الإسلام والغرب: أسطورة الخطر الأخضر

ليون هادار

 

شكلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وما تبعها من ’حرب على الإرهاب‘ الفرصة السانحة لمؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية، والتي افتقدت منذ نهاية الحرب الباردة لخطر العدو. كانت فرصة لخلق عدو و بعبع جديد متمثلا بالإسلام الراديكالي، أو ما يعرف ب”الخطر الأخضر” . مصطلح كنت قد استخدمته في مقال قبل 15 عاما في مجلة الشؤون الخارجية في ربيع العام 1993. فقد شكَّكتُ بنظرية صموئيل هنتنغتون بخصوص صدام الحضارات. نظرية تتوقع أن الغرب والإسلام سينخرطان في صراع دموي طويل من أجل السيطرة على الشرق الأوسط، بما في ذلك منابع النفط.

لقد اعتنق المحافظون الجدد المتحمسون، والذين هيمنوا على مؤسسة السياسة الخارجية للرئيس جورج بوش الابن، فكرة هنتغتون حول المجابهة بين الإسلام والغرب. فهم ينظرون إليها على أنها سبيل يمكن من خلاله تبرير استخدام القوة العسكرية الأمريكية لبسط سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وفرض القيم الأمريكية أو ما يعرف بـ”أجندة الحرية” للتعامل مع احتمال ظهور خميني جديد من الفاشية الإسلامية، مسلحا بالفكر الراديكالي، مزودا بالأسلحة النووية، راغبا في شن هجوم جهادي عنيف ضد الحضارة الغربية.

واستنادا إلى معتقدات المحافظين الجدد، التي حاول بوش تطبيقها في بلاد الرافدين، سيكون العراق الحر والديمقراطي مثالا يحتدى في الإصلاح السياسي والاقتصادي للعالم العربي، وللشرق الأوسط برمته، وسيطلق العنان لسلسلة من الثورات السلمية الديمقراطية من الحدود الإسلامية المتاخمة للصين، مرورا بإيران وسوريا ولبنان وفلسطين وصولا إلى حدود البلقان. لذا توقع أنصار بوش، واضعين نصب أعينهم التغيرات الكبرى التي حصلت في أوربا الشرقية بعيد انهيار الاتحاد السوفيتي، توقعوا أن تسقط قطع دومينو الديمقراطية في كل من سوريا وإيران بعد سقوط صدام حسين. ورأوا أن “ثورة الأرز” اللبنانية، والانتخابات المخطط لها في فلسطين إنما يعكسان الشكل الجديد الذي ستكون عليه الأمور.

في الوقت نفسه، أصر حتى العديد من النقاد الليبراليين وخبراء السياسة الدولية، من أمثال توم فريدمان أحد أبرز كتاب الأعمدة الصحفية في صحيفة نيويورك تايمز، والمنتقد لكثير من جوانب أجندة المحافظين الجدد، أصرّوا على أن الولايات المتحدة بحاجة لإطلاق حملة ضخمة للمساعدة على تحديث/ دمقرطة / تحرير / علمنة الشرق الأوسط وبالتالي العالم الإسلامي برمته، ويفضل أن يتم ذلك من خلال الدبلوماسية والسياسات التعليمية، أو بالقوة العسكرية كآخر الحلول.

وعلى خلفية التدخل الأمريكي في حربين كبيرتين في الشرق الأوسط، والوضع المتفاقم في إيران وحلفائها الإقليميين، بدأ يتشكل إجماع متنامي بين أوساط المتحدثين في واشنطن حول ضرورة إطلاق حملة لنقل الشرق الأوسط للعصر الحديث، و القضاء في نفس الوقت على الإسلام الراديكالي. فالارتفاع السابق و المطرد لأسعار الطاقة زاد من قلق واشنطن وأثار مخاوفها حول الوصول إلى منابع النفط في الخليج العربي، وبالتالي اكتسبت نظرية صدام الحضارات بعدا جيواقتصاديا. تصوروا لو أن أسامة بن لادن سيطر على مصادر الطاقة في الشرق الأوسط، والتي تسمى أيضا “نفط العرب” واستخدمها كسلاح ضد الغرب! كما أن إخفاق واشنطن في القضاء على الإسلام الراديكالي سوف لن يعرض لخطر محدق سوى إسرائيل والحلفاء الآخرين.

إن السياسة الخارجية الجديدة، شأنها شأن الإيديولوجيات الدينية والسياسية الجديدة، تصنع من قبل مقاولين فكريين يتطلعون للفوز بمكانة وحظوة لدى الساعين خلف السلطة. وفي الوقت نفسه، يقوم السياسيون باستخدام هذه الآراء ليحشدوا الدعم الشعبي بصفتهم قادة الأمة / أو الشعب ضد تهديد خارجي يزعمون بأنه يهدد مصلحة وقيم البلد. ومن وجهة النظر هذه ، فان البعبع الإسلامي الجديد المزعوم، الذي نشره وروج له المقاولون من المحافظين الجدد، قد أسهم فعلا في خدمة مصالح مثلث واشنطن الحديدي المتمثل بالبيروقراطيين، ومشرّعي القوانين، وجماعات الضغط، فضلا عن جهات خارجية ضغطت باتجاه توسيع التدخل العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط.

لقد ساعد التهديد الإسلامي المزعوم المثلث الحديدي – تماما كما فعلت الشيوعية خلال الحرب الباردة – على خلق ضغط واسع على الميزانية المخصصة للدفاع والعمليات العسكرية السرّية ولمجموعات الضغط ، بينما سمح هذا التهديد الإسلامي – لأطراف خارجية كإسرائيل والهند والعديد من بلدان أسيا كباكستان، أفغانستان …– لإبراز أدوارهم الخاصة كبديل وحليف إقليمي لواشنطن. وفي نفس الوقت، تمكن مثقفو المحافظين الجدد بمساعدة زبانيتهم “الخبراء في تحليل الإرهاب” تمكنوا من الوصول إلى مرحلة تمكنهم من التأثير على الإعلام وعملية صنع القرار الحكومي، وحصد المزيد من الجوائز السياسية والمالية.

ومشكلة الخطط السياسة الخارجية ونماذجها هي أنها لا تعكس بالضرورة الواقع، ولكنها تراكيب فكرية لا تعكس إلا ما يدور في خيال صانعيها ومصالح مروجيها. ونتيجة لذلك، و عندما يتم تطبيق هذه السياسات التي صيغت على أساس مثل هذه الأطر المفاهيمية، فإن الواقع سيميل إلى نبذها، بل والانقلاب عليها. ففي هذا السياق، و خلال الحرب الباردة، فرضت فكرة الشيوعية العالمية التي تقودها قوة كبرى كالاتحاد السوفيتي على الولايات المتحدة حتمية الخلط بين المصالح الوطنية التي توجه سياساتها في فيتنام والصين وكوبا، والمصالح العالمية مع الاتحاد السوفيتي، مما أدى إلى نتائج كارثية على السياسة الأمريكية. وعلى نحو مشابه، بعد السقوط المدوي للاتحاد السوفيتي، اكتشف الأمريكيون أن انهيار الشيوعية لم ينتج عنه انتشار الحرية السياسية والاقتصادية في دول الإمبراطورية السوفيتية السابقة. فقد التحقت كل من هنغاريا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا ( سابقا) بركب النادي الغربي كنتيجة لثقافاتها السياسية الأوربية، بينما اعتنقت أكثر الدول رجعية في أسيا الوسطى أنظمة سياسية شمولية وأنظمة اقتصادية مركزية. أما روسيا فتبدو وكأنها اختارت طريقا ثالثا متفردا خاصا بها، ألا وهو رأسمالية الدولة.

في تسعينيات القرن العشرين، ساد في واشنطن لغط كبير حول التحديات التي كانت تواجه الغرب على يد نموذج شرق آسيوي جديد يمتثل باليابان والقوى الاقتصادية الأخرى الناشئة في المنطقة. رواد هذا النموذج بما فيهم لي كوان يو قائد سنغافورة و هونتنغتون الذي اعتنق فكرة الحضارة الـصينية، يؤكدون بان القيم الكونفوشوسية المتفردة في الشرق الأقصى، كقيم العائلة، والتعاون، والولاء الوطني، وتفضيل مصلحة المجتمع واستقراره وازدهاره على المصالح والحريات الشخصية، وأخلاقيات العمل الجاد والتوفير ، تمثل الأسباب وراء دعم الآسيويين للحكومات الشمولية و مبدأ الرفاه الجماعي بدلا من الديمقراطية. كما يدافعون عن الفكرة القائلة أن الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية التي تديرها الدولة هي أكثر نجاحا من الأنظمة الانجلو-أمريكية. ولكن الأزمة المالية الآسيوية في عقد التسعينيات والسياسات الإقليمية المتباعدة والأنظمة الاقتصادية في سنغافورة بالمقابل مع تايوان، قوّضت مفهوم نموذج آسيوي بارز وناجح، بالرغم من أن الصعود الاقتصادي الصيني ربما يكون قد أنعش هذه الفكرة من جديد.

في هذا السياق، يبدو الوقت مناسبا لانتقاد الفكرة المشهورة القائلة بان العالم الإسلامي أو الشرق الأوسط، أو العالم العربي – وهي بالمناسبة مصطلحات تستخدم بطريقة متشابهة و على نحو تبادلي في الإعلام الأمريكي- عالم يمتلك ثقافة سياسية واقتصادية أحادية متجانسة متفردة تجعل منه ندا مقاوما لتأثيرات التجديد الغربية. نلاحظ هنا أيضا انه يتم استخدام مقدار من العناوين والتوصيفات، بما فيها الديمقراطية، الرأسمالية، العلمانية والحقوق المرأة، مقترنة بالحداثة والتغريب.

ويقترح أنصار هذه الفكرة أن الجهد الذي تقوده أمريكا هو وحده القادر على إحداث التغيير الثقافي والسياسي المطلوب والإصلاحات الاقتصادية، وجعل الشرق أوسطيين/ العرب/ المسلمين “أكثر شبها بنا”. ولكن الخطأ هو أن هذه الـ (بنا) لا تمثل غربا موحدا ومتجانسا، بل خليط من : الجنوب الأمريكي البعيد والذي سادت فيه التشريعات العنصرية حتى ستينيات القرن العشرين، وسويسرا التي لم تمنح النساء حق التصويت حتى العام 1971، ونموذجا رأسماليا أنجلو- سكسونيا، ورأسمالية اشتراكية ألمانية، مدينة خليعة كلاس فيغاس، و مدينة مفرطة بالاحتشام كمدينة ليك ، وشمال أوربا “الملتزمة بالقانون”، وجنوب أوربا التي يكتسحها الفساد، وهكذا.

إن حقيقة عدم وجود نموذج غربي وحيد وفريد يمكنه تمثيل الغربيين تساعد على إدراك عدم وجود نموذج وحيد للعالم العربي أو للمسلم. حقيقة يستعصي إدراكها من قبل المسلمين الراديكاليين المتطرفين الذين يبشرون بفكر القاعدة، وأقصى اليمين المسيحي الغربي المتطرف الذي يبشر بعقيدة محافظة جديدة.

على الرغم من دعاية واشنطن للفكرة القائلة بأن الفاشية الإسلامية تشكل تهديدا شاملا، فليس هناك أسس إيديولوجية عامة توحد البلدان العربية و الإسلامية بكافة أنوعها. وتتضمن هذه البلدان، المختلفة على نحو كبير، الحركات القومية العربية العلمانية كالبعثية والناصرية، اللتان جمعتا بين الإيديولوجيات الاشتراكية والفاشية المستوردتان من أوربا، فضلا عن المذهب الوهابي السعودي المتشدد، والمبادئ الثورية الذي تحرك الشيعة الحاكمين في إيران و أتباعهم في الشرق الأوسط. كما نجد جمهورية كمال أتاتورك التركية و تقاليدها العلمانية التي تواجه الآن تحديات من قبل الأحزاب الإسلامية الحداثوية الديمقراطية المؤيدة لحرية السوق والتي تريد لتركيا الالتحاق بركب الاتحاد الأوربي. كما تتضمن هذه البلدان مجتمعات رأسمالية متسامحة ومتعددة الثقافات كاندونيسيا وماليزيا، وجماعات إسلامية متطرفة في جنوب ووسط آسيا، كما نجد النموذج اللبناني المتغرِّب المتعدد الطوائف والأديان، وأخيرا نموذج معمر القذافي الغريب و المتشدد.

من هذا المنظار، نجد أن العالم الإسلامي، أو الشرق الأوسط هو عبارة عن فسيفساء من الدول والأمم، الجماعات العرقية و القبلية، مجموعة من الطوائف الدينية، و خليط غير متجانس من الإيديولوجيات السياسية والأنظمة الاقتصادية و التوجهات الثقافية. فقد التحق بعضهم بركب العصر الحديث، وهم يلعبون دورا فاعلا في الاقتصاد العالمي كماليزيا، واندونيسيا وتركيا والأمارات العربية المتحدة. بينما بقي الآخرون على هامش الثورات الاقتصادية والتكنولوجية كالسودان، وموريتانيا، وقطاع غزة، واليمن. بينما تجد معظم الدول الأخرى ذات الغالبية المسلمة نفسها في الوسط بين هاتين الفئتين مثل مصر والأردن والسعودية وليبيا.

لا شك بأن بعض أجزاء الشرق الأوسط “معروفة بوضعيتها الاقتصادية المقلقة ” على حد قول زاكاري كارابيل، المستثمر البنكي و الخبير بشؤون الشرق الأوسط. لأنه من المتوقع، من منطقة يبلغ تعداد سكانها 350 مليون نسمة، تقع في نقطة التقاء أوربا واسيا وإفريقيا، فضلا عن تمتعها بإرث تاريخي كبير بوصفها مهدا للحضارة، ناهيك عن مصادر الطاقة الضخمة التي تمتلكها، من المتوقع أن تنمو هذه المنطقة لتحقق مستوى نمو يتماشى و مستوى الاقتصاديات الناشئة (emerging economies). فإجمالي ناتجها المحلي يبلغ 900 مليار دولارا في العام الواحد، ومعدل نموها الاقتصادي يبلغ حوالي 5 بالمائة.

كما أن الارتفاع السابق لأسعار الطاقة كان لصالح بعض دول المنطقة، لا سيما دول الخليج العربي النفطية. وعلى عكس الطفرة النفطية في سبعينيات القرن الماضي، بدأت هذه الدول تستثمر عائداتها في المنطقة، مما شجع على نمو سوق الأوراق المالية، وانطلاق موجة من التحديثات العقارية، وإنشاء بنى تحتية اقتصادية ساعدت على تحويل الإمارات العربية المتحدة وبعض دول الخليج إلى مراكز عالمية للتجارة والمال على غرار سنغافورة.

في نفس الوقت، هنالك بعض العلامات التي تدل على أن الأنظمة الاقتصادية العربية التي كانت خاضعة ولعقود طويلة للحكم العسكري الديكتاتوري – كمصر وتونس، بل وحتى العراق الآن، وسوريا وفلسطين وليبيا – قد بدأت باتخاذ خطوات جادة نحو إصلاح اقتصادها وجعله أكثر انفتاحا على الاستثمار الأجنبي والتجارة العالمية. و بمساعدة فرنسا وبعض دول الاتحاد الأوربي، يمكن إحداث إتحاد اقتصادي أورومتوسطي أن يسهّل هذه العملية ويشجع عودة المهاجرين الذين يضمون العديد من الكفاءات ورجال الأعمال من أوربا إلى دولهم.

كانت القوى الغربية مسؤولة، بشكل أو بأخر، عن وصول بعض الدكتاتوريات العسكرية إلى سدة الحكم في دول الشرق الأوسط و التي أدت إلى تراجع الإصلاح الاقتصادي لفترات طويلة من الزمن. وقد شجعت المنافسة الجيو-إستراتيجية ما بين القوى الخارجية، ولا سيما إبان الحرب الباردة، شجعت أمريكا وحلفاءها على استغلال الصراعات الإقليمية كالصراع العربي الإسرائيلي و شجعت أيضا على توفير الدعم العسكري والاقتصادي لبعض القادة المحليين الذي كان من المفترض منهم أن يخدموا المصالح الخارجية. ولكن الوقت قد حان للقوى الغربية، ولا سيما الاتحاد الأوربي، لتركز اهتمامها وجهودها على إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وخلق الحوافز للمنطقة لتنفتح على الاقتصاد العالمي. ويشمل هذا الأمر تحرير أنظمتها الاقتصادية، وتقليل الحواجز التجارية، والتعرفة الجمركية، وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر.

على الرغم من أن التجارة الحرة ليست الحل الناجع لكل المشاكل، إلا أنها يمكن أن تشكل قالبا ضروريا لبناء شرق أوسط ينعم بالسلام ويرفل بالازدهار. إذ يمكنها أن تشجع على ظهور طبقة وسطى محترفة ذات قيم أكثر تناغما مع الأفكار والتكنولوجيا الحديثة. ويمكن لهذا الجهد أيضا أن يساعد على خفض الفقر و اللامساواة الاقتصادية، فكل هذه الأمور يمكن أن تعجّل بما سماه الاقتصادي الكندي ايريك غارتزكي. ب”السلام العالمي في ظل الاقتصاد الحر”.

في الحقيقة، و عندما تبدو العولمة معرقلة في منطقة الشرق الأوسط، علينا أن لا ننسى أن هذه المنطقة كانت ذات يوم مركزا للتجارة العالمية، وأن تجارها – السوريون، واللبنانيون، واليهود والأرمن، والإغريق وآخرون – قد ساعدوا في نشر ثقافة الممارسة التجارية عبر البحر المتوسط والعالم.
ففي كنف السلام الممكن في ظل اقتصاد حر، يمكن بعث الجذوة في روح المشرق العريقة، والمساعدة على تحويل الشرق الأوسط من منطقة راكدة تعيش على هامش الاقتصاد العالمي إلى واحد من أقوى محركاته.

المصدر: http://minbaralhurriyya.org/index.php/archives/2557

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك