حوار الحضارات بين منطق التاريخ الطبيعي ومنطق التاريخ الحضاري: محاولة في فهم فلسفة التاريخ القرآنية

أبو يعرب المرزوقي

 

إننا نتكلم باسم حضارة لم نعد ممثلين إلا لمظاهر انحطاطها ونكوصها عن قيمها التأسيسية ؟ ونواصل خداع أنفسنا فنقابل بين صراع الحضارات والحوار بينها دون الكلام في شروطهما ؟ ونعارض بذلك سنن التاريخ الكوني وفلسفته القرآنية التي تنفي التقابل بين الحوار والتدافع بل هي تعتبرهما متلازمين داخل طرفي الحوار وبينهما، لذلك لا بد من تحديد طبيعة الحوار والتدافع وتصنيفه، ومن ثم بتحديد أحيازهما ورهاناتهما وشروط النجاح فنعين مقتضيات وضع المسلمين في وضعية العالم الاستراتيجية الحالية: فتتحدد بذلك محاور هذه المحاولة في أربعة مسائل:...

 

تمهيد:

لا أحد يشك في أننا على حق لما نصف أغلب المواقف الغربية بازدواج المعايير والنفاق عند الكلام على القيم والمثل العليا. ولا أحد يشك في أن ازدواج المعايير الغربي يعمل في الأغلب خلال تحديد العلاقات مع الغير رغم وجود فضالة منه حتى في تحديد العلاقات بين أبنائه كلما تعلق الشأن بالعدالة الاجتماعية وتساوي الحظوظ والفرص. لكن ما لا نعترف به هو أننا أكثر من الغرب اتصافا بالمعايير المزدوجة والنفاق في دعوتنا إلى حوار الحضارات وخاصة عندما نزعم الكلام باسم حضارة الإسلام وقيمه في حين أننا في سلوكنا أكثر عداء لقيم الاسلام من أي عدو خارجي وخاصة إذا اعتبرنا ما يحصل في علاقات شعوبنا وفئاتنا وطبقاتنا بعضها بالبعض(1) . وازدواج المعايير والنفاق عند الأعداء لا يعدان من الأمور التي تعني من ليس هو من الغفلة بحيث تنطلي عليه فضلا عن كون ضررها يصيب أصحابها أكثر مما يصيبنا. فهو يؤدي إلى فشل دعايته لعدم مصداقية الخونة منا الذين يغالطون شعوبهم بالانضواء في خطط العدو مقدمين توظيفاته للقيم الحقيقية التي هي كونية بالطبع بديلا منها.

ما يعنينا في المقام الأول هو علل اتصافنا بنفس الصفات في علاقاتنا بعضنا بالبعض واقتصارنا على اتهام العدو في علاقته بنا. لذلك فمن الواجب أن نطرح سؤالا جذريا قبل البحث في شروط الحوار السوي بيننا وبين الأمم الأخرى الحوار المتخلص من ازدواج المعايير سواء كان مصدره غيرنا أو كان نحن. فهل يمكن لحضارة يعترف الجميع بنكوص نخبها جميعا إلى نفي كل امكانية للحوار بين أبنائها أن تطالب غيرها بالحوار ؟ فنخبة الذوق ونخبة الرزق ونخبة النظر ونخبة العمل ونخبة الوجود كلها نخب ألغت الحوار من معجمها فباتت مواقفها منافية للحضارة التي يتكلمون باسمها مصورين المحافظة على أشكالها المنحطة التي يمثلونها منطلقا سويا للمطالبة بحوار الحضارات. فلا يمكن للنخب التي استبدت بالسطلة الذوقية والسلطة الرزقية والسلطة النظرية والسلطة العملية والسلطة الوجودية وألغت الحوار بين أبناء الأمة وشعوبها أن تدعي الكلام باسم التواصي بالحق الذي هو جوهر الاجتهاد والتواصي بالصبر الذي هو جوهر الجهاد لتدعو الأمم الأخرى إلى حوار الحضارات. تلك هي العلة التي تجعلنا ننطلق في علاج مسألة الحوار بين الحضارات من سؤالين حان أوان طرحهما والتصدي للجواب عنهما الجواب الشافي:

السؤال الأول: فمن يطالب بحوار الحضارات منا ماذا يريد منا ومن المخاطب بهذا الطلب؟

السؤال الثاني: ومن يطالب بحوار الحضارات من غيرنا ماذا يريد من نفسه ومنا بهذا الطلب؟

أليس المتكلم منا يقول: اتركوننا وشأننا وتعاملوا معنا وكأننا أنداد رغم أننا نعمل كل شيء لنحول دون تحقيق شروط الندية وشروط الحوار في ضوء المقتضيات الاستراتيجية العالمية في المعمورة المقتضيات المحددة للعلاقات الدولية الحالية والمتوقعة ؟

أليس المتكلم منهم يقول: نحاوركم بمقتضى حقيقة العلاقة بينكم في ما بينكم وبينكم وبيننا في ضوء المقتضيات الاستراتيجية العالمية في المعمورة المقتضيات الحالية والمتوقعة وليس بمقتضى ما تتمنون دون تحقيق شروط أمانيكم ؟

ألا يكون الخصم بذلك أدرى منا بشروط حوار الحضارات وبطبيعته كيف تكون لأنه لا يفصلها عن شروط جريانها الفعلية داخل طرفي الحوار وبينهما بحسب سنن التاريخ في حين أننا نتجاهل هذه الشروط ونطلب المحافظة على الوضع الراهن أو الستاتيكو الذي لم يعد قائما ونتكلم باسم حضارة لم نعد ممثلين إلا لمظاهر انحطاطها ونكوصها عن قيمها التأسيسية ؟ ألسنا بذلك نواصل خداع أنفسنا فنقابل بين صراع الحضارات والحوار بينها دون الكلام في شروطهما ؟ والمعلوم أنه لا يمكن أن نقف هذا الموقف دون التسليم بأننا بذلك نعارض سنن التاريخ الكوني وفلسفته القرآنية التي تنفي التقابل بين الحوار والتدافع بل هي تعتبرهما متلازمين داخل طرفي الحوار وبينهما.

لذلك فإننا نرى أن الموقف السوي يتمثل في فهم طبيعة الأمرين وعلاقتهما بالاجتهاد أو التواصي بالحق والجهاد أو التواصي بالصبر لندرك علل تلازمهما الدائم في التاريخ الإنساني سواء كان هذا التاريخ خاصا بأمة أو شاملا لكل الأمم كما يمكن استقراؤهما من فلسفة القرآن التاريخية. فهما يتلازمان ولا يتقابلان عندما يعبران عن أفعال تاريخية حقيقية في حضارة حية أو بين حضارتين حيتين ويمكن أن يتقابلا فلا يتلازمان عندما يعبران عن علاقة في حضارة انحطت فيها شروط الوجود الجمعي السوي أو بين حضارتين احداهما حياتها صاعدة إلى العنفوان والثانية حياتها نازلة إلى أرذل العمر. فتتحدد بذلك محاور محاولتنا الأربعة: فلا بد من تحديد طبيعة الحوار والتدافع وتصنيفه لنختم بتحديد أحيازهما ورهاناتهما وشروط النجاح فنعين مقتضيات وضع المسلمين في وضعية العالم الاستراتيجية الحالية:

المسألة الأولى: طبيعة الحوار الذي هو شرط الاجتهاد وطبيعة التدافع الذي هو شرط الجهاد.

المسألة الثانية: أنواع التدافع النظرية وما يلازمها من الحوار

المسألة الثالثة: أحياز الحوار والتدافع ورهاناتهما

المسألة الرابعة: شروط النجاح في التدافع وشروط الحوار الحقيقي

الخاتمة

 

المسألة الأولى

طبيعة الحوار والتدافع

ولنبدأ فنحدد طبيعة التدافع والحوار بدءا بافتراض حدين نظريين يحيطان بهما. فالحد النظري الأدنى هو الحرب بين أصحاب الحضارات الحرب المطلقة (افناء الآخر) التي هي غاية فاعلية الإنسان من حيث هو منتسب إلى التاريخ الطبيعي في الانسان من حيث هو منتسب إلى التاريخ الحضاري (أي إن البشر يعودون فيها إلى الحيوانية الخالصة وهذه الغاية تتحقق دائما لسوء الحظ لأنها بداية التاريخ البشري الحضاري والتخلص المطلق منها مستحيل).

والحد النظري الأقصى هو السلم بين أصحاب الحضارات السلم المطلقة (التآخي مع الآخر) التي هي غاية فاعلية الإنسان من حيث هو منتسب إلى التاريخ الحضاري في الإنسان من حيث هو منتسب إلى التاريخ الطبيعي (أي إن البشر يسمون فيها إلى الإنسانية الخالصة وهو مثال أعلى تحقيقه المطلق مستحيل وقد يكون ذلك حسنا لأن السلم التامة بين البشر أشبه بالموت الحضاري).

لكن ما يوجد بين هذين الحدين ممتنعي الوجود الدائم هو الفاعليتان ذاتهما أعني التدافع او الجهاد المشروط بالتواصي بالصبر(2) والحوار أو الاجتهاد المشروط بالتواصي بالحق(3) المتواصلين في جريانهما الفعلي المتلازم في العمران البشري بمقتضي كون البشر بشرا سواء كان ذلك في نفس الحضارة بين مناظيرها المتعددة المتساوقة أو المتوالية أو بين الحضارات المختلفة المتساوقة أو المتوالية. وهاتان الفاعليتان الجاريتان دائما بين الحدين يمكن أن نرمز إليهما بفاعلية القوة الطبيعية التي تصبح بتأثير النزوع إلى الحد الثاني تدافعا(4) وبفاعلية القوة العقلية التي تصبح بتأثير النزوع إلى الحد الأول حوارا(5) .

والحوار والتدافع متلازمان في الوجود الإنساني بحسب السنن الإلهية التي تؤيدها التجربة التاريخية إذ إن القرآن الكريم لا يتكلم على هذه السنن إلا بفن القص التاريخي الذي يثبت أنها سنن لن تجد لها تبديلا أو تحويلا. فهما جوهر الوجود الإنساني الواصل بين هذين الحدين الواصل بينهما بعلاقتين مستمرتين في كل لقاء بين البشر في نفس الحضارة أو بين أصحاب الحضارات المختلفة المتساوقة أو المتوالية خلال التردد بين الحدين النظريين أعني السلم والحرب المطلقتين. لذلك كان التلازم بين الحوار والتدافع المتصلين في كل الوجود الإنساني مناظرا للتلازم بين رفض الحوار حدا خاتما للحوار والصدام حدا خاتما للتدافع حدين طارئين يرفضان السعي السوي إلى السلم وفارضان السعي المرضي إلى الحرب.

ويمكن أن نؤكد من منظور اسلامي متحرر مما انحطت إليه حضارتنا بسبب انحطاط نخبها أن دور الحوار الملازم للتدافع بين الحضارات موجب بمعنيين. ففي حوار التدافعات الصغرى داخل نفس الحضارة يكون حوار التدافع محرك التجديد ذاته في تلك الحضارة المعينة. وهو في حوار التدافعات الكبرى بين الحضارات شرط بقاء حوار التدافعات الأولى ضمن وحدة الحضارة الواحدة (لأن حوار التدافع مع الخارج يقوي لحمة حوار التدافع في الداخل) وشرط ما يناظر التجدد الداخلي من التجدد الخارجي بالنسبة إلى البشرية كلها (تجدد النوع الحضاري). ومن ثم فكون التدافع ليس منتسبا إلى التاريخ الطبيعي الخالص يجعله بالضرورة متضمنا للحوار الذي يمثل التاريخ الحضاري ومعناه تأسيس قواعد التبادل في مستوياته المادية والرمزية حتى خلال الحرب الحامية. وكون الحوار ليس مننتسبا إلى التاريخ الحضاري الخالص يجعله بالضرورة متضمنا للتدافع ومعناه تأسيس شروط التبادل المتكافئ في نفس المستويات خلال السلم الحارة(6) . ولولا صحة هاتين العلاقتين لصحت تهمة الإسلام بكونه دينا عنيفا لمجرد كونه يربط الرسالة بالجهاد تسليما منه بأن تحقيق القيم لا يمكن أن يكون من غير تدافع قد يذهب إلى حد الحرب التي هي من المنظور الإسلامي دفاعية بالأساس إذ هي رد بالتدافع على نفي الحوار أو حرية التعبير التي هي التعبير عن الحرية(7) . ولشروط التبادل أشكال متعددة أهمها:

1- أولها التدافع المادي أو الحرب من أجل ثروات الأرض الطبيعية وثمرات العمل وهو ملازم لكل التاريخ البشري.

2- ثانيها الترجمة للاستعلام والاستفادة من خبرة الأمم الاخرى وله نفس الملازمة لدوره في الاول.

3- وثالثها الدبلوماسية للاستعلام والتفاوض وله نفس الملازمة لدوره في الأولين

4- ورابعها التجارة لسد الحاجات المتبادل وله نفس الملازمة لان سدها هو الدافع الاساسي لها جميعا.

وآخرها التدافع الرمزي أو التواصل للتعارف وتأسيس الصداقات بحسب مجالات التبادل القيمية الخمسة (قيم الذوق وقيم الرزق وقيم النظر وقيم العمل وقيم الوجود).وذلك هو أساس التبادل الجامع بينها لانه استنباط الكلي المشترك في مجالات القيم السابقة جميعا بوصفه جوهر الحضاري أو الانساني من حيث هو انساني أعني ما يتجاوز الخصوصيات الثقافية فيها انتاجا ورعاية وتبادلا واستهلاكا.

والمعلوم أن الحوار بين البشر قد بدأ بدايته الجدية عندما تيقن الإنسان من تعذر العيش بمنطق التاريخ الطبيعي المعتمد على الأخذ العنيف أو الحرب لينتقل إلى منطق التاريخ الحضاري المعتمد على التبادل المتكافئ فينشأ العمران الحواري حول شروط العيش بمنطق التبادل. وعلة تواصل هذا العمران الكافية هي تجنب كلفة العنف بالتبادل المتكافيء المغني عنه لكونه دونه كلفة في تحصيل ما يسد الحاجة والحماية. والمعلوم أن سد الحاجة والحماية سلبا والتآنس والتواصل إيجابا هي أربعتها علل العمران المدني سواء كان العمران خاصا بجماعة صغرى بدرجاتها أو بجماعة كبرى بدرجاتها كما عرفها الفارابي(8) وبنى عليها ابن خلدون نظرية العمران البشري والاجتماع الإنساني موضوعا لعلم التاريخ بوصفه خبرا عن العمران البشري والاجتماع الإنساني بكل مقوماته التي حصرها في مسائل كتاب المقدمة الست(9) .

فلولا كلفة الأخذ العنيف الذي هو علة الحرب الأساسية بين الأمم لما وجد حوار تبادلي ترقى إلى أن أصبح حوارا حقوقيا في وجود سياسي ينظم هذا الحوار ليستبدل السلم بالحرب ولما أصبحت الحرب حلا أخيرا في العلاقة بين البشر عند فشل الحوار المصاحب للتنافس أو التدافع السلميين بين صور طرفيه المربعة: فما يلتقي قبل الحل الأخير أو الحرب أعني خلال التنافس والحوار بين البشر ليس البشر بل صورهم عن أنفسهم وعن غيرهم. والحوار مثله مثل التدافع يسعى بين الحين والآخر إلى تخليص العلاقات البشرية من الصور للولوج إلى حقيقة الذات وحقيقة الغير: لذلك كان المخلص من الصور ومحقق المعرفة الحقيقية بالذات وبالآخر هو الحوار والتدافع المتأخرين عن الحرب بدل الحوار والتدافع المتقدمين عليها.

فنسبة الحوار والتدافع الأولين إلى الحوار والتدافع الثانيين هي عين نسبة حال الفرضية في المعرفة العلمية قبل التجربة إلى حالها بعد التجربة فيها. ومن أمثلة ذلك أن الفرنسيين لم يصبحوا قادرين على الحوار والتدافع السلمي مع العرب إلا لما عرفوهم في تونس والمغرب وخاصة في الجزائر. والأمريكان لن يحاورونا ويتدافعوا معنا سلميا إلى بعد أن يعرفوا حقيتهم ويعرفونا حقا أعني بعد هزيمتهم في فلسطين والعراق عربيا وفي افغانستان وجنوب شرقي آسيا اسلاميا إن شاء الله.

 

المسألة الثانية

تصنيف الحوار بحسب علل التدافع

يمكن أن نحدد أنواع التدافع النظرية وما يلازمها من الحوار بنموذج نظري نستوحيه بصورة جملية من علم العمران الخلدوني مباشرة ومن فلسفة التاريخ القرآنية بصورة غير مباشرة(10) . فلننطلق من حدين نفترضهما موجودين شرطا نظريا لفهم ما يجري فعلا: الأول قبل البدائي الذي بدأ يحصل فيه شيء من الغائي والثاني بعد الغائي الذي لا يزال فيه شيء من البدائي كلا على حدة.

لذلك فهذان الحدان الأقصيان يمكن أن يعتبرا فرضيتين نظريتين تستعملان لتحليل التدافع الفعلي في التاريخ البشري. لكنهما مفروضان في كل أنواع هذا التدافع في التاريخ ومن ثم فيمكن اعتبارهما موجودين على الأقل بأثرهما المتمثل في وجودهما وجود الخطرين ممكني الحصول في التاريخ الفعلي.

1- الحد النظري الأول=من دون حوار أصلا: في العمران الطبيعي الخالص وهو ينتسب إلى تاريخ الإنسان الطبيعي الخالص وليس لنا منه مثال إلا في العالم الحيواني لكننا نفترضه بداية التاريخ الإنساني بدايته التي نراه ينكص إليها في الحروب خاصة.

2- الحد النظري الثاني=من دون تدافع أصلا: في العمران الحضاري الخالص وهو ينتسب إلى تاريخ الإنسان الحضاري الخالص وليس لنا منه مثال إلا في اليتوبيات أو الاسكاتولوجيات. لكننا نفترضه غاية التاريخ الإنساني التي يمكن أن يسمو إليها وخاصة في أنساق المثل الدينية والفلسفية وكل الإبداعات الفنية.

لكن الموجود الفعلي في التاريخ المعلوم هو ما بين حدين نسبيين أحدهما يتحيز بعد الحد الأول مباشرة والثاني يتحيز قبل الحد الأخير مباشرة. ويمكن اثبات وجودهما بالاستقراء التاريخي. والأول منهما أميل إلى الحد الأقصى البدائي ويسميه ابن خلدون بالعمران البدوي والثاني أميل إلى الحد الأقصى الغائي ويسميه ابن خلدون بالعمران الحضري:

3- النوع الأول الفعلي: فما يجري في العمران ذي الميل إلى الحد الأقصى البدائي وهو التدافع بين عمرانين بدويين ويكون منطق التدافع أقرب إلى منطق التاريخ الطبيعي ويكون الغالب فيه الأقرب إلى الحد الأقصى الغائي وذلك للاشتراك في القرب من الحد الأول والفضل في أدوات الحضارة.

4- النوع الثاني الفعلي: وما يجري في العمران ذي الميل إلى الحد الأقصى الغائي وهو التدافع بين عمرانين حضريين ويكون الغالب فيه الأقرب إلى الحد الأقصى البدائي ومنطق التدافع يكون أقرب إلى منطق التاريخ الحضاري. وذلك للاشتراك في القرب من الحد الثاني والفضل في غايات الحياة.

5- أصل كل الأنواع: أما المركز فهو التلازم الواعي بين التدافع والحوار حيث نفترض نظريا تحقق التوازن بين الحدين النسبيين وذلك هو القلب النابض الدائم للتاريخ البشري الداخلي والخارجي كما حدد الإسلام صورته التامة من خلال وضع مفهوم إنساني للتدافع (الحرب الدفاعية التي تقتصر على المقاتلين دون فساد أو ظلم) ومفهوم صادق للحوار (الوفاء بالعهود):

ويرمز ابن خلدون إلى هذا القلب المجدد للتاريخ الكوني بما يمكن أن نصوغه صياغة حديثة فنطلق عليه اسم جدل الطبيعة (القوة الحيوية الفطرية) والثقافة (القوة الحضارية المكتسبة) في العمران على الجملة دون عميق تحليل لبيان طبيعة المنطق المتحكم في هذا الجدل رغم أن ابن خلدون يشير إليه بوضوح في كلامه عن التربية والسياسة العنيفتين اللتين تقتلان الطبيعة وتفقدان الإنسان معاني الإنسانية المعاني التي يجملها في مفهوم الرئاسة الإنسانية وحب الحرية والتأله(11) . فهو جدل بين منطق التاريخ الطبيعي في العمران حيث يرد التنافس القيمي إلى التنافس على الرزق والذوق بسبب ضعف سلطان النظر والحضارة ومنطق التاريخ الحضاري حيث يرد التنافس القيمي إلى التنافس على قيم العمل أو رمز الرزق أو السلطة الزمانية وقيم الوجود أو رمز الذوق أو السلطة الروحية بسبب قوة سلطان النظر والحضارة.

وهما حربان (بمنطق الفطري وبمنطق المكتسب) يكون فيهما المنتصر في أحد الحدين منهزما في الحد الثاني أي إن البداوة تغلب الحضارة بمنطق التاريخ الطبيعي (مثلا غزو المغول المادي للمسلمين) وتغلبها الحضارة بمنطق التاريخ الحضاري (غزو المسلمين الروحي للمغول). فما حصل بيننا وبين الأمم التي غلبناهنا في بداية ثورتنا والأمم التي غلبتنا في غايتها يكفي توضيحا لما نقصد. لذلك فقاعدة ابن خلدون القائلة إن المغلوب مولع بتقليد الغالب تحتاج إلى الفهم لصدقها في الاتجاهين بحسب مجال التغالب تداولا للغالبية والمغلوبية: فهل التقليد يؤدي إلى اضمحلال المغلوب أم إلى اضمحلال الغالب أم إلى ما أشرنا إليه حيث يذوب المغلوب في الظاهر في حضارة الغالب في الظاهر الذي يزول تحت طوفان المغلوب الحيوي فتكون الحضارة وكأنها تبحث عن حامل جديد بعد أن استنفذت قوة أصحابها الحيوية.

 

المسألة الثالثة

أحياز الحوار والتدافع ورهاناتهما

تجري أنواع التدافع بحسب أصناف القيم (التدافع الذوقي والرزقي والنظري والعملي والوجودي) داخل نفس الحضارة أو بين الحضارات المختلفة مع تقديم أثر التاريخ الإنساني الكلي على أثر التاريخ الجزئي في مصير التاريخ الكوني أي إن تاريخ المعمورة متقدم الفاعلية والتأثير على تاريخ أي أمة ومعنى ذلك أن التاريخ الدولي محدد للتاريخ الوطني دائما حتى عندما كانت البشرية مقتصرا تاريخها على صراع القبائل المتجاورة: فالمحدد هو صراع القبائل الذي يسيطر على الصراع في القبائل بمقتضى كونها لا تنجح في الأول إلا بتأسيس قواعد الحوار والتدافع السلميين في الثاني.

وبذلك يكون التاريخ الدولي متقدما على التاريخ القومي لكون الأقوام نفسها نشأت بحسب المنطق الذي أشرنا إليه أعني منطق تحقيق شروط التدافع الخارجي الذي يغلب عليه منطق التاريخ الطبيعي بشروط الحوار الداخلي تغليبا لمنطق التاريخ الحضاري. والجديد في ما يسمى بالعولمة ليس هذا القانون الذي هو ملازم لتاريخ البشرية بل هو صيرورة المعمور المتواصل من المعمورة كل المعمورة بعد أن تقاربت حدود الأمم بمقتضى التكاثر البشري وبمقتضى التقدم التقني في المواصلات والتواصلات. وقد نضيف إلى ذلك أمرين آخرين كانا دائما موجودين لكن الإنسان لم يكن واعيا بأثرهما:

الأول هو عدم تأثير الحدود السياسية والحضارية في كونية فاعلية العوامل الطبيعية في الوجود الإنساني كما يمكن أن يثبت ذلك انتقال الأمراض والتحولات المناخية مثلا

والثاني هو عدم تأثير تلك الحدود في كونية فاعلية العوامل الثقافية كذلك كما يمكن أن يثبت ذلك انتقال الفنون والمؤسسات والتحولات الخلقية مثلا.

ويمكن أن نضيف ثالثا يجمع بين الثقافي والطبيعي أعني أمرا ثقافيا صار مفعوله طبيعيا لاختلاطه به: فالتلوث الذي هو ظاهرة ثقافية من حيث المصدر طبيعي الفاعلية لأنه يصبح جزءا من المناخ فيؤثر وكأنه ظاهرة طبيعية. وهو إذن تحول مناخي طبيعي رغم كونه من صنع الإنسان لذلك فقد اعتبرته قنبلة ذرية ذات تأثير بطيء من جنس الفواعل لامتناهية الصغر التي تخضع لمنطق كرة الثلج. ولعل المثال الثاني هو تأثير التغييرات الناتجة عن الهندسة الحيوية بصورة غير مباشرة من خلال العقاقير والأدوية التي تغير الظاهرات الحية كما في ظاهرة الصمود الجرثومي للأدوية وبصورة مباشرة كما في محاولات التدخل في آليات عمل الوراثة.

وقد يجادل البعض في كلية المسألتين الناتجتين عن الأمرين الأولين. فأما المسألة الأولى فالجدل فيها يكون بالتشكيك في كلية التأثير الطبيعي في المستقبل من خلال الافراط في الإيمان بقدرات التقدم العلمي والزعم بأن العناية الصحية مثلا قد تحقق المناعة لبعض الشعوب الغنية فلا تهتم بالأمراض في الشعوب الفقيرة وتتركها تنقرض فيكون التقدم العلمي مسهما في الانتخاب الطبيعي بالقضاء على غير المتكيف من البشر. وأما الثانية فالجدل فيها يكون بالتشكيك في كلية التأثير الحضاري في الماضي ظنا أن التأثير الثقافي الكوني أمر جديد علته التقدم التقني في المواصلات والتواصلات. لكن البحث الآثاري يثبت أن انتقال الفنون والمؤسسات بين الشعوب أمر ملازم للتاريخ البشري حتى وإن كان ذلك بمنطق البطء الذي كان يقاس به التاريخ القديم.

فما الحوارات التي تحصل سواء أردنا أو لم نرد لملازمتها هذه الأنواع الخمسة عندما يكون الحوار ذا فاعلية حقيقية وليس مجرد ثرثرة عديمة التأثير أعني ما الحوار المضطر الذي لا يخلو منه عمران بشري ؟ في القلب يوجد حوار دائم بين ممثلي قيم الرزق وممثلي قيم الذوق مباشرة أي أصحاب التجربة المباشرة ثم بين ممثلي قيم رمز الرزق (السلطة الزمانية) وقيم رمز الذوق (السلطة الروحية) أي أصحاب التجربة غير المباشرة. إنه الحوار الذي لا مفر منه بين ممثلي قيم الحقيقة الحيوية ذاتها وممثلي معناها الرمزي في الحضارات أولا ثم يبين الحضارات المتساوقة أو المتوالية في التدافع الكوني الدائم. وفي الحد البدائي الأقصى تدافع مادي خالص بين البشر على قيم الرزق وقيم الذوق الخالصين. وفي الحد الغائي الأقصى تدافع روحي خالص بينهم على رمز الرزق ورمز الذوق الخالصين. لكن الإسلام تجاوز هذه المقابلة ليطابق بين الأمرين مطابقة مطلقة في المثال الأعلى الذي لا يتحقق إلا في ما ترمز إليها حياة الجنة الخالدة بعد البعث حيث يزول الفرق بين تاريخ الإنسان الطبيعي وتاريخه الحضاري في اللاتاريخي الوجودي أو الخلود السعيد أو ليفصل بينهما فصلا مطلقا في رمز نقيض خلود الجنان أي خلود العذاب في اللاتاريخي العدمي أو الخلود الشقي. أما في الحدين النسبيين أو ما بين القلب والحد الأول وبينه والحد الأخير فإننا نجد ضربين من الحوار الملازمين للتدافع:

1- فالأول هو حوار سعي أصحاب الرزق والذوق إلى السمو إلى رمز الرزق ورمز الذوق أو مرحلة ابداع سلم المنازل وابداع الفنون أو توق البدوي إلى قيم الحياة الحضارية. ويمثل هذا الحوار حركة التاريخ من الطبيعي إلى الثقافي أو حركتة من شباب الانسانية إلى شيخوختها.

2- والثاني هو حوار سعي أصحاب رمز الرزق ورمز الذوق إلى العودة إلى الرزق والذوق أو مرحلة طلب المعنى وراء السلم والفنون أي توق المتحضر إلى قيم الحياة الطبيعية. ويمثل هذا الحوار حركة التاريخ من الثقافي إلى الطبيعي أو حركته من شيخوخة الإنسانية إلى شبابها.

لذلك فابن خلدون يتكلم على ضربين من الغلبة. فالبداوة تابعة دائما للحضارة في قيم الحياة الحضرية التي هي غاية تسعى إليها طلبا للدعة والراحة وسد الحاجات. لكن الحضارة تابعة دائما للبداوة في قيم الحياة الطبيعية التي هي بداية تحن إليها طلبا للفتوة والقوة الحيوية. لكن الطلب والحنين في الاتجاهين يتخذان أبعادا وجودية عميقة يمكن الرمز إليها بطبيعة التحيز الذي يعبر عنهما.

فقيم الحياة الطبيعية يمكن الرمز إليها بكيفيات ترجمة الأحياز الطبيعية إلى ضروب وجودية لتعين الحياة البشرية فيكون التدافع والحوار مدارهما حول مسألة المكان والزمان: فالوجود الإنساني يتعين في الإمتداد (الحصة من المكان) والمدة (الحصة من الزمان) الفعليين ويرمز إليهما الدور في الثروة الفعلية والثروة الرمزية للأمم أي مادة العمران التي تتألف من الاقتصاد والثقافة. والحصة من المكان يمكن أن تكون ملكا لقطعة منه أو سلطانا على المكان دون ملكية قطعة منه كما هو شأن الشركان العالمية التي تسيطر على المكان بالسيطرة على الأسواق. كما أن الحصة من الزمان يمكن أن تكون قياما في قطعة منه أو سلطانا عليه دون قيام كما هو شأن المبدعات الفكرية التي تبقى بعد زوال أصحابها.

وقيم الحياة الحضرية يمكن الرمز إليها بكيفيات ترجمة الأحياز الثقافية إلى ضروب وجودية لتعين الحياة البشرية فيكون التدافع والحوار مدارهما حول مسألة السلم والدورة: الوجود الإنساني يتعين في الامتداد الرمزي (المنزلة في السلم الاجتماعي أو الوجاهة الزمانية بلغة ابن خلدون) والمدة الرمزية (النزلة في المنظور الوجودي أو في وحدة تحول الموجودات بعضها إلى بعض في أصلها أو الوجاهة الروحية بلغة دينية) ويرمز إلى أولهما الدور في السلطة الزمانية وإلى الثاني منهما الدور في السلطة الرمزية للأمم أي في صورة العمران التي تتألف من الدولة والتربية.

ويجتمع الأمران في التدافع والحوار الجاريين في التعبيرات الحضارية الشاملة لوجود الأمم الرمزي لصياغة مسألة الوجود الإنساني في علاقته بالوجود المطلق: فيكون التعبير على التعينات السابقة في التعين الرمزي الرئيس بأشكاله الأدبية والاسطورية والدينية والفلسفية أشكاله الممكنة من التعالي على المحايث. ويكون مدار الحوار الإنساني الشامل حول تصورات الوجود ورؤى العالم في الأساطير والفلسفات والآداب لتكتمل في خاتم الأديان الذي يتبين معنى الختم فيه عندما يصبح مصير البشرية واحدا ليس في مستوى التمني فحسب بل في الواقع التاريخي الفعلي كما نعيشه الآن.

 

المسألة الرابعة

شروط النجاح في الحوار والتدافع

كيف يمكن أن تعد شروط النجاح في التدافع شروط الحوار الحقيقي؟ هذا هوالسؤال الذي يرفض المسلمون والعرب طرحه والجواب عنه متجنبين طلب شروط النجاح ومكتفين باتهام الغير أو باستعطافه لكي يفهم حاجتهم ويبقيهم على حالهم تجبنا للتدافع والتنافس في تحديد آفاق البشرية الجديدة.

الشاهد الموجب: تبريد التدافع الداخلي بتغليب الحوار الداخلي الملطف لأسباب التدافع الحامي استعدادا لتحقيق شروط التدافع الخارجي المشروط في الحوار المتكافئ: مثال تكون الأمم والتحالفات الموجبة. وهذا يخضع لمنطق مناهج الحوار كما حددها هابرماس في كتابه عن الحوار أي حوار المصالح أو الذريعي وحوار الحقوق أو المعايير وحوار الضمائر أو الخلق.

الشاهد السالب: تثبيط الحوار الداخلي المتكافئ واستبداله بالحوار الخارجي غير المتكافئ لعدم السيطرة على أسباب التدافع الداخلي: مثال تفكيك الأمم والتحالفات السالبة. والبديل من الحوار يكون كما حدده كلاوزفيتز في كتابه عن الحرب مستهدفة التجريد من الممانعة بنزع السلاح وفك الموارد وقتل الإرادة.

الموقف المتناقض لسلط العالم الإسلامي: يطلبون ثمرات الشاهد الموجب في العلاقة بالخارج ويطبقون الشاهد السالب في الداخل.

الموقف المتناقض لسلط القوى الاستعمارية: يطبقون ثمرات الشاهد السالب في العلاقات العالمية ويتكلمون باسم الشاهد الموجب للتبشير بسياساتهم التي تتماشى مع سلط العالم الإسلامي.

العلاج المناسب لمصلحة العالم كله: تحقيق ثمرات الشاهد الموجب في العالم الإسلامي ليتحقق التوازن العالمي ومن ثم ليصبح الحوار بين الحضارات أمرا ممكنا. والمشكل هو كيف يمكن أن نستبدل نظرية الفوضى المزعومة خلاقة بنظرية الفعل المخطط المبدع لشروط التحرر والتغيير الموجب من أجل تحقيق أهداف الأمة وتوسيع آفاق الأخوة الإنسانية كما يدعونا متمم مكارم الأخلاق.

أما إذا طرحنا السؤال المتعلق بشروط الحوار والتدافع فإننا سندرك أن أول هذه الشروط هو فهم المقتضيات التعبوية التي تفرضها حال العلاقات الدولية في المعمورة العلاقات بأبعادها المتصلة بكل بأصناف القيم التي ذكرنا: العلاقات التبادلية بحسب توازن القوى في مجال تحديد القيم الذوقية وتحديد القيم الرزقية وتحديد القيم النظرية وتحديد القيم العملية وتحديد القيم الوجودية. ويمكن أن نحدد هذه الشروط التعبويةبردها إلى عنوانين مضاعفين:

النظر الغائي ومنزلة الإنسان في سلم الغايات:

فما الشروط التي تجعل العالم الإسلامي قادرا على أداء دوره في الزمان والوجود الكوني من خلال أداء دوره في تحديد قيم الذوق وقيم الوجدان؟ هل يتستطيع العالم الإسلامي أن يحقق ذلك وهو على الحال التي هو عليها من الفوضى وعدم الانسجام في تصور التاريخ ورؤية العالم ؟ ماذا يفعل المسلمون لتحقيق الحوار فيما بينهم حول هذين الأمرين حتى يتكلموا على الحوار بين الحضارات وهو منعدم ضمن حضارتهم وبين نخبهم الروحية والإبداعية؟

النظر الأداتي ومنزلة الإنسان في سلم الأدوات:

وما الشروط التي تجعل العالم الإسلامي قادرا على دوره في المكان والدورة الكونية من خلال أداء دوره في تحديد قيم الرزق وقيم العمل؟ هل يستطيع العالم الاسلامي أن يحقق ذلك وهو على الحال التي هي عليها من الفوضى وعدم الانسجام في تصور الجغرافيا وتنظيم الدورة الاقتصادية العالمية؟ ماذا يفعل المسلمون لتحقيق الحوار فيما بينهم حول هذين الأمرين حتى يتكلموا على الحوار بين الحضارات وهو منعدم ضمن حضارتهم بين نخبهم المادية والاقتصادية.

لكي نفهم ذلك فلننظر ما فعلت أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. فقد أدركت نخبها أنها بدأت تخسر شروط أداء دور في هذه المجالات بعد أن خارت قواها وانحسرت قوتها وتقاسمت العالم مستعمرتاها الشرقية (الإتحاد السوفياتي مستعمرة أوروبية إيديولوجيا) والغربية (الولايات المتحدة مستعمرة أوروبية ايديولوجيا وبشريا ). فشرعوا في استعادة شروط الدور في سلم الأدوات بتحرير أنفسهم من العوائق الإيديولوجية التي تحدد دورهم في سلم الغايات. حرروا فكرهم من التاريخ العدائي فيما بينهم ومن رؤى العالم التي تحول دون التآخي الأوروبي من أجل أن يحققوا شروط القوة المادية في المكان والدورة الاقتصادية العالمية. لكن العالم الإسلامي لا يزال متشبثا بتصور للتاريخ والعالم وبنظرة جغرافية واقتصادية تحول دون شروط الدور فضلا عن شروط الندية للحوار والتدافع.

وعندئذ لا تكون دلالة الدعوات للحوار بين الحضارات إلا مهارب من الحوار الفعلي في الحضارات لتجاوز تحجراتها وشروط توحيد فئاتها وطبقاتها وأقطارها من اجل اللقاء الندي مع الحضارات الأخرى في سبيل تحقيق آفاق جديدة للبشرية. وبهذا المعنى فإن الدعوات ليست من أجل حوار الحضارات بل من أجل إيقاف التاريخ والسماح للستاتيكو بالبقاء نفيا للتقدم الداخلي والخارجي. لكن لو تحررت الأمة من النزعات القومية التي هدمت وحدتها التاريخية ومن النزعات القطرية التي فتت وحدتها الجغرافية لكان ذلك أولى لها من الكلام عن حوار الحضارات. ولعل فضل الصدام الحضاري أنه سيكون مناسبة لتكوين جماعتين إسلاميتين كبريين تعترف بالأقليات المتبادلة بحسب القرب والبعد المذهبي إلى حين الوصول إلى مرحلة البناء الشامل بمنطق المصالح والتكامل الاقتصادي المستند إلى الوحدة الحضارية كما هو الشأن في كل الوحدات الكبرى في العالم وهو ما سيعمق الوحدات القومية في إطار وحدة الأمة (العشر الأساسية أعني الخمس صاحبة التأسيس الأول:1- العرب 2- والفرس 3- والترك 4-والكرد 5- والبربر والخمس صاحبة التأسيس الثاني:1-سودان افريقيا 2- والهنود 3- والمالوين 4- والأقليات الإسلامية في الشرق 5- والأقليات الإسلامية في الغرب) ووراء الاقطار لشبه التكامل إذ ستحقق الوحدة المذهبية الصلح بين القوميات في اطار نفس المذهب واستتباع الأقليات القومية في اطارها مع الحماية للحوار الممكن بين المذاهب.

وسنقتصر هنا على الإشارة السريعة إلى المحددات الاستراتيجية الكونية التي تحدد شروط الحوار والتدافع الخارجي وما يترتب عليها في الحوار والتدافع الداخلي شروطهما التي ينبغي أن تكون مطلب المسلمين إذا كانوا فعلا يريدون ألا ينهوا عن خلق ويأتوا مثله.

فهذه الشروط هي التي فهمتها أوروبا لما شرعت في العمل بمقتضى المحددات الاستراتيجية الكونية فسعت إلى تحقيق شروطها الداخلية للتصدي إلى محتماتها الخارجية. ويمكن أن نقسم هذه الشروط إلى شرط تحقيق أسباب القوة غير المباشرة (شروط البحث العلمي والتربية القادرين على منافسة قوتي العصر العظميين) وشرط تحقيق أسباب القوة المباشرة (شروط الانتاج المادي والرمزي القادرين على منافسة قوتي العصر العظميين) تأسيسا للشرط الجامع أعني الوحدة الأوروبية التي تتجاوز القوميات لتكون القوة التي من حجم القوتين العظميين في كل مجالات التنافس بين الأمم فتتمكن من اداء دور في التدافع بالحوار أو بالحرب. ويقتضي ذلك التحرر من الحدود الفاصلة بين أمم أوروبا في المستوى الرمزي (التبادل الذوقي والنظري الخلقي أي مجال الثقافة) وفي المستوى المادي (التبادل الرزقي والنظري التقني أي مجال الاقتصاد) والمستوى الجامع بينهما جمع واقع فعلي أعني المستوى العملي (أي السياسة) والجامع بينهما جمع مثال أعلى أعني المستوى الوجودي (أي الأديان والفلسفات).

ما فعله المسلمون هو عكس ما فعلت أوروبا. فهم قد أضافوا إلى الحدود التي خلفها الاستعمار ضربين من الحدود الفاصلة بينهم. فهم قد احيوا الحدود الموروثة عن حزازات الماضي ليضيفوها إلى حدود الصراعات الحديثة التي نتجت عن تنافس الأتباع في السياسية الدولية. فأصبحت هذه الحدود بأبعادها الخمسة حائلة بصورة مطلقة ليس دون الحوار فسحب بل دون كل انواع التبادل في اصناف القيم الخمسة. وهذه الحدود الناتجة عن الحروب الدائرة بين المسلمين يمكن حصرها على النحو التالي: 1- حرب الأديان في الأمة الواحدة حربها الموروثة من الماضي 2- وحرب المذاهب في الدين الواحد 3- وحرب أقوام الأمة الواحدة بأثر من نظرية القومية بالمعنى الغربي الحديث 4- وحرب أقطار القوم الواحد بأثر من نظرية الدولة الغربية الحديثة 5- وحرب الأحزاب و المذاهب الفلسفية والفكرية الموروثة مما يسمى بالصراع بين الحداثة والأصالة.

 

الخاتمة

زبدة القول وخاتمته هي ما نزعمه من أن المسلمين لا يمكن أن يحاوروا أحدا حوار الأنداد ما ظلوا محافظين على هذه الحدود الحائلة دون الحوار في ما بينهم حوارا يكون هدفه الأول والأخير تحرير الأمة من هذه الآفات حتى تصبح قادرة على المشاركة في التدافع الكوني بالحوار وبكل الوسائل البديلة منه في مسيرة البشرية نحو تحديد آفاق وجودها المقبل.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)لذلك فنحن نضع في هذا البحث مبدأين مضاعفين يتعلقان بمسلمات منهجنا في الدراسة. فأما المبدأ الأول فيتعلق فرعاه بطبيعة دور الإنسان في الظاهرة التاريخية وبطبيعة علمها وأما المبدأ الثاني فيخص فرعاه طبيعة المؤثر من الظاهرة التاريخية وطبيعة العلم به. ولنبدأ بالمبدأ الأول بفرعيه. فليس كل الظاهرة التاريخية من فعل الإرادة الإنسانية بل إن ما يحصل فيها بخلاف ما يريده الإنسان أكبر بكثير مما يحصل بإرادته. إذ حتى لو فرضناه من صنع الإرادة فإن الإرادة الصانعة ليست إرادة الأفراد مأخذين فرادى بل هي إرادة جماعية لا ندري حصيلتها كيف تكون فضلا عن كون اعتباره من صنع الإرادة حتى بهذا المعنى يهمل المؤثرات غير المعلومة والمعلومة علما غير تام وما لا يقبل العلم منها. ولننسب ذلك إلى الغيب بمعنى ما لا يرد إلى العلم المحدود دون أن يكون القصد نسبته إلى عناية إلهية إلا عند المؤمنين. وينتج عن ذلك أن علم التاريخ لا يمكن أن يكون علما دقيقا بل هو أقل العلوم دقة وضبطا مهما حاولنا تجويده لعدم تناهي المؤثرات الطبيعية والثقافية في الحدث التاريخي. أما المبدأ الثاني ففرعه الأول يضع أن كل ما يصح علينا يصح على غيرنا إذا كان حقا صحيحا وما يصح على غيرنا يصح علينا بنفس الشرط ومن ثم ففرعه الثاني يضع أن المؤثر من التاريخ حدثا والمعلوم منه معرفه هو الكلي في العمران البشري. أما ما عداه فهو تلوين للمؤثر غير مؤثر وحتى لو سلمنا له ببعض التأثير فالاختلاف فيه يكون من مجال الكم لا الكيف. وقد سبق وأثبتنا أن الكلية في علم العمران البشري البديل الأتم من السياسة المدنية مبدأ سبق إلى وضعه ميتافيزيقيا الفارابي في تحديد الجماعات التامة وصاغه صياغة مابعد تاريخية ابن خلدون لما وضع أن علمه علم للعمران البشري والاجتماع الإنساني ولم يقصر بحثه في وضع العلم المساعد للنقد التاريخي الإسلامي (علم العمران ليس مقصورا على هذه الوظيفة بل هو علم غاية لذاته لكن ابن خلدون في المقدمة معني بها دون سواها) بعلم عمران خاص بالمسلمين.

(2)رغم أن الآيات التي وردت فيها مادة دفع كثيرة فإن معانيها لا تعدو أربعا هي دفع المال والدفع بمعنى المنع والدفع بمعنى الدفاع ثم الدفع المقصود في التدافع بمعناه القرآني أعني استعمال قوة الخير ضد قوة الشر في حالتين هما منع الظلم والفساد في الأرض ومنع التعدي على حرية العبادة والمعابد. ومن ثم فالمقصود ليس الصراع المرسل بل الصراع بين بشر يتنافسون على ما يشتركون في طلبه لوحدة الحاجة إليه سواء كانت الحاجة مادية أو معنوية ويعلمون أن النافس لو تردى إلى الصراع الحيواني لآل إلى إفساد المطلوب: وذلك هو علة كون التدافع جزء من التعاون لكونه يجود شروطه وخاصة تدرجه نحو الاعتراف المتبادل والعدل.

(3)رغم أن مادة حور أو حار قد وردت عدة مرات في القرآن الكريم فإن معانيها تدور حول أربع معان هي العودة إلى البدء (حار يحور) وصفة من صفات العين الحور لتسمية النساء الجميلات (الحور) وصفاء الصحبة في الحواريين ثم المعنى المقصود في معنى الحوار في ثلاث آيات الحوار اثنتين منهما في الكهف (34 يحاوره و 37 يحاوره) والمجادلة (1 تحاوركما). وإذا كان من اليسير أن يفهم المرء دور النزوع إلى الحد الثاني في التدافع نقلا إياه من صراع غير محكوم بالغائية والمنهجية العقليتين إلى تدافع محكوم بهما فإنه من العسير أن يفهم دور الحد الأول في الحوار. فكيف يكون الحوار ناتجا عن تأثير النزوع إلى الحد الأول؟ السبب هو أن القوي لا يقبل محاورة الضعيف إلا لأنه يدرك هشاشة توازن القوى المادية. فيحاول نقل الصدام الممكن في حالة انعدام التوافق الحواري إلى التوافق الحواري البديل منه. فيكون دور النزوع إلى الحد الأول مؤثرا بإمكانه ردا على الظلم أو ثمرة لعدم الرضا بالحلول المفروضة.

(4)ويطلق عليها الفلاسفة اليونان اسم القوة الغضبية التي تجعل المرء يغضب للحق ويرفض الظلم. لكن الإسلام يتجاوز ذلك فلا يكتفي باعتبار الغضب قوة نفسية في الأفراد فحسب بل هو يعتبره قوة اجتماعية بين الأفراد هي التواصي بالصبر للجهاد من أجل الحق دفعا للظلم في ذروته أي ألفساد في الأرض أو دفاعا عن الحرية في ذروتها أي الحرية العقدية.

(5)ويطلق عليها الفلاسفة اليونان اسم القوة الناطقة التي تجعل المرء يطلب الحقيقة ويرفض الجهل. لكن الإسلام يتجاوز ذلك فلا يكتفي باعتبار العقل قوة نفسية في الأفراد فحسب بل هو يعتبره قوة اجتماعية بين الأفراد هي التواصي بالحق للاجتهاد من أجل الحقيقة طلبا للعلم في ذروته أي تحقيق شروط الاستخلاف في الأرض سلطانا راعيا للكون المادي من أجل السلطان العادل في الكون الخلقي.

(6)نضع هذا المفهوم لأننا نرفض مفهوم الحرب الباردة التي هي تربص بالآخر متبادل بين الأمم التي تعتبر العلاقة السوية بينها منتسبة إلى منطق التاريخ الطبيعي. لكن السلم الحارة مفهوم إيجابي يؤمن بأن الأمم لا ينبغي أن تكون في وضع التربص بالاخر. بل هي في حالة استعداد للدفاع عن النفس دون عدوان كما حددت ذلك آية الردع المعروفة: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل...".

(7) لماذا نعتبر حرية التعبير تعبيرا عن الحرية ؟ لسببين. الأول عقلي والثاني عقدي. فعقليا يمكن استمداد هذا التطابق بين المعنيين من مفهوم الإنسان نفسه ومن تعريف الحرية بكونها مطابقة الشيء لماهيته أو سلبا تحرره مما يحول دونه والكون ما هو. فإذا كان الإنسان يعرف فلسفيا بكونه حيوانا ناطقا وكان النطق عديم الفائدة من دون تلازم معنييه عقلا وتعبيرا فإن فقدان التعبير فقدان لصفة النطق الأساسية ليس فحسب لزوال مفعولها كأن نقول إن المرء يمكن أن يفكر لذاته ويستغني عن التعبير المبلغ بل لأن العقل من حيث هو نطق لا تتحقق منه المعقولية إلا بفضل التعبير المبلغ المشروط في تقاطع نطق مع نطق حتى يتم التمحيص. أما عقدا فإن القرآن الكريم قد وضع شرط التواصي بالحق نقدا متبادلا بين الناس لبادئ رأيهم ومشاركة في طلب الحق مخرجا مما سماه الخسر. كما اعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين. وفي ذلك دعوة إلى الحق ونهي عن الباطل بالنقد المتبادل وبالمشاركة في طلب الحق. والقرآن الكريم أكثر وضوحا في الربط بين الأمرين لأنه لم يعرف الإنسان بالنطق بل عرفه بالبيان الذي لا نحتاج فيه لبيان التلازم بين معنيي النطق في التعريف الفلسفي: إذ البيان تعبير لا يمكن تصوره من غير نطق بمعنى الإدراك العقلي في حين أن البعض يمكن أن يتصور الإدراك العقلي من دون تعبير عنه.

(8)أبو نصر الفارابي كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة المطبعة الكاثوليكية بيروت 1959 ص. 96 :"فحدثت منها الاجتماعات الإنسانية. فمنها الكاملة ومنها غير الكاملة. والكاملة ثلاث عظمى ووسطى وصغرى. فالعظمى اجتماع الجماعة كلها في المعمورة والوسطى اجتماع امة في جزء من المعمورة والصغرى اجتماع أهل مدينة في جزء من مسكن أمة. وغير الكاملة أهل القرية واجتماع أهل المحلة ثم اجتماع سكة ثم اجتماع في منزل وأصغرها المنزلة....وكذلك المعمورة الفاضلة إنما تكون إذا كانت الأمم التي فيها تتعاون على بلوغ السعادة".

(9)وقد وصف الفارابي هذين البعدين بعبارة الجماعة التي تحقق القوام والكمال. لكن ابن خلدون حدد الأمر في المقدمة بما اعتبره الخاصية الأصلية لكل الخاصيات التي للإنسان من حيث العمران. انظر المقدمة دار الكتاب العلمية بيروت دون تاريخ ص. 31:"ومنها (من خاصيات الانسان وهذه هي الخاصية الرابعة والاخيره وهي الخاصية الجامعة) العمران وهو التساكن والتنازل في مصر أو حلة للانس بالعشير واقتضاء الحاجات لما في طباعهم من التعاون على المعاش كما سنبينه". والمسائل ست رغم أن الخاصيات أربع لأن العمران ينقسم إلى صنفين هما البدوي والحضري ويجمع بينهما العمران على الجملة. فتكون المسائل ستا كالتالي بحسب معيار الترتيب المبضاعف الذي اختاره ابن خلدون: 1- العمران على الجملة 2(الشروط الطبيعية الخارجية والداخلية)- والعمران البدوي (الشكل الذي يغلب عليه منطق التاريخ الطبيعي) 3- والدولة (شرط النقلة من شكل العمران الاول إلى شكله الثاني) 4- والعمران الحضري (الشكل الذي يغلب عليه منطق التاريخ الحضاري) 5- والصناعات الرزق (الانتاج المادي) 6- والعلوم والتربية والآداب (الانتاج الرمزي الذي هو الغاية القصوى للعمران).

(10)وطبعا فليس هنا محل اثبات ذلك. ومن أراد التأكد من هذا الزعم فليعد إلى كتاباتنا في المسألة سواء ما تعلق منها بابن خلدون أو بالقرآن الكريم وهي كتابات بعضها منشور في شكل مقالات خاصة بالأمرين وبعضها وارد في مصنفات عامة جزءا منها في اثبات مميزات الروحانية الاستخلافية.

(11) ابن خلدون المقدمة الباب السادس ص. 463- 464:" ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك والخدم سطا به القهر وضيق على النفس انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الايدي عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الانسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى انسانيتها فارتكس وعاد أسفل السافلين. وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف. واعتبره في كل من يملك أمره عليه ولا تكون الملكة الكافلة رفيقة به. وتجد ذلك فيهم استقراء".

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=178&idC=1&idSC=1

الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك