الموقف الثقافي.. وأدب الاختلاف

د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
 

يخرج علينا بين الحين والآخر أشخاص يثيرون قضيةً ثقافيةً ما: علمية أو أدبية أو تاريخية أو جغرافية أو غيرها، نختلف فيها معه كثيراً أو قليلاً، قد لا نؤمن بما يقول إطلاقاً، وقد نؤمن ببعضه ونكفر ببعض، وكلما زاد الاختلاف معه في الفكرة التي يطرحها زادتْ ثورة المجتمع عليه، وعلتْ الأصوات الرافضة له، خاصة حين يشعرون أن صاحبها يحاول أن يزعزع بعض الثوابت، أو يمس شيئا من القيم التي ترسخت في أذهانهم، وهنا يشعر المجتمع أنَّ من مسؤوليته تنبيه المثقفين والنخب إلى ما يُقال، وحثِّهم على الرد عليه، وبيان الفكرة الصحيحة والرأي الدقيق.

أما المثقفون أنفسهم فهم بين مطالبٍ بالرد ومؤيدٍ له، وبين منادٍ بالتجاهل وعدم الالتفات لما يُقال، أما الفريق الأول فيرى أنَّ من واجب المثقف أن يرد الردَّ العلمي على الفكرة المخالفة، إذ إنَّ هذا هو السبيل العلمي الصحيح لنقد الأفكار وبيان عوارها، أما السكوت فقد يُعدُّ ضعفاً علمياً وخواراً ثقافيا، أو تسليماً بالرأي الأخر وإعلاناً ضمنياً لصحته، بينما يرى الفريق الثاني أنَّ الردَّ على مثل هذه الأفكار يمنحها أكبر من حجمها، وأنَّ التجاهل خيرُ وسيلةٍ لتموت الفكرةُ في مهدها، وأنَّ قائلها لا يطلب من ورائها سوى الشهرة ولفت الأنظار.

وأرى أنَّ الأمر يحتاج إلى مزيدٍ من التريُّث والنظر، وعدم التسرُّع في اتخاذ الموقف؛ إذ ينبغي أن يُنظر إلى عدَّة اعتبارات في القضية، وأن تراعى جميع زوايا الفكرة، والإلمام بسياقاتها كافة، حتى يمكن للمثقف أن يتخذ موقفاً واعيا، بحيث يكون التعامل مع المشكلة تعاملاً عقلانيا، وتكون معالجتها صحيحةً وفي غاية الدقة، مرضياً بذلك ضميره، ومخلصاً نيته، وواثقاً بأنه أدَّى واجبه المناط به على أكمل وجه.

وأول هذه الاعتبارات أو الزوايا: النظر في صاحب الفكرة المخالفة، والتدقيق في منزلته الثقافية ومكانته العلمية، ومراجعة نتاجه العلمي والفكري إن كان له نتاج، فإن كان معروفاً بثقافته وعلميته فهذا مما يؤيِّد أحقيَّة الردِّ عليه، ووجوب تبيين أخطائه، أما إن كان غير ذلك فالتجاهل وعدم الالتفات لما يقول أفضل المواقف؛ لأنه ليس من المنطقي أن يُفرِّغ المثقَّف نفسه للردِّ على أفكار الجميع، حتى أولئك الذين لا يعرفون من العلم سوى اسمه، ولا من الثقافة غير حروفها، بل إنَّ الردَّ على أمثال هؤلاء الجهلة مضيعةٌ للوقت، وتحجيمٌ لدور المثقف، وسببٌ من أسباب ضياع هيبته، وفقدان سمته، وضعف شخصيته، وعدم ثقته بأفكاره، ولهذا فإنَّ تجاوز الضعفاء ثقافياً وعلمياً، وإغفال ما يطرحونه من آراء يبغون من خلالها الشهرة ولفت الأنظار هو السبيل الأسلم، والتصرف الأصح.

ثاني هذه الاعتبارات: طبيعة الفكرة المطروحة من حيث معقوليتها ومدى اتفاقها أو تصادمها مع الدين أو التاريخ أو غيرهما من الأمور المسلَّمة، إذ يوجد حدودٌ لمنطقية الفكرة المخالفة، ومعقولية الرأي الآخر، وليس من الصواب أن يكون المثقَّف مستعداً لمناقشة كل فكرة مهما بلغتْ سذاجتها أياً كان صاحبها، وليس منطقياً أن يكون على الدوام مشمِّراً ساعديه للردِّ على كلِّ رأيٍ تجاوز منطقة المعقول ليتمركز وسط دائرة الغباء مهما كان القائل به؛ لأنه ليس المراد من طرح أمثال هذه الأفكار النقاش والحوار والوصول إلى رأيٍ علميٍ سديدٍ فيها، وإنما الشهرة ولفت النظر واستفزاز المجتمع، من خلال مخالفة الواقع ومعارضة المنطق، رغم أنه يعلم في قرارة نفسه -إن أحسنَّا الظنَّ به وبعقله- أنه كاذبٌ أو مخطئ، وأنه ليس سوى متعطِّشٍ للتسلُّق فوق أكتاف هذه الأفكار الغبية ليظهر معها على السطح بعد أن كان في القاع بسبب ثقافته الضعيفة وعلميته المتواضعة.

وهذه من الحيل القديمة التي يمتطيها بعض الجهلة سعياً منهم لأنْ يكون له مكانةٌ في المجتمع، ومحاولةٌ بائسةٌ لأن يتميز ويُشار إليه بالبنان بأي طريقة كانت، ولأنه لا يملك أدوات التميز وأسباب التفوق يلجأ إلى تطبيق قاعدة (خالف تُعرف)، ليستفز المجتمع، وينبهه إلى وجوده، وبما أنَّ أفراد أي مجتمع ليسوا على قدرٍ واحدٍ من الوعي والثقافة ترى بعضهم يندفع في الرد عليه، ويتحمَّس في بيان فساد فكرته، وهو ما ينبغي للمثقف أن ينأى عنه؛ لأنه يعي أنَّ المنطلقات التي يعتمد عليها صاحبنا في فكرته المخالفة لا تمتُّ إلى العلمية الصحيحة ولا المنهجية الدقيقة بصلة، ومثل هذا ينبغي أن يُسفه، وألا يعطى أكبر من حجمه إن كان له ولفكرته حجمٌ أصلا

ثالث هذه الاعتبارات: الأسلوب الذي يُقدَّم بواسطته الفكرة المخالفة، والطريقة التي يُعرض من خلالها الرأي الآخر، إذ يَفترض المثقف أن يكون صاحب الفكرة المخالفة على قدرٍ عالٍ من الأدب والأخلاق والتواضع، وهي صفاتٌ لازمةٌ لمن أوتي نصيباً وافراً من العلم والثقافة، ومن ثمَّ فإنَّ هذه الأخلاق لا بُدَّ أن تنعكس على أسلوبه وطريقة عرضه، وكلما كان الأسلوب أكثر أدباً كانت الفكرة أدعى للقبول وأحرى باحترامها ومناقشتها مهما كانت درجة الاختلاف معها، وفي المقابل فإنَّ احتمالات قبول الفكرة المخالفة تتضاءل حين تُعرض بأسلوبٍ ساخر، ينقصه الاحترام للرأي الآخر، أو بطريقةٍ متعاليةٍ، بحيث ينظر صاحبها إلى المخالفين بازدراء واحتقار، ضارباً بقيم الحوار وآدابه عرض الحائط، ظناً منه أنَّ ذلك مما يقوي فكرته ويدعمها، ويضعف الرأي الآخر ويوهن الفكرة المقابلة.

وهنا ينبغي في رأيي ألا ينجرَّ المثقف إلى تضييع وقته في الردِّ على فكرةٍ عُرضت بهذا الأسلوب؛ لأنه من العبث الحوار مع أصحاب مثل هذه الأساليب، والمثقَّف الواعي الخبير يعي جيداً من خلال تجاربه واطلاعه أنَّ أصحاب النظرة الدونية الذين يتلبَّسهم الغرور والكبر لا ينفع معهم حوارٌ ولا جدال، ولا أرى موقفاً أفضل وأنسب مع فكرةٍ مخالفة عُرضتْ بأسلوب الاستنقاص والسخرية والازدراء إلا التجاهل، فالأدب والأخلاق والاحترام ينبغي أن تكون عتباتٍ مهمةً للدخول في أيِّ حوار أو جدال، ودونهما ينبغي للمثقف أن ينأى بنفسه وبأدبه وأخلاقه عن خوض أيِّ نقاش.

أما رابع هذه الاعتبارات فهو مستوى جماهيرية الفكرة المخالفة، وحجم التأييد الذي يلقاه الرأي الآخر، ومدى قبول المجتمع لما يطرح من رؤية مغايرة، وهذا الاعتبار خاصة يمكن أن يسهم في حجم تفاعل المثقف مع المشكلة، وكيفية معالجته للقضية، إذ إن بعض الرؤى والأفكار المخالفة قد لا يكون لها ذلك الانتشار بين الجمهور، كأن تكون ساذجة أو ضعيفة واهنة إلى درجة أنها لم تقنع أحداً من المجتمع، أو أنها بعيدة كل البعد عن اهتمامهم، إذ إن الاختلاف فيها لا يشكل أمراً ذا بال بالنسبة لهم، أو أن صاحبها أضحى معروفاً بالإثارة وحب الشهرة والاستفزاز فلم تعد حيله تنطلي عليهم، إلى غير ذلك من الأسباب التي يجب أن تجعل المثقف غير متحمس في الرد عليها ومعالجتها، فإن فعل فلا ينبغي عليه أن يعطيها أكبر من حجمها، فيضيع وقته وجهده وفكره في غير فائدة.

إنَّ الأصل في الأفكار المخالفة احترامها وتقديرها، وبسط طرق الحوار معها للوصول إلى الحقيقة المقنعة التي يفترض أنَّ الجميع يبحث عنها ويسلم بها، غير أنه لا بد أن ندرك أننا في زمن بلغ فيه الانفتاح الاجتماعي إلى أقصى مستوياته، إذ صار الجميع -باختلاف مستوياتهم الثقافية والفكرية والعمرية- قادراً على عرض أفكاره ورؤاه، ثم استحضِر طبيعة النفس البشرية في حبها للشهرة والتميز، ومن ثم فليس من المعقول أن يتفرَّغ المثقف للرد على كل مخالف، والحوار مع أي فكرة مضادة، أيا كان قائلها، ومهما كانت سذاجتها.

إن موقف المثقف من الأفكار المخالفة ينبغي أن يكون عقلانيا، فلا يتجاهلها بحجة أنها لا تستحق الرد، أو اعتقاداً أنه بذلك يجعلها تموت في مهدها، ولا يتشنَّج في محاولة إقصائها ويأخذه الحماس في تفنيدها، بحيث يسطر المقالات ويصفف التغريدات للرد عليها، بل عليه أن يكون وسطاً في ذلك، بحيث ينظر إليها من خلال تلك الاعتبارات التي أرى أنها ستساعده في اتخاذ الموقف المناسب منها، وتجعل ما يطرحه من أفكار وردود مقبولاً مقنعاً، بأسهل طريقة وأقل مجهود.

المصدر: http://hewarpost.com/?p=2279

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك