جاهليّة العالم وحاكمية الشريعة، موقع الآخر ضمن البنى الأصولية

محمد حلمي عبد الوهاب

 

ما احتاج العقلُ الأصوليّ إلى كثير من إعمال الفكر ليهتمّ بالآخر “المغاير” له دينيا وثقافيا، وإنّما بادر بإعلان “جاهلية العالم” منذ اللحظة الأولى لتشكله متذرعا في ذلك بسيادة وهيمنة ما أسماه “عقلية الغاب” على مقدراتِ العالم. ومن المفارقات الغرائبيّةِ في هذا الإطار أنّ العقل الأصوليّ، وفيما يسوق براهينه لتبرير نظريتهِ هذه، قد تذرّع بالقول: إنّ الجاهليّة الجهلاء التي باتت تسود عالم اليوم ستؤدي حتما إلى نشأةِ حروب وحشيّة وطاحنة، على النحو الذي عانت منه البشرية إبان الحربين العالميتين: الأولى والثانية!

في مقابل ذلك، زاوجتِ الأصوليّة في طرحها بين مصطلحين مهمين في إطار القول بجاهليّة العالم وهما: الجهاد والسلام، مؤكدة أنّ تعطيلَ دور الإسلام قد أدّى إلى تحريك النعراتِ القوميّة والمذهبيّة وصولا إلى الطائفية. ممّا يعني أنّه في حال “عدم تعطيل دور الإسلام” لن يكون لمثل هذه التنويعاتِ والتعددّات السياسيّة والثقافيّة أيّ وجود يُذكر نظرا لسيادة المنظور الأحاديّ والمنطق الاقصائيّ الاختزاليّ الذي يُفهم الإسلام من خلاله لدى العقل الأصوليّ.
وبحسب الأصوليّة الإسلامويّة أيضا، فإنّ الإسلام لا يجوز له أن يخضع بدوره إلى الواقع العالميّ “الجاهلي”، وإنّما يتوجبُ عليه أن يواجهه لا ليتحاور معه وإنما ليُخضعه لتصوراته ومفاهيمه ومنهجه فيُبقي منه ما هو فطريٌ وضروريّ ويتركُ ما هو “طفيلي” ومؤدٍ إلى فساد العالم. وبهذا تتحدد ملامح النظرة إلى النظام العالميّ لدى الأصوليّة في إعمال مبدأ المواجهة لا الحوار، والإقصاء لا القبول بالتعددية، في احتواء الآخر لا تركه يختار طريقة حياته وإلا سيتابع خطى الجاهلية التي تهيمن على العالم!
وتلك معركة مصيرية بحسب الأصولية التي تؤكد أنّه هكذا كان الإسلام يوم أن واجه جاهلية البشرية منذ قرون، وهكذا هو اليوم يواجه الجاهلية في كل زمان ومكان. فالمجتمع الجاهلي، سواء في القرن السابع الميلادي/الأول الهجري أو في القرن العشرين/الرابع عشر الهجري، يتمتع بنفس صفات الجاهلية، وعلى رأسها ظهور الخلل في العقيدة وتعدد صور الشرك العقدي.
وفي المحصلة، تعتبر الأصولية الإسلاموية (سواء في شكلها الحركي أو في شكلها المؤسساتي) عدم الخضوع للقوى الحاكمة واجبا مقدسا لا يمكن المساس به. ليس غريبا إذاً، والحالة هذه، أن يُصدر رموز هذه الحركات بيانات تكفيرية للغرب فيما هم يتمتعون بحق اللجوء السياسي فيه!
وإلى جانب ذلك، تعاملت معظم الحركات الأصولية الإسلاموية مع الأنظمة السياسية القائمة، منذ أوائل العشرينات وحتى اليوم، على أنّها أنظمة جاهلية حتى وإن ادعت عكس ذلك.
وفي السياق ذاته تؤكد الأصولية رفضها القاطع لكافة أشكال التعددية السياسية والدينية (والاقتصادية أيضا حيث لا مجال للحديث عن أية أنظمة اقتصادية أخرى بخلاف ما يسمى بالنظام الاقتصادي الإسلامي)، وذلك بحجة الخوف على المجتمع المسلم من الوقوع في “الفتنة” (فتنة التحزب بالنسبة للسياسة، والتمذهب بالنسبة للدين، وفتنة الوقوع في فح المعاملات الربوية بالنسبة للاقتصاد…إلخ).
ليس غريبا إذا أن تؤكد الأصولية أن انتشار النزعة القومية تعد من أهم النكسات الحديثة التي لحقت بالأمة الإسلامية. وتبعا لذلك، فإن ظاهرة الشخصية الإقليمية أو القومية هي برأي الأصولية “صنعة الاستعمار الكافر، وتقوم على أساس تعميق الفواصل اللغوية والمذهبية والعرقية بما يخدم مصالح الاستعمار المتجددة، ولهذا فإن القومية هي عنصر إضعاف وإثارة تناقضات”.
القومية بهذا المعنى مرفوضة جملة وتفصيلا لدى الأصولية بذريعة أن مهمة الإسلام لا تكمن في الذوبان التام ضمن تضاعيف المفاهيم الإنسانية المفتعلة برأيها داخل أو خارج العالم الإسلامي (تعددية، عِلمانية، ديمقراطية، ليبرالية…إلخ) وذلك بحكم “الأمانة” أو “المسئولية” التي ألقاها الله على عاتق هذه الأمة والتي تستوجب، ضمن ما تستوجب من أمور أخرى بطبيعة الحال، أن لا تُذَل لأحد وألا تُستعبد لأحد لأنّ الله قد قضى أنْ لا “يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا”.
وهذا المعنى تحديدا يتردد كثيرا في أدبياتهم، بمعنى أنه لا يجوز للمؤمن الذي رضي بالاحتكام لشريعة الله مطلقا أن يحتكم لأية شريعة إنسانية أخرى كمرجعية حاكمة لتوجهاته العلمية والعملية “فالمؤمن لا يستحق لقب الإيمان حتى يجعل منهج الله منهجه وشريعة الله شريعته فلا يتخذ من عند بني الإنسان منهجا ولا شريعة ولا نظما لأنّه ما إن اتخذ أيا منها كفر على الفور بألوهية الله”!
بمعنىً آخر، فإنّ كل من يرفض إفراد الله بالإلوهية إنما يكفر معه كل من يُقره على ادعاء حق الألوهية لنفسه، فالطاغوت هو كل سلطان لا يستند إلى سلطان الله وكل وضع لا يجعل شريعة الله أساسا للحياة.
ومن ثم، لا يجوز الاحتكام مطلقا إلى التشريعات العالمية بزعم أن الإنسان لا يملك لا القدرة ولا حتى الاستعداد الذي يؤهله لوضع منهج عادل ومتكامل فيما هو يجهل مآلات رغباتِه وأعمالِه مدللين على ذلك بقوله تعالى: “ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون”.
وانطلاقا مما سبق، ترى الأصولية في الجهاد حلا مناسبا لمواجهة هذا الواقع وتقويمه ليناسب منهج الله ويزيل الجهالة عن المجتمع العالمي المعاصر. ووفقا لهم، فإنّ كل مجتمع تتجمع فيه الناس لروابط لا تتعلق فيه الإرادة الإلهية، كرابطة المال والعاطفة واللغة والإنتاج والأرض والانتماء المذهبي أو العرقي أو حتى السياسي، فهو مجتمع “جاهلي”.
من أجل هذا يتوجب على المسلمين اليوم، وكل يوم، ملاحقة الأصل الذي شرّعه الله “وفتح المواجهة مع الجاهلية التي لا تتحدد بزمان أو مكان. المواجهة التي تهدف إلى هدم الجاهلية واقتلاع جذورها من أجل الشروع في بناء بنيان راسخ وعادل”. ( سيد قطب: المستقبل لهذا الدين)

فالإسلام، بنظر الأصولية، مكلف

أولا بالدفاع عن الأمة والذود عنها ماديا ومعنويا

ثانيا بضمان حرية الدعوة للإسلام وإزالة كل قوة طاغية تمنع وصول هذه الدعوة للعالمين
ثالثا بإقرار سلطان الله في الأرض ومقاتلة المعتدين على هذا السلطان الذين يدّعون “حق التشريع من دون الله”.

يتحصل مما سبق أن الفكر الأصولي ينزع في مجمله لنفي كل تعددية قائمة أو حتى محتملة مستقبلا وهو ما يعبر عنه سيد قطب في عبارة مكثفة يقول فيها: “إنَّ المؤمن هو الأعلى..الأعلى سندا ومصدرا، فمَا تكونُ الأرضُ كلها؟ وما يكونُ الناس؟ وما تكونُ القيمُ السائدةُ في الأرض؟ والاعتباراتُ السائدةُ عند الناس؟ وهْوَ من اللهِ يتلقى، وإلى اللهِ يرجع، وعلى مَنْهَجِهِ يسيْر؟”.

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك