طريف الخالدي والتعامل المختلف مع اللغة القرآنية

رضوان السيد

 

حديثي هنا هو في الحقيقة حديثان: حديث عن طريف الخالدي وأعماله العلمية البارزة وآخرها ترجمته للقرآن الكريم الى اللغة الإنكليزية. وحديث عن اللغة القرآنية، وكيف جرى التعامل معها من قبلُ سواءً لجهة ترجمة المعاني أو الألفاظ، ولجهة الترجمة التي هي بمثابة التأويل.

أما طريف الخالدي، أستاذ كرسي الشيخ زايد للدراسات الإسلامية والعربية بالجامعة الأميركية ببيروت، فهو دارسٌ بارزٌ في مجال الفكر التاريخي العربي، والكتابة التاريخية العربية. وآخر كتبه في هذا المجال: «فكرة التاريخ عند العرب: من الكتاب الى المقدمة»، والذي اقتَرح فيه مساراتٍ أُخرى لفهم فكرة التاريخ في أزمنة الإسلام الكلاسيكية، كما اقترح بداياتٍ أخرى غيرَ مفكَّرٍ فيها من قبل لأساليب الكتابة التاريخية. والأستاذ الخالدي «يكمُن» طويلاً إذا صح التعبير ثم يفاجئك بعملٍ أصيلٍ في مقالة أو كتاب من النمط الصعب - كما يقول الراحل محمود شاكر -، وكما فعل ذلك في «فكرة التاريخ»، عاد فاجترح الكتاب الذي صار شهيراً تحت اسم «إنجيل المسلمين» أو «مسيح المسلمين» (بالإنكليزية)، والذي حمل بالعربية عنوان: «الإنجيل برواية المسلمين» (2003). والكتاب في الظاهر جمعٌ مستَقْصٍ للأقوال المأثورة، والقصص، المروية في المصادر الإسلامية القديمة عن المسيح عليه السلام. لكنه في الحقيقة بالتقديم الذي وضعهُ للمجموعة، وبشروحه الموجزة لكن الدقيقة، عرض «القراءة» الإسلامية عبر القرون الثلاثة الأولى من الحقبة الإسلامية، لشخصية المسيح ودعوته ورسالته. والمهم هنا ليس دقة الصورة أو صحتها التاريخية، بحسب الأناجيل، وبحسب القرآن، بل في تحويل السيد المسيح الى نموذج أو مثال للحكيم والعارف والزاهد المتعبّد في وداعة وعذوبة فريدتي الطابع.

وما تابعتُ أعمال الأستاذ طريف الخالدي في السنوات الست التي قضاها بجامعة كمبردج، لكنه كعادته فاجأنَا قبل أربعة أشهر بترجمةٍ للقرآن الى الإنكليزية (صدرت في سلاسل «بنغوين» الشهيرة للكلاسيكيات).

ويكون عليَّ هنا أن أقف لبرهة مع موضوع ترجمات القرآن، الى اللغات الأوروبية الحيَّة خلال القرون الثلاثة الماضية، وكيف نظر إليها المسلمون. فالإسلام دين عالمي، يصل عدد معتنقيه اليوم الى حوالى البليون والأربعمئة مليون. وكثرتهم الساحقة لا تعرف العربية أو أن العربية ليست هي اللغة الأم للسواد الأعظم من معتنقيه، ولا من دارسيه. وبالنظر لهذا الواقع، ظهرت الضرورة أولاً لنقل القرآن الى لغات المسلمين الأخرى غير العربية، لكي يستطيعوا تدبُّر معانيه خارج الصلوات. ثم ظهرت الضرورة لدى الخصوم والأصدقاء والدارسين، لترجمة القرآن، لاتخاذه قاعدة في مقاربتهم للإسلام وحضارته وثقافاته. والغريب غير الطريف أن علماء المسلمين وقفوا دائماً موقفاً سلبياً من تلك الترجمات، وذكروا لذلك أسباباً عدة: أن القرآن كلام الله، وهو عصيٌّ على الترجمة، وأن «المستشرقين» لا يترجمون في الواقع، بل إنما يعمدون للتفسير والتأويل من خلال النقل وغالباً لغير مصلحة الإسلام والنبي (صلى الله عليه وسلّم) (الذي ينسبون إليه وضع القرآن)، وأن المحاولات النادرة ذات المنحى الموضوعي أو المحايد إنما ظلت وتظل قاصرة عن الوفاء بحق عربية القرآن المعجزة ولسانه المُعجب. ولأن أحداً من كبار المترجمين للقرآن الى اللغات الحية العالمية الكبرى، لا يستشير في العادة «العلماء» المذكورين، الذين يعارضون ترجمة النص القرآني مبدئياً لأسباب عقدية وتاريخية، فقد اضطروا قبل فترة للتسليم بترجمة القرآن بوصفها ترجمة لمعانيه، وليس لنصه المُعجزّ

والواقع أن الترجمات الحديثة للقرآن تنزع أحد ثلاثة منازع: فمن جانب أولئك الذين يملكون نظرة خاصة للقرآن والإسلام، تبدو الترجمة بمثابة إعادة تركيب للقرآن والإسلام، كما يتصوره هؤلاء في بيئاته التاريخية المبكرة، ومن ذلك مثلاً الإقبال على ترجمة النصوص القرآنية ليس بحسب الترتيب العثماني، بل بحسب «أسباب النزول»، وما يعتقدونه هم أنه كان الصيغة الأولى للقرآن. والمنزع الثاني، هو منزع أولئك الذين يدرسون القرآن والإسلام بطرائق مدرسية وتعليمية، وهؤلاء يترجمون القرآن في العادة وبالفعل لأغراض الفهم، فيهتمون للمعاني، أكثر مما يهتمون للأساليب القرآنية واللسانية. أما المنزع الثالث فهو منزع أولئك الذين لا يريدون التفسير أو التأويل أو إعادة التركيب، فيلتزمون دقة بالغة ذات مبان لغوية بحتة، تغصُّ بالأقواس وأنصاف الألفاظ والمفردات، ويرون في ذلك أنه المنهج الأصح للفهم المباشر، وهو كذلك، لكنه يأتي جافاً جداً ولا يكاد يكشف عن خصوصية النص القرآني باعتباره نصاً حياً وشعائرياً، للتلاوة والإلقاء والتلقي وأحياناً للإنشاد أو التغنّي.

وما سلك الأستاذ الخالدي أياً من المسالك الثلاثة السالفة الذكر. فبعد مقدمة قصيرة عن حياة النبي (صلى الله عليه وسلّم) وعن تاريخ النص القرآني، ذكر فيها المعلومات المُجمَع عليها بأسلوب عادي، كأنما هو لا يقوم بعمل كبير أو جديد، فاجأني بالترجمة العذبة التي تُصغي للروح الداخلي للقرآن، فتأتي اللغة أو يأتي اللسان هامساً وشفافاً وأليفاً و «طازجاً» إذا صح التعبير. وبدأت هذه «الفتوحات» غير المكية بل القرآنية في البدء الأول مع «بسم الله الرحمن الرحيم» عندما يترجم مفرد «الرحمن» بـMerciful to all ويترجم مفرد الرحيم بـCompassionate to each وهذا يعني أنه يعتبر الألف والنون في «الرحمان» من صِيَغ المبالغة التي تعني الشمول، بينما تكون «الرحيم» للأفراد، فرحمته سبحانه وتعالى شملت كل شيء. وهذا فقه في اللغة القرآنية نادر المثال. وقد ذكرت هذا النموذج لأشير الى خمسة أمور تتعلق بهذه الترجمة الفريدة؛ أولهاالالتقاط العميق لترددات وذبذبات اللغة القرآنية، والإتقان الكبير للغة الترجمة أو اللغة الإنكليزية. والأمر الثاني أن هذا الاعتناق للسان الشفاف والعذب، ما تم على حساب الدقة أو تغليب البيان على المعاني. بل ظلّت المعاني واضحة وهي هي أو هي إياها، إنما الوعي المُصاحب للمترجم أنه لا يقابل اللفظة الكلاسيكية القرآنية أو العربية بلفظة كلاسيكية إنكليزية أو فرنسية، بل يتعمد البحث عن مفرد إنكليزي يؤدي المعنى، وتسيغه الذائقة المعاصرة. والأمر الثالث أنه وبالنسبة الى المفردات المختلف في معناها في القرآن، أو التي تتضمن حكماً فقهياً، فإنه يراعي مسألتين: 1) تفسيرات أكثر المفسِّرين، 2) مقتضيات السياق. والأمر الرابع أن الأستاذ الخالدي يدرك بعمق الطبيعة الشعائرية للنص، ونزعته الشعرية الساحرة. ولأنه لا يريد الإغراب فإنه يعرض مفردات مثل القيامة أو يوم الحساب أو «لم يتسنّه» أو «مُدْهامّتان» بطريقة تجمع بين اللغة الدينية المعروفة، والتي استقرت مصطلحاتها بالغرب، وبين النَفَس الشعري الذي يعتبره الجدول الرقراق المنساب تحت أزاهير البستان الأغنّ. وأنا لست شاعراً، لكنني أتعامل في شكل شبه يومي مع القرآن منذ أكثر من نصف قرن، وأُحِسُّ تلقائياً أنفاسَه الهامسة أو الهادرة، وقد خالجني بالفعل الإحساس ذاته وأنا أقرأ ترجمة الخالدي الماتعة هذه. وخامس تلك الأمور أن نَفَس الخالدي يظلُّ متحفّزاً ومتوفزاً وعلى المستوى نفسه من الدهشة والإدهاش أياً كانت السورة، وأياً كان الموضوع. ففي سورة البقرة مثلاً، وهي أطول سور القرآن وفيها بعد المطلع الرائع، أجزاء تتحدث عن الدَين والمعاملات التجارية أو الزواج والطلاق أو الحرب والسلم، ومع ذلك فإن الخالدي يظل أميناً للنص ومعانيه، وللجماليات القرآنية، ولتوفُّز الأسلوب وانتقالياته أو «طقوس عبوره».

وغنيٌّ عن البيان أن الأستاذ الخالدي يطرب لترجمة سورة مثل سورة الرحمن أو سورة يس أو الفاتحة، أكثر مما يطرب لترجمة بعض سور المرحلة المكية الثانية، بيد أن الصعوبة هذه والتي تبدو لقارئ بالعربية لا تجعل الأستاذ الخالدي يقف عندها أو يتهرب منها، بل ينجح في ترجمتها بالمقدار نفسه من الدقة والنَفَس الذي ترتعش له الأوصال، من دون أن يبدو كأنما يبذل جهداً خاصاً في هذا الموطن أو ذاك، بل إن هذا النَفَس الشعري أو نَفَس الوعي العميق والشفّاف هو الذي يكشف عن المعاني الثواني في النص القرآني.

ما معنى هذا كله؟

أول معانيه أن الأستاذ الخالدي يعشق هذا النص، ولذلك فقد أبدع في ترجمته. وثاني تلك المعاني أن القرآن يفتح المجال دائماً لترجمات جديدة، لكن ثالثاً ورابعاً، لا أظن أن إنكليزياً أو فرنسياً أو عربياً، يستطيع من دون صعوبات أن يتجاوز هذا النص الماتع الذي قدمه الأستاذ طريف الخالدي.

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=700&idC=1&idSC=1

الأكثر مشاركة في الفيس بوك