تلقائية وحتمية تعدُّد الآراء بتعدد الأفراد

إن مقولة الاختلاف لا يُفسد الودَّ هي تعبيرٌ عما نتمناه لكنها في الواقع مقولة خاطئة تمامًا وخادعة بعمق فمهما قيل في هذا فإن رأي الفرد هو تعبيرٌ عن ذاته وتجسيدٌ لعقله

إبراهيم البليهي
 

حين يعرف الناس الكيفية التي تتكوَّن بها عقولهم في طفولتهم سوف يدركون استحالة أن يتماثل اثنان تماثلًا كاملًا في آرائهم ومواقفهم أو ٍفي كفاياتهم فالاختلافات شديدة ومتنوعة حتى بين الأشقاء والتوائم حتى وإن نشأوا في

لأن قابليات الأفراد غير متماثلة، كما أن ما ينضاف لقابليات كل فرد يكون بالضرورة مختلفاً عما ينضاف لقابليات كل الآخرين فإن النتيجة الحتمية هي اختلاف الشخصيات والمعارف والمهارات والفهوم والتصورات والآراء والمواقف والمعالجات..

بيئة واحدة وتعلموا في مدرسة واحدة وتخرجوا من نفس الجامعة وحملوا نفس الشهادة في نفس التخصص وهذه نتيجة حتمية بسبب اختلاف القابليات والأهم هو الكيفية التي يتكوَّن بها عقل ووجدان كل فرد، فالإنسان بما ينضاف إليه ولو أدرك الناس هذه الحقيقة الأساسية عن أنفسهم وعن غيرهم لصاروا واعين بأسباب اختلافاتهم وأقدر على التفاهم وأكثر تبصُّرًا بما يتوقعونه من غيرهم فالإنسان يولد بقابليات فارغة مفتوحة لدنة ومرنة ومطواعة وبسبب هذه الطبيعة فإن كل فرد يكون مرتَهنًا بقابلياته وبما ينضاف إليه بعد ولادته وهو تَشَرُّبٌّ تلقائي لا يمكن ضبطه ولا قياسه وبهذا الخليط العشوائي تتكوَّن تصوراته وآراؤه ومواقفه واهتماماته ومعارفه ومهاراته وقيمه سواء تشبَّعت القابليات بالتشرب التلقائي كما يحصل لكل فرد في مرحلة الطفولة المبكرة أم جاءت الإضافات بالتعبئة المقصودة والتعليم المنظَّم كما يحصل لكل فرد في بقية عمره ولأن قابليات الأفراد غير متماثلة كما أن ما ينضاف لقابليات كل فرد يكون بالضرورة مختلفاً عما ينضاف لقابليات كل الآخرين فإن النتيجة الحتمية هي اختلاف الشخصيات والمعارف والمهارات والفهوم والتصورات والآراء والمواقف والمعالجات فالاختلافات بين آراء الناس ومواقفهم هي اختلافات تلقائية شديدة ومتنوعة وحتمية..

يقول الطبيب الفيلسوف الحائز على نوبل في الفسيولوجيا أليكسيس كارليل: “إن النشاط العقلي رهينٌ بالسيرورات الدماغية والوظائف العضوية الأخرى إنه يعطينا طبْعنا المتوحِّد إنه ما يجعلنا نحن حقٍّا وليس شخصًا آخر لنأخذ توأمين متطابقين كانا في نفس البويضة يمتلكان نفس التكوين الجيني إلا أن لكل واحد شخصيته الخاصة به فالطباع العقلية هي بمثابة كاشف للتفرد فالناس يتميزون عن بعضهم البعض وليس هناك أفرادٌ متماهين ذهنيًّا وكلما كانت الشخصية غنية كانت الفروقات الفردية كبيرة وليس هناك شيء أصعب من معرفة تكوين فرد ما. ومادامت بنية الشخصية الذهنية بنية مركَّبة جدا فمن المستحيل تقديم تصنيف دقيق للكائنات الإنسانية” ولكن الناس يجهلون هذه الحقيقة الكبرى ذات الفاعليات الشديدة والعميقة عن أنفسهم وعن غيرهم فيسوء الفهم ويشتد التنافر من دون أن يعلموا بأن كلّا منهم مرتهنٌ بمعايير وقوالب وأنماط ونماذج تختلف عن معايير وقوالب ونماذج كل الآخرين فالإنسان بطبيعة تكوين عقله ووجدانه لا يعلم أنه لا يعلم أي لا يعرف جهله فيبادر لرفض وتسفيه مالا يتفق مع الأنماط التي تشكَّل بها ذهنه ووجدانه وهذه معضلة كبرى لم تنل اهتمامًا يتناسب مع نتائجها المدمرة وليس ذلك محصورًا في الفروق والحواجز بين الأفراد بل إن المعضلة تتعقد ويشتد ضررها ويعظُم خطرها في التعامل والعلاقات بين الأمم بل حتى بين المذاهب والطوائف والجماعات والاتجاهات المختلفة داخل الأمة الواحدة أو المجتمع الواحد لذلك تُحَتِّم المصلحة البشرية أن تكون معرفة أساسيات الطبيعة البشرية هي أهم ما يجب أن يتعلمه كل الأفراد في كل مراحل أعمارهم في كل المجتمعات..

فمثلما أن لكل نوع من أنواع الأقفال مفتاحاً يناسبه فكذلك العقول لكل فرد شفرة عقلية خاصة به هذه حقيقة علمية إن جهل الناس بهذه الحقيقة الأساسية عن أنفسهم هو شاهد واحد من شواهد لا حصر لها تؤكد أن ثمار العلوم مازالت ضئيلة التأثير في ثقافات الشعوب حيث بقي تأثيرها محصوراً في المجالات المهنية والعملية ومجالات الوسائل وقد آن الأوان لتدارك هذا الخلل الخطير وكما يقول عالم الأحياء نورمان بريل في كتابه (بزوغ العقل البشري): “نميل إلى معاملة إخوتنا في البشرية معاملة غير أخوية كأنَّ من المفروض أن نكون جميعًا متشابهين وأن يكون رد فعلنا واحدًا في كل ظرف معين وأن ندين بدين واحد وأن ننظر إلى الكون نظرة واحدة.. وكل من يختلف معك في المسائل الهامة لابد أن يكون إما أحمق أو وغدًا أو آثمًا وقد وصَم الاضطهادُ التاريخَ بسبب اختلاف الآراء في جميع العصور وقد آن أنْ نُمعن النظر في ذلك” إن اختلاف القوالب والنماذج والتصورات بين الناس وكون كل واحد لا يحكم على غيره إلا وفق معاييره هو فإن تبادل الأفكار يكون بالغ الصعوبة ويكون التنافر حتميًّا وهذا يستوجب أن تكون المعارف الخاصة بالطبيعة البشرية معارف ذات أولوية مطلقة..

يقول عالم الأحياء نورمان بريل في كتابه السابق ذكره: “فالفروق بين شخص وآخر ستظل باقية إن لم تزد والتنوع هو توابل الحياة لأني لا أستطيع أن أتصور شيئًا أكثر مدعاة لانقباض الصدر من عالَم أرى نفسي مكررًا فيه وإذا أنت رأيت صورتك في كل وجه وعرفت إنه يفكر بنفس تفكيرك فستشعر أنك تعيش في جحيم يفوق كل جحيم سمعت عنها” فبقدر كون التنوع بين عقول الأفراد كان ومازال من المعضلات الكبرى التي حالت دون التفاهم فإنه يمكن قلب الوضع ليصير هذا التنوع سببًا في ثراء الحياة وعظمة الإنجازات متى فهِمَ الناسُ طبائعهم بكل ما فيها من اختلافات وتنوع وكما يقول ديريك جنسن في كتابه (السير فوق الماء): “إن المهمة التي نواجهها جميعًا هي كيفية اكتشاف ذواتنا ثم القدرة على أن نصبح الشيء الذي اكتشفناه” فالخلل على المستوى الفردي أو الاجتماعي أو الإنساني أنه تم التركيز على فهم الأشياء ولم يُبذل جهدٌ مماثل لمعرفة الطبيعة البشرية مع أنها أهم المعارف وأكثرها نفعًا كما أن الافتقار إلى هذه المعرفة هو أشد الجهالات ضررًا..

إن ما يجب أن يعرفه كل إنسان هو أن كل فرد يمثل عالَمًا قائماً بذاته وكما يقول العالم نورمان بريل: “الفروق الفردية كانت موجودة على الدوام وستظل باقية على الدوام وكل إنسان سيظهر في المستقبل ليس له شبيه الآن والاحتمال ضئيل للغاية أنه قد وُجد أو سيوجد قط شخصٌ آخر يشبهك تمامًا” وهذه الاختلافات تحول دون تماثل الفهم أو تبادل الأفكار..

عالم الأحياء نورمان بريل يلفت النظر إلى أن المساواة لا تمثل حقيقة بيولوجية ولكنها مطلبٌ أخلاقي فيقول: “البديهة التي تقول بأن جميع البشر قد خُلقوا متساوين هي حقيقة روحية أكثر منها حقيقة اجتماعية أو بيولوجية وهي تأكيد بأن جميع الناس ينبغي أن يتاح لهم تكافؤ الفرص أما حقوق الإنسان فليست حقوقًا يمتلكها أي إنسان إنها مطالب وهي مؤسسة على الاعتقاد بأن جميع البذور في أرض بور تعوقها عن النمو الكامل وعلى الاعتقاد بقداسة الحياة واحترامها وهذا يناقض الفكرة بأن الطبيعة ذات ناب ومخلب وأن الحق للقوة” إن النفور من تسلط الطغاة قد جعل بعض المفكرين يمعنون في تأكيد المساواة فأوهم ذلك بأن المساواة تعني التماثل وهو أبعد ما يكون عن الحقيقة فالعدالة تقتضي المساواة أمام القانون وفي الفرص وفي الاعتبار والاحترام والكرامة الإنسانية لكن كل ذلك لا يعني التماثل في القابليات والقدرات إطلاقًا فالفروق الفردية هي من أشد الحقائق البشرية وضوحًا..

لا يختلف الناس فقط في قابلياتهم وما تتشكل به هذه القابليات وإنما يختلفون أشد الاختلاف في ظروف حياتهم ورغباتهم واحتياجاتهم وانفعالاتهم ومشاعرهم وما يحبون أو يكرهون وما يطمح إليه كل واحد منهم إن كل فرد تجتاحه أهواء عاصفة تدفعه نحو الإنجاز والتعمير أو نحو الإفساد والتدمير وكما يقول ميشيل مايير: “يُثبت الناس اختلافاتهم بواسطة أهوائهم. كلُّ واحد هو في حد ذاته مختلفٌ عن الآخر ولهذا فهو متماثلٌ مع ذاته فالهوى مرآة الجنس البشري لكنه أيضا الإطار الذي يعكس تَصَدُّعه. من حسن الحظ أن الأهواء تعكس أنواعًا من التكامل بين الناس ولكن يجب أن نفهم الأهواء الإنسانية بدلًا من إنكارها من أجل إضفاء نوع من التوازن داخل المجتمع. إذا كنا نريد الوصول إلى التفاهم فيما بيننا يتعين أن نتفاوض عن الاختلافات لكي نصل إلى حد أدنى من الهوية” إن أكثر الناس حين يخطر على بالهم مفهوم الهوية تتبادر الهوية الجماعية أو الوطنية وتكاد تغيب عن الأذهان الهوية الفردية مع أنها أحق بالحضور الدائم والتأكيد المتجدد فالحواجز الذهنية والوجدانية ليست فقط بين المختلفين ثقافيًّا ولكنها موجودة وبقوة وكثافة بين كل الأفراد حتى داخل الثقافة الواحدة أما إذا اختلفت الثقافات فإن الاختلافات تمثِّل حواجز صلبة حادة ورغم وضوحها وفظاعة مفاعيلها فإنه يجري إنكارها مما يفاقم أضرارها..

من نقائص الإنسان أن طاقاته نتاج انفعالاته فلم يتحقق في الدنيا أي إنجاز عظيم إلا إذا سبقته ورافقته طاقة انفعالية متأججة ومستمرة ففاعليات الإنسان مرتبطة بتلقائيته أما العقل فهو الضوء الذي نكتشف به الطريق كما يغذي الطاقة بالمعرفة ويفتح لها منافذ الفعل وأبواب الخيارات لذلك فإن الشاعر العالمي الشهير إليوت رثى الحضارة بقصيدته ذات الدوي العالمي (الأرض الخراب) حين رآها تفقد وهج الانفعالات الدافعة وقد توقف عندها الفيلسوف كولنجوود في كتابه (مبادئ الفن) فكتب يقول: “لم يصوِّر تدهور حضارتنا على أنه مسألة ترجع إلى العنف أو إلى أية خطيئة. إنها صورة عالَم كامل من الناس بدوا وكأنهم أشباحٌ فالقصيدة تصوِّر عالَمًا جفَّ فيه سيل الانفعالات المنسابة التي لديها وحدها القدرة على إخصاب النشاط الإنساني برمته فالأهواء التي انطلقت بقوة عظيمة فيما مضى قد انكمشت وأصبحت لا شيء فلم يعد هناك من يخاطر بنفسه بإظهار أي تعاطف مع الآخرين ولم يبق عند أي أحد شيء يحرص عليه فنحن مسجونون داخل نفوسنا ولم يبق لنا أي انفعال سوى الخوف من الانفعال نفسه والخوف من الموت بالغرق فيه” إن الحضارة كانت ثمرة انفعالات متأججة حشدت الطاقات للمغامرة والبحث والارتياد والكشف فما من عمل عظيم إلا وخلفه اهتمام تلقائي قوي مستغرق..

إن هذا الإدراك مطلوبٌ لكل الناس في مختلف العلاقات وفي كل الأحوال من أجل حياة إنسانية تتسم بالتبصُّر وروح التفاهم والتسامح لذلك يكون مهمًّا أن يعرف كلُّ فرد منا هذه الحقائق عن نفسه وعن تلقائيته وعن نفسيات الآخرين وتلقائيتهم وأن نتذكر دائمًا أن الاستجابات بين الأفراد تختلف باختلاف البنيات الذهنية والعاطفية التي هي أيضا تختلف باختلاف المؤثرات وعناصر التكوين في الطفولة وما بعدها وأن نبذل الجهد الكافي للتَّفَهُّم الذي يحقق الحد المقبول من التفاهم ففي إدارة وتدبير علاقاتنا ببعضنا وتقييمنا لهذه العلاقات وما يعتريها من مشاكل وارتباكات ومنغِّصات وتنافر يجب أن تكون وسيلة لارتقائنا في التفكير والنضج والتعامل وأنْ نضع في اعتبارنا الحقائق التالية:

  • كل إنسان يولد بقابليات فارغة مفتوحة مطواعة تتشكل بالأسبق إليها..

ــ كل شخص تَلَقَّتْ قابلياته مؤثرات تختلف عن المؤثرات التي تلقاها غيره فهو يختلف عن أي فرد آخر في بنيته الذهنية والعاطفية وفي تصوراته واهتماماته وما يستحسنه وما يستهجنه فتأتي الاستجابات على المواقف مختلفة بمقدار هذه الاختلافات لذلك فإنه ليس الغريب أن نختلف وإنما العجيب والرائع أن نصل إلى نوع من التوافق فيجب أن نبتهج بما يتحقق من اتفاق وأن لا نستغرب أو نسخط على ما يحصل من اختلاف لأنه الأصل فتطابُق الرؤى هو الاستثناء ولو تطابقت كل الرؤى لما تقدمت الحضارة فالمغاير هو منبع التقدم في كل المجالات..

ـــ إن من أهم الاحتياجات النفسية للإنسان هو حقه في الاعتراف والاحترام وتأكيد الأهمية فهو لا يَقْبَل أن يُهان أو يعامَل معاملة لا تتسم بالاحترام والاعتراف بالأهمية إن التاريخ والواقع كليهما يؤكد بأن حروبًا مدمِّرة اشتعلت بسبب كلمة مهينة أو تصرُّف مذل ولنفس السبب تتمزق الأُسر وتنقطع العلاقات..

ـــ مثلما أن الفرد يتمسك بحقه في الاحترام والأهمية ويمتعض ويغضب ويثور من أي تعامل يوحي بالاستخفاف أو الابتذال أو تسفيه رأيه فإن عليه بالمقابل أن يعي بأن كل إنسان له نفس الحق وأنه لا يتقبل الإهانة وأن التلميح له بعدم الأهمية يترك في نفسه جرحًا غائرًا لا يبرأ فعلينا أن نُعَوِّد أنفسنا على تجنب الكلمات البذيئة أو التصرفات الجارحة فهي تهدم أقوى العلاقات من دون أية ضرورة لاقترافها إنها من أشيع منغصات الحياة ومع ذلك لا يحاول الناس تحاشيها لأنهم يغفلون عن تأثيرها المدمِّر..

ــ السلبيات والنقائص في أي إنسان هي طبيعة أوَّليَّة وذاتُ وجود تلقائي فيجب تقييم بعضنا لبعض ليس بإحصاء سلبياته لأنها هي الأصل في الطبيعة البشرية وإنما يجب أن يكون التقييم على الإيجابيات فقط لأنها ارتقاءٌ استثنائيٌّ فيكون تقييمنا مبنيًّا دائمًا على تذكُّر الايجابيات فقط لأنها غير تلقائية وإنما هي عملٌ إيجابيٌّ استثنائي مقصود فالشخص يُحْمَد بقدر تجاوزه لسلبياته التلقائية..

ــ من طبيعة الإنسان أنه يركز على ما يريده هو ويغفل عما يُراد منه كما أنه ينسى الإيجابيات والمواقف الجملية لكنه لا ينسى أبدًا الإساءات والإهانات مهما طال الزمن فكل إساءة أو إهانة تترك في النفس جرحًا غائرًا تتجدَّد آلامه وتتعمق ذكراه فيحصل النفور وتتقوَّض العلاقات..

ــ الإنسان كائنٌ عاطفي فيبالغ مبالغة مُفْرطة في تضخيم وتجميل التوقعات ولكن الواقع يأتي دائمًا أقل كثيرًا من التوقُّع فالواقع لا يماثل المتخيَّل فيجب أن نتعلَّم الواقعية وأن لا نقع في فخ الإفراط في التوقع لأن هذا يؤدي إلى الفجيعة وخيبة الأمل والإفساد المسبق لمسَرَّات الحياة..

ــ بمقدار قوة القرابة أو أهمية العلاقة تشتد الحساسية من الإهانة أو الإيذاء فيصبح كل طرف يستغرب ويستنكر أن تأتيه الإهانة أو الأذى ممن ينتظر منه العكس فيتضاعف التأثير أضعافًا مضاعفة وقد تنقلب المودة إلى مقت..

ـ كل إنسان يجد بصورة تلقائية تبريرًا دائمًا وكافيًا لمواقفه وآرائه وتصوراته ولكل حماقاته فهو يعتبرها من البداهات الصادقة مهما كانت صادمة لغيره والسبب في ذلك هو أن لكل فرد معاييره التلقائية الخاصة التي يجزم أنها صحيحة وليس في دماغه آلية تلقائية لتصويب تفكيره فهو يغفل عن أن لكل فرد آخر رؤية مختلفة ومعايير تلقائية مختلفة فهو غالبًا لا ينتبه لخطئه ولا يخطر على باله أنْ يعتذر عن تصرُّفه المسيء فمن طبيعة الإنسان أنه يسوِّغ لنفسه كل فعل أو قول لأنه يعتقد أن معاييره صحيحة وهذا من أقوى أسباب الاستياء وخَلْق التنافر ولنفس السبب يستمر التنافر بين الثقافات المختلفة وتغيب قدرة التفهُّم كما تستمر المجتمعات المتخلفة عاجزة عن إدراك الأسباب الحقيقية لتخلُّفها فتبقى واثقة من صحة اتجاهها وتُسند معضلاتها لأسباب متوهَّمة..

ــ إن مقولة الاختلاف لا يُفسد الودَّ هي تعبيرٌ عما نتمناه لكنها في الواقع مقولة خاطئة تمامًا وخادعة بعمق فمهما قيل في هذا فإن رأي الفرد هو تعبيرٌ عن ذاته وتجسيدٌ لعقله كما أن مواقفه معيارٌ لقيمه واهتماماته وكما قال الفيلسوف الأميركي إمرسون: “إن الخطيئة التي لا يمكن أن يغفرها بعضنا لبعض هي اختلاف آرائنا” أما عالم الأحياء نورمان بريل فيقول: “كيف يمكن أن يتفق رأيان في حين أنه لا يوجد عقلان متشابهان فلا تناسبنا المطابقة أو التشابه” ويقول في موضع آخر من كتابه (بزوغ العقل البشري): “إن طبيعتنا الأساسية هي أننا مختلفون بعضنا عن بعض فلا يمكن أن يتشابه تماما أي أخوين إن أفراد البشر يختلفون في كل صفة من صفات العقل والروح كما يختلفون في تركيب الجسم ومظاهره وفي عمليات الجسم الفسيولوجية إننا نختلف في كل ما نستطيع أن نفكر فيه تقريبًا: في الذوق والشم وفي التأثر بالألوان والأصوات وفي الكيفية التي نؤدي بها الأعمال وفي كل ما نميل إليه وما لا نميل إليه ولعل معظم الكراهية المتفشية في العلاقات بين البشر مصدرها هذا الاختلاف الأساسي بين البشر وفشلنا في فهمه وقبوله” إنها معضلة بشرية عامة وعميقة وذات أضرار لا نهاية لها على المستويات الفردية والاجتماعية والإنسانية فهي تغلق أبواب التفهُّم وتحول دون التفاهم وتستبقي الجهالات سائدة فالأصل في كل فرد أنه متحفز للمشاركة بالرأي في كل شأن وأنه يثق برأيه ثقة عمياء سواء بناه على اهتمام مستغرق وتفكير طويل وتأمل عميق واستقصاء ممض فجاء ناضجاً ممحصاً أو كان الرأي فجًّا وابن لحظته حيث يندلق من دون أي اهتمام سابق أو بحث أو استقصاء فالغالب على أي فرد أنه يتوهم أنه يعرف فهو لا يعلم جهله إلا إذا كان أمام موضوع يهمه شخصيًّا ففي هذه الحالة فقط يكتشف جهله فيضطر للتفكير في الموضوع وتمحيصه ويجتهد في البحث عن حل..

المصدر: http://hewarpost.com/?p=1514

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك