الإصلاح الديني.. كما يراه ابن رشد

يوسف أبا الخيل

 

 

الإصلاح الديني الذي يتبناه فيلسوف قرطبة يركز على تبني مقاصد الشرع، والبعد عن التأويلات الخاطئة التي لا تكسب إلا العداوات والتفرق وإشاعة البغضاء، خاصة من قبل أصحاب المذهب..

الدين في جوهره، كما أنزله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، معصوم ومنزه عن أن يناله التقادم، فهو صالح لكل زمان ومكان، لأنه منزل من لدن حكيم خبير بأحوال عباده، وبما يصلحهم في دنياهم وآخرتهم. وعلى ذلك، فإن عبارة "الإصلاح الديني" إنما تشير إلى ما ترتب على التأويلات والشروحات على النصوص الدينية، والتي تمثل قراءة خاصة للدين، على اعتبار أن النص الديني حمَّال أوجه.

لم تتفرق الأمة إلى شيع يضلل بعضها بعضا، بل ويزندق ويكفر بعضها بعضا، إلا نتيجة لاختلافها في تأويلات النصوص؛ ذلك أن كل طائفة أرادت، ولما تزل، فرض تأويلاتها للنصوص على الطوائف الأخرى، بوصف تأويلها الحق في ذاته، وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون.

ثمة ثابت من ثوابت الاجتماع الديني، ألا وهو أن الدين، أي دين، لا بد متفرع إلى فرق ومذاهب مختلفة، كل منها يعتقد أنه يمثل الدين بذاته، بينما هي في الحقيقة قراءة للدين تتحكم فيها عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية، بل وبيئية، إذا أخذنا في الاعتبار رؤية ابن خلدون في" طبيعة العمران البشري".

هذه الحقيقة، أعني تفرع الأديان إلى مذاهب وطوائف، مما لم يختلف بشأن طبيعتها سلفنا الصالح، لكنهم اختلفوا في كيفية التعامل معها.

يأتي فيلسوف قرطبة، وقاضي قضاتها، ابن رشدالحفيد، (520-595هـ)، كأحد أبرز من اهتموا بهذا الجانب، واجتهد في كيفية مواجهته، والتخفيف من ضرره قدر الإمكان، طالما ليس في الإمكان تجنبه!

الإصلاح الديني الذي يتبناه فيلسوف قرطبة يركز على تبني مقاصد الشرع، والبعد عن التأويلات الخاطئة التي لا تكسب إلا العداوات والتفرق وإشاعة البغضاء، خاصة من قبل أصحاب المذهب؛ يقول في كتابه (فصل المقال): "ومن قبلَ التأويلات، والظن بأنها يجب أن يُصرَّح بها في الشرع للجميع، نشأت فرق الاسلام، حتى كفَّر بعضهم بعضا، وبدَّع بعضهم بعضا، وبخاصة الفاسدة منها، فأوَّلت المعتزلة آياتٍ كثيرة، وأحاديث وصرحوا بتأويلهم للجمهور، وكذلك فعلت الأشعرية، وإن كانت أقل تأويلا، فأوقعوا الناس من قِبلِ ذلك في شنآن وتباغض وحروب، ومزقوا الشرع، وفرقوا الناس كل التفريق". كما يقول في كتابه (كشف مناهج الأدلة): "فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى، (أي في التأويل)، كل الاضطراب في هذه الشريعة، وحتى حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة، كل واحد منهم يرى أنه أهل الشريعة الأولى، وأن من خالفه، إما مبتدع، وإما كافر مستباح الذمة والمال؛ وهذا كله عدول عن مقصد الشارع. وسببه ما عرض لهم من الضلال عن فهم مقصد الشريعة".

نعم، لقد اشتغلت الفرق والمذاهب المختلفة باختلافاتها المذهبية لذاتها، دون أن تشغل نفسها بما سيترتب على ذلك من بعد عن مقصد الشريعة. لقد اختلف الشيعة والسنة، مثلا، في (الإمامة والخلافة)، هل هي تثبت بالنص أم بالاختيار، واستغرق ذلك منهم زمنا وجهدا، وأنهارا من الدماء، سالت، ولا تزال، على مر التاريخ؛ لكن أيا منهم لم يشتغل على حماية حقوق الشعب، أو الرعية باللغة القديمة، لا بالفعل ولا بالتنظير؛ كما أن أياً منهم لم يجهد نفسه في التنظير لما رتبه الإسلام على الخلافة أو الإمامة لا فرق، من مبادئ ضرورية وحيوية لحياة الإنسان في الدنيا، ألا وهي مبدأ العدل والشورى. وبالمثل، اختلف المعتزلة مع الأشاعرة والسلفية حول صفات الله تعالى، أهي عين ذاته سبحانه، أم هي منفصلة عنها، وحول القرآن، أمخلوق هو أم مُنزل، لكن هذه الفرق، على الرغم من سيلان محابرها، وسن سنانها، لم تسوّد صفحة واحدة في ما يترتب على النظر للصفات مثلا، على واقع الإنسان وحياته على الأرض؛ إضافة إلى أن كل ما اختلفت بشأنه هذه الفرق، لم يكن له سند شرعي، لا من كتاب الله تعالى، ولا من سنة نبيه المتواترة، إذ لم يشتغل النص الشرعي على تحديد شكل الخلافة أو الإمامة، وإنما فرض على من يتولاها أن يكون عادلا، صائنا للحقوق، مقيما للحدود، رحيما بالأمة؛ كما لم يحدد النص إن كانت الصفات عين الذات أم منفصلة عنها، وإنما أبدى وأعاد في ما يترتب على معرفتها، والإيمان بها من خوف الله، وأداء حقوقه، وحقوق عباده. هذا كله أهمله المتمذهبون وسط لجة الدفاع عن أدبيات مذاهبهم، ومن ثم، فكما قال ابن رشد، عدلوا عن مقاصد الشرع، إلى أمر لم يأمر به الشرع، بل لم يندب إليه من الأساس، هذا إن لم يدخل في ما حرمه، نسبة لما ترتب عليه، ولما يزل، من العداوات والحروب، أو كما قال ابن رشد، من إيقاع الناس جراء ذلك في شنآن وتباغض وحروب، وتمزيق الشرع، وتفريق الناس كل التفريق!

إن منهج ابن رشد الإصلاحي يقوم على ركيزتين اثنتين:

الأولى، العلم بأن "الشريعة قسمان، ظاهر ومؤول، وأن الظاهر فرض الجمهور، والمؤول فرض العلماء، وأنه لا يحل للعلماء أن يفصحوا بتأويلاتهم للجمهور، ولا أن يثبتوها في الكتب المتداولة بين أيديهم".

الثانية تتمثل في استحضار المقصد الشرعي، سواء ما كان منه مقصدا في ذاته، أم ما كان وسيلة مبلغة إليه، بوصف المقصد في ذاته، يمثل البوصلة الهادية للباحث في كل القضايا، وبخاصة منها ما كان مستعصيا.

ولما كان مقصد الشرع إنما هي تعليم العلم الحق، والعمل الحق، فإن العمل خاصة ينبغي أن يحكمه معيار (الأنفع)، لا الأكثر تنظيرا وتمذهبا. وهو في ذلك يتفق مع القرآن الكريم الذي ركز على معيار (العمل الصالح)، وهو صلاح يشمل حياة الإنسان على هذه الأرض، وإصلاح الآخرة بإصلاح الدنيا نفسها.

لقد أضاع أصحاب المذاهب أزمانهم، وأشغلوا أزمان أتباعهم، وأشعلوا الحروب، وأشاعوا التفرق والبغضاء، ومزقوا الأمة إلى شيع يلعن بعضها بعضا، ويقتل بعضها، حول مسائل لم ينتدب الشرع المسلم إليها، ولم يجعلها في سلم اهتماماته، بل لقد سكت عنها سكوتا مطبقا، لأنه ركز على تهيئة المسلم للأهم في حياته، ألا وهو العمل الصالح، وعلى رأسه إشاعة الحب والسلم، ونبذ الفرقة والتشتت، وتعمير الأوطان، والجهاد في ذلك ما وسع الإنسان والمجتمعات الجهد.

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك