كم يسعدنا أن نرى أعمالاً مشاهدة وأساليب حديثة تقرب القرآن في شهر القرآن لأهل القرآن، دون تحرز من أي أساليب تتوافق مع الوسائل المتاحة والممكنة، وإن لم تكن مرضية لهذا أو ذاك، فإن الخروج عن المألوف أسلوب بليغ في إيصال الفكرة، وعلى العكس فإن التقيد بنمط معيّن يجعل العبادة أقرب إلى العادة..

لا يجد الكثير من الناس ما يتمنونه ويأملونه في أساليب أكثر الدعاة والوعاظ والخطباء وما يملكونه من وسائل إعلام، سواء قنوات فضائية، أو مواقع تواصل، أو صحفاً مكتوبة، من أساليب دعوية محفزة ومنشطة ومرغبة ومحببة لفعل الخيرات، وترك الملهيات في شهر المكرمات، بلغنا الله وإياكم.

وعلى النقيض تمامًا، تجد كثيرًا من هؤلاء الفضلاء، قد كرّس كل جهده ووقته في الرد على تلك القناة، والتحذير من ذلك البرنامج، واتهام ذلك الإعلامي، أو ذلك المذيع الذي يقدم برنامجًا أو حلقة أو حوارًا، مستغلًا جلوس ملايين المسلمين أمام شاشة التلفاز، ليروّج بأسلوبه الملائم لنفسيات الشباب والشابات، وإشباع رغباتهم المعرفية، بطرق تجعل أحدهم يرابط ويناظر الساعات الطوال لمشاهدة ذلك البرنامج، الذي قد شَوَّقَ إليه الملايين قبل رمضان بأيام كثيرة من خلال الإعلانات التي يعتمد عليها في إنتاج برامجه!

وفي المقابل نجد من يملكون النظرة النقية المرتبطة بالقرآن والسنة، لا يعبأ كثير منهم بما قبل رمضان، ولا بما في رمضان من أساليب إعلامية ينشر من خلالها الفضيلة وحب الانتساب إلى الدين! فهو مجرد قارئ للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية بنفس الطريقة والأسلوب الذي أصبح محفوظًا عند كثير من الناس، مما يخرج تلك النصوص عن مرادها الترغيبي والوعظي، ويقلل أثرها في القلوب، فإسماع الحديث أو الآية مجردةً عن الأسلوب الدعوي، قد يكون سببًا كبيرًا في عدم الاستجابة والتفاعل من السامع.

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وآله أسوة حسنة، فقد كان صلى عليه وآله حريصًا على الأسلوب الدعوي الموافق لزمانه ومكانه وناسه، فلو كانت النصوص لا تراعى فيها الأساليب والطرق والنفسيات، لكان اكتفى صلى الله عليه وآله في التحذير من الدنيا بمقاله، وقد روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله مر بالسوق داخلاً من بعض العالية والناس كنفته فمر بجدي أسك ميت فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حيا كان عيباً فيه؛ لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم.

فكم احتاج هذا الفعل منه صلى الله عليه وآله من وقت لجمع الناس، ثم أخذ الجدي ورفعه ولفت أنظار الجميع إليه، لكي يوصل لهم القول مرتبطًا بالمشهد، ومن أمثال هذا كثير وكثير، وقد تيسر في هذه الأزمنة ما لم يتيسر في الأزمنة الأولى من وسائل التواصل والاتصال ونقل الصوت والصورة، وكأن التاريخ والسير ليس فيها من المواد التي نستطيع من خلالها منافسة بل وتجاوز أولئك الذين يستهدفون ببرامجهم فقط المكسب المادي، مستخدمين نفسيات المشاهدين وميولهم، وأيضًا ما يوفرونه من طرق ترتبط بجوائز قد تصل إلى الملايين، ومن حلقات ومسلسلات وأفلام عن قصص خيالية ووهمية، ولكنهم يعلقون بها تفكير المشاهد، ليكون مرتبطًا بتلك البرامج في ليله ونهاره، بينما نستطيع أن نعرض قصصًا واقعية لأعلام ومشاهير في التاريخ الإسلامي في روايات مشوقة ومشرفة، ولكن هنا تبرز موانع الفهم الضيق، فلو انبرى عالم أو فقيه لتبني عمل من هذا النوع أو أسلوب مشابه، لوجد نفسه عاجزًا أمام آراء تحرم هذا، وتعيب ذاك، وربما لا يجد من أمثاله التعاون على إخراج عمل كهذا، وكم كان يسعدنا أن نرى أعمالاً مشاهدة وأساليب حديثة تقرب القرآن في شهر القرآن لأهل القرآن، دون تحرز من أي أساليب تتوافق مع الوسائل المتاحة والممكنة، وإن لم تكن مرضية لهذا أو ذاك، فإن الخروج عن المألوف أسلوب بليغ في إيصال الفكرة، وعلى العكس فإن التقيد بنمط معيّن يجعل العبادة أقرب إلى العادة. هذا، والله من وراء القصد.

http://www.alriyadh.com/1595991