نمط الإنتاج في العصر الوسيط قراءة في بعض النماذج

رشيد اليملولي

 

ليس من السهل أن نكتب تاريخًا، يحظى بالموافقة العلمية، والتأييد المطلق؛ بل من الصعب أن نقرأ عملًا تاريخيًّا، نوفيه كل حقوقه، ونستوفي كل الشروط التي رافقت مراحل سبكه، منذ كان فكرة، حتى أصبح عملًا له مقوماته الخاصة.

وتكمن هذه الصعوبة، في طبيعة الأطر المرجعية، والمنهجية، والمتاع المفاهيمي الذي يصوغ كل مجهود يتوخى البحث في المجال التاريخي، وصولًا إلى فلسفة التأويل، التي اعتمدها الدارس في فهم النصوص منهجًا، وبحثًا، وتحصيلًا؛ لذا إن أهمية الموضوع، لا تتعلق بالبداية؛ بل تهم المسارات المؤدية إلى النتيجة([1])، وهذا لا يعني، البتة؛ رفض وتغييب الوجهة التي تؤطر العملية في خطواتها الأولى؛ إذ إن البدء لا بد فيه من وجود روح مرشدة([2])، إلا إذا اكتست اليقين الخاص، الذي يتجلى في نزعة الانتقاء، واختيار الوقائع، وحصرها، ارتباطًا بوجهة النظر التي حركت العملية في بدايتها([3])؛ حيث يصبح المسعى المعرفي والمنهجي: هو تجاوز أحكام القيمة، التي توفرها الروافد المرجعية، والتغاضي عن الإفراط في استغلالها واستثمارها([4])، لخدمة وجهة النظر أو الروح المرشدة، والتي لا تعني الاطمئنان إلى الاختيار الخاص، ونفي، واستبعاد إمكانية وجود اختيار آخر في الوقت ذاته([5])، من هنا، حذر مارك بلوخ([6]) من أن الوهم؛ الذي يجب إبعاده عن إشكالية المؤرخ هو: "خرافة السبب الوحيد"، أو ما سماه أناتولي راكيتوف([7]) بـ (وهم الحل المحدد)، لأن التاريخ، حسب باشلار([8])، يعاد من حيث المبدأ، لكل حكم معياري، يمكن أن يوصف بنظام محدد، ما دامت الظواهر التاريخية والاجتماعية، محكومة بالتعقيد المزدوج، لذلك؛ يستحيل اكتشاف القوانين الثابتة التي تخضع لها هذه الظواهر([9])، والتي تختلف، وتتباين، وفقًا لسياقات تاريخية وحضارية، تستعصي معها إمكانية أن نشرح بها المتغيرات([10])؛ لأنها تفتقر، من حيث أسسها التاريخية والفلسفية، إلى طابع الإلزام، والقسر، والاتجاه الخطّي في التفسير.

انطلاقًا مما سبق؛ سنحاول تقديم قراءة، لا تحمل التفريط والسلب في مضمونها، ولكن تسعى إلى بيان قيمة ودرجة مقولتي؛ (اقتصاد الغزو) و(نمط الإنتاج الحربي)، وهما للأستاذين: إبراهيم القادري بوتشيش، والأستاذ المرحوم: الحسين بولقطيب، وذلك بعرض مضمون هاتين المقولتين في البداءة، ثم تقديم القراءة في مرحلة ثانية، على أن وفاءنا، لا يتعارض مع النقد؛ لأن همَّنا الأكبر الذي نرومه في هذه المحاولة؛ هو دفع أكبر ما يمكن من القراء إلى المناقشة([11]).

إن مقولتي؛ (اقتصاد الغزو) و(نمط الإنتاج الحربي)، جاءتا لتضيفا إنتاجًا طبعته الجِدّة، والأصالة، والإضافة التي تضفي على البحث التاريخي، طابعًا تراكميًّا، بإمكانه المساهمة في إثراء الوعي التاريخي، والكتابة التاريخية، وتقديم أرضية جادة وقابلة للمناقشة، سواء تمحيصًا، أو اختبارًا، وتأملًا، ونقدًا.

مضمون مقولة اقتصاد الغزو:

يبدو أن هذه المقولة: (اقتصاد الغزو)، لم تكن وليدة السياقات المعرفية والمنهجية، التي أحاطت بمجمل منتوج الأستاذ القادري بوتشيش؛ وإنما هي مقولة وظفها الأستاذ محمد عابد الجابري([12])، في عمله الموسوم بالعقل السياسي العربي، حين قال: "وأطلقنا عليه هناك؛ اسم أسلوب الإنتاج الخاص بالاقتصاد القائم على الغزو؛ أي انتزاع الفائض من الإنتاج بالقوة، قوة الأمير، وقوة القبيلة، وقوة الدولة"، ويضيف، في إطار تصنيف أنواع الغزو: أنه يوجد نوعان؛ مفاد الأول: غزو القبائل الثائرة، أو الممتنعة عن دفع الضرائب. ومناط الثاني: غزو العدو([13]).

ولا غرو؛ أن هناك محاولات عديدة، قد رامت وصف طبيعة نمط الإنتاج السائد في مجتمع الغرب الإسلامي، في العصر الوسيط([14])، وتوزعت ما بين؛ التأكيد على النمط الإقطاعي، والنمط الحربي، ونمط اقتصاد الغزو، والمجتمع العبودي، ونمط القنانة، وأسلوب الإنتاج الاصطناعي، دون تجاهل مقولات أخرى، من أهمها: (مجتمع الكفاف)، و(اقتصاد الندرة)([15])، وإن كان صاحب هذه المقولة، يستريب من هذا الحكم، ولا يدعي التصنيف القطعي والنهائي.

إن دولة اقتصاد الغزو، تنبني على مقوم الغزوات والحروب، سواء سميت؛ جهادًا، أو فتحًا، أو نهبًا، برغبة جامحة في الوصول، والحصول على المال والثروات، استنادًا إلى فلسفة الدولة، الخاصة في تطويع المجال والإنسان بالسيف، ودعم القبائل المتحالفة، والمسهمة في الغلبة المرابطية، ونجاحها السياسي، وقد وفر هذا الأسلوب للدولة مبالغ مالية مهمّة، استمدت، أساسًا، من غمار المعارك التي خيضت ضد الإمارات الزناتية، والقوى النصرانية، ابتداء من معركة الزلاقة، وانتهاء بعملية خلع ملوك الطوائف([16]).

والخاصية المميزة لهذا النمط من الإنتاج؛ هي الازدهار السطحي، المرتبط بقوة المدخول، الذي يعرف أوجهًا في فترة ما يسمى، في الأدبيات الرسمية، بـ (الفتوحات)، ولكن سرعان ما تنقطع هذه العمليات العسكرية، ويتراجع المردود، وتنهار الدولة([17])، وهذه السيولة المالية، تشي بانتفاء عنصر الاستثمار والتنمية([18])، بحكم طبيعتها القائمة على الخطط العسكرية، والتوازن السياسي، والتحالف المرحلي الهش، وتسعى إلى إنجاح المشاريع الحربية، ولو بالاعتماد على العنصر الرومي([19])؛ الذي شكل الاعتماد عليه، ثابتًا في سياسة علي ابن يوسف؛ لرغبته في استخلاص العائدات الضريبية، وردع الممتنعين عن أدائها، ومواجهة المشروع الموحدي المتوثب.

وقد عمل هذا النمط، على ضم الشعوب ذات المشارب الإثنية المتعددة، من القبائل التي تفاوتت نسب سكانها داخل النسيج الاجتماعي المرابطي([20])؛ فاكتسى، بذلك، طابع الكثرة، والتنوع، وهي خاصية تنذر بالتصدع والانشقاق، متى لاحت في الأفق أزمة ما، مهما كانت طبيعتها، مما يعني؛ أن الرسالة الاجتماعية، التي انتدب المرابطون أنفسهم للدفاع عنها، حملت معها بذور موتها، لغياب سياسة تنظيمية فعالة، لصهر القبائل ضمن المشروع المرابطي.

وتقوم هذه المقولة، أيضًا، على حق الدولة في احتكار المجالين؛ التجاري والصناعي، بوصفها السوق الأعظم ([21])، وتبعًا لذلك؛ فالأرض، أو الثروة ورأس المال؛ إنما تشكلت من الأموال السلطانية التي يوفرها اقتصاد الغزو([22])، الذي لا ينفصل عن الابتزاز الضريبي لحظة الأزمات؛ إذ إن انقطاع موارد الغنائم بسبب تضافر مجموعة من المسببات، الداخلية والخارجية، حتّم على الدولة تعويض هذه الخسائر، بفرض مزيد من الضرائب الجائرة، وهنا تبرز علاقة الضرائب باقتصاد الغزو([23])؛ إذ ترتد الحروب من طابعها التوسعي، إلى صيغتها الدفاعية([24]).

ثم إن هذا النموذج، له خاصية فلاحية تتمظهر في البستنة والغراسة، وهي مشاريع استحدثت لخدمة بساتين مراكش، ومستخلصات الأمراء في الأندلس([25])، وهو اهتمام استهلاكي ترفي، لا يشكل قوام البناء الاقتصادي للدولة، ومن أهم هذه البساتين والبحيرات، يمكن أن نذكر بحيرة الفصفصة، والرقاق، والناعورة، والطلبة([26])، فيما سمي بالفلاحة السلطانية.

قد تعزى، هذه الأخيرة، إلى طبيعة العنصر الصنهاجي، ورؤيته للمسألة الفلاحية، التي قد تجد مبررها في أن الموارد، التي تكفلها التجارة والحرب، تكفي لتغاضي المرابطين عن الفلاحة، وقيمتها في ضخ سيولة مالية، ومؤن مساعدة على الحرب، التي تحولت، بفعل المرابطين؛ من الغارات العشوائية، إلى الغزو المنظم، وتحولت عمليات الجهاد أو الغزو، إلى خطة تتزعمها القبيلة المغيرة([27]).

أما على الصعيد الاجتماعي؛ فقد ساهم اقتصاد الغزو، في تشجيع الهجرة الصنهاجية، التي شكلت حدثًا تاريخيًّا مهمًّا؛ من الجنوب القاحل، نحو المناطق الرطبة؛ لأنه مبنيٌّ على التوسع، والغارة، والغنيمة الحربية([28])، وفي هذا الصدد؛ تساءل الدارس عن خصوصية الوضع الطبقي، في ظل مجتمع يقوم على نمط اقتصاد المغازي، ومن خلال التتبع والرصد، حسب أن الوضع الطبقي قام على الجاه والحاكم([29])، وأن الطبقة الاجتماعية، ارتكزت على الثروة وملكية وسائل الإنتاج، غير أن النمط المشار إليه، أكسبها الميوعة وعدم الثبات، بحكم ارتباطها بوسائل إنتاج، وبثروات تعد في ملكية الأمير المرابطي([30])، وفي السياق ذاته؛ تعرضت طبقة العامة لصنوف الاستغلال والابتزاز الضريبي، بفعل الدولة التي تبنت هذا النموذج، القائم على الغنائم، والجزية، والخراج، علاوة على الضرائب غير الشرعية([31])، وبالقدر نفسه، حدّ هذا النمط من طموحات الطبقة الوسطى التجارية، نتيجة احتكار الدولة للمجال الاقتصادي([32]).

نخلص مع الدارس؛ إلى أن هذا النمط الذي تبناه المرابطون: هو نمط متقلب، وغير ثابت([33])، وأنه بنى، على المستوى الاقتصادي، اقتصادًا رخوًا قائمًا على قوى حربية، أكثر مما هو قائم على قوى اقتصادية ثابتة([34])، ونجح في الترويج للفكر الذي يخدم هذا التوجه، بتلجيم كل اختلاف، وتوجيهه نحو المسار الذي يخدم المشروعات العسكرية، ذلك ما ساهم في طغيان الثقافة النصية "التسليمية"، على حساب التيار العقلاني، وهو ما أثر في ذهنية مختلف الشرائح الاجتماعية، وهيأ التربة والجو الملائم لذيوع الفكر الخرافي، والمعتقدات الغيبية([35])، وفقًا لذلك؛ وتتميمًا لوصف واستكمال خصائص النظام السياسي المرابطي، خلص إلى أن هذا النظام، قد انبثق من بنية قبلية عمل على تكريسها، وتحديد علاقته مع القبائل، الخاضعة والموالية، بالموارد التي تسمح له بمواصلة سياسة اقتصاد المغازي([36]).

مضمون نمط الإنتاج الحربي:

يستند نمط الإنتاج الحربي، عند الأستاذ الحسين بولقطيب، وهو: نموذج خاص بالتجربة الموحدية، على مجموعة من الفرضيات، التي حاول اختبارها اعتمادًا على مؤشرات مصدرية، وتأويلات حكمتها؛ طبيعة الرؤية والمنهج، اللذين ارتكز عليهما الدارس.

وهكذا، سعى في البداية نحو تحديد منطلقه في الدفاع عن هذه الأطروحة؛ فقدم المضمون التاريخي لمقولة نمط الإنتاج الحربي، الذي تبنته الدولة الموحدية، ويقوم على الصيغة التي ورد بها في أدبيات المنهج المادي التاريخي؛ أي الأساس المادي للتشكيلة الاقتصادية والاجتماعية، على أن هذه الصيغة لم ينزلها بصفة آلية؛ وإنما أضفى عليها الصفة، والطبيعة الخاصة به في المجتمع المغربي في العصر الوسيط؛ لذا سماه بنمط الإنتاج الحربي، الذي يرتكز على إيلاء الأهمية الكبرى للقوى الحربية، في مجمل التطور الحضاري للعصر قيد الدراسة([37]).

لقد قام هذا المفهوم على خلفية معرفية، أساسها؛ المصادر التاريخية والدراسات الحديثة، التي تجمع على أهمية الحرب في تاريخ دول العصر الوسيط([38])، وتستند إلى بعض إشارات مؤسسي الدولة الموحدية، خاصة، عبد المومن وابنه يوسف؛ اللذين اهتما بجمع الأحاديث الحاثة على الجهاد([39])، وهو ما شكل ثابتًا من ثوابث السياسة الداخلية والخارجية، على حد سواء، من منظور الدارس للدول التي شهدها العصر الوسيط([40])، لدرجة جعلته يجزم جزمًا قاطعًا، بكون الهاجس العسكري ومضمونه، قد سيطرا على مجتمعات الغرب الإسلامي الوسيط([41])؛ لذلك اقتصر المؤرخون على إبراز هذه الأهمية، على صعيد الكتابة والتدوين([42])، كما اعتمدوا على المقياس الحربي، ذاته، في التأريخ لبداية ونهاية الدول الوسيطية([43])، ولم يكن ابن تومرت (منظر دولة الموحدين)، أقل شأوًا في التأكيد على أهمية الحرب، حين خصص للجند طبقتين من بين الطبقات الثلاث عشرة، التي قسم بموجبها المجتمع الموحدي الناشئ([44]).

فالأمر نفسه يهتم به ابن خلدون؛ الذي كان من الأوائل الذين أبرزوا أهمية الحرب، وتأثيرها على جلّ القطاعات الإنتاجية([45]).

ومن كل ما سبق ذكره؛ يتضح أن نمط الإنتاج الحربي، مبثوث في ثنايا المصادر التاريخية التي اعتمدها الدارس، وعكستها مجمل الأحداث والظواهر التي صاغت التاريخ الموحدي، لذلك؛ وسيرًا على هذا المنوال، فصل القول في مظاهرها وأشكال وجودها؛ فعرض لمكونات الجيش الموحدي([46])، وعلاقته بالسلطة([47])، وأكد فيه: أن الغنيمة اعتبرت بالنسبة إلى جماعات، عدت أرزاقها تحت ظلال رماحها، مكسبًا مهمًّا، سعت دومًا للحفاظ عليه وتنميته، بشكل جعل القبائل المشاركة في الحرب، لا تفرق بين الإنتاج الحقيقي ذي الارتباط بالزراعة، أو الحرف، أو التجارة، وبين ما يمكن انتزاعه عن طريق القوة من الخصوم والأعداء.

و قد ساهم المجال الموحدي في دعم الأسلوب والطريقة الحربية التي اعتمدها الموحدون؛ فعد، بذلك، داعمًا لسياستهم الحربية، سواء في دحر الخصوم والأعداء، وفي تدعيم هذا النموذج؛ أي إخضاع السهل انطلاقًا من الجبل([48]).

إن الرغبة في تدعيم هذه المقولة، وسيرًا على النهج الذي اختطه لنفسه منذ البداية، حتمت عليه مساءلة مقولات دارسين آخرين؛ عرب وأجانب([49])، الذين أكدوا وجود النمط الإقطاعي، والحربي، والعبودي، ونمط الإنتاج الاصطناعي، واقتصاد الغزو؛ الذي أومأنا إليه سابقًا، هذه المقولات تتباين منطلقاتها الإيديولوجية، حسب الدارس، وينبع ذلك، أساسًا، من طبيعة الحقول التخصصية للدارسين محط الاهتمام([50]).

وحتى يأخذ هذا المفهوم طابعًا مركزيًّا، ويشي بكل مقوماته، انتقل الدارس إلى الكوارث غير الطبيعية، وناقش فيها الحرب، باعتبارها جائحة؛ فبعد أن سجل اختلاف الفقهاء في اعتبار الأضرار الناجمة عن الحرب جوائحًا، اعتقد أن هذا الموقف تعوزه الدقة، وبعد النظر، فضلا عن اتسامه بالقصور عن مسايرة التطور، الذي عرفته الحرب خلال العصور اللاحقة لقيام الدولة الإسلامية([51])، وحسِب أن الحرب رأس الجوائح، نظرًا لديمومتها، ووساعة المناطق المتضررة من نتائجها، ولم يكتف بذلك فحسب؛ بل ارتقت، في تقديره، إلى مستوى الصناعة، والحرفة، والظاهرة المستشرية والدائمة([52]).

وسعيًا منه إلى رسم تجليات أخرى لهذا النمط الإنتاجي، وسع من دائرة الاهتمام التي يمكن أن تدعم هذه المقولة؛ فحاول أن يتبين سياسة التعمير التي ميزت الموحدين، ليقر، في البداية، أن طبيعة الدولة الغازية، قد فرضت الاهتمام بكل ما يخدم الحرب والتوسع([53])؛ فمعظم الموارد جرى تخصيصها لسد نفقات الحرب وأعبائها، على حساب القطاعات الإنتاجية، والمشروعات الإنمائية، ومن ضمنها؛ المشروعات العمرانية([54])، حتى أن المنشآت المدنية لم تسلم من الهاجس العسكري والأمني؛ إذ إن المدن التي شيدت، كانت المبررات "الجهادية" من وراء تأسيسها([55])، ارتباطًا بذلك، كان حظها الاندراس، والاندثار؛ لأن المواضع التي شيدت عليها لم تكن ملائمة([56])، وكان تخريبها من طرف الدولة المتغلبة، علامة بارزة وسياسة ثابتة في المشروع العسكري لتلك الدول([57]).

ونظرًا للمكانة التي اكتسبتها التجارة، والصناعة، والحرف في العصر الوسيط؛ فقد أفرد لها مبحثًا، أكد فيه: أن اهتمام الموحدين بتوفير البنيات التحتية للعمل التجاري، لم يكن لذاته؛ وإنما تعكسه الحاجة العسكرية([58])، كما أن البحث عن أمن الطرقات التجارية، كان بهدف عسكري، وأن المسالك، وإن كان لها دور اقتصادي في التاريخ الموحدي؛ فإن هذا الدور ينمحي عندما يتعلق الأمر بأمن الدولة، ذلك أن هذه المسالك، كانت قبل كل شيء مسالك حربية تخترقها الجيوش([59])، وعلى مستوى الصناعة والحرف، لجأت الدولة الموحدية إلى سن سياسة حرفية، تتماشى مع المضمون الحربي للدولة([60]).

وعلى مستوى الموارد المالية؛ فإن الدولة الحربية، لا تستطيع أن تضمن موردًا ماليًّا قارًّا وثابتًّا، ومرتبطًا بقوة الدولة، وبالحروب التي تشنها، من هنا، انصب اهتمامها بالجباية، على اعتبارها مصدرًا ماليًّا مرهونًا بضعف الجانب العسكري للدولة([61])، وتبدو ملامح هذه السياسة واضحة، في اعتبار المجال والسكان الخاضعين له، مجرد مصدر لتمويل الحروب المتعددة، التي كان عليهم خوضها([62]).

نقد المقولتين:

- مقولة اقتصاد الغزو:

تقتضي الضرورة المنهجية، بداية، استحضار العملية النقدية في بعدها العلمي؛ أي الالتزام بالحدود التي لا تحلق بالخطاب النقدي، بعيدًا عن عوالم النص المدروس، إذا تم الانطلاق من المرجعية المدرسية، أو ليِّ النص واستنطاقه، حتى يقول ما ينبغي أن يقال، وليس ما قال، وفي هذا المستوى؛ يتزاوج الرفض التام لدور المدعي العام، مع هوس إصدار الأحكام([63])، حتى يتسنى تجاوز تحريف المضمون، وتشويه جمالية النص، وإغراقه في مركزية الذات، وفي هذا صدق مارك بلوخ([64]) حين رأى، أن المؤرخ يواجه، في الآن ذاته، مسألتين غاية في التعقيد؛ الأولى: التجرد التاريخي، والثانية: العملية التاريخية، بوصفها محاولة لإعادة الإنتاج والتحليل.

إن أولى الإشكالات المرتبطة بمقولة (اقتصاد الغزو)، تتعلق بصعوبة تحديد طبيعتها، التي تتأرجح بين المفهوم، والمصطلح، والمقولة، والصفة الاجتماعية والتاريخية، التي أهمّت فترة أو فترات من التاريخ المرابطي، والمرجح؛ أن الدارس لم يكلف نفسه عناء تدقيق هذه المقولة، انطلاقًا من دلالات معجمية أو معرفية؛ بل ركن إلى وصف خصائصها، وغالى، إلى درجة الإفراط، في رسم تجلياتها التاريخية، إمعانَا في تكريس واقعيتها التاريخية.

وارتباطًا بالإشكال ذاته؛ فإن هذه المقولة، لا تمتلك تفسيرها الخاص، لا من حيث نحت المفهوم، ولا من حيث النسق الاستدلالي، وطبيعة الفرضية، وصولًا إلى التعميم؛ أي أن الدارس لم يتجاوز الوصف إلى التفسير، الذي يعد شرطًا لقيام معرفة علمية بالتاريخ، ويستوجب إطارًا نظريًّا واضحًا، يمكن تصوره بنيّة تفسيره؛ إذ إن الأمر في المحصلة النهائية: هو اجتهاد يفتقر إلى التدقيق، والتوضيح، والبرهنة المقنعة. فالوصف الذي تم بسط معالمه، لا يلج إلى عمق الظاهرة؛ وإنما يسترعي الاهتمام والانتباه فقط، بغزارته بشكل لا يتجاوز فيه أنفه؛ إذ إنه أسير منطق الحرب، لا ضروراته، وشروطه، وآلياته، وإذا كان الإسهاب في تعداد مظاهر هذه المقولة واضحًا؛ فإنه لم ينفك من عقال الخطية التي رسمتها الرواية التاريخية، المرتبطة بالحول، حين بالغت في الحديث عن المعطيات المتعلقة بالغزو والسلب، كل ذلك قد يدفعنا إلى اعتبار الدولة المرابطية؛ مجرد دولة غزو ونهب، الأمر الذي يبطل مقولة وجود مشروع سياسي، استنادًا إلى وجود مخطط إصلاحي، بزعامة الفقهاء الأوائل([65])؛ فلا يعقل أن يكون مشروع سياسي وتنظيمي، لم يول اهتمامًا للمصادر المالية، وتنويع مصادرها، وتحديد طرق الاستثمار فيها، بغرض ضمان السيولة المالية الكافية لسير الدولة العادي.

ثم إن هذا المنحى، يتأكد إذا نحن فهمنا المقولة في مضمونها التاريخي؛ بمعنى الاعتماد، حصرًا، على المورد الحربي؛ فهذا يوحي بغياب البعد المجالي والاستراتيجي، في التوسع المرابطي، ويدل على نزعة نفعية مفرطة، قد نغالي إذا حسبناها أسيرة صدفة سياسية، أكثر منها تدبيرًا وتخطيطًا، ومما قد يفسر ذلك؛ هو تهاوي السلطة المرابطية في فترة مبكرة، على صعيد الأندلس والمغرب، سواء بسواء، وحتم على السلطة البحث عن موارد مالية، بإيعاز من الجيش المرتزق؛ الذي لا يعني إلا إمعانًا في النهب والسطو، بعيدًا عن مقتضيات العصبية القبلية، والرسالة التي انطلق منها المشروع المرابطي.

أما الإشكال الخاص بالزمن التاريخي؛ فيمكن أن ينطلق من التساؤل الآتي: بأي معنى نفهم ونؤطر بداية التجربة السياسية المرابطية وفقًا لمقولة اقتصاد الغزو؟ أي تحديد طبيعة الموارد المالية، هل هي متأتية من الغزو؟ وهل يمكن الحديث بشكل واضح، في هذه الفترة، عن قبيلة غازية وقبيلة مغزوة؟

ثم إن المرحلة الثانية من مراحل الدولة، حسب التفسير الخلدوني، لا نستطيع الحديث فيها عن الغزو، في وقت تركن الدولة لجني ثمرات الملك، والاستخلاف، والتعمير؛ فقد تكون التحركات العسكرية، بهدف تسكين المتنطعين والثوار لتكريس منطق الدولة وسيادتها، وإن تمت بأسلوب القوة والعنف، على أن المرحلة الأخيرة، تبدو أكثر استعصاء على مقولة اقتصاد الغزو؛ لانفراط عقد الدولة من جهة، وتكالب العديد من الحركات والقبائل على السلطة، الموحدون وثورات الأندلس، بشكل يصعب، إن لم نقل يستحيل، تبين من الغازي، ومن المغزو، ومن المدافع، ومن المغير، ومن القوي، ومن الضعيف؟

وتتقوى هذه الفرضية إذا استحضرنا الخريطة البشرية، خاصة في حالة قبائل السهول، الفاقدة للحماية التي تكون معرضة للغزو، وهو ما يضعفها ويضعف عصبيتها([66])، ويجعل من روحها الاستقلالية أسيرة ميزان القوى؛ لذا تتغير مواقعها ومواطنها، وتختلف، تبعًا لذلك، ولاءاتها الاجتماعية والسياسية، بفعل المؤثرات التي تخضع لها([67])؛ فإن ارتفعت الحروب القبلية عن الغزو والنهب؛ فلا تعدو أن تتحول إلى مجرد تحالف دفاعي هدفه هجرة مسلحة جماعية([68]).

فإذا كان منطق البحث خاضعًا، في بنيته ونسقه العام، لتشعبات، ومفاجآت، وقفزات، لا يمكن التنبؤ بها، وإن كانت تحركه فكرة أو روح مرشدة([69])؛ فإن الإصرار على وجود ضرورة تاريخية، وخط موجه هو بمثابة نفي تعقد الحياة الاجتماعية، ومن ثم تعقد عملية الإدراك نفسها([70])، وعدم الاعتراف بأن التاريخ ليس وحدة محددة بعبارات مطلقة، يمكن تقييمها بدقة، بقدر ما هو مسار محكوم بدوافع متضاربة، سرعان ما تعكسها مظاهر متناقضة في الغالب، لذلك؛ قد لا يكون للتاريخ طبيعة محددة المعالم، ولكن قد يكون له تاريخ؛ بمعنى أنه يصعب الحديث عن طبيعة، وإن كانت؛ فهي تاريخية لا تستقر على وتيرة واحدة؛ لأن الفعل الذي يبدو بسيطًا، هو، في حقيقته، حادثة معقدة، ومؤلفة من آلاف الأحداث الثانوية، مترافقة مع عدد ضخم من الظروف الثانوية المختلفة([71])، وسيظل الزمن التاريخي، تبعًا لذلك، عصيًّا على التنميط القسري، ولا بدّ من مقاييس تتوافق، وتتفق، وتتماشى مع إيقاعه المتنوع([72])؛ فكثرة التأويلات، مهما كانت موحية؛ فهي تفتقر إلى الإلزام كما قال بوبر([73]).

- نمط الإنتاج الحربي:

تكتسي مقولة نمط الإنتاج الحربي، أهمية خاصة في "مشروع" الأستاذ الحسين بولقطيب؛ الذي يروم رصد العناصر الفاعلة في المجال الموحدي؛ سلطة، وأنشطة اقتصادية، واجتماعية، ومعمارية، وكوارث طبيعية وإنسانية.

لقد اتخذ هذا الرصد، ونحَتْ هذه المتابعة منحًى خطيًّا، ونزعة قسرية، حالت دون الفهم الأسلم لمختلف ظواهر المجال الموحدي قيد الدرس.

فالقول بنمط الإنتاج الحربي، غير قادر على الإجابة عن العديد من الأسئلة، والتقليص من حجم الشكوك والاعتراضات؛ التي لا مناص منها، ذلك أن وجهة النظر التي ترى أن الحرب هي أم الأشياء؛ هي، في الأصل، فكرة ليست بالجديدة([74])؛ فقد عدها هيغل أعلى تعبير عن وجود الدولة، إضافة إلى أنها كانت وما تزال، آلة حرب في عمق وجودها([75])، في وقت لم يعمل الأستاذ بولقطيب، سوى إلباس التجربة الموحدية هذا الثوب، دون الفصل والتمييز بين الحرب، باعتبارها ثابتًا حضاريًّا في التاريخ البشري، والحرب الاستراتيجية والحرب الدفاعية، وكأن الحرب حرب دون التفصيل في مقتضياتها وشروطها، التي حتمتها التجربة والمجال الموحدين، إضافة إلى أن الحرب قد تعني، وفقًا لما دأب عليه الأستاذ، مرحلة تاريخية، انطلاقًا من المعارك والأحداث، عوض الظواهر والقضايا الكبرى، ولا حاجة للتذكير: أن العقل العلمي يرفض إخضاع التاريخ لتحقيب قائم على الأحداث، مهما برزت أو طغت على السير الظاهري للتاريخ([76])، إلّا إذا كان الهاجس الإجرائي ومقتضيات البحث؛ هي التي حتمت ذلك، وقد لا نساير في هذا السياق أحد الدارسين([77])، حين جعل القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، يمتد من معركة الزلاقة 479هـ/ 1106م إلى العقاب 609هـ/ 1212م.

لا يمس السؤال بداهة الحرب، مثلما لا يمس وسائلها، ذلك أن السؤال كله، يقوم على إنتاج حرب لا تبقي ولا تذر، وتعادي الاستخلاف، والتعمير، والإرادة السياسية في تطويع المجال والإنسان، لخدمة هدف قد لا يكون بالضرورة حربًا؛ فابن تومرت، في تصنيفه للمجتمع الموحدي على أساس الطبقات، كان يهدف صهر الفئات الاجتماعية، في قالب يخدم مؤسسة الدولة، إضافة إلى أن المجال الخاص بالموحدين، هو الذي فرض عليهم سن حروب لا تتماشى مع الكر والفر؛ فهل يمكن أن تكون الدولة بهذين المعنيين، مثالًا لا حصرًا، حربية بمعنى عام دون تحديد أو تفصيل؟

أما في ما يتعلق بفلسفة تتبع الحرب في المجال الموحدي؛ فإن الدارس سقط، من حيث لا يدري، في نفس ما سارت عليه الحوليات التاريخية، التي تتبعت المجال بسنابك الخيل، وصليل السيوف، وعلامات الفتك والقتل، الفرق، فقط، في المضمون، في وقت ظل المنهج نفسه؛ أي أن الدارس حدد نموذجًا ونمطًا إنتاجيًّا واحدًا، وطبقًا لنظرية الصراع الواقعي بين الجماعات التي تقوم على المنافسة على المصادر النادرة، خاصة الاقتصادية منها، وعدم العدالة في توزيعها، هو ما يخلق ميولات نحو الصراع([78])، وليس الحرب من أجل الحرب، هي ما حكمت الصراع المرابطي- الموحدي؛ إذ إن المحدد المجالي والاجتماعي، لهما دور لا يستهان به في ترجيح كفة طرف على آخر؛ لهذا ميّز أحد الدارسين([79])، فيما بين الفتح والغزو؛ فالثاني يتحقق بسرعة على خطوط جبهات القتال، ويفضي إلى الطاعة، وتحقيق الغلبة، والأول، وأطلق عليه اسم: الفتح الاجتماعي، ويتطلب الاكتشاف الداخلي للمجتمع قبل الوصول إلى التقبل التنظيمي.

وعلى مستوى آخر: هل يمكن اعتبار الجواز إلى الأندلس، والعبور إلى الضفة الأخرى، حدثًا حربيًّا بامتياز؟ وهل الحرب هي المسلك الوحيد لإضفاء الطابع الإسلامي، والتبعية السياسية للأندلس؟

إن تأملًا بسيطًا في هذا المعطى، وانسجامًا مع وجاهة ما قال به الأستاذ القبلي([80]): إن العمليات العسكرية المرتبطة بالأندلس، كانت مجرد استعراضات ظرفية، هدفها الإطفاء والتسكين، يعوزها طول النفس، ولا تستتبع بالتعبئة المفضية إلى رد الخطر بصفة نهائية وقارة، يدفعنا إلى اعتبار التدخل في الأندلس، محكوم بالتحكم في مضيق سبتة، وضبط قيمتها، ومحاولة تأبيد الوجود في الضفة المتوسطية، في ظل تنامي الخطر والمد التجاري للإمبراطوريات الإيطالية، واستباق المد، العسكري والتجاري، للإمارات الإسبانية المتصاعدة.

لقد أسهب الأستاذ في رسم صورة المجال الموحدي؛ الذي عد داعمًا أساسًا في ترجيح كفة الحرب على المرابطين([81])، ولكنه غالى في حصره في الحرب فقط، متناسيًا ومتجاهلًا قيمة عوامل أخرى؛ فالتعارض بين نموذج الحرب القائمة على الكر والفر (السهول)، وحرب العصابات والخطف التي تستغل المجال وطبونيميته (الجبال)، لا يلقى ضوءًا كبيرًا؛ لأن أيًّا من المقولتين، لا يشكل وحدة اجتماعية متجانسة، سواء بين صنهاجة أو مصمودة، فلا صنهاجة تشكل جماعة بشرية ومجالية متجانسة، ولا مصمودة تمتلك الأمر نفسه؛ فقد تكون الحرب، بالنسبة إلى نموذج الرحل، سبيلًا للبقاء في بيئة محرومة من الموارد، وسبل العيش([82])، ومن ثم، تعد الحرب حاجة بيولوجية، وليست مسلكًا سياسيًّا يتحرى السلطة والزعامة السياسية؛ لذلك فهي تعيش الحل والترحال، انسجامًا مع الخاصية التي تميز هذه العينة من القبائل، وهي: "القبائل اللقاحية"؛ التي تعتز بالحرية والاستقلال والسيادة، ويصبح مجالها الحيوي؛ هو الضامن لبقائها على قيد الحياة، ما دام يوفر لها طعامها الطبيعي، ومشاعيتها المجالية؛ لذا يبدو الفصل بين نوعين من السلطة، قمينًا بفهم الخاصية المميزة للقبائل عمومًا؛ فالسلطة بالمعنى الاجتماعي، تعني: الضبط والعقل، وبالمعنى التنظيمي: مختلف الصلاحيات المنوطة بالمناصب؛ ففي المستوى الأول: لا يتم التفريق بين السلطة والسلطان، أو القوة، وبين القسر أو الهيمنة؛ فجميعها تنضوي تحت خانة التنظيم والأعراف، أما المعنى الثاني؛ فهو المتبع في الدولة، ويقصد به: شرعية استعمال السلطة([83]).

وينطبق الأمر نفسه على المصامدة؛ الذين لا يشكلون وحدة اجتماعية متجانسة؛ فمصامدة السهل: هم ما دون جبل درن إلى المحيط الأطلسي. ومصامدة الجبال: هم سكان درن والأطلس الصغير والريف([84])، ومعلوم أن رجحان الكفة السياسية لصالح مصامدة الجبال، تحكمت فيه عوامل أسهمت في تأسيس السلطة الموحدية، في وقت ظل فيه درن، والأطلس الصغير، والريف، مهيّأ لرفض وتقبل التنظيمات السياسية، سواء المرابطية أو الموحدية.

وعلى هذا الأساس؛ فإن الأدلة التي ساقها الدارس لاستكناه نمط الإنتاج الحربي، ليست كافية لتحديد هذا النمط؛ لأنها قدمت باعتبارها مسلمات، تنهض على صعوبات تحول دون التسليم بها؛ لسبب معرفي ومنهجي أساس، وهو: أن هذا النهج في الفهم والتحليل، يسعى جاهدًا إلى طرح الجواب محل السؤال، وإيجاد قالب يتكلف ببناء الإيديولوجيا بدل التحليل؛ لأن الحرب أداة قد تصنع الدولة، وتجعلها ثكنة عسكرية، يعيش فيها شعب مجاهد أو ناهب لا يضع السلاح، ولكن شروطًا وظروفًا اجتماعية ومجالية، وأخرى عديدة، هي التي تجعل الحرب والدولة يتحققان معًا.

بقي أن نشير، أخيرًا، إلى أن كلا الدارسين؛ سواء الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش، أو الحسين بولقطيب، في مقولتي؛ (اقتصاد الغزو) و(نمط الإنتاج الحربي)، لا ينيا في الإلحاح على "صدقية" التصورات الخلدونية، دون محاولة لمساءلة ما توصل إليه، وكأن الأمر يتعلق بمرجعية، اكتملت لديها كل الاستنتاجات والرؤى الصادقة؛ فليس من المعقول أن يكون ابن خلدون وماركس، قد قالا كل ما يمكن أن يقال عن المجتمعات والتاريخ، وإن قالا أكثر بكثير مما قيل قبلهما؛ فنصوصه استنطقت بشكل تتكامل فيه كل الخصائص والرؤى([85])، باستثناء حالات نادرة، خضعت فيها بعض التصورات الخلدونية للنقد([86]).

والحقيقة: أن جوهر الدعوة إلى التقليل من حضور الخلدونية داخل متون الدارسين، من خلال تقييم آرائه وتصوراته، يمس فلسفة توظيف تلك التصورات؛ فحتى لو قبلناها، فلا إجماع عليها؛ لأن منطق التفكير السليم، يقول: إننا لسنا ملزمين، ضرورة، بقبول تفسيرات ابن خلدون، مهما كانت وجيهة؛ لأنه قد يتناقض مع الأساس التاريخي، الذي لا يمتلك مرجعية مطلقة جامعة مانعة، وأن كثرة التأويلات، تعكس نمطًا معينًا في التفكير، يفتقر إلى الإلزام، والدليل المستمد من النص، ليس كافيًا لتحديد ما كتبه المؤلفون الأصليون، مهما كان وجيهًا، ومهما كانت طبيعته وخاصيته([87]).

لعل السياق الثقافي العام الذي حكم مقولة الدارسين، هو؛ سياق يبتغي إيجاد موقع للثقافة والتاريخ الإسلامي، ضمن التاريخ الحضاري العام، من خلال البحث عن نماذج تراثية ومقولات تستجيب لهذا المطمح، وهو سعي محمود إذا انفك عن التنميط، وسعى لبلورة ذاته خارج سياق الموقع الطاووسي، من هنا، وجب مساءلة وتمحيص المضامين الثقافية للنصوص.

لم تكن هذه المحاولة، إلا قراءة للمجهود الذي قدمه الأستاذين الفاضلين، والذي لا يرقى الشك إلى قيمتهما، المعرفية والتاريخية، ولم يحمل بين طياته أية رغبة في التنقيص، أو التشهير، أو المعاداة النابعة من تخمة الأنا، على أن الغاية الكبرى، من كل ذلك، المناقشة وإعادة القراءة، بهدف إرساء مبادئ المجتمع القارئ.


[1] عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، ج 2، ط 3، المركز الثقافي العربي 1997، ص 246.

[2] مارك بلوخ، دفاعًا عن التاريخ أو مهنة المؤرخ، ترجمة: أحمد الشيخ، المركز العربي الإسلامي للدراسات الغربية، 2013م، ص 134.

[3] كارل بوبر، بؤس الإيديولوجيا، ترجمة: عبد الحميد صبرة، دار الساقي، 1992م، ص 153.

[4] هشام جعيط، تأسيس الغرب الإسلامي، ط 1، دار الطليعة، 2004م، ص 221.

[5] مارك بلوخ، المرجع السابق، ص 194.

[6] نفسه، ص 68.

[7] أناتولي راكيتوف، المعرفة التاريخية، ترجمة: حنا عبود، دار دمشق للطباعة والصحافة والنشر، 1979م.

[8] غاستون باشلار، تكوين العقل العلمي، ترجمة: خليل أحمد خليل، المؤسس الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، لبنان، 2001م، ص 15.

[9] كارل بوبر، المرجع السابق، ص 17.

[10] أناتولي راكيتوف، المرجع السابق، ص 218.

[11] يقول كارل بوبر في بؤس الإيديولوجيا، ص 66: "فلن يفهم أحد ملاحظاتي الأخيرة على أنها ملاحظات نقدية بمعنى عدائي"، وفي السياق ذاته، يقول الأستاذ القادري، في كتابه المعروف بمباحث ص 6: "والأمل معقود  على الباحثين، لنقد هذا العمل المتواضع، وإثرائه بآرائهم، وأفكارهم، بما يخدم تاريخنا العربي".

[12] محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، ط 6، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2003م، ص 13.

[13] محمد عابد الجابري، العصبية والدولة، ط 4، دار النشر، الدار البيضاء، 1991م، ص 32.

[14] للتوسع أكثر، انظر: الحسين بولقطيب، الدولة الموحدية ومجال المغرب الأقصى، ج 1، رسالة موقونة، المبحث الثاني، ص 130.

[15] محمد فتحة، النوازل والمجتمع أبحاث في تاريخ الغرب الإسلامي، منشورات كلية الآداب الدار البيضاء، 1999م، ص 282.

[16] إبراهيم القادري بوتشيش، الحياة الاجتماعية في المغرب والأندلس خلال عصر المرابطين، كلية الآداب مكناس، رسالة مرقونة، ص 185.

[17] إبراهيم القادري بوتشيش، المغرب والأندلس في عصر المرابطين، ط 1، دار الطليعة، 1993م، ص 17.

[18] نفسه والصفحة.

[19] إبراهيم القادري بوتشيش، مباحث في التاريخ الاجتماعي للمغرب والأندلس خلال عصر المرابطين، ط1، دار الطليعة، 1998م، ص 48.

[20] نفسه، ص ص 9- 54.

[21] نفسه، ص 168.

[22] نفسه، ص 121.

[23] إبراهيم القادري بوتشيش، أثر الحروب في المجال الضرائبي، مجلة الاجتهاد (2- 3)، عدد 34- 35، دار الاجتهاد، بيروت، 1997م، ص 81.

[24] إبراهيم القادري بوتشيش، حلقات مفقودة من تاريخ الحضارة في الغرب الإسلامي، ط 1، دار الطليعة، 2006م، ص 24.

[25] إبراهيم القادري بوتشيش، الحياة الاجتماعية، ص 150.

[26] إبراهيم القادري بوتشيش، حلقات مفقودة، ص 121.

[27] نفسه، ص 12.

[28] مباحث، ص 19.

[29] نفسه، ص 124.

[30] نفسه، ص 131.

[31] نفسه، ص 204.

[32] نفسه، ص 215.

[33] نفسه، ص 215.

[34] نفسه، الحياة الاجتماعية، ص 191.

[35] نفسه، المغرب والأندلس، ص 69.

[36] إبراهيم القادري بوتشيش، مباحث في التاريخ الاجتماعي ....، ص 246.

[37] الحسين بولقطيب، الدولة الموحدية ومجال المغرب الأقصى، (دكتوراه دولة)، ج 1، كلية الآداب أبي شعيب الدكالي الجديدة، 1998- 1999م،

ص 17.

[38] نفسه، ص 21.

[39] نفسه.

[40] نفسه.

[41] نفسه، ص 22.

[42] نفسه، ص 4.

[43] نفسه، ص 22.

[44] نفسه، ص 23.

[45] نفسه، ص 22.

[46] نفسه، ص 25.

[47] نفسه، ص 50.

[48] نفسه، ص 79، خاصة المبحث الثالث، وهو ما وقف عنده في عمله: "المصامدة وقيام دولة الموحدين"، ص ص ص 33- 35ـ 183.

[49] للتوسع أكثر، انظر: المبحث الثاني، المعنون بـ "الإقطاع ومشكلاته"، ص 129.

[50] نفسه، ص ص 133ـ 134.

[51] نفسه، ص 189.

[52] مبحث الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية، نشر في منشورات الزمن، عدد 4، 2002م، بعنوان "جوائح وأوبئة مغرب عهد الموحدين".

[53] نفسه، ص 224.

[54] نفسه، ص 225.

[55] نفسه، ص 225.

[56] نفسه.

[57] نفسه، ص 227.

[58] نفسه، ص 295.

[59] نفسه، ص 308.

[60] نفسه، ص 334.

[61] نفسه، ص 362.

[62] نفسه، ص 381.

[63] جيرار نوارييل، من تقديم كتاب مارك بلوخ دفاعًا عن التاريخ أو مهنة المؤرخ، ص 37.

[64] مارك بلوخ، المرجع السابق، ص 191.

[65] انظر: إبراهيم القادري بوتشيش، حلقات مفقودة، من ص 82 إلى ص 103.

[66] علي أومليل، الخطاب التاريخي دراسة لمنهجية ابن خلدون، معهد الإنماء العربي، لبنان، ص 138.

[67] هاشم العلوي القاسمي، مجتمع المغرب الأقصى، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، 1995م، ص 271.

[68] غاستون بوتول، سوسيولوجيا السياسة، ترجمة: نسيم نصر، منشورات عويدات، بيروت- باريس، 1980م، ص 25.

[69] مهدي عامل، مقدمات نظرية، القسم الأول، ط 2، دار الفارابي، بيروت، 1978م، ص 8.

[70] أناتولي راكيتوف، المرجع السابق، ص 60.

[71] نفسه، ص 185.

[72] مارك بلوخ، المرجع السابق، ص 226.

[73] كارل بوبر، المرجع السابق، ص 154.

[74] روبرت كارنيرو، نظرية في نشأة الدولة، ترجمة: رضوان السيد، مجلة الفكر العربي، س 3، ع 22، 1981م، ص 10.

[75] غاستون بوتول، المرجع السابق، ص 48.

[76] مهدي عامل، في تمرحل التاريخ، ط1، دار الفارابي، بيروت، 2001م، ص 31.

[77] عز الدين عمر موسى، النشاط الاقتصادي في المغرب الإسلامي، دار الغرب الإسلامي، 2003م، ص ص 36ـ 88.

[78]أحمد زايد، سيكولوجية العلاقات بين الجماعات، مجلة عالم المعرفة، ع 326، 2006م، ص 109.

[79] هاشم العلوي القاسمي، المرجع السابق، ص 143.

[80] محمد القبلي، الدولة والولاية والمجال في المغرب الوسيط، دار توبقال، 1987م، ص 17.

[81] الحسن بولقطيب، المصامدة وقيام دولة الموحدين، (د. د. ع) كلية الآداب سيدي محمد بن عبد الله، فاس، 1989م، رسالة مرقونة، ص 35.

[82] علي أومليل، الخطاب التاريخي، ص 206.

[83] فؤاد إسحاق خوري، مفهوم السلطة لدى القبائل العربية، مجلة الفكر العربي، س 3، ع 22، 1981م، ص 76.

[84] الحسين بولقطيب، المصامدة وقيام دولة الموحدين، ص 35.

[85] انظر: الحسين بولقطيب، المصامدة وقيام دولة الموحدين، ص ص 3ـ 11، ص ص ص 135ـ 175ـ 183، ص ص 204ـ 553، وفي الدولة الموحدية ومجال المغرب الأقصى، ص 79، ص ص 178ـ 179، ص293، ص 302، والأستاذ القادري بوتشيش، في مباحث ص ص 34ـ 45، ص ص ص 122ـ 124ـ 127ـ 128، ص 136، ص ص 200ـ 2066، وفي صفحات أخرى عديدة.

[86] الحسين بولقطيب، المصامدة وقيام دولة الموحدين، ص ص 347ـ 353.

[87] مارك بلوخ، المرجع السابق، هامش ص 183

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D9%85%D9%82%D9%88%D9%84%D8%AA%D8%A7-%D...

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك