أضواء على خصائص المتورطين في وهم امتلاك الحقيقة

زين العابدين الخباز

 

من أجل درء سوء الفهم الذي يمكن أن يقع فيه بعض قراء هذا المقال، أودّ أن أعلن منذ الآن بأنّي لست من نقاض الحقيقة، ولا من أولئك الذين يقولون بأنها مجرد أوهام ومجازات وتشبيهات واستعارات، فنحن، على خلاف بيرون وصاحب كتاب جينيالوجيا الأخلاق، نعي تمامًا مثل (سقراط وأفلاطون وأرسطو وديكارت وكانط) بأنّ الإنسان مهما بذل من جهد كي يقبر الحقيقة ويفني وجودها، فإنّه لن يصل إلى شيء يستحق أن يذكر[1] لكن ومع دفاعنا المتواصل عن الحقيقة بما هي إمكان يولد من رحم الحوار النقدي ولا يوجد إلا في المستقبل، فإنّنا لسنا مع ادعاء امتلاكها من قبل أيٍّ كان من البشر سواء كانوا دينين أو غير ذلك، من هنا فكتابتنا لهذا المقال ليست لنقض الحقيقة وإعدامها، كما قد يفهم البعض من أول قراءة له، ولكن هي محاولة من جهة للدفاع عن الحقيقة ممن يعتقدون، أو على الأقل يريدون جعلها ملكًا لهم فقط، كما أنّها محاولة، من جهة ثانية، للكشف عن الأسباب الفكرية العميقة لكل من العنف والتخلف والعصبية والطائفية وسائر المشاكل التي تورثنا البؤس والاغتراب، وتثقل كاهلنا بالمرائر والصدمات. وبالتالي فإن كنت أكتب هذا المقال، فأنا لا أريد من خلاله الحطّ من شأن أحد أو التحريض عليه، ولكن غايتنا هي الفهم والإفهام فقط، فمن هم إذن هؤلاء المتورطين في وهم امتلاك الحقيقة؟ وما هي أبرز خصائصهم النفسية والذهنية والأخلاقية؟ ثم ماذا بإمكان من هو من طينة هؤلاء أن يقدم للإنسانية؟

متوهموا امتلاك الحقيقة هم أناس يأكلون ويشربون وينامون ويلجون الحمام مثلنا تمامًا، ولدوا مثلما ولدنا نحن من الرحم، كما أنهم يكبرون ويشيخون ويموتون ولهم غرائز ومكبوتات مثلنا أيضًا، بعضهم ملحد وبعضهم مؤمن ومنهم غير ذلك، منهم الجاهل ومنهم المثقف ومنهم ما بين ذلك...

من هنا حق لنا القول أن متوهمي امتلاك الحقيقة لا يختلفون عن الإنسان في الجنس أو الطبيعة، بل في الدرجة والنسبة فقط. إنهم أناس يتميزون بادعائهم امتلاك الحقيقة المطلقة الناجزة التي لا يأتيها الباطل من أي جانب، هم أناس يطابقون بين أقوالهم وبين الحقيقة بل ويعتقدون أنهم المختارون ليفصلوا بين الحق والباطل، بين الحابل والنابل، وشعارهم بعبارة واحدة (نحن من على الحق وفقط) نحن "ملاك الحقيقة".

من هنا فمن خصائص المتورطين في وهم امتلاك الحقيقة أنهم لا يقبلون إلا بالطريق الواحد الذي هو طريقهم، ولا يعترفون إلا بالفكر والواحد الذي هو فكرهم، ولا يرضون إلا بالسلوك الواحد الذي هو سلوكهم، ولا يقتنعون إلا بالفهم الواحد الذي هو فهمهم؛ لذلك فهم لا يتكلمون مع الإنسان ليحاوره أو يناقشوه، وإنما ليملوا عليه أفكارهم فقط، لا ليتحدثوا معه أو ليناظروه بل للحديث له وإليه فحسب[2].

وبالتالي فالمتورطون في وهم امتلاك الحقيقة ليس لهم استعداد لتقبل أي جديد، ولا الوقت لمناقشته؛ هم أناس دغمائيون لا تقنعهم أدلة ولا يستفزهم إشكال أو برهان إلا ما وافق بضاعتهم، ومشكلتهم الكبرى تكمن في أن لديهم مصالحة لا حدود لها مع ذواتهم، إنهم متصالحون مع ذواتهم ومع أفكارهم متعاقدون على عدم الطلاق أو الخيانة، بل ومتفقون أيضًا على عدم الاقتناع أو الأخذ بأي شيء مغاير؛ لذلك فإن الشغل الشاغل للمتورطين في وهم امتلاك الحقيقة ليس هو البحث المستمر من أجل كشف الجديد، هذه المهمة معطلة لديهم تمامًا، ولكنهم منشغلون فقط بتصنيف المثقفين والناس عامة إلى مؤيد ومعارض، إلى مؤمن وملحد، إلى دياني ودنياني... هذا ما يفعلون.

يفعلون ذلك ليقرروا فيما إن كانوا سيحتضنونك أو يطلقوك، ما إن كانوا سينصرونك أو يعادوك، ما إن كانوا سيقرؤون عليك السلام أم من المغضوب عليهم يعدوك، من هنا، ليس لك أن تنتظر ممّن يدّعي امتلاك الحقيقة شيئًا آخر غير الإقصاء والجفاء وارتكاب الحماقات والعبث بوجود الناس، فهو لا ينظر للآخر بوصفه شريكًا في بناء الحقيقة وتجديد بنائها، بل ينظر إليه باعتباره مريدًا ينبغي أن يسوق ما يقول وإلا فالسيف هو الرهان، لا ينظر إليه باعتباره قادرًا هو الآخر على فهم الوجود، بل يعامله معاملة الآباء التقليديين للصبيان والرعاة للأغنام.

على هذا الأساس، فالمتورطون في وهم امتلاك، ينتجون أناسًا لا يفكرون، وإنما يقلدون، لا يقرؤون، وإنما يسمعون، لا يناقشون وإنما يملون، لا يتسالمون مع المخالفين، وإنما يعادون ويكرهون ويحاربون ويمكرون ويفجرون؛ لذلك، فإن العقل الذي يتخرج عن مدرسة هؤلاء، سيكون بالضرورة معطلًا لا يشعر بالراحة واللذة حينما يبدع في الأداء ويتألّق في الإنجاز، بل حين يتقن الولاء والاستتباع، لا حين يندهش ويشكّ ويتساءل وينتقد ويقارن ويتجاوز، وإنّما حين يسلم ويساوق ويستسلم، لا حين يحب ويتعايش ويتأنسن، بل حين يعادي ويكره ويقتل من خالف، وهكذا، فالمتورطون في وهم امتلاك الحقيقة لا يمكن لهم أن ينتجوا لنا سوى عقلًا مستقلًا عن ذاته بل وعن إنسانيته، عقل لا يقرأ كي يفهم ويتعمق أكثر فأكثر، وإنما ليصنف الكتاب إلى مطابق ومطلق، لا يناقش كي يجدد معطيات وآليات تفكيره، وإنما ليدعم ما قاله السلف فقط[3].

من هنا حقّ لنا القول أن (ملَّاك الحقيقة) أناس ماضويون/أصوليون لأقصى الحدود، إنهم لا ينظرون للحقيقة بوصفها إمكان يولد من رحم النقاش والتناظر والتذاكر والتفاكر، بل يعتقدون أنها ميراث يتوارثه الأبناء عن الأجداد، لا ينظرون إليها على أنّها شيء نسبي يتغير بتغير الشروط والأوقات، بل يتعاملون معها بقداسة وإطلاقية لا توصف، ومن ثمة، فالمتورط في وهم امتلاك الحقيقة لا يقرأ، إن قرأ، كي يجدد فكره وليعمق فهمه؛ بل ليؤكد معتقداته فقط، لا ليستفيد من الآخر أو ليفيده، بل ليسفه فلسفته ويبخس جهده فقط.

ولما كان مدعي امتلاك الحقيقة يعتقد جازمًا أنّه صاحب اليقين الذي لا يأتيه الباطل من أي جانب، كما سبق الذكر، فهذا لا يدفعه فقط إلى تجيّش عواطف المريدين لحمل السلاح من أجل إخضاع الآخرين ومحاربتهم[4]، بل يخوّل له أيضًا أن يتصرف مع النصوص والوقائع والأفراد كيف ما تشاء رغباته ومكبوتاته وإخفاقاته وأمراضه النفسية كذلك، لكن المشكل لا يقف عند هذا الحدّ البائس الذي يقف عائقًا أمام تطور الجنس البشري وينشر الكره بين الناس، بل يتعداه إلى أن مُدَّعي امتلاك حقيقة يعمد إلى (تفصيل) الحقائق كيف ما ترشده إلى ذلك غريزة الحصرية لديه، فيفصّلها على مقاس هواه مثلما تفصّل الثياب على مقاس الهياكل.

وعليه، فمُدَّعي امتلاك الحقيقة لا يجد حرجًا في ممارسة الكذب والتناقض، بل لا يجد معيبة في مغالطة ذاته أيضًا، لا يكذب على العلم والتاريخ فقط، بل حتى على ذاته وعلى الله والعالم والآخر وعلى كل شيء، ويفعل ذلك حتى تحسبه من أهل الدليل، حتى يقنعك بأنه عارف بلبّ الأمور، لكي يحملك على مطابقة ما يقول، وبالتالي فمتوهم امتلاك الحقيقة كائنٌ خطير ليس فقط على الآخر الذي يملك تجاهه طاقة زائدة لمخاصمته ولارتكاب الحماقات في حقه[5]؛ بل هو خطير على الحقيقة أيضًا.

نقول إن مُدَّعي امتلاك الحقيقة خطير على الحقيقة، ليس فقط لأنه بتعصبه للحقيقة يمنعها من التجدد وإعادة البناء[6]؛ بل لأنه باسم امتلاكها يشرعن لنفسه كلّ شيء أيضًا، يشرعن لنفسه التكبر والغلظة والكره والتحكم والقتل والسطوة على ما يريد، يشرعن لنفسه الأفضلية والتفوق والأحقيّة في كل شيء، وبالتالي حقّ لنا الآن أن نفهم شيئًا أخطر من كل ما قيل، يمكن أن نفهم مما سبق قوله "إن المتعصب للحقيقة لا يتعصب لها لأنها حقيقة فعلًا؛ بل لأنها وسيلة تدرّ عليه أشياء كثيرة مما يريد، أشياء تشبع نزواته وتفرغ مكبوتاته وتحقق غرائز التسلط لديه".

من هنا ليس لك أن تنتظر من مُدَّعي امتلاك الحقيقة سوى الدمار واغتصاب صلاحيات الكل، هو يغتصب حتى صلاحيات الله، وما دام المتعصب للحقيقة يتميّز أيضًا بكفره بالإنسان فضلًا عن انتصاره للماضي أكثر من المستقبل، وكرهه للاختلاف، فلا تعوّل عليه لبناء الحضارة أو لأنسنة الوجود.

أخيرًا، وفي ختام هذا المقال، أودُّ أن أقول أيّها الإنسان اعلم أنك لست معدًّا لامتلاك الحقيقة، وإنما للبحث عنها فقط؛ لذلك فأنت ما تزال تفقد إنسانيتك حين تنصّب نفسك كمالك للحقيقة، واعلم أنك تحول نفسك بهذا الاعتقاد لإله ممسوخ فقط.

إنّ الحقيقة كما يقول منيف: "ليست كتلة صلبة يمتلكها طرف واحد، وإنّما هي نسبيّة موزّعة، وبداية اكتشافها أو الوصول إليها لا تكون إلا بمحاورة الآخر وفهمه، تمهيدًا للوصول معه إلى الحقيقة الفعلية؛ أي الممكنة، والتي تجعل بالتالي العمل عقلانيًّا ممكنًا ومستمرًا"[7].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] قصارى ما يمكن أن يصل إليه المرء الذي يعمل على نفي الحقيقة، هو بناء عبارات شعرية لا أقل ولا أكثر.

[2] يقول ماكس شيلر في هذا الصدد: (إن الحقيقة في ضوء المنطق المطلق واحدة، والآراء ينبغي أن تكون متفقة؛ فأنت إما أن تكون مع الحقيقة أو ضدها، فإذا كنت ضدها فأنت هالك، أما إذا كنت مع الحقيقة فليس لأحد أن يجرؤ على مناقضتك، إنك محق إذا غضبت على أولئك الذين يجادلون في الحقيقة. الحقيقة حقيقتك أو بالأحرى هي أنت إذا جردت نفسك من مشاعر البشرية) راجع الكتاب المائز لعلي الوردي، مهزلة العقل البشري، داركوفان لندن، ط. الثانية، 1994، ص 42 (pdf).

[3] المتورط في وهم امتلاك للحقيقة هو أكثر خطرًا على الإنسان من أولئك اللصوص، هؤلاء يسرقون شيئا يمكن أن يعوض، أما الأوّل فيسرق ماهية الإنسان؛ أقصد عقله.

[4] قريبًا من هذا المعنى يقول عبد الإله بلقزيز: "الفكرة الحقيقة المطلقة تؤسس لدى حاملها شرعية امتشاق السلاح دفاعًا عنها، ليس هذا السلاح قطعًا هو الفكر، فمالك الحقيقة لا يجادل؛ لأنه يهبط بحقيقته إلى درك أسفل بل هو يعرضها للاستفهام والمساءلة، وهما مما لا يجوزان عليها، وسلاحه الأنسب تسفيه رأي الغير وتخطئته كلًّا وتفصيلًا"، راجع كتاب عبد الإله بلقزيز "نهاية الداعية: الممكن والممتنع في أدوار المثقفين"، الشبكة العربية للأبحاث والنشر بيروت، ط الثانية، 2010، ص 85 (pdf).

[5] يقول علي حرب: (إن الذين يضعون أنفسهم في دائرة الحقيقة والإيمان ويرمون غيرهم خارجها لا يسعون إلّا إلى الفرقة، بل هم يعلنون الحرب على الآخر عاجلًا أم آجلًا) علي حرب، نقد النص، المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء- المغرب، ط. الرابعة، 2005، ص 75، (pdf).

[6] يقول علي حرب (التعصب للحقيقة هو ضد الحقيقة)، راجع كتابه "نقد الحقيقة"، المركز الثقافي العربي، ط. الأولى، 1992، ص 141 (pdf).

[7] منيف عبد الرحمن، الديموقراطية أولًا ودائمًا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص 23 (pdf).

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A3%D8%B6%D9%88%D8%A7%D8%A1-%D8%B9%D...

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك