الحفاظ على الهوية والثقافة الإسلامية في إطار الرؤية المتكاملة

د. عبدالعزيز بن عثمان التويجري

تتزاحم المشكلات التي تفرض على الأمة الإسلامية معالجتها بالمنهج القويم، وتتداخل القضايا التي تتطلب البحث والدرس بحلول واقعية تصمد أمام التحديات التي تتكاثر ويتعاظم أمرها ، في هذه الحقبة الدقيقة التي يجتازها العالم الإسلامي ، وفي هذه المرحلة الحرجة التي يمرّ بها المجتمع الدولي ، سواء على مستوى الحكومات والدول ، أو على مستوى المنظمات والهيئات الإقليمية والدولية، أو على مستوى المؤسسات والهيئات الأهلية.

وكلما أمعنا النظر في المحيط الإقليمي والدولي ، وتأملنا الواقع المعاش في مختلف مستوياته ، وبما يحفل به من تناقضات تتصارع وأزمات تتصاعد ، نجد أن الخطر الأكبر الذي يتهدد الأمم والشعوب في هذا العصر ، هو ذلك الخطر الذي يمسّ الهوية الثقافية والذاتية الحضارية والشخصية التاريخية للمجتمعات الإنسانية في الصميم ، والذي قد يؤدي إذا استفحل ، إلى ذوبان الخصوصيات الثقافية التي تجمع بين هذه الأمم والشعوب ، والتي تجعل من كل واحدة منها ، شعباً متميزاً بمقومات يقوم عليه كيانه، وأمة متفردة ً بالقيم التي تؤمن بها وبالمبادئ التي تقيم عليها حياتها.
ومهما تكن الألفاظ الجامعة التي يوصف بها هذا الخطر الذي بات اليوم ظاهرةً تكتسح مناطق شتى من العالم ، بما فيها المناطق الأكثر نموّاً والأوفر تقدّماً في المجالات كافة ،وأياً كانت طبيعة هذه الظاهرة وحجمها والأدوات التي تستخدم في تحريكها ، فإن مما لاشك فيه أن الهوية والثقافة بخصوصياتهما ومكوّناتهما ومقوّ ماتهما ، هما المستهدف في المقام الأول ، وأن الغاية التي يسعى إليها الماسكون 
بأ زّمة السياسة الدولية في هذه المرحلة ، هي محو الهويات ومحاربة التنوع الثقافي ، والعمل على انسلاخ الأمم والشعوب عن مقوماتها ، لتندمج جميعاً في إطار النموذج الأمريكي الأقوى إبهاراً ، والأشدّ افتتاناّ في العصر. 
وليست هذه ظاهرة ثقافية وفكرية وإعلامية فحسب ، كما قد يبدو من ظواهر الأشياء ، ولكنها ظاهرة سياسية في المقام الأول ، وظاهرة اقتصادية بدرجة أولى باعتبار أنّ الهدف النهائي الذي تسعى إليه القوى المسيطرة على مقاليد النظام العالمي – الذي هو في حقيقة الأمر نظام غربي المنزع أحادي الرؤية تقوده دولة واحدة انفردت بالقوم الضاربة وبالتحكّم في مسار السياسة الدولية - هو إخضاع حكومات العالم لمنطق القوة والهيمنة والسيطرة ، تحقيقاً لغايات ذاتية تتعارض مع القانون الدولي والقيم الإنسانية.
في ظل هذا المناخ الدوليّ غير المستقر ، يتعاظم الخطر الذي يهدد المجتمعات الإنسانية في خصوصياتها الثقافية والحضارية ، وفي أمنها الفكري والعقائدي وفي هويتها الوطنية وثقافتها القومية ، وهو خطر يتضاعف بقدر ما تتضاءل حظوظ النجاح في كسر صورة الاندفاع لقهر إ راداة الشعوب ،وكبح جماح جنون التطرّف في فرض النظام الأوحد على البشرية قاطبة .
ومن هنا يكون الحفاظ على الهوية الحضارية الإسلامية وعلى الثقافة الإسلامية ضرورة حياة وواجبا إسلامياً في المقام الأول.
وحرصاً منا على ضبط المفاهيم أولاً ، وعلى بيان المعاني الدقيقة للمصطلحات وللألفاظ ، من أجل تحديد الإطار العام للعلاقة بين العناصر الأربعة الواردة في عنوان هذه الدراسة ، وهي : 
الحفاظ ، الهوية ، الثقافة ، الرؤية المتكاملة ، فإننا سنتناول ستة محاور رئيسية، هي :
أولاً : معني الحفاظ على الشيء
ثانياً: مفهوم الهوية لغوياً وفكرياً 
ثالثاً : دلالة الثقافة ومضمونها
رابعاً: التحديات التي تواجه الهوية والثقافة .
خامساً : العلاقة بين الهوية والثقافة.
سادساً: شروط الحفاظ على الهوية والثقافة الإسلاميتين.
أولاً: معني الحفاظ على الشيء:
في اللغة ، حافظ يحافظ محافظة وحفاظاً، على الأمر واظب عليه ، وحافظ عليه: صانه ووقاه ، وحافظ عليه راقبه وراعاه. وحافظ على عاداته ثبت عليه ولم يغيرها ، فهو محافظ ، وحافظ الرجل على وطنه دافع عنه ، والحفاظ هو الصائن والواقي. 
(1).
فللحفاظ على الشيء إذن ، معنىً ينصرف إلى خمسة معا نِ فرعية هي : المواظبة ، والصيانة ، والوقاية ، والمراقبة ، والمراعاة ، ولا يكون لهذه المعاني جميعاً مدلول واقعي، إلاّ إذا اجتمعت ، وتداخلت ، وتكاملت إذا لا معنى للحفاظ على الشيء إذا لم يواظب عليه ، ويصان ، ويوقّى ، ويراقب ويراعى . ويبطل هذا المعنى الجامع الشامل ، إذا انتقى عنصر واحد من هذه العناصر الخمسة التي تدخل في ألفاظ على شيء من الأشياء.
ثم إن للحفاظ على الشيء وجوهٌ عدة ، وهو يتّم على مستويين ، المستوى الداخلي ، والمستوى الخارجي والحفاظ يكون غالباً على ما يستحق الحفاظ عليه ، والمرء عادة يكون شديد الحرص على أغلى ما يملك وعلى أثمن ما يحوز ، ويبذل جهداً في استمرار امتلاكه لما يحرص عليه ، ولا يدخر وسعا ً في الإبقاء على حيازته له ، ويسعى إلى الحيلولة دون صياغة منه ، أو تفريطه فيه ، ما وجد إلى ذلك سبيلاً.
وهذه الحالة الشعورية تنبثق من الاقتناع بالقيمة التي هي للشيء المحافظ عليه ، والتسليم بأهميته وجدواه وتنبع من الإيمان بقداسة ما يحافظ عليه ، إذا كان عقيدة أو مبدأ ، أو قيمة جوهرية نابعة من الدين ، وبنفاسة ما يحرص عليه ، إذا كان من المنقولات والمحفوظات المادية ، أو التي هي ذات الأصالة والعراقة . وهذا هو المستوى الداخلي للحفاظ على الشيء.
أما على المستوى الخارجي ، فإن الحفاظ على الشيء يتّم بإرادة ذاتية يعبّر عنها عملُُُ يسير في الاتجاه المؤدي إلي تحقيق المراد ، وتتوافر له شروط الجدية والفعالية والتأثير ، مع مراعاة مقتضيات الأحوال ، والتوفر على الإمكانيات الذاتية والموضوعية التي تسمح بالتغلّب على ما قد يعترض السبيل لتأمين الحفاظ على المبتغى ، من صعوبات ومعوّقات.
فالعمل من أجل الحفاظ على الشيء شرط لازمُ ، وكلما ارتفعت قيمة الشيء المحافظ عليه وغلا ثمنه المعنوي والمادي ، اشتدت الحاجة إلى العمل القائم على الإرادة القوية ، والتدبير الحكيم والدقة في تحديد الهدف . ولا أهمية لعمل لا يسعى إلى الحفاظ على شيء ،إذا لم يلتزم هذه الشروط ، ويسير في هذا الاتجاه الصحيح.
وبقدر ما يكون العمل للحفاظ على الشيء ، جدّياً ومتقناً وفاعلاً ، ومؤثراً تكون فرص الوصول إلى الهدف أكثر سنوحاً . وبذلك يتم الحفاظ على المرغوب فيه على نحو يُوصل إلى القصد.
ويقتضي العمل على هذا الصعيد ، الوقوف على الظروف المحيطة ، والمناخ السائد ومعرفة العوامل المؤثرة سلباً وإيجاباً في السعي نحو الغاية المبتغاة ، لأنّ الارتباط بالشيء ، أيّا كانت طبيعته ، عن معرفة عميقة ، أدعى إلى التشبث به، والحفاظ عليه . كما يُشترط في هذا المجال ، القيام بالواجبات التي يقتضيها الحفاظ على ما يرغب فيه،ويحرص عليه سواء عن إيمان واعتقاد، أو عن حاجة ومصلحة ، أو استجابة لضرورة من ضرورات الحياة.
وهذان المستويات ، الداخلي الذاتي والخارجي الموضوعي ، يتكاملان ولا ينفصلان ، وتداخلان ولا يتقاطعان ، وهما أقوى ما يكونان تكاملاً وارتباطاً عندما يكون المحافظ عليه ، أو المرغوب في الحفاظ عليه ، من المبادئ والمقدسات ، ومن القيم والمقوّمات، ففي هذه الحالة يكون الأمر يتعلق بأحد الواجبات الشرعية التي تعلو فوق كلّ الواجبات.
ثانياً : مفهوم الهوية لغوياً وفكرياً:
إن فهمنا للهوية ينبني على تراثنا الحضاري، فالهوية في ثقافتنا العربية الإسلامية هي الامتياز عن الأغيار من النواحي كافة0 ولفظ الهوية يطلق على معان ثلاثة : التشخص، والشخص نفسه، والوجود الخارجى0 وجاء في كتاب (الكليات) لأبى البقاء الكفوي، أن ماهية الشيء هو باعتبار تحققه يسمى وذاتاً، وباعتبار تشخيصه يسمى هوية، وإذا أخذ أعم من هذا الاعتبار يسمى ماهية 0 وجاء في هذا الكتاب أيضا أن الأمر المتعقل من حيث إنه معقول في جواب (ما هو) يسمى ماهية، ومن حيث ثبوته في الخارج يسمى حقيقة، ومن امتيازه عن الأغيار يسمى هوية
(2)0
والهوية عند الجرجانى في( التعريفات) الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق
(3)0
وتستعمل كلمة(هوية) في الأدبيات المعاصرة لأداء معنى كلمة Identity density التي تعبر عن خاصية المطابقة : مطابقة الشي لنفسه، أو مطابقة لمثيله
(4) وفى المعاجم الحديثة فإنها لا تخرج عن هذا المضمون، فالهوية  هي : حقيقة الشيء أو الشخص المطلقة، المشتملة على صفاته الجوهرية، والتي تميز عن غيره، وتسمى أيضا وحدة الذات0
ولذلك فإذا اعتمدنا المفهوم اللغوي لكلمة (هوية )، أو استندنا إلى المفهوم الفلسفي الحديث فإن المعنى العام للكلمة لا يتغير، وهو يشمل الامتياز الامتياز عن الغير، والمطابقة للنفس، أي خصوصية الذات، وما يتميز الفرد أو المجتمع عن الأغيار من خصائص ومميزات ومن قيم ومقومات0
وخلاصة الأقوال إن الهوية الثقافية والحضارية لأمة من الأمم، هي القدر الثابت، والجوهري والمشترك من السمات والقسمات العامة، التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الحضارات، والتي تجعل للشخصية الوطنية أو القومية ، طابعاً تتميز به عن الشخصيات الوطنية والقومية الأخرى
(5)0
فكيف يتسنى المحافظة على الهوية الثقافية والحضارية في ظل الباسطة نفوذها اليوم على المجتمع الدولي؟ بل كيف يمكنكم التوفيق ُ بين مقتضيات السيادة الوطنية ، وبين متطلبات العولمة؟.إن اتجاهات العولمة تسير نحو التأثير السلبي على الهوية والسيادة معاً . وأول ما يثير الانتباه عن التأمل في موقف الغرب من هويات الشعب، هو جمعه بين موقفين متناقضين ، فهو من جهة شديد الاعتزاز بهويته حريص عليه ، وهو من جهة ثانية رافضُ للاعتراف بالهويات الوطنية لشعوب العالم ، لإحساسه بأن العولمة من شأنها أن تؤدي إلي مزيد من الوعي بالخصوصية الثقافية والحضارية . وتلك في نظر الغرب عموماً هي المعضلة الكبرى التي يصدم بها . ويعبّر مفكروه عن هذه الحيرة الفكرية ، بوضوح وصراحة لا مزيد عليهما.
ففي دراسة لصمويل هنتنجتون (SAMUEL HUNTINGTON ) لم يُسلط عليهما الضوء كما جرى معي دراسة له سبق سابقة ، يتبين التناقض الذي تقع فيه القوة الجديدة المنفردة بزعامة العالم ، وتنضح الحيرة العاصفة التي تسود مجتمع النخبة في الغرب . فقد كتب هنتنجتون في عدد شهري ( نوفمبر – ديسمبر 1996 ) من مجلة ( شؤون خارجية ) 
(6)، دراسة تحت عنوان مثير للغرابة فعلاً: الغرب : متفرد وليس عالميا ًUnique Not universal west The ،يفرق فيها بين ( التحديث ) Modernization وبين (التغريب) westernization ، ويقول : إن شعوب العالم غير الغربية لا يمكن لها أن تدخل في النسيج الحضاري للغرب حتى وإن استهلكت البضائع الغربية وشاهدت الأفلام الأمريكية واستمعت إلى الموسيقى الغربية ، فروح أي حضارة هي اللغة والدين والقيم والعادات والتقاليد ، وحضارة الغرب تتميز بكونها وريثة الحضارات اليونانية والرومانية والمسيحية الغربية ، والأصول اللاتينية للغات شعوبها ، والفصل بين الدين والدولة ،وسيادة القانون ، والتعدّ دية في ظل المجتمع المدني ، والهياكل النيابية ، والحرية الفردية.
ويضيف قائلاً : إن التحديث الاقتصادي لا يمكن أن يحققا التغريب الثقافي في المجتمعات غير الغربية ، بل على العكس ، يؤديان إلى مزيد من التمسك بالثقافات الأصلية لتلك الشعوب . ولذلك فإن الوقت قد حان لكي يتخلي الغربً عن وهم العولمة ، و‘ن ينمّي قوة حضارية وانسجامها وحيويتها في مواجهة حضارات العالم . وهذا الأمر يتطلب وحدة الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، ورسم حدود العالم الغربي في إطار التجانس الثقافي.
فهل هذه العولمة التي تسعى إلى تذويب الهويات وطمس معالمها وتهجينها هي صيغة جديدة من صيغ المواجهة الحضارية التي يخوضها الغربُ ، بالمفهوم العام للغرب ، ضد هويات الشعوب وثقافات الأمم ،ومن أجل فرض هيمنة ثقافة واحدة ، وإخضاع العالم لسيطرة حضارة واحدة ؟.
إن الهوية المفروضة على المجتمع الدولي بهذا المفهوم تتعارض ُ – تعارضاً تاماً مع قواعد القانون الدولي ، ومع طبيعة العلاقات الدولية ،بل أنها تتعارض كلية مع سنة التعدّد التي هي من السنن الإلهية، ومع قانون التنوّع الثقافي . والعولمة إذا سارت في الاتجاه المرسوم لها ستكون إنذاراً بانهيار وشيك للاستقرار العالمي ، لأن هذه الهوية المفروضة على المجتمعات الإنسانية والتي تسير في ركب العولمة بهذا المضمون ، تضرب الهوية الثقافية والحضارية في الصميم وتنسف أساس التعايش الثقافي بين الشعوب . كما أن العولمة بهذا المفهوم الشمولي ذي الطابع القسري ، ستؤدى إلى فوضى على مستوى العالم ، في الفكر والسلوك وفي الاقتصاد والتجارة ، وفي الفنون والآداب ، وفي العلوم والتكنولوجيا أيضاً.
وعلى الرغم من ذلك كله ، فإن الإنسانية لا تملك أن تتحرر في الوقت الراهن من ضغوط العولمة الكاسحة للهويات والطامسة للخصوصيات ، نظراً إلى حاجتها الشديدة إلى مسايرة النظام العالمي الجديد في اتجاهاته الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية ، ومواكبة المتغيرات الدولية في هذه المجالات جميعاً ولكنها تستطيع إيجاد تيار ثقافي إنساني مضاد يقف في مواجهة روح الهيمنة التي تنطوي عليها هذه العولمة فكرةً ونظاماً ، وتطيبقاً وممارسةً ، وفي التعامل مع الآثار المترتبة عليها ، في انتظار بروز قوى عالمية جديدة ستكون مناوئة للقوة المتحكمة حالياّ في مقاليد النظام العالمي ، أو على الأقل منافسة لها منافسة النّد للند.
إن طائفة من علماء المستقبليات ومن الدراسيين الاستراتيجيين ، ومعظمهم من الغرب نفسه يذهبون إلى القول بأن تطوراً حاسماً سيقع في ميزان القوى العالمية على المستويين السياسي والاقتصادي في العقد الأول من القرن القادم ، وسيترتب على ذلك ، انقلابُ جذري في توجهات العولمة، وهو الأمر الذي سيكون تعزيزاً وترسيخاً وإعلاءً للشرعية الدولية القائمة على قواعد القانون الدولي ، لا على منطق القوة والغلبة والظفر في معارك الحرب الباردة 
(7).
ثالثاً: دلالة الثقافة ومضمونها:
الثقافة هي روح الأمة وعنوان هويتها، وهى من الركائز الأساسية في بناء الأمم وفي نهوضها فلكل أمة ثقافة تستمد منها عناصرها ومقوماتها وخصائصها ، وتصطبغ بصبغتها، فتنسب إليها .
وكل مجتمع له ثقافته التي يتسم بها، ولكل ثقافة مميزاتها وخصائصها . ويعرف التاريخُ الإنساني الثقافة اليونانية ، والثقافة الرومانية ، والثقافة الهلينية ، والثقافة الهندية ، والثقافة المصرية الفرعونية ، والثقافات الأفريقية وثقافة أمريكا اللاتينية، والثقافة الفارسية. ولما استلم العرب زمام القيادة الفكرية والثقافية والعلمية للبشرية في القرن السابع للميلاد ،ة واستمروا في مركزهم المتميز إلى القرن الخامس عشر منه، عرف العالم الثقافة العربية الإسلامية في أوج تألقها ، حتى إذا ما تراجع العرب والمسلمون عن مقدمة الركب الثقافي العالمي ودبّ الضعف في كيانهم ، وتوقفوا عن الإبداع في ميادين الفكر والعلم والمعرفة الإنسانية ،انحسر مدّ ثقافتهم ،وغلب عليهم الجمود والتقليد ، وضعفوا أمام تيارات الثقافة الغربية العاتية التي أثرت بقوة في آدابهم وفنونهم وطرق معيشتهم.
والثقافة كلمة عريقة في اللغة العربية أصلاً فهي تعني صقل النفس والمنطق والفطانة ، وفي القاموس المحيط : ثقف ثقفاً وثقافة، صار حاذقاً خفيفاً فطناً ، وثقفه تثقيفاً سوّاة، وهي تعنى بتثقيف الإنسان ، تسويته فكراً ووجداناً وتقويمه سلوكاً ومعاملة.
واستعملت الثقافة في العصر
الحديث للدلالة على الرقّي الفكري والأدبي والاجتماعي للأفراد والجماعات .والثقافة ليست مجموعة من الأفكار فحسب ولكنها نظرية في السلوك بما يرسم طريق الحياة إجمالاً ، وبما يتمثل فيه الطابع العام الذي ينطبع عليه شعبُ من الشعوب ، وهي الوجوه المميزة لمقومات الأمة التي تميّزُ بها عن غيرها من الجماعات ، بما تقوم به من العقائد والقيم واللغة والمبادئ، والسلوك والمقدسات والقوانين والتجارب . وفي الجملة فإن الثقافة هي الكلُّ المركّب الذي يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات 
(8).
وتتميز الثقافة عموماً بعدة خصائص ، منها : 
1. أنها ظاهرة إنسانية ، أي أنها فاصل ُُُ نوعيُّ بين الإنسان وسائر المخلوقات لأنها تعبير عن إنسانيته ، كما أنها وسيلته المثلي للالتقاء مع الآخرين .
2. أنها تحديدُ لذات الإنسان وعلاقاته مع نظرائه ، ومع الطبيعة ومع ما وراء الطبيعة ، من خلال تفاعله معها ، وعلاقاته بها ، في مختلف مجالات الحياة.
3. أنها قوام الحياة الاجتماعية وظيفةً وحركةً ، فليس من عمل اجتماعي أو فنيّ جمالي أو فكري يتم إنسانياً خارج دائرتها . وهي التي تيسّر للإنسان سبل التفاعل مع محيطة مادةً وبشراً ومؤسسات.
4. أنها عملية إبداعية متجدّدة ، تُبدع الجديد والمستقبليُ من خلال القرائح التي تتمثلها وتعبّر عنها ، فالتفاعل مع الواقع تكييفاً أو تجاوزاً نحو المستقبل، من الوظائف الحيوية لها.
5. أنها إنجاز كمّي ُ مستمر تاريخياً ، فهي بقدر ما تضيف من الجديد ، تحافظ على التراث السابق ، وتجدّد قيمه الروحية والفكرية والمعنوية ، وتوحّد معه هوية الجديد روحاً ومساراً ومثلاً ، وهذا هو أحد محركات الثقافة الأساس، كما أنه بُعدُ أساسُ من أبعادها 
(9).
وتتسم الثقافة العربية الإسلامية أساساً بسمتين : أولهما هي سمة الثبوت فيما يتعلق بالمصادر القطعية ، وما جاءت به من عقائد وتشريعات وقيم ومناهج وثانيتهما هي سمة التغيير فيما يتعلق باجتهادات المسلمين وإبداعاتهم القابلة للصواب والخطأ ،وبالتالي الاختلاف ، فالجانب القطعيُّ في الثقافة العربية الإسلامية ،يتسم بما يتسم به الإسلام من خصائص بصفته ديناً ومنهاجاً للحياة . وتتجلى هذه الخصائص في : العالمية، والشمولية، والوسطية ، والواقعية ، والموضوعية ، والتنوع في الوحدة 
(10).
ومصادر الثقافة العربية الإسلامية هي القرآن الكريم والسنة النبوية باعتبارهما المعين الأساس للعلوم الإسلامية واللغة العربية ، والمرجع الذي يهتدي به المسلم في بحثه عن الحقائق في مجالات المعرفة والوجود والقيم، وفي ما يتعلق بالفكر والواقع والنظر والسلوك.
والقرآن الكريم يُعدُّ المصدر الأساس للثقافة العربية الإسلامية بفضل ما ورد فيه من تعاليم دينية وأخلاقية واجتماعية ، ولكونه صالحاً لكل زمان ومكان ومسايراً لمتطلبات كل عصر ومستجداته.
وتشكّل السنة النبوية المصدر الثاني الأساس للثقافة العربية الإسلامية . وكما اعتمد المسلمون في نهضتهم الفكرية والعلمية والحضارية على القرآن ودعوته ، اعتمدوا كذلك على سنة نبيهم بعد أن جمعوها ودوّنوها وفصّلوا أبوابها واستثمروها في جهودهم العملية ومناهجهم المعيشية . وبذلك تكون الثقافة العربية الإسلامية المنطلقة أساساً من القرآن والسنة ثقافة إنسانية متفتحة ، داعية إلى التعايش والحوار والتفاهم 
(11).
ويستنتج من هذا كله أن الثقافة العربية الإسلامية تختلف عن الثقافات الأخرى في أن مقوّمات كلً منها تختلف عن الأخرى، فالثقافة العربية الإسلامية إسلامية المصدر ، تستمدّ كيانها من القرآن الكريم والسنة النبوية واللغة العربية ، واجتهادات العلماء ، وعصارة الثقافات التي اختلطت بها وامتزجت عناصرها معها ، بينما نجد الثقافة الغربية على وجه الإجمال ، تستمد ّ مصادرها من الفكر اليوناني، والقانون الروماني ، والأدب اليوناني، واللغة اللاتينية ، وتفسيرات المسيحية التي وصلتها 
(12).
ولقد وازنت الثقافة العربية الإسلامية بين جوانب العقل ، وجوانب الوجدان ، ورفضت الإعلاء من شأن العقل على نقيض من النقل ، وإعلاء الصوفية للوجدان ، وحافظت على المفهوم المتكامل الجامع. كذلك فقد حرصت الثقافة العربية الإسلامية على ارتباطها بالمصدر الأول من القرآن والسنة على مدى مراحلها 
(13) . ولم يقع الانفصام بين الجانبين في  الثقافة العربية الإسلامية إلاّ في هذا العصر ، وهذا الانفصام هو أحد عوامل ضعفها اليوم. والثقافة العربية الإسلامية عربية في لغتها ،  إسلامية ُ في جذورها إنسانية ُ في أهدافها وهي كشأن كل ثقافة تتكون من مقومات أساس : فكرية وروحية ، أهمها العقيدة، وهي الإسلام واللغة العربية وآدابها والتاريخ والتراث ، ووحدة العقلية والمزاج النفسي . وقد تأكّد أنه لا يمكن لأية ثقافة من الثقافات أن تنمو ، إلاّ إذا كانت ذات صلة بدين من الأديان ، فالدين هو الذي يكسب الحياة الاجتماعية معناها ، ويمدّها بالإطار الذي تصوغ فيه اتجاهاتها وآمالها (14).
واللغة العربية مقوّم أساس من مقومات الثقافة العربية الاسلامية، ذلك أن العربية ليست لغة أداة فحسب، ولكنها لغة فكر أساساً0 وحتى الشعوب والأمم التى انضوت تحت لواء الاسلام، وإن كانت احتفظت بلغتها الوطنية ، فإنها اتخذت من اللغة العربية وسيلة للارتقاء الثقافى والفكرى، وادخلت الحروف العربية الى لغاتها فصارت تكتب بها0
ومن اقوى مقومات الثقافة العربية الاسلامية الايمان بالأمة، والثقة فيها0 وهذا الإيمان لابد أن يستمد قوته مكن الإيمان بالله، لأن الإيمان بالله هو الأصل، وهو الينبوع الذى ينبغى أن تًبنى عليه العقيدة، ومن أجله هذه العقيدة أن يؤمن الانسان بأمته، وأن يؤمن العربى والمسلم بأن أمته خير أمة أخرجت للناس0 والإيمان فى الاسلام، كما فى الأديان السماوية – التى جاء بها الرسل- قد دعاء إلى المحبة والإخاء، وهو فى الإسلام بصفة خاصة، يعلم المساواة بين الناس والعطاء قبل الأخذ0 ولذلك فإن التربية الدينية يجب أن تكون أساساً للثقافة العربية الإسلامية 
(15).
والثقافة العربية الإسلامية ليست مجردة، فنحن لانكتفى فيها بالبحث عن أصول الأشياء ولا عن حقائقها وحدها، ولانبحث فيها بحثاً مجرداً، لأن الثقافة جزء من الإنسان، فإذا كان العقل يغذيها، فإنها لاتتبع من العقل وحدة، وإنما تنبع فى النفس البشرية، وتنبع فى الأحاسيس وتنبع فى الذوق، وتنبع أكثر من ذلك فى الوجدان، بل هى أيضاً تتصل بالدجانب الأساس الذى ميز الله به الإنسان عن الحيوان، ألا وهو الضمير 0 إن الثقافة تتصل بالضمير، والضميرُ أعمق وأروع من العقل
(16)0
والضمير الإسلامى هو منبع الثقافة العربية الإسلامية0 ولذلك فهى ثقافة الوجدانت الإنسانى وتلك أهم مميزاتها وأوضح خصائصها0
وعلى هذا الاساس، فإن الثقافة العربية، هى ثقافة الأمة العربية، التى هى أمة اإسلام الذى منه اكتسبت صبغتها، وحملت صفتها، واستندت طبيعتاه0 فلم يكن لهذه الأمة كيانٌ قائم الذات قبل الإسلام ، وإنما كانت قبائل وعشائر لاتجمعها عقيدة، ولايوحدها إيمانٌ برسالة سماوية، حتى إذا بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالإسلام، كان هذا الدينُ الحنيف هو الر سالة الخالدة للعرب0
ولكن كانت الثقافة العربية إسلامية الروح والأصول، مع ذلك ثقافة استوعبتى كل الأمم والشعوب التى انضوت تحت لواء الأمة العربية الإسلامية، ووسعت كل الثقافات التى تعايشت معها، فصارت بذلك ثقافة العرب المسلمين، وثقافة العرب ابلنصارى واليهود، وثقافة كل أهل الأديان وطوائف الملل والنحل التى اندمجت فى الكيان العربى الإسلامى، وعاشت فى ظل الدولة العربية الإسلامية عبر الأومنة والعصور0
إن انتشار الثقافة العربية الإسلامية فى مختلف البلاد التى دخلها الإسلامية، جعل كثيراً من معالم الثقافات المحلية القائمة تتكيف مع مقومات الثقافة العربية الإسلامية، فأصبحت العادات والتقاليد وألعراف تنسجم فى غالب الأحيان مع ثوابت الثقافة العربية الإسلامية، حتى ولو أختلفت فيما بينها فى الممارسة والتطبيق، على أن هذا الاختلاف لايصل الى مجال العقائد والقيم والمقاصد، كما هو الشأن مع الثقافات غير الإسلامية القديمة والحديث
(17)0
وبذلك تكون أهم خاصية تتميز بها الثقافة العربية، أنها امتزجت بالثقافات الأخرى التى كانت سائدةى فى عهود الإسلام الأولى، وتفتحت لعطاء الأجناس والأقوام وأهل الديانات والعقائد التى تعايشت مع المجتمع العربى الإسلامى، فصارت بذلك ثقافة غنية المحتوى ، متعددة الروافد، متنوعة المصادؤر، ولكنها ذات روح واحدة، وهوية متميزة متفردة0
كذلك فإن من أهم خصائص الثقافة العربية الإسلامية الانفتاحَ على الثقافات الشرقية والغربية، مع المحافظة على الأصول الثابتة من دون تجاوزها0 وقد واجهت الثقافة العربية الإسلامية مديداً من التحديات فى تاريخا الطويل ، وهى تحديات المذاهب الفلسفية والأديان والدعوات المختلفة التى كان يزخر بها العالم إبان بعث الإسلام، من بوذية، ومجوسية، ووثنية، وهلينية، وهندية، وغارسية، وقد تحولت هذه المذاهب والفلسفات الى قوى غازية، وحاولت جميعها إثارة الشبهات وتحريق القيم الأساس، والإضرار بالأمة والدولة العغربية الإسلامية والفكر جميعاً
(18)) ولكن الثقافة العربية الإسلامية إنتصرت على هذه التحديات فى الماضى بفضل مقوماتها الصلبة وخصائصها المتفردة0
ولقد أكسبَ هذا الامتزاج والتلاقح الثقافية العربية الإسلامية ثراءً وغنى، وقوة ومناعة، وهى خاصية فريدة وميزةٌ تكاد أن تكون فريدة فى التاريخ الثقافى الإنسانى 0 ويأتى مصدرُ هذا التنوع الذى يطبع الثقافة العربية الإسلامية التى من خصائصها الترغيبُ فى طلب العلم، والحثُ على النظر والتفكير، والحضُ على التماس الحكمة من أى وعاء أو مصدر كانت، والدعوةُ إلى التعارف بين الأمم والشعوب بما يقتضيه ذلك من تقارب بكل معانيه، إلى جانب النهى عن الإكراه فى الدين، وهو المبدأ القرآنى الذى يمكن أن يكون قاعدة للتعايش الثقافى والفكرى فى إطار وحدة الأصل الإنسانى، وهو المبدأ الأصل الذى يختزل كل معانى حرية الفكر التى هى نقيض فوضى الفكر المؤدية وبصورة تلقائية، الى بؤس الفكر المفضى بدوره الى بؤس الثقافة
(19)0
رابعاً: التحديات التى تواجه الهوية والثقافة:-
تتعدد مصادر التحديات التى تواجه الهوية، بقدر ماتضعف المناعة لدى الفرد والمجتمع0 ولكن المصدر الأساس الذى يأتى منه التحدى الأكبر لهوية الأمم والشعوب كافة، يكمن فى السياسة الاستعمارية الجديدة التى تسود العالم اليوم، والتى ترمى إلى تنميط البشر والقيم والمفاهيم وفق معاييرها الجديدة، واسعى إلى صياغة هوية شمولية تفرضها فى الواقفع الإنسانى، فى إطار مزيف من التوافق القسرى والاجماع المفروض بالقوة0
والخطورة فى هذا الأمر، أن قوة الإبها التى تُطرح بها هذه الهوية الشمولية ذات المنزح الغربى، والأمريكى تحديداً، تعمى الأبصار عن رؤية الحقائق على الارض كما هى، مما يؤدى إلى توهم أن هذه الهوية المغشوشة، هى الهوية العصرية ، الهوية الكونية، هوية التحديث والمدنية، الهوية التى ينبغى أن تسود وتقود، ولا هوية الجمود والهمود0
أما كونها هوية عصرية ، فهذا صحيح من بعض الوجوه ، لأنها مفروضة على هذا العصر بقوة الهيمنة والسيطرة والغلبة، وأما كونها هوية كونية، فهذا أبعد مايكون عن حقائق الأشياء لأن فى العالم هويات متعددة، بقدر مافيه من ثقافات وحضارات، أما أنها هوية التحديث والمدنية، فينبغى أن نفهم جيداً أن للحداثة دلالات ومفاهيم ومستويات، فمنها حداثة مادية، وضعية، مقطوعة الصلة بالدين، ومنها حداثة أخلاقية، إنسانية بانية للإنسان بعناصرة المتكاملة وللحضارة فى أبعادها المادية والروحية0
كذلك شأن المدينة فهى على درجات متفاوتة، فليست كل مدنية تُحمد، وهى على كل حال، حمالة أوجه، ففى الحرب العالمية الأولى والثانية، سقط ضحية المدنية فى أوربا واليابان عشرات الملايين من البشر ، وفى هذه المرحلة من التاريخ، تندلع الحروب، وتحتل الدول وتقهر الشهوب ، وترتكب الجرائم ضد الإنسانية بأسم المدينة ايضاً0

لذلك فإن إضفاء صفة المدنية على هذه الهوية الغازية المركبة من عناصر متناقصة والمنطوية على روح العدوان على السيادة الثقافية للأمم واستغفالها والاستهتار بها، تضليل للرأى العام العالمى، وتزوير لإرادة الشعوب، وتزييف للحقائق، واستتهتار بالقيم الإنسانية، وانتهاك للقوانية الدولية، ودفع بالعالم نحو مزيد من الطوارث والحروب والصراعت0
إن إلزام العالم بأسرة، بانتهاج نظام سياسى واقتصادى واجتماعى وثقافى واحد، هو عمل ضد سنن الله فى خلقة، بقدر ما هو خروج على منطق التاريخ وقانون الطبيعة، ولئن كان مصير هذه السياسة الاستعمارية الجديدة سائراً إلى إفلاس لامحالة، فإن هذا لايمنع من استمرارها إلى أمد قد يطول فى طمس الخصوصيات الثقافية والحضارية للهويات الوطنية للأمم والشعوب فى المديين القريب والبعيد0 ولذلك نقول إن الخطر الذى يتهدد الهوية الحضارية والخصوصيات الثقافية، خطر حقيقى واقع فعلاً، ويزحف نحو المزيد من الغزو والاكتساح والعدوان، وهو حقيقة واقعية قائمة فى حياتنا، نعيشها ونشاهد آثارها المدمرة للعقل والوجدان، والمهددة لسلامة الكيان الإسلامى بصورة عامة، باعتبار أن الحرب ضد الكيان الإسلامى بصورة عامة، أن الحرب ضد الهوية، يقصد بها تمهيد الطريق نحو فرض الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية والثقافية0
لقد استبدل الغرب، خاصة القوى الاستعمارية الجديدة، بالركائز الثقافية والدينية القديمة مقولات جديدة تضع الأخلاق فى خدمة الهيمنة والعنف، والدين فى خدمة نظام رأسمالى منتصر، والثقافة وقيمتها فى خدمة فلسفة القوة، وقد باتت نظرة الغرب إلى ذاته تتسم بنرجسية مرضية يلازمها خوف دائم من فقدان السيطرة والدخول فى مرحلة الافوال والانحطاط، كما قال بذلك أكثر من فيلسوف أوربى وأمريكى،فى أكثر من كتاب ومقالة(20)

خامساً: العلاقة بين الهوية والثقافة:-
ثمة علاقة وثيقة بين الهوية والثقافة، بحيث يتعذر الفصل بينهما ،إذ أن ما من هوية إلا وتختزل ثقافة ، فلا بدون منظور ثقافي ، ولا تستند إلى خلفية ثقافية ، والثقافة في عمقها ، وجوهرها ، هوية قائمة الذات.
وقد تتعدّد الثقافات في الهوية الواحدة ، كما أنه قد قد تتننوّ ع الهويات في الثقافة الواحدة ، وذلك ما يعبّر عنه بالتنوّع في إطار الوحدة ، فقد تنتمي هوية شعب من الشعوب إلى ثقافات متعددة ، تمتزج عناصرها ، وتتلاقح مكوّ ناتها ، فتتبلور في هوية واحدة . وعلى سبيل المثال ، فإن الهوية الإسلامية تتشكّل من ثقافات الشعوب والأمم التي دخلها الإسلام سواء اعتنقته أو بقيت على عقائدها التي كانت تؤمن بها ،ة فهذه الثقافات التي امتزجت بالثقافة العربية الإسلامية وتلاحقت معها ، العربية الإسلامية ، فهي جماع هويات الأمم والشعوب التي انضوت تحت لواء الحضارة العربية الإسلامية، وهي بذلك هوية إنسانية ، متفتحة ، وغير منغلقة.
وفي زمن تُفرض فيه العولمة الغازية للهويات والماحية للخصوصيات الثقاقفية علة العالم يفترض أن تخلق الحداثة بنزوعها الكوني ثقافة عالمية وكونية . وإذا كانت صور من هذه الثقافة قد تخلقت عبر العالم خلال تاريخ الحداثة ، فإن الصورة المعاصرة من عولمة الحداثة قد عجّلت بتكوين هذه الثقافة . ولا تفهم ثقافة العولمة إلاُّ في ضوء مفهوم الثقافة المحلية والوطنية . فتلك الأخيرة تتكون من جماع أسالبيب السلوك والأفكار والرموز والفنون التي تميّز شعباً من الشعوب ، وعلى الرغم من تنوعّها الداخلي تتميّز الثقافة الوطنية بالتجانس ، أما ثقافة العولمة فإنها الثقافة التي تتجاوز الثقافة الوطنية ، متخطية حدود الول، وتنتشر من خلال آليات تدفق السلع والأفراد والمعلومات والمعرفة والصور 
(21).
وثقافة العولمة التي تتحدي الهوية والثقافة الوطنيتين ، هي ذات الخصائص التالية:
أ) فهي ثقافة يصاحبها في الغالب خطاب تقني وعملي ، فهي تنقل عبر الوسائل الاتصالية الحديثة ، وهي بذلك مصنوعة بحساب.
ب) وهي نخبوية ، تُفرض من أعلي ، من دون أن تكون لها قاعدة شعبية ، أو تعبر عن حاجات محلية ، أو تلتزم بأشكال ومضمون التراث اللثقافي التي تنتقي منه.
ت) وإذا كانت ثقافة العولمة ثقافة نخبوية ، فإنها نساعد على تركّز القوة. والقوة هنا ليست قوة سياسية فحسب ، بل قوة التكنولوجيا المرتبطة بالمشروعات الصناعية ذات الصبغة الكونية كشبكات الحاسوب والإنتنيت ، وهي ما يطلق عليه تقنيات العولمة TEChnologios 
Of globalization.
ث) وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بثقافة الاستهلاك Consumer culture ، فالعمليات المرتبطة بنشر الحداثة تساعد على نشر القيم والرموز وأساليب السلوك المرتبطة بالاستهلاك .
ج) وهي ثقافة تعمل على خلق نمازج وصيغة موحدة عبر العالم ، كما تدعم نظاماً للصور الذهنية l mages .حول موضوعات خاصة لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالسوق الرأسمالي 
(22) .
ح) وتنطوي ثقافة العولمة التي تنبثق من الحداثة المادية بخصائصها تلك ، على مخاطر عديدة تتهدّد الهوية والثقافة الوطنيتين في آن واحد ، مما يؤكد قوة الترابط والتلازم بين الهوية والثقافة أياً كانتا ،وهو الأمر الذي يستدعى تقوية العلاقة بين العنصرين الرئيسيْن من عناصر الكيان الوطني للأمم والشعوب : الهوية والثقافة لأن في الحفاظ على الهوية والثقافة وقايةً من السقوط الحضاري ، وصيانة ً للذات ، وتعزيزاً للقدرات التي يمكن التصدّيّ بها لضغوط التحدّيات مهما تكن.
سادساً: شروط الحفاظ على الهوية والثقافة الإسلاميتين:
ينبغي أن ننظر إلى الواقع الثقافي والفكري والإعلامي في عامنا من زاوية واسعة ،حتي تتضح لنا الصورة العامة ، وتتبين حقائق الأمور أمام أعيننا ، فنحن نقف اليوم أمام تيار كاسح جارف مندفع ، لا نملك إزاءه إلاُّ التعامل معه بحكمة ويقظة ،ة لأننا لانمتلك شروط المواجهة معه ، ولكننا نتوفر على شروط موضوعية لمواكبته ، والاندماج فيه ، و وللإسهام من موقعن الثقافي والحضاري ، في بناء عالم جديد قوامه العدل والسلام ، والتعايش والتسامح ، والتعاون الإنساني في إطار القانون الدولي ، وتحت مظلة الأمم المتحدة. فهذا هو الأسلوب العملي لتوقي مخاطر العولمة ، وللتغلب على الصعاب والتحدّيات الناتجة عنها ، وللحفاظ على خصوصياتنا الثقافية والحضارية.
إن المنهج الذي ندعو إلى اعتماده في معالجة المشكلات الناتجة عن اكتساح نظام العولمة للهوية والثقافة الإسلاميتين في هذه المرحلة الدقيقة ، يقوم على قاعدة التكامل في البحث عن الحلول للأزمات الحضارية والمشكلات الثقافية ، وينطلق من الرؤية الشمولية إلى الواقع المعيش ، بحيث لايمكن بأي حال ، الفصل بين الأوضاع السياسة والاقتصادية والاجتماعية ، وبين الأوضاع الثقافية والفكرية والإعلامية ، لأنه لاسبيل إلى تقوية الذات بتحصين الهوية والثقافة العربية والحفاظ عليهما ، في ظل أوضاع غير منسجمة مع طموح الأمة، وفي ظروف ليست مواتية، من نواحي كافة .
أن العالم الإسلامي محكوم بظروف صعبة على الأصعدة جميعاً، وينبغي أن نكون صرحاء مع أنفسنا ، نسلم بأن الدولة السبع والخمسين الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، تعاني من مشكلات اقتصادية صعبة ، وبعضها، بل أغلبها، يحتلّ المرتبة الدنيا في السجل الذي تنشره الأمم المتحدة في تقريرها السنوي عن التنمية البشرية في العالم، وتنصف غالبية هذه الدول ضمن الدول ضمن الدول التي تعيش تحت خط الفقر ، إلى جانب المشكلات السياسية التي تعم معظم االبلدان الإسلامية، والتي تنتج عن الازمات والصراعات والحروب، مما يتسبب في عدم الاستقرار، وفي ضياع فرص التنمية، وفي هدر الطاقات والقدرات .
ولا مجال للحديث عن الحفاظ على الهوية والثقافة الإسلاميتين في ظلّ هذه الأوضاع ، فالمجتمعات الضعيفة الممتخلفة عن ركب التقدم الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي، لا تقوى على الدفاع عن خصوصياتها الثقافية وموروثها الحضاري، ولا تملك أن تصدّ الغارات الثقافية والإعلامية التي تواجهها من كل حدب وصوب، ولن تسطيع أن تقف صامدةً في معترك السياسة الدولية بأمواجها المتلاطمة، حفاظاً على مصالحها الحيوية .
ولذلك نرى أن السبل التي يتعيّن على العالم الإسلامي أن يسلكها للحفاظ على هويته وثقافته الإسلاميتين،هي ما يلي :
أولاً : إصلاح الأوضاع العامة إصلاحاً رشيداً شاملاً، في إطار المنهج  الإسلامي القويم ، وبالأسلوب الحكيم، ومن خلال الرؤية الشاملة إلى الواقع في جوانبه المتعدّدة، من أجل اكتساب المناعة ضد الضعف العام الذي يحدّ من حيوية الأمة ويشلّ حركتها الفاعلة والمؤثرة . 
ثانياً : إيلاء أقصى الاهتمام بتطوير التعليم ، والنهوض به، وتحديث  مناهجه وبرامجه، مع التركيز على التنعليم النافع الذي يفيد الفرد والمجتمع ، والذي يربي الأجيال على ثقافة العصر ويفتح أمامها آفاق المعرفة .
ثالثاً : تقوية التعاون بين الدول العالم الإسلامي ، وتعميق التضامن  الإسلامي ، وتحقيق التكامل فيما بينها، وتعزيز العمل الإسلامي المشترك، في إطار تنفيذ الاستراتيجيات التي وضعتها المنتظمة الإسلامية للتربية  والعلوم والثقافة، وصادق عليها مؤتمر القمة الإسلامي في دوراته المتعاقبة .
رابعاً : تسوية الخلافات بين الدول العالم الاسلامي ، والاحتكام إلى مبادئ الإسلام الخالدة لفضّ النزاعات، ولإقامة علاقات أخوية متينة، تحقيقاً للمصالح المشتركة، وجلباً للمنافع، ودراءاً للأخطار التي تهّدد الأمم الإسلامية قاضبة .
فبانتهاج هذه السبل المستقيمة ، تتقوى الذاتية الثقافية، وتصان الهوية الحضارية، وتحفظ الحقوق، ويتعزَّر حضور الأمة الإسلامية في الساحة الدولية فاعلة ومؤثرةً ومساهمة في الحضارة الإنسانية الجديدة .


1. حسن سعيد الكرمي، الهادي إلى لغة العرب،ج1 .
2. أبو البقاء الكَفَوي ، الكليات، ص : 961، تحقيق د. عدنان درويش، ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت 1995م .
3. الشريف علي بن محمد الجرجاني، التعريفات،ص : 257 ، دار الكتب العلمية، بيروت ، 1995م ز
4. الموسوعة الفلسفية العربية ، المجلد الأول ص: 821، معهد إنماء العربي، بيروت ، 1995م .
5. د. محمد عمارة، مجلة (الهلال) القاهرة، فبراير 1997م.
6. ..........
7. د. عبد العزيز بن عثمن التويجري، الحوار من أجل التعايش، ص69، دار الشروق ، القاهرة ،1998م .
8. مَعْلمَة الإسلام، أنور الجندي، المجلد الأول ، ص : 524 – 225 ز المكتب الإسلامي ، بيروت ، 1980م.
9. الخطة الشاملة للثقافة العربية، نشر المنظمة العربية للتربية والعلوم الإسلامية والثقافة ، الطبعة الثانية ، تونس 1996م م ص :16 .
10. الاستراتيجية الثقافية للعالم الإسلامي، نشر المنظمة للتربية والعلوم والثقافة __ إيسيسكو __ الرباط 1997م .
11. المصدر نفسه، ص :52-53.
12. مَعْلمَة الإسلام، ص : 525. 
13. المصدر نفسه ، ص : 530 .
14. المصدر نفسه ، ص : 532.
15. د. سليمان حزّين، أرض العروبة : رؤية حضارية في المكان والزمان . الفصل العاشر عن مقومات الثقافة العربية ودورها في حياتنا القديمة والمعاصرة ، ص: 255، دار الشروق، القاهرة الطبعة الأولى 1993م .
16. المصدر نفسه، ص : 56 .
17. الاستراتجية الثقافية للعالم الاإسلامي، ص56 .
18. مّعْلمَة الإسلام ، ص : 234.
19. د. عبد العزيز بن عثمان التويجري ، مصدر سابق ، ص:104.
20. مسعود ضاهر ، عرض كتاب ( شرق وغرب : الشرخ الأسطوري ) لجورج قرم ، مجلة ( المستقبل العربي ) ، العدد :297، بيروت ، نوفمبر 2003م.
21. د. أحمد زايد ، عولمة الحداثة وتفكيك الثقافة الوطنية، مجلة ( عالم الفكر ) ، المجلد 32، العدد : 1، يوليو __ سبتمبر 2003م ص : 14، الكويت . .
22. مصدر سابق ، ص : 18-17 .

المصدر: http://www.islamtoday.net/files/w_e_di/P_9.htm

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك