نماذج التأويل: الكاتب والكتاب والقارئ

توفيق فائزي

 

يسعى هذا المقال إلى بيان سبب رئيس من الأسباب التي أوجبت الخلاف بين المؤولين أو النظار في التأويل. إنها المثالات التي يُنطلق منها لتُجعل نموذجاً قد يكون الكاتب أو الكتاب أو القارئ. المعني في هذ المثالات هو القيم التي تحمل بها والمستلزمات التي تستلزمها، والمؤولون والنظار في التأويل إمّا أن يختاروا نموذج الكاتب وما يحمله من قيمة السيادة أو يستلزمه من الحياة والقصد، وإمّا أن يختاروا الكتاب وما يحمله من قيمة الاستغناء بالدلالة، وإمّا أن يختاروا القارئ وما يحمله من قيمة الاستغناء بالتأويل. ويختار بعضهم أن يأخذ في الاعتبار أكثر من مثال وأكثر من قيمة. ليست هذه المثالات ممّا يمكن استنباط مستلزماتها استنباطاً كاملاً، وذلك يدعونا إلى التساؤل عن إمكانية رجوع صيرورة التأويل أو صيرورة النظر فيه إلى مثال نهائي.

حينما نواجه اختلافاً شديداً بين النُّظَّار في التأويل يصير السؤال عن أسباب ذلك الاختلاف مشروعاً، والبحث عن مستراحٍ للنظر في نظرهم مطلوباً. نفرض أنّ النظر اختلف لاختلاف نماذج التأويل. ونقصد أنّ للتأويل ونظرياته نماذج ينطلق منها أو مثالات تُتَّخذ ليقاس عليها، فتجعل الناظر يقيم تمييزاتٍ خاصة ويحكم بأحكام خاصة. بدا لنا أنّ هذه النماذج هي الكاتب والكتاب والقارئ. ولكن لا ندّعي أنّ هذه المثالات هي الوحيدة، وأنها مُحكمة مُحدَّدة في صورة نهائية. فقد نفتح الباب على مساءلة كلّ واحد من هذه المثالات: من الكاتب أو ما الكاتب؟ ما الكتاب؟ من القارئ أو ما القارئ؟ المساءلة لن تجعل من هذه المثالات مثالات أوليّة واضحة. ولكن نقول إنّ لاختيار هذه المثالات ما يبرره، فقد اجتمع تحت اسم كلّ واحد منها ما يجعله يوشك على الاستقلال فيقابل بقيمه الخاصة الطرفين الآخرين. يحمل الكاتب من القيم والصفات ما يكاد يستقل عن الكتاب، ويحمل الكتاب من القيم والصفات ما يجعله في شبه غنى عن الكاتب، وكذلك القارئ يقف في مواجهتهما. هي ليست مثالات خالصة، ذلك أننا نجد في كلّ مثال آثار المثالات الأخرى لوقوع الارتباط الشديد بين الأطراف والتداخل بينها. هل يوجد كاتب دون كتاب؟ فعل هو الكتابة دون أثر هو الكتاب؟ يدل لفظ "كتاب" على ما يتحصل من فعل الكتابة ويتولد منها ويستقل عن الفاعل، إلا أنه يدل أيضاً على المراد الذي حمله الكاتب، يقول الراغب الأصفهاني: "ووجه ذلك أنّ الشيء يُراد ثم يُقال ثم يُكتب، فالإرادة مبدأ والكتابة منتهى. ثم يعبر عن المراد الذي هو المبدأ الذي أريد توكيده بالكتابة التي هي المنتهى..."[2]

1ـ مثال الكتاب

الكتاب هو المراد ولا قيمة لما يَحمل هذا المراد إلا قيمة الناقل الذي وظيفته النقل، نقل ما هو الأكثر قيمة، وهو المعنى لا اللفظ، ولا حامل اللفظ من جسم الكتاب الذي نشير إليه. ولكن قد يصير الكتاب مثالاً وقيمة. فنلتفت إليه لا إلى غيره، ونتصرف كما لو لم يكن سواه، ونضخم من قيمة الاستغناء أي استغناء الكتاب عن الكاتب، ونجعلها قيمة مطلقة. حينما يكون الكتاب مثالاً لا يُستحضر الكاتب وبالأخص المعنى الذي حمله. نعتبر أنّ الكتاب حاملٌ لدلالة مستقلة عن معنى حي هو مجرد افتراض. ويتعدى اعتبارنا فنجعل الاستغناء في قلب عمل الكتابة التي يقوم بها الكاتب؛ ففي اللحظة نفسها التي يكتب فيها يتجلى الاستغناء وتموت مقاصده. وإذا كانت لحظة الكتابة ممّا يُجلي بلا مزيد عليه عند البعض سيادة الكاتب بما يقصده من المعنى الحي فيكون ما كتبه مجرد تعبير أو وسيلة لإبلاغ ما قصده؛ فإنها عند البعض الآخر[3] لحظة تثبت أنّ السيادة للكتاب بالاستقلال والاستغناء عن الكاتب الذي كتبه. لحظة الميلاد لحظة  يختلط فيها اعتباران: اعتبار الأبوة والتأكيد على نسبة الابن لأبويه، واعتبار المولود كائناً غير أبويه مستقلاً عنهما، على الأقل هو جسم ليس جسم أبويه.

ما الذي يجعل الكتاب منذ البداية مستغنياً عن الكاتب؟ إنه وسيط اللغة التي يكتب بها. اللغة مستغنية بالدلالة، إنها آلة ذاتية الاشتغال. لا تحتاج إلى الكاتب لتدل. سبقت الكلمات حملها بدلالات، والكتابة ليست سوى فعل لتحرير الطاقة الكامنة في اللغة. أورد أبو العلاء المعري في "رسالة الغفران" بيتين للنمر بن تولب في سياق كلامه عن عسل الجنة. عن ذلك العسل الذي لا يُقاس عليه عسل الفانية. يقول النمر بن تولب:

ألمَّ بصحبتي وهـــمُ هجــوعٌ     خيالٌ طارق من أم حصن

لها ما تشتهي: عسلاً مُصفًّى     إذا شاءت وحُوَّارى بسمن

لهذا البيت حكاية يرويها أبو العلاء لخلف الأحمر، "ومعناها أنه قال لهم: لو كان موضع "أم حصن" "أم حفص"، ما كان يقول في البيت الثاني: فسكتوا، فقال: حوارى بلمص؛ يعني الفالوذ"[4]. ما يعنينا هو أنّ أبا العلاء شرع بعد ذلك في ذكر ما يحتمل أن يقوله الشاعر في القافية الثانية تبعاً لما يحتمل أن يرد بدل كلمة "أم حصن" من الكلمات. ونذكر على سبيل المثال ما قاله في بداية رحلة طويلة ذكر فيها الاحتمالات التي تسمح بها اللغة: "ويفرع على هذه الحكاية فيُقال: لو كان مكان "أم حصن" أم جزء وآخره همزة، ما كان يقول في القافية الثانية؟ فإنه يحتمل أن يقول: وحوارى بكشء، من قولهم: كشأت اللحم إذا شويته حتى ييبس، ويقال كشأ الشواء إذا أكله. أو يقول: بوزء، من قولهم وزأت اللحم إذا شويته. ولو قال: حوارى بنسء، لجاز، وأحسن ما يتأول فيه أن يكون من نسأ الله في أجله؛ أي لها خبز مع طول حياة، وهذا أحسن من أن يحمل على أنّ النسء اللبن الكثير الماء"، [5] صحيح أنّ الشاعر اختار أحد  الاحتمالات لكنّ اللغة كأنها مستقلة، وكأنّ اختيار إحدى الكلمات في آخر البيت الأول يلزم باختيار كلمة توفرها اللغة مسبقاً في البيت الثاني.

من عادة أبي العلاء أن يشرح ما يستعمله من الألفاظ بعد استعمالها[6]. هو العالم بخفايا اللغة كأنه يترك اللغة تتكلم بدله، يلزم نفسه بما لا يلزم فتتولد الدلالة غير المتوقعة من تلقاء ذاتها. يعلن موته هو لكي تحيا اللغة وتتكلم وتبوح بأسرارها.

ماذا عن مقتضى هذا الاختيار الذي يُغلِّب الكتاب على الكاتب واللغة على المقصد الحي؟ ما الأثر الذي سينتج ونحن نحمل تصوراً للتأويل نموذجه الكتاب على عمل التأويل؟ لا مستقر للمعنى إذا اتُّخذ الكتاب نموذجاً، فاتخاذه نموذجاً إعلاء من شأن اللغة التي يتولد معها المعنى بصورة آلية، في غنى عن الكاتب أو عمَّا يُفترض أنه مقصده الحي. لا سبيل إلى ردّ معاني الكتاب إلى معنى واحد متعالٍ. الألفاظ تائهة، من دون معالم تحدد لها معاني قارة. تطفو الألفاظ فتتحرك المعاني ولا تثبت. ومنح قيمة دلالية للألفاظ ليس إلا مؤقتاً؛ فكأنها أصوات بدون معانٍ أو بمعانٍ لا متناهية. لا يصير الكتاب تابعاً للقارئ أو للسياق أو للكاتب، بل يصير هؤلاء تبعاً له، وهو يستعصي على قبول معنى نهائي.

2ـ مثال الكاتب

حينما نجعل الكاتب هو المثال الأولي، ينجذب الكتاب إلى مركز للقرار هو الكاتب، يصير الكتاب ذا قيمة إضافية ويفقد شيئاً فشيئاً جسميته. وتتجرد الألفاظ من لفظيتها فتصير معاني، وتتكاثف المعاني وتفقد تخلخلها لتصير معنى واحداً هو الأشد كثافة، يسكن نفس الكاتب. ذلك الذي نسميه مقصد الكاتب، ولكن له أسماء أخرى كالحدس أو الاستبصار...، لم تعد العبارات مستقلة بالدلالة إلا نسبياً. صحيح أنه لولا اللغة خلف الكتاب تَمدُّ العبارات بالدلالات المتواضع عليها لما دلت ولكنها دلالات مستعملة، ويقف شبح الكاتب وراءهما: وراء اللغة ووراء الكتاب. هو السيد المهيمن الفعال المشرف على كلّ الكتاب ليهبه المعنى الأخير المودع في صدره، ذلك المعنى الأشد كثافة، شريعة كلّ المعاني الجزئية ومُسخِّر العبارات لنقله ونشره.

يُرفع من شأن فعل الكلام بدل اللغة، قد نجد للكاتب مثالاً أكثر أوليّة لتصوره ولتصور التأويل وفق هذا المثال، إنه المتكلم الحي، ذلك أنّ المتكلم الحي هو الذي يفترض حمله لحظة الكلام لمقاصد حيّة. هو الذي إذا سئل أجاب ليُعرِّف بقصده. هو الذي لا يُستغنى عنه لمعرفة المعنى الأخير، ليَفصِل في ما يحتمل من المعاني التي تحتملها العبارات. يتأسس هذا المذهب على تمييز أساسي: بين ما هو حي وبين ما هو جامد، بين ما هو حي وبين ما هو روح قاصدة.

أولئك الذين جعلوا الكتاب نموذجاً يعودون إلى لحظة الكلام الحي. تلك اللحظة التي تَفترض وجود مقاصد حية ليقولوا إنه لا وجود لمثل هذه اللحظة، لأنّ الكلام الحي في الحقيقة كتاب ميت، ويُحمِّلون الكلام ما يحمله الكتاب من صفة الاستغناء بالدلالة. بمجرد أن يبدأ الكلام يغترب المتكلم عن كلامه، يصير كلامه كأنّ اللغة فيه هي التي أنتجته لا هو، يبتعد الكلام عن المتكلم ويواجه من يبدو في الظاهر أنه أنتجه ويحمل مقاصده. يصير الكلام أو الكتاب، بذلك، بجوار المتكلم أو الكاتب حتى وهو داخله. لا يحيا المعنى ولو لحظة واحدة، يولد ميتاً. مثاله مثال المجهض الذي لم يكد يحيا[7].

يبالغ من اختار مثال الكتاب فلا يبالي بالكاتب وبمقاصده الخاصة. أمّا حينما يبلغ اعتبار الكاتب ومقصده مداهما، فعندها لا يعود حتى لمعاني العبارات (للكتاب) أيّ اعتبار، فالعبارات الحقيقية هي التي قصد إليها الكاتب. لا داعي للتمييز بين معنى العبارة والمعنى الذي قصده الكاتب. لا معنى للعبارة إلا معناها الذي قصده الكاتب. ولذلك نجد كُلًّاً من كنابKnapp وبن ميكاييل Benn Michaels يردان على من ميز بين المقصد والمعنى، بين لحظة تأويلية للكتاب تسبق استحضار مقصد الكاتب وبين لحظة تأويلية تستحضره فيكتمل التأويل[8]. فكأنما المقصد هو شيء يضاف إلى معنى العبارة، رغم أنّه ليس للعبارة أيّ معنى خارج مقصد الكاتب، في نظريهما. المعنى والمقصد أمر واحد، ولو اتفق أن ارتسمت على شاطئ بحر ما يشبه الكلمات اتفق أن شكلت مقاطع ممّا يشبه قصيدة شعرية لما كان لِما ارتسم أن يرتقي إلى أن يكون كلمات أو مقاطع من قصيدة[9].

سعياً من البعض للخروج من هذا التناقض كان التمييز بين معنى العبارة وبين مقصد المتكلم أو الكاتب / Speaker meaning Sentence meaning كما هو شأن جون سيرل[10] John Searle بين مقصد الكاتب ومقصد الكتاب، كما هو شأن أمبرتو إيكو.Umberto Ecoo اعتراف باستقلال اللغة بالدلالة أو باستقلال الكتاب  بالدلالة دون إلغاء لما هو الأصل وهو القصد. إنّ كمال الكلام والكتاب أن يُفهم مقصد المتكلم أو مقصد الكاتب. ولكنّ هذه التمييزات التي ذكرناها مرفوضة ممن قرر أن يأخذ بمثال الكاتب بصورة مطلقة، كما يرفض التمييز بين اللغة وفعل الكلام، لتصير الغاية من التأويل هي الرجوع إلى مقصد حي للكاتب.

3ـ مثال القارئ

لو التفتنا إلى مثال القارئ لاختفى الكتاب أو كاد يختفي. بالإمكان أن نعتبر القارئ دون أن نلغي اعتبار الكتاب أو اعتبار أمر سابق على التأويل والفهم. أن نُبقي على تمييز استراتيجي بين ما هو موهوب لنا ينتظر منا أن نقوم بفهمه وتأويله وبين التأويل ذاته. لكي لا نجعل التأويل من دون موضوع هو الكتاب الذي يقوم بتأويله. واعتبار الكتاب هو اعتبار لكل ما من شأنه أن يرجح تأويلاً دون آخر، أن يبرر معنى دون آخر. ولكن لا يجعل ذلك من القارئ مجرد متلقٍ لمعنى جاهز كان في نفس الكاتب، ولن يكون الكتاب مجرد وسيلة لعبور ذلك المعنى قصد تبليغه. إنّ الالتفات إلى جانب القارئ يجعلنا ننتبه إلى التفاعل الذي بين الكتاب وكاتبه وبين القارئ. إلى ما هو ثابت من استحضار الكاتب لقارئ ما. إلى وهم العزلة الذي يوهم بانعزال الذات عن الآخرين. حتى ديكارت في عزلته أظهر عوزه بالكتابة وبالخطاب وبالسعي إلى أن يقنع غيره بأنه لا يحتاج في وجوده إلى غيره. فكان لزاماً أن يخاطب غيره ليخبره بأنه مستغنٍ في وجوده عنه. كالشكوى من عدم الصداقة لا تكون إلا للصديق. في قلب الكتابة إذن يحضر القارئ ويكون خطابه. للكتاب وجهة أو معنى هو قارئ أو جماعة قراء يوجهون الكتابة حتى يصح أن نقول إنهم يكتبون الكتاب بدل الكاتب، أو على الأقل يعينون الكاتب في الكتابة فيستحسن الكاتب باستحسانهم ويستقبح باستقباحهم. ويكفي القارئُ الكاتبَ عناء الإظهار الكامل للمعنى فلا يملأ فضاءه كاملاً، إذ يترك فراغات ليملأها القارئ. يشتد النزوع إلى الرفع من مكانة القارئ، حتى يصير مشاركاً الكاتب في الكتابة. وحتى يصير الكتاب تأليفاً مشتركاً نتج عن الائتمار بأوامر القارئ. سنترك فراغاً لن نملأه بتفصيل نظريات القراءة التي تجعل القارئ مركزياً في التأويل[11]. إلا أننا نعود فنؤكد أنّ جعله من هذه النظريات مركزياً لا ينفي الكتاب. الاهتمام انتقل إلى ما ينتج من إحساس القارئ بالكتاب، دون نفي له.

ولكن قد نسأل السؤال الذي سأله ستانلي فيش Stanley Fish وجعله عنواناً لإحدى مقالاته: أيوجد كتاب في هذا القسم؟ Is There a Text in This Class?[12] فنشكك في وجود كتاب خارج التأويل. اعتبار القارئ هو اعتبار في الحقيقة لعمل الفهم والتأويل ذاتهما، حتى يبلغ الأمر بستانلي فيش إلى القول إنهما هما من يوجدان الكتاب. لولا التأويل لما كان الكتاب. لولا توالي التأويلات التي تحيي الكتاب كلّ مرّة في صورة للتأويل جديدة لما كان الكتاب. والكتاب هو جملة التأويلات التي تؤوله. هل نفترض وجود كتاب خارج هذه التأويلات؟ لولا الجماعات المؤولةInterpretive communities [13] لما كان كتاب. الكتاب أمر  غير ثابت وأمر مبهم غير مميز خارج التواضعات والتأويلات التي لا تترك صغيرة ولا كبيرة إلا جعلتها موضوعاً له. لا يعمل المؤول على تأويل أمر قائم خارجه (قصيدة مثلاً) مستقل عنه. إنه هو من يخلق ما يؤوله لحظة تأويله: Interpreters do not decode poemes they make them.[14] ولولا امتلاك المؤول لعين أنشئت لتتعرف الشعرto look with poetry-seeing eyes[15] عين عُلِّمت ورُبِّيت على أن تتعرف خصائص له، لما رأته حيث يوجد، تحيي كل جماعة فهماً معيناً لكتاب ما: شعر ميلتون Miltonn أو شعر أبي العلاء المعري (وهو كأنه خارج فهمها له) هذا الفهم يتأسس على تأويلات تشمل أدق العناصر. أي أنّ التأويل العام يرتكز على تأويلات تشمل أدق الجزئيات التي نميزها داخل الكتاب. والتأويل قرار لتمييز ما هو دال داخل هذا الكل، وانتزاع صورة دالة من الكتاب وهو سديم. لا داعي للتمييز بين التأويل ومقصد الكاتب والوحدات المُؤوَّلة، فالتأويل يختلق مقصداً للكاتب بتمييز وحدة دالة داخل الكتاب. قرار التأويل قرار يوجِد المقصد ويوجِد الوحدات الدالة التي تدل عليه داخل الكتاب[16]. تمييز الوحدات الدالة هو مثل تمييز بيت في قصيدة أو شطر في بيت، أو آية في القرآن. والفطنة تُكتسب، وذلك التمييز ذاته تأويل. يصير القارئ هو المثال مع ستانلي فيش، لا يبتغي معه مزجه بغيره من المثالات. يجعله مطلقاً فلا وجود للكتاب ولا وجود لمقاصد الكاتب. أو لا وجود للكتاب ولا للمقاصد خارج تأويلات ينشئها المؤولون.

خاتمة

كان ما سبق محاولة لتفسير بعض أسباب الاختلاف بين المؤولين وبين الناظرين في التأويل. مفاهيم التأويل في تبع لما نجعله مثالاً للإدراك: الكاتب أو القارئ أو الكتاب. ليست هذه المثالات أوليّة؛ ذلك أنّ وراء كلّ مثال مثالات أكثر أوليّة. ووراء كلّ مثال قيم تُختار ليُعلى من شأنها بدل أخرى. ليس السبيل فقط هو أن نختار أحد المثالات دون غيره لنجعله مطلقاً للإدراك؛ بل السبيل أيضاً أن نمزج بينها، وأن نعترف بالقيم التي يستلزمها كلّ مثال. نتساءل في الأخير: هل من سبيل إلى إرجاع تلك المثالات إلى مثال هو الأكثر أوليّة، أم أنّ قدر تأويل هذه المثالات ألّا ينتهي إلى تأويل؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مسرد المراجع

باللغة العربية:

1)      أبو العلاء المعري، الفصول والغايات، منشورات المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، بيروت.

2)      أبو العلاء المعري، رسالة الغفران، تحقيق عائشة بنت الشاطئ، القاهرة، دار المعارف، ط السادسة، 1977.

3)      الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، القاهرة، المكتبة التوفيقية، 2003.

باللغة الأجنية:

4)      Derrida J, Limited Inc, abc. Edition Galilée, Paris, 1990.

5)      Searle J, “Literary theory and his discontents”, New Literary History, Vol. 25, No. 3, (Summer, 1994), pp. 637-667.

6)      Stanley Fish, «How To Recognize a Poem When You See One», In Is There a Text in This Class? The Authority of Interpretive Communities, Harvard University Press, Cambridge Massachusetts, 1980.

7)      Stanley Fish, «Interpreting the «Variorum»», Critical Inquiry, Vol.2 No. 3 (Spring, 1976), p.p. 465-485.

8)      Stanley Fish, « Is There a Text in This Class? », In Is There a Text in This Class? The Authority of Interpretive Communities, Harvard University Press, Cambridge Massachusetts, 1980.

9)      Steven Knapp and Walter Benn Michaels, « Against Theory », Critical Inquiry, Vol. 8? No. 4 (Summer, 1982), pp. 723-742.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) نشرت هذه المادة في الملف البحثي الذي يحمل عنوان "الهرمينوطيقا واشكالية النص"، الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود.

[2] الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، القاهرة، المكتبة التوفيقية، 2003، ص 425

[3] كما هو الشأن بالنسبة للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا Jacques Derrida

[4] أبو العلاء المعري، رسالة الغفران، تحقيق عائشة بنت الشاطئ، القاهرة، دار المعارف، ط السادسة، 1977، ص 155

[5] أبو العلاء المعري، رسالة الغفران، مرجع سابق، ص 155

[6] انظر مثلاً: الفصول والغايات، منشورات المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، بيروت.

[7] Derrida J, Limited Inc, abc, Edition Galilée, Paris, 1990, p 98.

[8] Steven Knapp and Walter Benn Michaels, « Against Theory », Critical Inquiry, Vol. 8 ? No. 4 (Summer, 1982), pp. 723-742, p. 726.

[9] Ibid, p.727.

[10] Searle J, “Literary theory and his discontents”, New Literary History, Vol. 25, No. 3, (Summer, 1994), pp. 637-667, p 645.

[11] كنظرية كل من ولفغانج آيزر Wolfgang Iserوهانس روبرت ياوس Hans Robert Jauss وأمبرتو إيكو Umberto Eco.

[12] Stanley Fish, « Is There a Text in This Class? », In Is There a Text in This Class? The Authority of Interpretive Communities, Harvard University Press, Cambridge Massachusetts, 1980.

[13] Stanley Fish, « Interpreting the « Variorum » », Critical Inquiry, Vol.2 No. 3(Spring, 1976), p.p. 465-485. p. 483.

[14] Stanley Fish, « How To Recognize a Poem When You See One », In Is There a Text in This Class ?, op. cit, p.327.

[15] Ibid, p.326.

[16] Stanley Fish, « Interpreting « Variorum » », Op.cit, p. 479.

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك