى البعيد في التخفيف من حدة سوء التفاهم هذا الذي بات يلقي بظلاله الكثيفة على فضاءات حياتنا، وذلك من خلال عمل مقاربة أولية لمعرفة معاني المفهومات التي تحتل حيزاً خطيراً وأساسياً في منظومتها الخطابية والأيديولوجية والمعرفية. إن كلمات الثقافة والعلم والسياسة والدولة والمجتمع والعدالة والثورة والشعب، والمدينة والوطن والسلطة والمعرفة والحقيقة والعقل والتاريخ والهوية والعولمة والأنا والآخر والحداثة والمؤسسة والإدارة والأقمار الصناعية والقنوات الفضائية والإذاعة والتليفزيون والنت والشبكات الإلكترونية والتواصل والاتصال وهلم جرا من سلسلة المفاهيم والمصطلحات الحديثة الأخرى، إنما تحتاج منا إلى بذل الجهد لتحديد دلالاتها والتوافر على معانيها المشتركة حتى نستطيع التواصل فيما بيننا على نحو طبيعي كما يفعل الآخرون.

كما أن مسألة تعريف وتحديد المفاهيم في حياة أي مجتمع تعد من المسائل الاستراتيجية الملحة. إن كلمات مثل الإنسان، المجتمع، الدولة، الدستور القانون والعلم والعلماء، حينما تلفظ في المجتمع الأمريكي مثلاً لا تثير ردود أفعال وتداعيات مختلفة في أذهان المستمعين كما هو حاصل عندنا، بل تجد هناك شبه اتفاق بين أفراد المجتمع على معانيها وإن وجد اختلاف فهو غالباً ما يكون حول الأفكار وليس حول المعاني.

أما في سياقنا إذا ما نطقت كلمة «علم» مثلاً على جماعة من المستمعين العرب، فيستحيل أن تجد اتفاقاً بينهم بشأن معناها، وهذا هو سبب سوء التفاهم بين الناس في مجتمعاتنا العربية، إذ حينما نتحاور أنت وأنا حول كلمة محددة وكل منا يستخدم هذه الكلمة بمعنى مختلف عن المعنى الذي في ذهن الآخر، فإننا بذلك نعلن منذ البداية استحالة أي تفاهم ممكن أو حوار محتمل، بل ننفي إمكانية التفاهم والتواصل والفهم منذ الوهلة الأولى للحديث. وهذا ما يمكن مشاهدته في شبكات التواصل الاجتماعي العربية التي تزخر بفوضى عارمة من الأفعال وردود الأفعال غير الرشيدة!

إننا نستخدم كثيراً من المفاهيم التي لو وُجه لنا سؤال حولها كأن يسأل أحدنا: ما هي السياسة؟ خاصة ونحن ندعي أننا أصبحنا مجتمعات سياسية ونمارس السياسة ليل نهار – فإن الجواب سيكون عند كثيرين هو التالي: «إنني أعرف جيداً ما هي بشرط ألا يسألني أحد عنها، ولكن إذا ما سئلت وأردت الجواب فسوف يعتريني التلكؤ».

إن عادتنا القديمة الطفولية بالتأكيد في عدم التمييز بين الكلمات والأشياء، بين الوقائع والمعاني، بين الدال والمدلول، بين ما يعبر عنه وبين ما يُشاهَد، بين الملفوظ والمرئي، بين المنطقي والتاريخي، بين اسم الشيء ورسمه، وبين الشيء ذاته ودلالته. عدم التمييز هذا هو سر مأساة حياتنا وسيادة الفوضى والاضطراب في مجتمعاتنا. وإذا قدرنا أن نحلم بواقع أفضل فلابد لنا أولاً من التوافر على فهم مشترك للكلمات والمفاهيم التي نتخاطب بها.

وتحديد المفاهيم وتعريفها هو الخطوة المنهجية الأولى في التواصل والتفاهم الاجتماعي والثقافي بين الناس، ذلك كونها ملتبسة وغامضة وغائمة على الدوام، لأن موضوعها ذاته متحرك ومتغير باستمرار، إذ لا توجد نواة صلبة قابلة للتحديد والتعريف، تصلح جوهراً للمفاهيم الثقافية، وكل تعريف هو تعريف نسبي إجرائي وليس جامعا مانعا لمعاني الكلمات كما هو الحال في العلوم الطبيعية إلى حد ما. ولعل الحاجة إلى إعادة تحديد وتعريف الكلمات التي نستعملها في دراساتنا الإنسانية والاجتماعية تزداد، لاسيما مع مفاهيم أو مصطلحات تلقفناها من سياقات ثقافية مغايرة، إذ إن المفاهيم لا توجد في فلك الأفكار ومدونات اللغة فحسب، بل هي كائنات تاريخية شديدة الارتباط بسياقاتها التاريخية الثقافية، ولكل مفهوم مكان وزمان ولادة وسياق نمو وتجربة ممارسة، وعلاقات قوة وسلطة معرفة ونظام خطاب ومدونة لغة وفضاء فكر وحساسية ثقافة وحقل تأويل وشفرة معنى وأفق دلالة… إلخ.

المصدر: http://hewarpost.com/?p=824

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك