الإسلام.. والإصلاح الاقتصادي

محمد سليمان

"لا يحرك النفوس، ويثير الخواطر، ويؤلم المشاعر شيء كالضائقة المالية، تأخذ بخناق الجماهير، فتحول بينهم وبين الحصول علي ضروريات الحياة فضلاً عن كمالياتها، ولا أزمة أعنف من أزمة الرغيف، ولا عضة أقوي من عضة الجوع والمسغبة، ولا حاجة أشد من حاجة القوت، وطالب القوت ما تعدي".

كلمات قالها الإمام المجدد حسن البنا وهو يشرع في التحدث إلى الأمة وحكامها حول نظرة الإسلام للاقتصاد وحلول مشكلاته، تلك النظرة التي غيبت عن أبنائه عمداً حتى تظل الأمة أبد الدهر تابعة لغيرها، محرومة من استقلالها، مجرفة من خيراتها، فراح الرجل وتلامذته يصيحون في الأمة أن الإسلام مادة وثروة أو كسب وغنى كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء، وأن به حلول كل مشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية بعيداً عن الحلول التي وضعها الإنسان بنقصه وقصوره وهواه، ولم لا وقد جرب العالم منهج الله وسعد به قروناً حتى أتى عهد لم تجد الصدقة فيه من يأخذها، وعهد كان الخليفة فيه يناجي السحابة قائلاً لها: "أمطري أني شئت فحيثما أمطرت فلسوف يأتيني خراجك، كان ذلك أيام أن أحسنت الأمة تعاملها مع كتاب الله وسنة رسوله، ويوم أن أقامت منهج الله كما يريد الله، وما تسرب الضعف إلى الدولة الإسلامية إلا يوم أن ضعف دينها وأعرضت عن منهج ربها، حتى نسي المسلمون أن العيب فيهم وليس في المنهج، فراحوا يستوردون مناهج وضعية لا تتسم أبداً مع عقيدتهم ولا هويتهم آملين أن تخرجهم من كبوتهم، فجربوا الاشتراكية، والرأسمالية، فازدادوا بؤساً فوق بؤسهم وشقاءً فوق شقائهم شأنهم شأن العالم بأسره.

ولأن الثائرين يؤمنون بأن الملك لله (لله ما في السماوات والأرض ومن فيهن)، وأن المال مال الله: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)، وأنهم خلفاء الله في أرضه؛ (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)، وأن عمارة الأرض من واجبات الاستخلاف: (هو الذي أنشأكم في الأرض واستعمركم فيها) وبعد أن رأوا أن العالم كله حائر يضطرب، وأن كل ما  فيه من النظم قد عجز عن علاجه، ولا علاج له إلا الإسلام، فإنهم قد تحملوا المسؤولية كاملة تجاه أمتهم وتجاه العالم وتقدموا باسم الله للإنقاذ حتى يسعد الجميع بنعم الله في ملك الله تحت راية دعوة الله التي يحملون مشعلها.

والإسلام في منهجه للإصلاح الاقتصادي عني أول ما عني بالفرد، فهو أساس الإصلاح، وهو مناط التغيير، وهو محور ذلك الكون، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأنزل عليه كتبه، وأرسل إليه رسله، فأي لون من الإصلاح يتعدى إصلاح الإنسان هو بمثابة النقش على الماء، ولذا بدأ الإسلام بإصلاح الفرد وتوجيهه وخلق الدافعية الذاتية عنده لتغيير حاله من الشقاء إلى الرخاء، فحرص علي أن يغرس فيه تقديس قيمة العمل: "ما أكل أحد طعاماً قط خير له من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده"، رغم أنه ملك، ورغم أن خزائن بلاده مليئة، إلا أنه كان يحرص على أن يأكل من عمل يده، تقديساً لقيمة العمل، وحارب البطالة، وحث بنيه على الحرص على العمل حتى ولو كان المتاح لا يناسب صاحبه من وجهة نظره فهذا خير له من البطالة وسؤال الناس؛ "لئن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه"، ثم يوجهه إلى استكشاف إمكاناته، والتعرف على قدراته، ومغالبة ظروف حياته ليخلق لنفسه فرصة عمل إن عجز المجتمع عن توفيرها له، وهذا نراه في قصة الشاب الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فيلاحظ النبي أن الشاب لا يعوزه قوة، وإنما يعوزه الحيلة، فيشير إليه ليستكشف مقدراته وكيف يستغلها ويوجهها ليخلق لنفسه فرصة عمل، فيقول له: "هل تملك من شيء؟"، فيأتيه الشاب بقعب وحلس هما كل ما يملك، فيبيعها له النبي صلى الله عليه وسلم بدينارين، ويأمره أن يشتري بأحدهما طعاماً فينبذه إلى أهله، ويشتري بالآخر فأساً يأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيشد فيه النبي العود بنفسه ثم يقول له: اذهب واحتطب وبع ولا أرينك إلا بعد خمسة عشر يوماً، وتنجح التجربة، ويرجع الشاب إلى النبي ومعه بعض المال ودقيق وأدم، ثم تأتي الموعظة النظرية بعد العملية، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا خير لك من أن تأتي المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، فإن المسألة لا تصلح إلا لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع".

ويرشد الإسلام بنيه إلى التوسط في المعيشة وعدم التبذير؛ (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً)، وجعل القصد في المعيشة من سمات الأنبياء وأخلاقهم التي يقتدي بها: "السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة"، الاقتصاد في كل شيء حتى في الماء؛ "لا تسرفوا بالماء ولو كنتم على نهر جار"، وفي الطعام: "إذا وقعت لقمة أحدكم فليمط ما كان بها من أذى ولا يتركها للشيطان"، "وإذا أكل أحدكم فلا يمسح يده حتى يلعقها".

ثم حث الإسلام بنيه على أن يستغلوا كل ما حولهم من نعم الله ليعيشوا عيشة كريمة بتصنيع احتياجاتهم، بل وأمرهم بدقة التصنيع، وكان صلى الله عليه وسلم يخصف نعله وبخيط ثوبه، وفهم العلماء الربانيون ذلك فاحترفوا بجانب علمهم حتى انتسب الكثيرون منهم إلى مهنهم وحرفهم، فكان الخصاص الذي يخص الجدران ويبيضها، والقطعي الذي يبيع قطع الثياب، والصواف، والزيات، والخزار، والسمان وكلهم علماء ملؤوا الدنيا علماً واحترفوا الصناعة والتجارة.

ثم حث الإسلام بنيه علي وجوب الدفاع عن مقدراتهم وألا يمكنوا منها ظالماً: "من مات دون ماله فهو شهيد".

وهذا أحبتي غيص من فيض مما أفاض به الإسلام في هذا الشأن، وللراسخين في العلم باع كبير من الكتابة في هذا المجال، ولإخواننا من الساسة والاقتصاديين مشاريع عملاقة تستطيع أن تنتشل البلاد بل والعالم من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة حال المحرمون بينها وبين أن ننتفع بها لتظل يدهم علينا هي العليا لتلقي إلينا الفتات من خيرات بلادنا ومقدراتنا التي اغتصبوها ونهبوها، ولعلكم الآن أدركتم لماذا يخافون هذا الدين، ولعلكم أيقنتم أن الإسلام هو الحل لكل مشكلاتنا، ويقينا سيشرق فجر جديد يعز الله فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيته وما ذلك على الله بعزيز.

المصدر: http://www.irtikaa.com/values-principles/3060-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D...

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك