الحرية الدينية والدولة الحديثة في العالم العربي ثلاثية مستبعدة: حقاً وتاريخاً ومعياراً

هاني نسيره

 

رغم تأكيد وتشديد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان على حرية المعتقد فضلا عن حرية التعبير، كما يتجلى في المادتين الثامنة عشر والتاسعة عشر من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إلا أن الأنظمة السياسية الحاكمة والأنظمة الثقافية والدينية السائدة لا تزال تتوجس الخطر والريبة في كليهما، فكما أن حرية التعبير عن العقائد والأفكار ستهدد استقرار السياسي المرتجف، فإن حرية المعتقد ذاك الاعتقاد الباطن الساكن، الذي لا يمكن لغير صاحبه الحسم به أو السيطرة عليه، سيهدد مستقر القداسة السائد الذي تدين به الجماعة الثقافية الغالبة!

ليست الشرعة الدولية وحدها التي نصت على حرية التعبير والمعتقد، بل إن الطبيعة الإنسانية والسنن الحضارية والتاريخية، تؤكد عليها كذلك، وهما حرية مقدسة لا يعني اغتيالها إلا حياة نيرانها، وكم من عقائد انتصر لها الحكام ماتت واندثرت حيث لم تقو على مصارعة الزمان واختباراته، وكم من عقائد انتفض ضدها الحكام ورجال الدين لكنها انتصرت ولم تنهزم أمامهم، وظلت شاهدة على من صلبوا أصحابها أو كفروهم أو رموهم بما شاءوا..

إن التاريخ والزمن هما المختبر الحقيقي للأديان والمعتقدات، وليس يجدي قمعها أو وأد ممثليها، فقد قتل مزدك ولكن لم تمت المزدكية بموته ولكن ماتت بفعل التاريخ الذي لم تصمد بنيتها وحيويتها في وجه حياته وحركته، وحورب الأنبياء والمرسلون دائما، وقتل كثير منهم ولكن لم تمت الأديان بموتهم بل انتشرت وسادت ودبت فيها الحياة، لأن حيويتها كانت الأقوى والأقدر على فعل التاريخ وكان عمرها أضعافا لا تنتهي من أعمار جلاديها!

ربما كان لا بد من هذه المقدمة قبل الدخول في موضوعنا حول الحريات الدينية في العالم العربي، والذي نرى أنه قد غدا ذا أهمية خاصة بعد صعود مسألة التحولات الدينية كأبرز أشكال الاحتقان الطائفي في بلد كمصر في العام المنصرم سنة 2008، وخاصة في التحولات من الإسلام إلى المسيحية أو العكس،  كما شهد العامان الأخيران استقطابا واحتقانا في العلاقة بين السنة والشيعة الإمامية، الطائفتين الأكبر بين المذاهب والفرق الإسلامية المعاصرة، نتيجة ما نسبه الدكتور يوسف القرضاوي، المرجعية السنية الصاعدة في الأعوام الأخيرة عبر قناة الجزيرة، لحكومة الثورة الإيرانية، التي احتفلت في فبراير سنة 2009 بمرور ثلاثين عاما على قيامها، بممارسة ما دعوه التبشير الشيعي، وهو ما لم يقف عند التبشير الفردي في بلدان ذات أغلبية سنية شأن مصر وقطر وغيرهما، بل يراه البعض الآخر تبشيرا منظما في بلاد كسوريا، التي ترفع النخبة العلوية الحاكمة فيها شعارا يراه البعض ميلا وشرعنة للتشيع والاستبصار، أي التحول من السنية إلى الشيعية، وهو شعار عودة الفرع إلى أصله، أي عودة العلوية النصيرية إلى أصلها الشيعي الإمامي، وهو ما يتزامن مع شراكة سياسية بين النظامين الحاكمين في البلدين!

هكذا يتعمق النقاش ويمتد حول مسألة الحريات الدينية ليكون استقطابا بين الأديان( المعرفة) وبين السلطة،  لتغدو المعرفة سلطة والسلطة معرفة، ولكل نزوع نحو الهيمنة والتوجس من الحرية الدينية وتحديدا حرية المعتقد، وحرية التعبير عنها، هذا التوجس الذي لا يناسب تطور الدولة الحديثة ولكن يمكن رده إلى خوف القبيلة على حرمها أو العذراء على بكارتها، ليس أكثر..

إن الصحة والياقة السياسية والمجتمعية لنظام سياسي أو مجتمعي أو ثقافي ما لا تمكن قراءتها إلا في مرآة استيعابها الاختلافات داخل وحدتها، وكذلك السماح والتسامح تجاه الحركة التفاعلية بين هذه الاختلافات، دون التقييد والتسفيه والاتهام لأحدها، أو التحريم والتجريم لآخر، وعيا وتأسيسا على حق تاريخي وطبيعي أن المرء والجماعة تعتقد ما تراه أفضل لها، ولا يمكن إجبارها على اعتقاد لا تعتقده، فلا سلطان على القلوب، إلا لمن يملك وما يملك القلوب! من هنا نرى أن الآية القرآنية” لا إكراه في الدين” لا تحدد سبيل الدعوة فقط ولكن تقرر حقيقة واقعية أنه لا يمكن إكراه أحد على الدين.. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، هذه هي الحقيقة وغيرها هو الاستثناء.

وكم من مؤمن بدين يظن من أتقيائه وليس يبطن سوى عدائه، وكم من مستقيم على طريقة انقلب عليها وخرج عنها، عرفناه في تاريخ كل الأديان، كقصة السامري المشهورة في الكتب الدينية، وقصة يهوذا الإسخريوطي، وقصص في صدر الإسلام كقصة عبيد الله بن جحش أول المتنصرين من المسلمين، أو الرجال بن عنفوة أول المرتدين في بني تميم ومناصر مسيلمة الكذاب، بعد أن شهد له وفتن الناس بشهادته.

وعلى رجال الدين ألا يكابروا بكونهم حراسه فالدين يحرس نفسه، وقوته من داخله وليست خارجة عنه، فالأديان تنتصر وتنهزم بقوانين الأديان وليس بقوانين الدنيا، وكم من أصحاب دين هزموا ونكل بهم ولكن انتصرت أديانهم ومعتقداتهم وهم شرود في الأرض يبحثون عن ملجأ، فلم يعتنق قسطنطين( 272-337 ميلادية) المسيحية بقوة المسيحيين، ولم يضطره أحد إلى إصدار مرسوم ميلانو سنة 313 ميلادية قاضيا على أشكال اضطهادهم خوفا منهم، كما لم يعتنق المغول في القرن الثالث الميلادي أو السلاجقة في القرن الحادي عشر الإسلام لقوة المسلمين لغلبتهم، ولكن طواعية لما رأوه في هذا الدين من مناسبة واقتناع لهم، كما يلاحظ السير توماس أرنولد.

يروى ابن كثير في أحداث عام 622 هجرية أن طغرلبك حاكم الموصل أمر ابنه بالتنصر من أجل تزويجه بأميرة انطاكية المسيحية وضم المملكتين، أو إسلام أحد ملوك الصرب غزلا للعثمانيين، ولكن لم يسلم الصرب! إن للأديان قوانين لا يمكن السيطرة عليها أو توجيهها بأدوات القوة والملك، لأنها اعتقاد مبطن في القلب، يختاره صاحبه ولا يمكن خلعه منه إلا إذا كان سهلا خلعه أو هينا اعتقاده دون اضطرار!

كم من داعية للإسلام انقلب حاله فصار داعية للمسيحية، شأن الأب ميخائيل منصور ت 1918، وكم من مبشر بالمسيحية صار داعية للإسلام شأن الفرنسي إبراهيم أحمد والكندي جاري ميلر، وكم من يهودي أسلم ونافح عن الإسلام طواعية شأن عبيد الله بن سلام و محمد أسد، وكم من آخرين أظهروه ولم يبطنوه مثل أتباع شبتاي صبي( يهود الدونمة)..

إن حوادث التاريخ ملأى بحالات التحول والحوار الديني والمذهبي، وهناك أسماء كثيرة دالة على ذلك في التراث العربي والإسلامي، مثل ليون الإفريقي وابن زرعة الفقيه وحبييب بن الأشرس وغيرهم، وإنكار مثل ذلك إنما هو منطق القبيلة لا منطق التاريخ!

كما شهد مسجد المنصور في القرن الرابع الهجري جدالا منتظما بين أنصار ورموز المذاهب والأديان المختلفة آنذاك، فكان يجتمع المسلم والمسيحي والمجوسي واليهودي والصابئي في المسجد يتبادلون الحجج والبراهين دون تعصب أو تزمت أو كراهية!

بل نزيد ونقول أن بعض منتقدي الإسلام وأشد مناوئيه شأن منصور بن سرجون المعروف بالقديس يوحنا الدمشقي ت 947 هجرية صاحب أول كتاب في نقد القرآن وهو ” الهرطقات المائة” لم يكن سوى صديق مقرب من البلاط الأموي كما كان والده وزيرا لمعاوية بن سفيان!

أمثلة كثيرة يمكن أن نسوقها تؤكد على أن الحرية الدينية حق طبيعي ومعيار للسلامة المجتمعية والمواطنية وتاريخ طويل أريد له النسيان والاستبعاد في الدولة العربية الحديثة!!.

المصدر: http://minbaralhurriyya.org/index.php/archives/2645

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك