عالم ما بعد الإنسان الأبيض

 
جميل مطر

نحتاج إلى توصيف جديد لحال العالم بوضعه الراهن. نحتاج أيضاً إلى تشخيص واقعي لمظاهر الاضطراب والارتباك والقلق التي يزخر بها الغرب بصفة خاصة والشمال بصفة عامة. نحتاج إلى هذا التوصيف وذاك التشخيص بصفة عاجلة لأننا في دول الجنوب وقد عانينا لقرون عدة من الاختراق القادم من الغرب وهيمنته، نريد تفادي معاناة جديدة بسبب انحسار قوة هذا الغرب، وربما انكساره.

 

 

توقفت طويلاً أمام عبارة وردت في خطاب وزير خارجية روسيا أمام مؤتمر ميونيخ للأمن الذي عقد الشهر الماضي. قال السيد سيرغي لافروف ما معناه أننا نعيش الآن في «عالم ما بعد الغرب». فهمت وربما فهم الحاضرون أنه يقصد أفول أو انحسار نفوذ الدول الغربية وصعود قوى أخرى ومنها أو في صدارتها روسيا باعتبارها تقع في الشرق. الشرق هنا كما تفهمه روسيا هو ما يقع شرق أميركا ودول أوروبا الغربية. روسيا، من وجهة نظر الوزير، بديل صاعد ليحل محل نفوذ الغرب وقوته.

 

 

حين يركز الوزير الروسي على صفة الغرب في خطابه عن عالم الأمس، العالم الذي هيمن عليه الغرب، فإنه يتجاهل عن عمد وإصرار أن روسيا ليست جزءاً من هذا الغرب. يتجاهل أن روسيا في نظر غالبية شعوب العالم لا تختلف كثيراً عن بقية دول أوروبا والولايات المتحدة وكندا وأستراليا. المعيار عند هذه الشعوب لم يكن في أي يوم جغرافياً. إنما كان الهيمنة والاستغلال والظلم وفرض ثقافة غريبة وتفكيك أواصر المجتمع التقليدي، وهذه كلها كانت من أعمال «الرجل الأبيض» الذي احتل أقاليم تسكنها شعوب غير بيضاء فرض عليها ثقافته وعقيدته مقتنعاً أو متعللاً بأنه يحمل رسالة «تحضر وتقدم» يتعين عليه أن يبلغها إلى هذه الشعوب، فإن قاومت أو رفضت استخدم القوة بأبشع صورها أو الخديعة بأذكى تجلياتها.

 

 

حاولت روسيا خلال حربها الباردة مع الغرب التملص من وصمة الغرب بالادعاء أنها دولة متعددة الأعراق والأديان والألوان، إلا أن هذا الادعاء لم ينطل على معظم الشعوب الملونة التي لم تعرف من الروس إلا نخبتهم الحاكمة سواء في عهد القياصرة وامبراطورياتهم أو في العهد الشيوعي والحرب العالمية الثانية والحرب الباردة أو في عهد ما بعد الشيوعية والاتحاد السوفياتي. كانت النخبة بيضاء لا تتميز شكلاً أو لوناً أو عقيدة دينية عن النخب «الغربية» التي قادت مسيرة الاستعمار منذ القرن السادس عشر. يصعب إنكار أن الروس لم يحملوا رسالة إلى الأفغان وبعض الشعوب الآسيوية التي خضعت أو تخضع لهيمنتهم شبيهة برسالة الرجل الأبيض «الغربي» التي حملها إلى شعوب الأميركتين وآسيا ثم إلى شعوب أفريقيا. هناك شعوب عاشت مرحلة الحرب الباردة مستفيدة من صراع روسيا والغرب ومتغاضية عن حقيقة أن روسيا، كدولة أوروبية أساساً وبيضاء بامتياز، لا تختلف عن بريطانيا العظمى وفرنسا والولايات المتحدة. هذه كلها يديرها ويقودها «الإنسان الأبيض» المؤمن بأن أمنه ومستقبله يعتمدان على نجاحه في فرض قيمه الأخلاقية والسياسية على الغالبية الملونة من سكان الكوكب، خصوصاً في الهند والصين واليابان وعديد المجتمعات في أقاليم الجنوب.

 

 

ليس غريباً، ولا أظنه مستهجناً، القول الصريح إن الحصيلة بعد قرون من هيمنة رسالة الرجل الأبيض هزيلة ولا تتناسب مع ما بذل من جهد ودم في ترويجها. وليس من قبيل الشماتة أو المبالغة القول إننا، وكما ألمح الوزير الروسي في مؤتمر ميونيخ، نعيش المرحلة الأخيرة في مسيرة انحسار نفوذ عالم الغرب. الوزير يقصد الغرب الجغرافي ونحن نقصد عالم الرجل الأبيض. المؤشرات عديدة، وما كان السيد لافروف أشار إلى عالم ما بعد الغرب إلا واجتمعت لديه المؤشرات ذاتها وربما المزيد مما يخفى علينا. يحضرني من المؤشرات ما يلي على سبيل المثال وبالتأكيد ليس على سبيل الحصر:

 

 

أولاً: يوماً بعد يوم يتضح حجم الخسائر المادية التي لحقت بالدول القائدة كبريطانيا العظمى وفرنسا والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، أقصد روسيا، نتيجة تدخلاتها الخارجية في عالم الألوان الأخرى من الشعوب غير ذوات اللون الأبيض. عاصر جيلنا خروج هذه الدول العظمى من شرق السويس ومن شمال أفريقيا ومن فيتنام وأفغانستان والعراق تجر أذيال الهزيمة وتدفع نتيجة لها خسائر مادية وبشرية طائلة. هذه الخسائر استمرت تؤثر سلبياً في مسيرة الغرب إلى يومنا هذا.

 

 

ثانياً: تكررت الأزمات الاقتصادية والمالية في مجتمعات الغرب «الرأسمالي» وبالتالي في العالم بأسره لأسباب عدة، أغلبها يتعلق بالعقائد الاقتصادية والاجتماعية التي اعتنقها الغرب ودأب على التبشير بها في مجتمعات أقاليم ما يسمى العالم الثالث، أي العالم الملون. ما زلنا نعيش ترددات أزمة 2008، وفي ظن الكثيرين أنها كانت الأزمة التي تفرز لنا هذه التوترات والمشكلات الاجتماعية التي تضرب الآن، وبقسوة، كلاً من أميركا والاتحاد الأوروبي.

 

 

ثالثاً: تبدو واضحة مظاهر تؤكد ضعف الدول الغربية في التصدي للهجمة العنيفة التي تشنها دول الجنوب مدعومة بروسيا وتيارات يمينية في أوروبا ضد قيم الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان، وهي من أهم البنود في منظومة القيم التي تضمنتها رسالة الرجل الأبيض في القرن التاسع عشر، وظلت تؤكد عليها حكومات الدول الغربية وآخرها إدارة الرئيس باراك أوباما حتى عهد قريب. سهل جداً على العين المجردة ملاحظة الفرق بين العنف الذي مارسه بعض دول الغرب في التصدي لعناد حكام عرب وصينيين وأفارقة الذين رفضوا أو قاوموا الزحف الديموقراطي والحقوقي وبين «الملاحظات» الرقيقة التي تصدر عن شخص مثل أنغيلا مركل في زيارتيها لدولتين عربيتين في شمال أفريقيا، وكذلك المواقف الصريحة لإدارة الرئيس دونالد ترامب من هذه القيم. هناك أيضاً التمرد في أكثر من دولة في شرق أوروبا ووسطها على منظومة القيم التي يعتنقها الاتحاد الأوروبي.

 

 

رابعاً: الشروخ في الجبهة الغربية تتسع. شروخ في الحلف الأطلسي لم تستطع إخفاءها خطب وتصريحات مبعوثي الرئيس ترامب إلى مؤتمر ميونيخ. وشروخ في داخل الاتحاد الأوروبي تعكسها أزمتا اليونان وإيطاليا وقضية التعامل مع المهجرين ودور ألمانيا الجديد كقائد مرشح للغرب في حال انسحب ترامب بأميركا، وشروخ في هيكل الاتحاد بخروج بريطانيا وتهديد من دول أخرى بخروج مماثل.

 

 

خامساً: بعيداً من الجوانب الإنسانية والمشكلات الأمنية والاجتماعية العاجلة والخلافات السياسية في ما بين الدول الأوروبية، يجب الاعتراف بأن أمواج الهجرة واللجوء السياسي التي فاضت على شواطئ أوروبا الجنوبية والولايات الجنوبية في أميركا شكلت ما استحق أن يطلق عليه من جانب التيارات اليمينية في الغرب تعبير الغزو الأجنبي أو زحف الملونين والخوف من أن تتغير التركيبة السكانية لغير مصلحة اللون الأبيض.

 

 

سادساً: لا يخفى أن ظاهرة دونالد ترامب وتوحدها السريع مع ظواهر مماثلة في دول غرب أوروبا أرسلتا إشارة واضحة لشعوب العالم كله بأن الديموقراطية والقيم الليبرالية منتكسة، ولا يوجد ما يوحي برجوع الحال في هذه الدول في القريب العاجل إلى ما كانت عليه. ثم أنه يصعب تجاهل أن انكسارات قد وقعت يصعب إصلاحها.

 

 

سابعاً: لا يمكن إنكار أهمية صعود الصين واحتمالات صعود الهند. كلاهما يهدد، وإن على آجال أطول، بالتمدد والتوسع على حساب مساحات ومصالح عدة للرجل الأبيض.

 

 

هذه المؤشرات وغيرها كثير تدفع الآن دول الغرب إلى اتخاذ إجراءات أعتقد أنها تستحق أن توصف بأنها يائسة، أي تعبر عن وصول الغرب إلى وضع حرج. من هذه الإجراءات الاندفاع لبناء جدار يحمي الولايات المتحدة من «غزو» المهاجرين من أميركا اللاتينية وأسوار على الحدود الشرقية والجنوبية لدول في شرق ووسط أوروبا لوقف الهجرات الإسلامية. منها أيضاً السعي السريع نحو «عسكرة» البحر المتوسط وصحراوات شمال أفريقيا لتشجيع دول هذا الإقليم على وقف مرور المهاجرين من أفريقيا وإغرائها بالمعونات النقدية على أمل أن تنشط في عمليات التنمية الاقتصادية لحض المواطنين على التمسك بأوطانهم. أتصور أيضاً أن الغرب، وفيه روسيا، ربما تنبه وإن متأخراً، إلى ضرورة تحشيد ما تبقى له من نفوذ وقوة والتدخل للمساهمة الجادة في حل بعض القضايا المعلقة، مثل قضايا الإرهاب وفلسطين وفرض وضع إقليمي جديد في الشرق الأوسط، باعتباره الإقليم الأقرب إلى قلب أوروبا، مركز حضارة الشعوب البيضاء، أي ما جرينا على تسميته بحضارة الغرب.

 

http://www.alhayat.com/Opinion/Writers/20678728/%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85...

 

 

 

 

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك