أحكام الردّة بين ميراث القداسة ومقتضيات الحريّة

عمار بنحمودة

 

1- نحو البحث في الزاوية الأخرى للردّة:

ظهرت حركة الردّة في الإسلام، منذ أن كان الرسول ﷺ حيًّا، وقد ارتبطت بظاهرة ادّعاء النبوّة، اعتمادًا على قاعدة استعادة الشرعيّة القبليّة، ومنحها قداسة النبوّة، احتذاءً بالأنموذج القرشيّ؛ الذي استطاع نبيّه، أن يوفّر لأهله وذويه المركزيّة السياسيّة والموارد الاقتصاديّة، وتمثّل الردّة، بذلك، آخر أنفاس الشرعيّة القبليّة الناشئة خارج التصوّر الإسلامي، وقد كان تعامل النبيّ ﷺ مع هذه الحركات باعتماد القوّة، منذ بداية انتشارها، وحين شاع الخبر بالوعكة الصحّية التي أصابته بعد عودته من حجّة الوداع. وقد كانت الأحكام التي عمل بها الخليفة الأوّل صارمة في التّعامل مع هذه الحركة، وبالمقابل؛ مثّل القضاء عليها بداية تكوين كيان سياسيّ قويّ.

وتذكر بعض المصادر التّاريخيّة: "أنّ المرتدّين كانوا ثلاثة أصناف: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان. وصنف تبعوا مسيلمة والأسود العنسي، وكل منهما ادّعى النبوّة قبل موت النبيّ ﷺ. وصنف ثالث استمرّوا على الإسلام، ولكنّهم جحدوا الزكاة، وتأوّلوا أنّها خاصّة بزمن النبيّ ﷺ"[1].

ويمكن تقسيم الردّة إلى نوعين: "الردّة الفرديّة؛ تتمثّل في ادّعاء الألوهيّة، أو ادّعاء النبوّة، أو اعتناق النصرانيّة، أو غيرها من الأديان، أو جحود فرض من فرائض الشريعة الإسلاميّة، أو مخالفة أوامر الله.

أمّا الردّة الجماعيّة؛ فقد ظهرت على شكل ردّة القبائل، إثر وفاة الرسول محمّد ﷺ. ثمّ ردّة مجموعات منتمية إلى فرق دينيّة ومذهبيّة مختلفة"[2]، وهذا يعني؛ أنّ الردّة لا ترتبط بأفراد أو مجموعات وقع حسم ردّتها وكفرها؛ وإنّما يظلّ هذا المفهوم قابلًا لاتهام جماعات حديثة ومعاصرة بالردّة والكفر، ولذلك؛ فقد وظّفت هذه الآليّة لمواجهة التيارات الفكريّة والسياسيّة، مثل؛ العلمانيّة والشيوعيّة، ولم يسلم كثير من المفكّرين، الذين قاربوا النصّ الديني برؤية نقديّة، أو تناولوا مسائل دينيّة بطريقة لم ترض أصحاب السلطة الدينيّة، من التكفير وتهم الردّة، ولكن استعمال العنف ضدّ المرتدّين، يؤكّد وجود أسباب قوّة كامنة في أطروحاتهم، جعلت من اختيار العنف، السبيل التي اتّبعها القدامى لإسكات صوتهم، وإنهاء تمرّدهم على السّلطة، وإنّ ادّعاء دراسة موضوعيّة تحاول بيان سرّ القوّة التي اكتسبتها تلك الحركات، والأسباب الكامنة وراء سرعة انتشارها، يظلّ أمرًا شبه مستحيل، في ظلّ توفّر وجهة نظر واحدة، هي رواية الغالب لقصّة غلبته وحكاياته، التي لا تخلو، حتمًا، من تشويه لتلك الحركات، التي نافست الرأسمال الرمزي للنبوّة الإسلاميّة، وكادت تنهار الدولة الناشئة بسببها.

ولكنّ الأمر المتاح، من خلال ما رسمه المتخيّل الإسلاميّ، لحركة الردّة؛ هو فهم طبيعة تلك الحركة، من خلال البحث عن أسبابها ومقاصدها، والنظر في أحكامها.

لا شكّ أن ما يسم الفترة النبويّة، خاصّة، وفترة الإسلام المبكّر عامّة، من قداسة عند المسلمين؛ هو الذي يحُول، حتمًا، دون إيجاد مصادر محايدة، قد تساعد الباحث على دراسة خطاب المرتدّين؛ إذ أبدى محاكاة ضعيفة للقرآن، وأظهر أصحابه أطماعًا سياسيّة مفضوحة، أفضت إلى حديث ماجن بين الأنبياء الزائفين، وزواج كتم أنفاس النبوّة، ودنّس ما أراد هؤلاء إبراز قداسته، وأكره الممتنعون عن دفع الزكاة على دفعها، كأيّة ضريبة يمكن فرضها بالقوّة.

ولكن، هل معنى ذلك أنّ رسائل الأنبياء المزعومين، كانت تخلو من قوّة إقناعيّة وقداسة، تتجلّى في؛ اعتراف المؤمنين بها، وتزايد أتباعها بشكل سريع، منذ أن كان النبيّ حيًّا؟

لقد نشأت حركة الردّة في زمن كان المتخيّل العربي مهيئًا للإيمان بوجود قوى غيبيّة، وفي قدرة البشر على تسخيرها، وقد تنوّعت طرائق ذلك التسخير؛ فالبعض يعتقد في اتصال الشعراء بعالم الجنّ، فضلًا عن انتشار ظاهرة الكهانة، وقد كان هؤلاء الكهّان فصحاء، ولهم من قوّة البيان ما يستطيعون به التأثير في أتباعهم، والإيهام بقداستهم، وكثيرة هي الروايات التي نقلت تصوّر المسلمين أنفسهم؛ أنّ هؤلاء الأنبياء المزعومين، كانوا يتّصلون بكائنات خارقة، ويستمدّون منها قوّتهم، وهي تساعدهم في دعواتهم، ونذكر، مثلًا، ما أفلت من قيود الرقابة الإسلاميّة، وسلطة الغالب من روايات تصوّر قوّة بعض الأنبياء، وخوف المسلمين منهم.

لقد نقل الطبري وَجَل قاتل "العنسيّ" منه ورهبته، حين قدم على اغتياله؛ إذ يقول: "فأقبلت أمشي حتّى قمت عند رأسه، لأنظر، فما أدري أنظرت في وجهه أم لا؟ فإذا هو قد فتح عينيه، فنظر إليّ. فقلت: إن رجعت إلى سيفي خفت أن يفوتني، ويأخذ عدّة يمتنع بها منّي. وإذا شيطانه قد أنذره بمكاني، وقد أيقظه، فلمّا أبطأ كلّمني على لسانه"[3].

ويبدو من خلال كثير من المصادر التاريخيّة؛ أنّ مطالب المرتدّين لم تكن دينيّة بالأساس؛ فقد كان ادّعاء النبوّة وسيلة فرضها منطق الغالب، الذي استطاع أن يستولي على الأراضي، وينال الغنائم، بفعل ما منح من شرعيّة دينيّة، ولذلك؛ فقد كان مطلب العنسي، هو استعادة الأراضي الذي استولى عليها المسلمون، وكانوا يسمّون في اصطلاح الجماعات التي تمرّدت على السلطة المركزيّة (المتورّدين)[4]، ويعني هذا الاصطلاح؛ الجيش الوافد الذي يدخل البلدة قليلًا قليلًا[5].

فحين يُفتقد الرابط القدسيّ بين المرتدّين والمسلمين؛ فإنّ الزاوية الوحيدة التي ينظر منها المتمرّدون على السلطة القرشيّة، هي المنظور الحربي والاقتصادي؛ فالدّين الجديد يمثّل، بالنسبة إليهم، جيشًا غازيًا، جاء ليسلب منهم أموالهم، ويفرض عليهم قوانينه.

قد لا يكون متاحًا في ذلك العصر، أو من اللّامفكّر فيه، تكوين اتحاد بين القبائل، على أساس الاشتراك في الخيرات العقديّة والاقتصاديّة. ولم يكن من خيارات النبيّ ﷺ ولا صحابته، تقديم تنازلات؛ لأنّ الرأسمال الرمزيّ لدعوتهم، هو التشبّث بحقائق يؤمنون بقداستها، ومصدرها الإلهيّ، ومنطق (النّصف)؛ الذي دعت إليه القبائل المتمرّدة، وهي تفاوض النبيّ، لم يرضِ النبيّ؛ لأنّ القبول بالتنازل للمرتدّين، سيؤدّي إلى سلسلة من التنازلات، التي قد تكون لها عواقب وخيمة على الجماعة المؤمنة بالدّين الجديد، وقد بيّن الجابري تشابك آليّات العقيدة، والقبيلة، والغنيمة، في قضيّة الردّة[6].

وقد وقفت كلّ تلك الأسباب حائلًا دون تنازل قريش عن مركزيّتها، التي ستحاول فرضها على جميع المستويات؛ سياسيًّا: بجعل الخلافة قرشيّة. واقتصاديًّا: بتأكيد المركزيّة الماليّة، وحقّ جباية الأموال. ورمزيًّا: من خلال فرض لهجتها على سائر اللهجات، باعتماد مصحف عثمان، والقضاء على التعدّد اللّهجي، المتجسّد في وجود نسخ مختلفة اللهجات للقرآن.

2- من أحكام الردّة إلى التكفير:

لقد هيمن منطق الدّولة، وقد وجد سبب قوّته في شرعيّة المقدّس، التي منحت المقاتلين ثقة في أنّهم أصحاب الحقّ، وأنّ سواهم على باطل، ولكنّه شرّع لاستعمال العنف بجميع أشكاله، المادّية والرمزيّة، على القبائل الأخرى، وأظهر المسلمون، حين انتصار جيش الإسلام على المرتدّين، بداية حقيقيّة لدولة قويّة، قامت بتصفية معارضيها، بيد أنّنا لا يمكن أن نتغافل عن النتائج التي قاد إليها هذا الاختيار الحربيّ؛ فقد ظلّت أزمة المركزيّة القرشيّة محرّكا للفتن؛ إذ كانت، منذ البداية، محلّ اختلاف وخلاف بين المسلمين.

في أحداث السقيفة؛ حيث وقع تهميش دور الأنصار في المشاركة السياسيّة، وفي حروب الردّة؛ حيث استبعد منطق التفاوض مع القبائل؛ أي قبول بعض شروطهم، مقابل انضمامهم الطّوعي إلى المعسكر الإسلاميّ؛ فقد نقلت المصادر التاريخيّة، الرفض القطعي للتفاوض معهم، وقبول أيّ شرط من شروطهم، وأخيرًا؛ اندلعت الفتنة، بعد أن بلغت المركزيّة القرشيّة، بوجوهها السياسيّة والاقتصاديّة والرمزيّة، ذروتها في حكم الخليفة الثالث عثمان بن عفّان، وكان قتله بداية ظهور أشكال تمرّد ضدّ المركزيّة، وبحث عن بدائل سياسيّة، كانت نتيجتها انقسام المسلمين إلى فرق دينيّة، أو أحزاب سياسيّة، تتصارع على الشرعيّة، وتعتمد نفس المنطق الذي اعتُمد في حروب الردّة، وهو التكفير.

لم يكن التكفير حكرًا على الخوارج، ولا كانوا هم من ابتدعه؛ فهو مفهوم أصيل في الفكر الدّيني وتجلّياته، في المسيحيّة واليهوديّة، تؤكّد أنّه نابع من ثنائيّة مركزيّة، تؤسّس الفكر الدّيني، وهي ثنائيّة (الإيمان والكفر)، ولا شكّ أنّ تلك الثنائيّة، قد وظّفت في إطار الصّراع السياسيّ بين الحكّام والمعارضين، ولذلك؛ فقد استعملتها الأحزاب والفرق الدينيّة المعارضة ضدّ الحكّام، لإضعاف شرعيّتهم، فضلًا عن أنّ الحكّام وظّفوا هذه المقولة في حربهم ضدّ خصومهم ومعارضيهم، ولعلّ ذلك ما يفسّر جدل التكفير الذي شهدته فترة حكم المأمون (ت 218هـ)، بينه وبين خصومه؛ فقد عملت السلطة على تكفير منكري مقولة خلق القرآن، بينما سعى بعض المعارضين إلى تكفير المأمون؛ لأنّه قال بخلق القرآن.

وقد شهد التاريخ الإسلاميّ توظيفًا لهذه المقولة بلغ عصرنا؛ إذ لا يزال الصراع التأويلي دائرًا، بين جماعات ظلّت متمسّكة بالتأويلات القديمة التي اعتبرتها مقدّسة، ومحاولات لتجديد الفكر الديني، والاجتهاد في أحكامه ونقده، وكان من نتائج هذا الصراع؛ اتّهام كثير من المفكّرين بالردّة والكفر، وقضت بعض المحاكم بتكفير بعض المفكّرين؛ بسبب نقدهم للفكر الدّيني، أو مجاهرتهم بآراء قدّرت السلطات السياسيّة بدعم من العلماء الشرعيّين، وفق تصنيف الدولة، أنّها تسيء إلى الإسلام، وتبلغ بصاحبها منزلة الكافر، مثل؛ محنة نصر حامد أبو زيد[7].

3- أصوات الحريّة وقيود المقدّس:

لقد ظهرت تيّارات فكريّة تدعو إلى حرّية الإيمان، وحقّ الإنسان في تقرير مصيره، والنصّ القرآنيّ بدوره يهب الإنسان ذلك الحقّ: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[8]، وقد عبّر محمّد عمارة، مثلًا، عن رفضه لتدخّل القضاء في مسألة ردّة (نصر حامد أبو زيد)، واعتبر أن تطليق زوجته لن يفيد الإسلام في شيء، وأنّ الردّ على الكفر، لا يكون إلاّ بالحوار الفكريّ، ولكنّه يعرض موقفه، الذي يبدو ظاهريًّا متسامحًا مع من يختلف معه في تأويل النصّ القرآنيّ، وبين السطور التي كتبها تصنيف إيديولوجي لـ (نصر حامد أبو زيد)، بأنّه ماركسيّ شيوعيّ، وأنّ محاولته مقاربة النصّ القرآنيّ، تجاوز للخطوط الحمراء[9]؛ فمن حقّ هذا التيّار الفكري، حسب رأيه، أن يناقش مسائل الماركسيّة، ولكنّ مسائل النصّ القرآنيّ خطّ أحمر أمامه، وهو لا يتوانى في تكفير المنتمين إلى هذا التيّار؛ إذ إنّ الحوار الذي يدعو إليه، هو في الحقيقة: حوار سلطويّ لا يسعى إلى المناقشة؛ بل يسعى إلى إقناع المرتدّ بكفره، وإعادته إلى حظيرة الإيمان، وليست الحرّية التي يتحدّث عنها محمّد عمارة، سوى منّة من المؤمن على الكافر، تضارع صبر الكبار على هفوات الصغار، حتّى يبلغوا سنّ الرشد، ويعلموا خطأ ما أقدموا عليه من أقوال وأعمال، ولذلك؛ فالتوبة هي: (المصباح الأبيل الذي رُفع لسالك السبيل)، على حدّ عبارة المعرّي، كي يعود إلى الإيمان، الذي لا حقّ له في خرق قوانينه، ونقد تشريعاته، وكأنّه سجن يقيّد المؤمن بإيمانه، ويضبط له مسالك تأويله.

هل معنى ذلك؛ أنّه لا خلاص من حدّ الردّة إلاّ التوبة؟ ألا يعني ذلك أنّ الإيمان يصير أشبه بسجن يقدّر نواب السماء الأحكام التي تدين المرتدّين؟ وكيف يمكن أن يكتسب الإنسان حرّية التكفير في ظلّ وجود حارس أبديّ على عقائد البشر، يحدّد وجوه معروفهم، ويقدّر منكرهم، ثمّ يحاسبهم عليه؟

لقد كشفت التجارب التاريخيّة والمواقف الفكريّة، أنّه يمكن توظيف مفهوم التكفير في النزاعات السياسيّة، وأنّه يمكن الحكم على بعض التأويلات، المخالفة للتأويل الرسميّ، بأنّها مارقة عن الدين، ومرتدّة عن الشريعة وشروط الإيمان الصحيح، ولذلك؛ فلم يكن متاحًا إيجاد ميثاق يتعاقد عليه جميع المسلمين، خارج حدود الفرقة الناجية، وتصوّر كلّ فريق من المؤوّلين بأنّه على الحقّ المبين.

إنّ الانتقال الحقيقي من عقليّة الاتّهام والرمي بالكفر، إلى عقليّة التسامح، تمرّ حتمًا بتغيير قواعد العلاقة بين الأطراف المتنازعة على الحقيقة الدينيّة، من علاقة صراع وردّ[10]، يتمثّل فيها كلّ طرف الحقائق الدينيّة، انطلاقًا من منظومة فكريّة جاهزة، وقوانين منحت، عبر التراكمات التاريخيّة، القداسة لأصحابها وتأويلاتهم، إلى مناقشة يقبل فيها المسلم الرأي الآخر، وإنْ خالفه، ويقدّم الحجج الكفيلة بإبراز تهافته، أو بلوغ مرحلة الاقتناع به، أمّا أن يظلّ النظر إلى الرأي الآخر مجرّد نظرة شفقة، يكون فيها التّسامح تنازلًا من صاحب الحقّ، ومنّة من يد محسن بيده قوانين القوّة والقصاص؛ فإنّ ذلك سيؤول إلى دائرة مفرغة من المعارك الوهميّة، التي تحوّل الفكر إلى حراسة للنوايا.

إنّ الإصرار على تطبيق الأحكام الدنيويّة، ضدّ من يعدّهم المؤتمنون على قداسة الإسلام، كفّارًا أو مرتدّين، ليظهر الإسلام في صورة الدين الهشّ، الذي يمكن لأيّ رأي أو موقف يخالف مواقف الإجماع السلطويّ الموروث زعزعة أركانه وإرباكه، ويصحّ القول، على مفهوم الألوهيّة، الذي كان مصدر خلاف تاريخيّ في كتب الفرق حول تمثّله؛ فقد أفضى النقاش بين الفرق المختلفة، إلى فرض تصوّر على الآخر وإدانة بقيّة التصوّرات؛ فالتعدّد في تمثّل الذات الإلهيّة، يجعل منه موضوعًا يخصب الفكر، ولكنّ التكفير: هو إنهاء النظر في المسألة، وهو ما يؤدّي إلى جمودها، وشكلنة الاعتقاد في الذات الإلهيّة.

ويكفي أن نضرب مثلًا؛ التصوّرات الصوفيّة، التي فتحت آفاقًا جديدة لتصوّر الذات الإلهيّة، أو تأويل النصّ القرآنيّ؛ فتجاوزت ما سمّته بعلوم القشر نحو الباطن، وأثْرَتْ الفكر الدّيني بمكتسبات الفلسفة وأسئلتها الأنطولوجيّة، وإنّ حركة التكفير التي واجهت التأويلات الصوفيّة؛ هي، في النهاية، محاولة لطمس المسالك التأويليّة، وسدّ المنافذ أمام منتقدي التصوّرات النقليّة، التي تفرض سلطتها التأويليّة، وتحاول الحمل على الاقتناع بأنّها الحقيقة الدينيّة الواحدة، وأنّها السبيل الوحيدة للنّجاة في الدنيا والآخرة.

وقد انتهت، أخيرًا، إلى محاولة احتواء هذه التأويلات، بدل تكفيرها، حين وجدت أنّها قادرة على النّفاذ إلى معان جديدة في النصّ القرآنيّ، حملت كثيرًا من جمهور المسلمين على الاعتقاد فيها واتّباعها.

إنّ تجربة الوفاق بين الفكر السنّي والفكر الصوفيّ، تعبّر عن المسارات الطبيعيّة للصلح بين الفرق، وإمكانيّة الاعتراف بالآخر، بدل تكفيره والحكم بردّته، وإنّه كلّما ازدادت دائرة الاعتراف بالآخر إيمانًا بمنطق الحوار بين الفرق، قبل الحوار مع الآخر، ازدادت معها دائرة التأويل اتّساعًا، وانفتحت أبواب المعارف، لتكون ذات المسلم فاعلة في أزمنة الحداثة؛ فتتجاوز نزعتها الصّداميّة ضدّ كلّ اختلاف.

فما أيسر أن يُرمى الآخر بالكفر، وأن يعدّ مرتدًّا، ولكنّ المسلك الأصعب على المسلم، أن يكون متسامحًا مع المختلفين، وأن يتخلّص من النزعات الدوغمائيّة، التي أغلقت أبواب الاجتهاد، وحرمت المسلمين، طوال عقود، من حقّهم في تأسيس فكر نقديّ، يتطوّر باستمرار، وأن يثق أنّ القوّة الحقيقيّة لا تكون في القتل؛ فالقتل لا يغتال الفكر؛ وإنّما القوّة الحقيقيّة في الفكر والعلم، والحوار وحده يمكن أن يؤسّس لبناء فكريّ متين، تتعاضد فيه جهود الإنسانيّة من أجل تحقيق تديّن حرّ، لا إكراه فيه، وقبول الفكر الفلسفيّ والتطوّر العلمي دون خوف على الإيمان في قلوب الناس؛ فالدّين يفقد قيمته الأنطولوجيّة حين يتحوّل إلى فعل سلطويّ يُكره الناس على أدائه، وهو يتردّى في ضيق الأفق الإيديولوجيّ، حين يستبدّ به حزب، أو تحتكر تأويله فرقة تدّعي امتلاكها مفاتيح الجنان.

لقد اعتبر (طه جابر العلواني): "أنّ حروب الردّة، لم تكن لإعادة من غيّروا اعتقادهم، إلى المعتقد الذي فارقوه بالقوّة؛ بل لإلزام مواطنين تخلّوا عن التزاماتهم وواجباتهم، باعتبارهم أعضاء في الأمّة أو مواطنين في دولة، وهي التزامات تستمدّ قوّتها الشرعيّة من الدين، ومن الالتزام بالواجب الوطني أو (الأمّتي)؛ الذي يفرضه الدين، باعتباره مصدر الشرعيّة على المواطن، الذي يفرض عليه احترام سلطاته الشرعيّة، وعدم ارتكاب أيّ فعل يهدّد سلامة بنيان الأمّة، واستقرار وحدتها، وسيادتها على ديارها، وعدم تهديد كيانها بالتمزّق، والعودة لإقامة دويلات، أو نظام قبائليّ له في الماضي حكم الدويلات في مفاهيم العصر"[11].

لا شكّ، من الإشكاليّات التي يواجهها قانون الردّة: أنّه صيغ في إطار دولة إسلاميّة، ويطرح تطبيق هذه الحدود، تعارضًا مع قيم الحرّية، التي صارت بدورها مقدّسة في وعي الإنسان.

"ويرى أركون: أنّ القرآن الكريم سمح بتعدّدية المعنى والاتّجاهات الفكريّة المختلفة، وبالتالي؛ فالحقّ ليس عليه في ضمورها، أو ذبولها، أو زوالها؛ وإنما على الفقهاء وتركيباتهم اللاّهوتيّة الصارمة التي تحدّد تخوم الإسلام الأورثوذكسيّ، التي لا ينبغي تعدّيها بأيّ شكل. لقد حصرت الإسلام في تفسير ضيّق جامد، متعصّب وكاره للفلسفة، والعقل، والعلم، وانتهى، عندئذ، إسلام التنوير وبدأ إسلام التكفير"[12].

إنّ طريق إسلام التنوير شاقّة، في ظلّ فقهاء لا يزالون يمارسون استبدادهم التأويليّ، ويعيدون صياغة القوانين التشريعيّة؛ التي تصادر حرّية (التعبير، والرأي، والتديّن)؛ ففي وعيهم، صار الدّين سجنًا لا يحقّ لمن دخله الخروج منه، وهم يشرّعون القتل في حقّ من يخرج من سجن الإيمان الذي فرضوه، وليس معنى الردّة والكفر رفض الإسلام فحسب؛ بل رفض تأويلات، قضى وعيهم بأنّها إجابات نهائيّة ومقدّسة عن مسائل إنسانيّة، تتغيّر أحكامها بتغيّر الواقع، ولذلك؛ فقد ظلّ تشبّثهم بالتكفير وسيلة قمعيّة، يمارسون بها سلطتهم على من خالفوهم الرأي، أو رضوا بغير الإسلام دينًا، وتلك أبسط قواعد الحرّية.

لقد ظهرت اليوم آراء تعيد للبشر إنسانيّتهم المهدورة، على يد حرّاس النوايا، و"لقد أدرك الإنسان المعاصر، أنّ أهمّ قضيّة؛ هي قضيّة بناء الإنسان، وتأنيسه بالعمق"[13]. ولا يمكن تحقيق هذا الهدف النبيل، إلاّ في ظلّ وجود قوانين تمنح الإنسان حقّه في التفكير الحر، وتنسخ كلّ انتهاك لهذا الحقّ، مهما حاول أصحابه منح أحكامهم قداسة السماء؛ فالنصّ القرآنيّ ثابت، ونسخته النهائيّة خطّت منذ عهد عثمان بن عفّان، والإله، مثلما يتصوّره المؤمنون به، هو: متعال في قدرته، ولن يضرّه ولو كفر جميع النّاس، وبذلك؛ فالصّراع الحقيقيّ: هو صراع سلطويّ بين البشر، يسعى كلّ طرف إلى منح رؤيته قداسة تحصّنها من النقد والمساءلة. وهو أمر، وإن أتاحته نظم المعرفة القديمة؛ فإنّه صار أمرًا غير مقبول، في زمن تتجدّد فيه المعارف الإنسانيّة، وينفتح العقل في كلّ لحظة على حقائق كونيّة جديدة؛ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ط1، بيروت، دار المعرفة، 1959، ج12، ص 176

[2] آمال قرامي، قضيّة الردّة في الفكر الإسلاميّ الحديث، دار الجنوب للنشر، تونس، ط 1، 1996م، ص 19

[3] الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 2، ص 522

[4] يقول العنسي مخاطبًا المسلمين: "أيها المتورّدون علينا، أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفروا ما جمعتم؛ فنحن أولى به، وأنتم على ما أنتم عليه". الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ط 3، دار صادر، بيروت، 2008م، ج 2، ص  519

[5] ابن منظور، لسان العرب، مادة (و، ر، د)، ط1، دار صادر، بيروت، (د ت)، ج 3، ص ص 458- 459

[6] انظر: محمّد عابد الجابري، العقل السياسيّ العربيّ، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط4، 2000م، ص ص 129- 228

[7] في قضيّة نصر حامد أبو زيد: قضت المحاكم المصريّة بردّته، وكان من نتيجة هذا الحكم؛ الفصل بينه وبين زوجته.

[8] سورة الكهف، الآية 29

[9] يقول محمّد عمارة: "لقد تساءلت، وأنا أقلّب صفحات كتاب الدكتور نصر أبو زيد، "مفهوم النصّ: دراسة في علوم القرآن": هل تخلّى الماركسيّون المصريّون عن هذا الذكاء التقليدي، وعن هذا الحذر التاريخيّ؟ وهل  تجاوزوا الخطوط الحمراء التي رسموها لأنفسهم إزاء الدراسات الدينيّة؟ فلم يعودوا يكتفون بنقد الجماعات الإسلاميّة؛ بل ولا حتّى مناقشة الفكر الإسلاميّ؛ وإنّما غدوا يخضعون المقدّس الإسلاميّ، وفي مقدّمته القرآن الكريم، للتحليل الماركسي"، التفسير الماركسي للإسلام، ط2، دار الشروق، مصر، 2002م، ص 8

[10] انظر، مثلًا، كتاب: أبي الحسن الخيّاط، الانتصار والردّ على ابن الرّاوندي الملحد، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1، (دت). أو كتاب أبي حاتم الرّازي، أعلام النبوّة، الردّ على الملحد أبي بكر الرّازي، دار السّاقي/ المؤسسة العربية للتحديث، بيروت/ جنييف، ط1، 20033م.

[11] طه جابر العلواني، إشكاليّة الردّة والمرتدّين من صدر الإسلام إلى اليوم، ط2، مصر، دار الشروق الدوليّة، 2006، ص 149

[12] محمّد أركون، نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيديّة، ترجمة وتقديم: هاشم صالح، دار السّاقي، بيروت، ط2، 2011م، ص 31. (من مقدّمة المترجم)

[13] آمال قرامي، قضيّة الردّة في الفكر الإسلاميّ الحديث، ص 109

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك