الطّائفيّةُ في اللّغة والاصطلاحِ: بحثٌ في الجذور والمرتكزات وآفاق التّجاوز

امبارك حامدي

 

تواتر في السنوات الأخيرة مصطلح "الطّائفيّة" في الخطاب الإعلاميّ والثقافيّ وفي البحوث الأكاديمية داخل الجامعات وفي مراكز البحث المختصّة على حدّ سواء. وكثيراً ما ورد هذا المصطلح مقترناً بتحليل بعض الصراعات السياسيّة والأحداث العسكريّة والأزمات الاقتصاديّة في البلاد العربيّة على وجه التّخصيص. وتتجاذب مصطلح الطّائفيّة حقول معرفيّة متعدّدة، منها حقل المباحث النفسيّة، حيث للسلوك الطائفيّ دوافع دفينة وردود أفعال فرديّة وجماعيّة نمطيّة، وحقل العلوم السياسيّة بما هو آلية من آليات التّنافس السياسيّ والحزبيّ للاستئثار بالسلطة، وحقل البحث الدينيّ بوصفه فهماً مخصوصاً للدين، به يتميّز أصحابه في عقائدهم وعباداتهم ورموزهم عن غيرهم من المذاهب والنّحل...، وفي مستوى فلسفيّ أكثر تجريداً يطرح المصطلح إشكاليّة الهويّة: هويّة الفرد والجماعة، وعلاقة الهويّة الطّائفيّة بالهويّات الأخرى التي يمكن الاندراج فيها. فهل تمثّل الطّائفيّة هويّة جوهرانيّة ثابتة لا تحول ولا تزول؟ أم هي من صنع التّاريخ، ويعاد تعريفها كلّما تغيّرت السّياقات؟ أيكون التعدّد الدّيني واللّغويّ والإثنيّ وحده سبباً كافياً لنشوء الطّائفيّة، أم أنّ التوظيف الواعي والمقصود هو ما يحوّل ذلك التعدّد إلى هويّة طائفيّة؟ وهل الهويّة الطّائفيّة في البلاد العربيّة قديمة أم حديثة؟ وهل هي دينيّة فحسب أم هي، إلى ذلك، عرقيّة ولغوية ثقافيّة؟ وكيف يمكن تجاوزها؟

يقتضي تفكيكُ الإشكاليات السّابقة النّظرَ في المستوى اللّسانيّ، وبه نرصد مختلف الدّلالات التي اكتسبها المصطلح، وعليه نبني تصوّراً تاريخيّاً لتحوّلاته، نمضي بعده إلى معالجة مصطلح الطّائفيّة دالاً على هويّة ذات خصائص محدّدة، وإلى النّظر في علاقتها بهويّات أوسع هي الهويّة الوطنيّة والقوميّة.

1- الطائفة والطّائفيّة: في أثر الجذر اللّغوي والدّلالات

يشتقّ الاستقصاء اللّغويّ مشروعيّته من التّسليم بكون اللّغة لوحة تنعكس عليها وفيها تجربة جماعة ما في مرحلة محدّدة من مراحل تاريخها، ومن الإيمان بأنّ الكلمات، مهما عرفت من تحوّلات دلاليّة، تظلّ محتفظة بإيحاءاتها الأولى، وإن بدت تلك الإيحاءات ضئيلة أو غير مباشرة. ويقف الدّارس في هذا السياق على أنّ المادة المعجميّة (ط وف)[2] تكشف عن استعمال عامّ يتمحور حول ثلاثة معانٍ رئيسة ستصاحب، كما سنرى، الدّلالات الاصطلاحيّة التي سيكتسبها  مفهوم الطّائفيّة لاحقاً. وهذه المعاني هي:

أ- الحركة الدائرية. ب- الجماعة من الناس وغيرهم. ت- الجزء من كلّ شيء.

أ ـ الحركة الدائريّة: يُعدّ هذا المعنى، بمختلف تنويعاته، أحد أهمّ المعاني التي تدلّ عليها المادّة اللغويّة (ط وف). إذ يقال: أطاف فلان بالأمر: إذا أحاط به، وفي التنزيل: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا) [الإنسان، آية 15]. وقيل طاف به حام حوله. والطواف بالبيت هو الدوران حوله. والطائف: مدينة بالغور، يقال إنّما سمّيت طائفاً للحائط الذي كانوا بنَوْا حولها في الجاهليّة. والطّوفان من كلّ شيء ما كان كثيراً محيطاً مطيفاً بالجماعة كلّها كالغرق الذي يشتمل على المدن الكثيرة. وقد ترتبط هذه الحركة الدّائريّة بزمن معيّن، فيقال: أطاف به وحوله: طرقه ليلاً. وفي التنزيل: (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ) [سورة القلم، آية 19]. وقد يضاف إلى الحركة تدقيق موصول بصفة الطائف وحاله، قال أبو الهيثم: الطائف هو الخادم الذي يخدمك برفق وعناية. قال تعالى …)طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ...) [النور آية 58]، وقد يكون تعبيراً عن هيئة حُلِيّ دائريّ: الطّوف القِلْدُ، أو ثمر ملتفّ بعضُه على بعض: والطائفيّ: زبيب عناقيده متراصفة الحب...، أو حركة دائريّة لحيوان: والطوف والطائف: الثور الذي يدور حوله البقر في الدّياسة.

إنّ استحضار مفهوميْ الطّائفة والطّائفيّة المعاصريْن يكشف عن نسب دلالي لهما مع مختلف صيغ المادّة اللّغوية، ولكنّها دلالات تمّ نقلها من المستوى المادّي إلى المستوى المجرّد، فالحركة الدّائريّة الحسّية في الاستعمال اللّغويّ العامّ يقابلها في المستوى الاصطلاحيّ الدّقيق فعل الالتفاف والتّضامن والتّناصر والالتحام بين أبناء الطّائفة الواحدة...، وتحيل تلك الحركة كذلك على معاني الانغلاق اكتفاءً بمن هو داخل الدّائرة، ورفضاً لمن يقع خارجها. إنّها فعل إقصاء وإبعاد في اتّجاه الخارج، والتحام وتجاذب في اتّجاه الدّاخل. ولا بدّ لحركة الجذب تلك من قطب تتمّ عليه حركة الالتفاف والدّوران: قد يكون فكرة دينيّة أو عرقاً...، تقوم بها جماعة تمثّل جزءاً من المجتمع.

ولئن تعلّقت بعض معاني حركة الدّوران بصيغة الفعل، فإنّ عدداً آخر من المعاني المتقاربة قد تعلّقت بالصيغة الاسميّة وحدها في صورتيْ الإفراد والجمع: طائفة/ طوائف، وعليها مدار النّقطتين الآتيتين:

ب ـ جماعة من الناس أو الحيوان أو الأشياء: تعني كلمة طائفة جماعة من الناس أو فرقة منهم، قال تعالى: (وإنْ طَائِفَتَاِن مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) [الحجرات، آية 9]. وفي التنزيل العزيز كذلك قوله تعالى: (.... وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). [النور آية 2]، قال مجاهد: الطائفة الرجل الواحد إلى الألف، وقيل الرجل الواحد فما فوقه...، وقال عطاء: أقله رجلان. وسئل إسحاق بن راهويه فقال: الطائفة دون الألف. ويقال طائفة من الناس وطائفة من الليل. وفي الحديث: "لا تزال طائفة من أمّتي على الحق...".

ت ـ القطعة من الشيء والجزء منه: والطائفة القطعة من الشيء، كقولك قطعة من الليل، وقول أبي كبير الهذليّ: تقع السيوف على طوائف منهم فيقام منهم ميل من لم يعدل. قيل عنى بالطوائف النواحي، وفي حديث عمران بن حصين وغلامه الآبق: لأقطعنّ منه طائفاً، أي بعض أطرافه. والطائفة من الشيء: جزء منه.

وهكذا فقد دلّ المعطى اللّسانيّ لكلمة "طائفة" على غياب الأحكام المعياريّة، إذ الطّائفة تدلّ على المؤمن وغير المؤمن، وعلى غياب التّحديد، إذ تشير كلمة "طائفة" إلى عالم النّاس وعالم الحيوان وعالم الظواهر الطبيعيّة. واختصّت الطائفة من الناس بفضل تدقيق، فتمّ تحديد عددها، وهو عدد تراوح بين الرجلين والألف. ومثلما أحالت كلمة "الطائفة" على عالم الناس أحالت كذلك على الجزء من الليل وعلى أجزاء جسم الإنسان أي أطرافه، فكانت الدلالة بذلك أكثر تعميماً وحياداً وأبعد عن الدلالات المعاصرة لمفهوم الطّائفة. ولكنّها، مع ذلك، تشترك معها في طابع الجزئيّة الذي يقتضي القول بـ"كلّ" من الناس والأشياء. ومنه أيضاً تسمية ملوك الطوائف، لأنّ كل أمير قد استقلّ بجزء من بلاد الأندلس ككلّ. وفعلاً، فإنّ المفهوم المعاصر لكلمة "طائفة" لا يأخذ معناه كاملاً إلا متى اختصّ جزء من النّاس بأمر ما دون "الكلّ" دون أن ينفصل تمام الانفصال عنه: مذهب داخل ديانة، ثقافة جزئيّة داخل ثقافة شاملة، عرق داخل شعب أو أمّة. ولا معنى، حينئذ، لطائفة عرقية أو دينيّة أو ثقافيّة مستقلّة بذاتها[3].

وأيّاً ما كان الأمر، فإنّ ترتيب المادّة اللسانية وتوزيعها واستقصاء اشتقاقاتها ودلالاتها، قد أوقفنا على غياب المصدر الصناعي (طائفيّة) أو الاسم المنسوب (طائفيّ) بالمعنى المعاصر، وهو ما يعني غيابهما من الاستعمال والتداول في المجال الثقافي العربي، ويترتّب عن ذلك كلّه القول بمحدوديّة التّحليل اللغويّ في المرور من المعنى إلى المفهوم/المصطلح. ويؤكّد ذلك اختلاف المحمول الدّلالي القديم للكلمات: طاف وطائف وطائفة...عن المحمول الدّلالي المعاصر لتلك الكلمات رغم تواترها الكثيف[4]. فهل يعني ذلك غياب ما يعبّر عن اختلاف المذاهب والأديان والأعراق وتعدّدها، وعن تأثيرها في مجرى الحياة العربيّة الإسلاميّة القديمة؟

إنّ غياب المصدر الصّناعيّ والاسم المنسوب (طائفيّة/ طائفيّ)، وعدم انطباق مشتقات مادّة (ط وف) على المعاني المعاصرة إلا بضرب من الاشتراك في بعض الدّلالات العامّة، لا يعني غياب ظاهرة التعدّد المذهبيّ والديني والعرقيّ ولا غياب المفردات اللّغويّة الواصفة بل والسّلوك الطّائفي في التّاريخ العربيّ الإسلاميّ. وهو ما يستدعي الانتقال "من اللغة إلى الثقافة ومن الثقافة إلى التاريخ الوقائعي، بحثاً عن كلمات أخرى، عن رموز أخرى مرادفة..."[5]. وفعلاً، فإنّ البحث يكشف عن توظيف بعض المصطلحات الأخرى للدّلالة على تلك الظاهرة ومنها:

- الشّعوبيّة: مصدر صناعي يشير إلى ظاهرة ظهرت في المجتمع الأموي واستفحل أمرها في العصر العبّاسي، وتشير في مبتدأ أمرها إلى الإيمان بالمساواة بين العرب والأعاجم، ولكنّها سرعان ما تطوّرت إلى حركة تستنقص من العرب وتعيبهم، وقد ردّ عليها الجاحظ (ت 255هـ / 868م) في أغلب كتبه، كما عرّفها وردّ عليها ابن قتيبة (ت 276هـ / 889م) بقوله: "أعاذنا الله من فتنة العصبيّة وحميّة الجاهليّة وتحامل الشعوبيّة، فإنّها بفرط الحسد ونغل الصّدر تدفع العرب عن كلّ فضيلة وتلحق بها كلّ رذيلة، وتغلو في القول، وتسرف في الذمّ"[6]. والملاحظ أنّ الجاحظ وابن قتيبة وغيرهما ممّن انخرط في الرّدّ على الشعوبيّة قد عبّروا عن ذمّهم لها، ولكنّ ذلك لم يمنعهم من الانخراط فيها بالمنافحة عن العرب.

- مصطلح الفرقة: يلاحظ أنّ استعماله قد اقتصر غالباً على الدلالة على المذاهب الضّالة، والنّاجية بدرجة أقلّ. ومن الأوّل كتاب: الفرق بين الفرق وبيان الفرقة النّاجية منهم لأبي منصور عبد القاهر البغدادي (ت 1037م)، وقد تتبّع فيه صاحبه الفرق الإسلاميّة "الضّالة" ولم يخرج عنها إلا لذكر مذهب سقراط وأفلاطون، ولم يكن هذا الخروج تامّاً، إذ كان مدار تحليلِه على من تأثّر بهم من الفلاسفة والفرق الإسلاميّة[7]، ومن الثّاني: حديث الفرقة "الناجية"[8].

- الملّة والنّحلة: وهما مصطلحان متواتران، وقد استعملا بفروقات دقيقة، ولكنها لا تبعد في الغالب عن المعاني التي تدلّ عليها كلمة "فرقة"، وإن كانت أكثر تخصيصاً، ويدلّ على ذلك عنوان كتاب الشهرستاني: الملل والنحل من الفرق والأديان للشهرستاني (ت 549هـ)، وكتاب الفصل في الملل والنّحل لابن حزم الأندلسي (ت 1064م). ويلاحظ أنّ لفظ "نحلة" ذو إيحاءات سلبية، ففي لسان العرب: النّحلة الدعوى، والنّحلة النّسبة بالباطل، ومنه انتحل فلان شعر فلان أو قول فلان إذا ادّعى أنّه قائله. وقد يرادف لفظ "نحلة" لفظ "دين". وفي اللّسان، يقال: ما نحلتك؟ أي ما دينك[9]. أمّا لفظ "ملّة"، فيبدو أنّه أقربُ إلى الحياد، إذ يدلّ على معاني الشرع والدّين منسوباً إلى المؤمنين وإلى الكفار على حدّ سواء: قال تعالى: (فَاتَّبِعُوا ملّة إِبْراهِيم) [آل عمران: 95]، وقال: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ...) [البقرة: 120].

نخلص ممّا تقدّم إلى أنّ المعاني اللغوية السابقة: الحركة الدائرية، والجزئيّة، والجماعة الصغيرة، تحضر بوصفها سمات مميّزة في كلمات: شعوبيّة وفرقة وملّة ونحلة، ولكن الجديد فيها هو ظهور الإيحاءات السّلبية التّحقيرية (شعوبية/ عصبية جاهليّة/ فرق ضالّة/ ملّة الكفر/ نحلة أي دعوى كاذبة...)، ولكنّها قد تدلّ أيضاً على معانٍ إيجابيّة متى ظهرت في صيغة المفرد منعوتاً أو مضافاً (الفرقة النّاجية/ ملّة إبراهيم/النّحلةُ الدّينُ...)، وهو ما يعني:

أوّلاً: اعتبار التعدّد نقيصة لأنّه قرين الابتداع المفضي إلى الاختلاف والفُرْقَةِ والضّلال.

ثانياً: دلالة مفردة فرقة خاصّة، (ومفردتيْ ملّة ونحلة بدرجة أقلّ) على ظاهرة الطائفيّة في خصائصها ودلالاتها المعاصرة.

ثالثاً: أنّ الطّائفيّة في التّاريخ العربيّ الإسلاميّ لم تكن مذهبيّة دينيّة فحسب، بل عرقيّة كذلك حين كانت الدّولة الإسلاميّة تضمّ العرب والفرس خاصّة.

رابعاً: ظهور الصّراع الطائفيّ وتجسّده في مستوى اللّغة، ويمكن تحديد هذا الظّهور زمنيّاً بتاريخ ظهور كتب الفرق والمؤلفات في السّجال الشّعوبي، وهي لحظة تحوّل التعدّد والتنوّع الدينيّ أو المذهبيّ أو العرقيّ السّابق تاريخيّاً من معطى ديني مذهبي اجتماعي سالب ومحايد إلى معطى مؤكَّد للاستغلال والتّوظيف السياسي والإيديولوجي من أجل الصّراع على السّلطة والنّفوذ في فضاء مشترك.

2- الطائفة والطّائفيّة: في الدلالات الاصطلاحيّة المعاصرة

تشير كلمة "طائفة" إلى جماعة أو فرقة أو ملّة أو نحلة ذات خصوصيّة مذهبيّة أو دينية أو عرقيّة. ويصحّ وصفها بناء على تلك الخصوصيّة بأنّ لها هويّة. وهي هويّة تحدّد الـ"أنا" و"الآخر" في الآن ذاته. وليس الآخر هنا سوى جماعة أخرى شريكة في الوطن أو الأمّة أو الدّين...، ولا يمكن الحديث عن الطّائفة إلا في إطار هذين البعدين: الدّاخل والخارج. وتتحوّل الطّائفة إلى طائفيّة حين تتحوّل من معطى ديني أو تكوين اجتماعي لا يخلو منه شعب من الشعوب قديماً وحديثاً إلى مرتكز سياسيّ يُتّخذ مطيّة للمصلحة والنّفوذ. حينها تتحوّل الطّائفة إلى طائفيّة، أي من مجرّد اختلاف طبيعيّ إلى اختلاف "مؤدلج"، يتمّ تضخيمه، في مقابل العمل على إقصاء كلّ ما هو مشترك مهما فاقت أهمّيته وجوه الاختلاف شأنَ الخلاف السّني الشّيعي الذي يلحّ فيه بعضهم على الغيريّة والاختلاف، ويهمل قصداً وجوه التماثل الكثيرة[10]. والطّريف أنّ دعاة الطائفيّة ليسوا دائماً من المتمذهبين ولا من المتديّنين، فلا عجب أن ترى قوميّين وشيوعيّين وليبراليين... زعماء طوائف دينية أو مذهبيّة أو إثنيّة.

ولهذا وغيره، يرفض برهان غليون أن تكون مجرّد التركيبة الطّائفيّة للمجتمعات العربية المشرقيّة مشكلة أو "عاهة بنيوية مرتبطة بتكوين المجتمعات العربية المشرقية ذاتها، ولا يمكن فصلها عنها طالما بقيت هذه المجتمعات ذات بنية تعددية"[11]. وإنّما العاهة الحقيقيّة هي أدلجة الطائفيّة باستمرار عبر التّشديد عليها والمبالغة في إظهار عمقها في الماضي، والجزم بأبديّتها في المستقبل من خلال قياس ضمنيّ على ذكريات التّاريخ الحقيقيّة أو الوهميّة التي تجعل من هذا الفكر الانفصالي عاجزاً عن إدراك "التعدّد داخل الواحد، والواحد داخل المتعدّد"[12].

وبناء على ذلك، فإنّه ليس من الدقّة في شيء ما ذهبت إليه الباحثة فنار حدّاد من تهوين من دور ذكريات الماضي والأسس الدينيّة للطائفيّة المعاصرة في البلاد العربيّة مقابل التّأكيد على معطيات السلطة في الحاضر، إذ تقول: "إنّ المنافسة الطّائفيّة، وعند نشوئها، لديها علاقة ضئيلة مع المعتقدات الدينية والفقه وحتى التاريخ الإسلامي المحفوظ في الذاكرة، ولكنْ لديها ارتباط وثيق مع تكوينات السلطة داخل الدولة القومية والرؤى التنافسية والمطالبات بحيز وطني مشترك"[13].

وأيّاً ما كان الأمر، فإنّ معطيات الطائفة وخصائصها تتحوّل بفعل مدبّر ومقصود إلى هويّة توقيفيّة ولا تاريخيّة[14]، وأنّ الطّائفيّة هي إيديولوجيّة صون تلك الهويّة وتعهّد حضورها وتأبيدها تذكيةً للـ"إحساس بالانتماء إلى ديانة بدلاً من الانتماء إلى أمّة"[15]، انتماء يُجسّد الهويّةَ الطائفيّةَ، في مستوى السّلوك الفردي والجماعيّ، تعصّباً وإقصاءً ودغمائيّة، تتمّ ترجمته في الفضاء السياسي الواحد صراعاً مادّياً أو رمزيّاً أو كليهما، بصورة ظاهرة أو خفيّة. وقد تُسارع الشّعوب إلى بعض الحلول الوهميّة التي ترسّخ الظاهرة بدل استئصالها تدريجياً، ومنها تقاسم الفضاء السياسيّ بضرب من التّوافق المستند إلى ميزان القوى والوزن الديمغرافي وحجم الإسناد الأجنبيّ...، شأن "نظام لبنان السياسي الذي يوزّع، وفق الطوائف الدينية (مارونية، سنيّة، شيعية، درزية، أرثوذوكسية...) العضوية في البرلمان والوظائف العامّة الكبرى"[16]. ولعلّ أخطر "الحلول المؤقّتة" هي تلك التي تنخرط فيها الدّولة في المنطق الطائفيّ بدل العمل على تقويضه، إذ هي لا تهرب من مواجهة الحرب الأهليّة والاكتفاء بتأجيلها فحسب، بل هي تضاعف دواعيها، وتمدّ المتربّصين بها بأسس مكينة من المشروعيّة. ذاك شأن النّظام الملكي الخليجيّ "الذي تستند فيه هويّة الدّولة إلى قراءة محدّدة للمعتقدات الدينية السّنية، وأدّى ذلك إلى سياسة تميز طائفي واسعة النطاق مدعومة من قبل الدولة"[17].

إنّ السّياسة التّمييزيّة الرّسميّة التي تنبني على الاختلاف الطائفيّ هي سياسة تقابل طائفيّةً بمثلها. والسّلوك الطّائفيّ للدّولة لا يبرّره ادّعاء تمثيل الأغلبيّة الدّينيّة أو المذهبيّة أو العرقيّة، إذ "كل ممارسة تمييزية خطيرة حتى عندما تُمارس لصالح جماعات عانت"[18]. ولا معنى للقول إنّ النزعات الطّائفيّة المؤسّسة على التعدّدية المذهبيّة أو القبليّة أو العرقية الموروثة تهدّد اللّحمة الوطنيّة أو الادّعاء بأنّها هي من يضعف الرّوح القوميّة، إذ السّبب الحقيقيّ "هو غياب الدولة التي تساوي بين جميع مواطنيها، وتعاملهم كأعضاء رابطة سياسية واحدة ليس لأحد علامة فارقة أو امتياز على آخر، بسبب الدين أو العرق أو المذهب"[19].

فكيف يمكن تفكيك الرّوح الطائفيّة؟

3- في آفاق الانعتاق من الهويّات الطّائفيّة

كلّ هويّة طائفيّة هي هويّة جزئيّة مغلقة وتوقيفيّة ولا تاريخيّة كما أسلفنا، ولا سبيل إلى تفكيكها إلا بالسعي إلى إدماجها في هويّة أوسع مرنة وإبداعيّة، لا تلغي الهويّات الجزئيّة "بل تدفع إلى تفهُّمها، وتقبُّل الآخر المختلف كما هو. ولا تنفي تعارض المصالح وتناقضها أيضاً، ولكنها تجترح لها حلولاً ومقاربات سلمية قائمة على النقاش والحوار والتفاوض، من موقع النّدّية والتكافؤ في الجدارة والاستحقاق، وحين تتأسّس المواطنة على هذا الأساس تنكشف عورة المذهبية، بمختلف صنوفها وألوانها"[20]. ولعلّ الخطوة الأولى في هذه السبيل هي الاعتراف بالاختلاف لا إخفاؤه كما تفعل الأنظمة القوميّة والوطنيّة التوحيديّة العربيّة، إذ أنّ مواجهة الواقع شرط أوّليّ لفهمه وتغييره، لذلك ينبغي، كما يقول أدغار موران، عدم "إخفاء الوحدة عندما تظهر الاختلافات، وتجنب إخفاء الاختلافات عندما تظهر الوحدة"[21]، وعلى هذا النّحو يتحوّل الاختلاف الذي كان يشكّل عاهة بنيويّة في الجسم الاجتماعي، وابتداعاً من وجهة نظر الوعي الدّينيّ المحافظ إلى عامل إثراء وتخصيب من منطلق حداثيّ على النّحو الذي دعا إليه موران في قوله: "ينبغي أن ندرك وحدة تكفل التنوع وتؤيده، وتنوعاً يُسجل داخل وحدة. ألا وهي الوحدة المعقّدة، هو ذا الأمر: الوحدة داخل التنوع، والتنوع داخل الوحدة، والوحدة التي تنتج التنوع، والتنوع الذي ينتج الوحدة، إنّها وحدة معقّدة مولِّدة"[22].

ولمّا كان وَهْم النّقاء العرقيّ والتجانس المذهبيّ وواحديّة الحقيقة.... هو ما يغذّي الهياج الهوويّ الطّائفيّ ويعمّق تلك التي وصفها أمين معلوف بالهويّات القاتلة، تماماً مثلما يغذّيها القهر والظّلم والإقصاء، فإنّه ينبغي "تشجيع كلّ منا على الاضطلاع بتنوعه الخاص وإدراك هويته بوصفها حصيلة انتماءاته المختلفة، بدلاً من اختزالها إلى انتماء واحد تنصّبُ علويّاً وأداة استبعاد وأداة حرب أحياناً"[23]. فلا يكون القصد، حينئذ، القضاءَ على الطائفة ولا تجاهلَها بل توسيعها عبر إدماجها في ما هو أوسع منها، وإظهار نسبيّتها ببيان تاريخيّتها، والاعتراف بها مكوّناً مختلفاً لا يترتّب على الانتماء إليها امتيازٌ ما، وذلك بإقرار المساواة بين جميع المواطنين وسحب الطّائفيّة من سوق المزايدات السياسيّة. أي بإفراغها من محتواها السّلطوي عموماً والسياسيّ منه على وجه الخصوص، سواء أكانت مشروع سلطة حاكمة أم استرتيجيّة سلطة مضادّة، على أن يتجسّد ذلك كلّه في مؤسّسات الدّولة وقوانينها وأنظمتها، إذ لا حلّ لمشكلة الطائفيّة إلا داخل الدّولة: فهي فضاء حلّها مثلما هي إطار نشأتها. فحكم القانون يعيد إلى الفرد فرادته وتميّزه، والثّقة في أنّ حقوقه مكفولة وواجباته محدّدة، فينتفي عنده، حينئذ، الشعورُ بالحاجة إلى الاحتماء من الدّولة بالطائفة.

أمّا الديمقراطيّة فإنّها تُتيح، بتحويل مصدر المشروعيّة من الانتماءات الدينيّة والمذهبيّة والقبليّة إلى الشّعب، فرصاً متساوية وعادلة للجميع بصرف النّظر عن انتماءاتهم، فتُقيم بذلك دولة المواطنة وحكم القانون والعيش المشترك، ويتمّ تحييد أسباب الصّراع تدريجيّاً كما هو الشأن في أوروبا التي اختارت العلمانيّة علاجاً للصّراع الطّائفي ولتدخّل الدّين في السّياسة (بروتستانتي/ كاثوليكي وخاصّة بعد حرب الثلاثين عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت 1638م- 1671). ولا مراء في أنّ الحياة الديمقراطيّة، في مطلق الأحوال، اختيار مناسب لإدارة الاختلافات داخل المجتمع الواحد، غير أنّ الوضع الخاصّ الذي تمرّ به المجتمعات التي سادت فيها الرّوح الطائفيّة طويلاً (كالمجتمعات العربيّة) تحتاج إجراءات خاصّة حتى لا يتحوّل حكم الأغلبيّة إلى مشروع اضطهاد للأقليّة: تحكم فيه طائفيّة مقنّعة باسم الديمقراطيّة، إذ "عندما تكون أقليّة ما مضطهدة، فإنّ الاقتراع الحر لا يحررها بالضرورة، بل قد يسيء إلى وضعها أكثر، لا بدّ أن يكون المرء ساذجاً جداً، أو على العكس وقحاً جداً، لكي يدافع عن فكرة أنّ ترك السلطة لفئة أكثرية يقلص من عذابات الأقليات"[24].

خاتمة

يخلص هذا البحث إلى عدد من النتائج، ويمكن إجمالها على النّحو الآتي:

- أنّ البحث اللّساني في مشتقات المادّة (ط وف) قد كشف عن دلالات عامّة، وعن غياب تامّ لكلمة الطائفيّة بمعناها المعاصر، وهذا لا يعني غيابها في التاريخ العربي الإسلامي، إذ، بالمرور من اللغة إلى الثقافة ومن الثقافة إلى التاريخ الوقائعي، تبيّن لنا أنّ ظاهرة الطّائفيّة قد تمّ التعبير عنها بكلمة أخرى هي: الشعوبيّة والفرقة وبدرجة أقل الملّة والنّحلة. وهو ما يؤكّد قِدم الظّاهرة وتركّز معناها أساساً في التّعبير عن الاختلاف المذهبيّ والعرقي.

- أنّ الطائفيّة هويّة مغلقة وغير إبداعيّة تتحدّد داخل "كلّ" هو الدولة أو الأمّة والدّين الواحد. وبها يتمّ تمثّل الأنا والآخر مع التّركيز على مظاهر الاختلاف وتعميقها بالاستناد إلى التاريخ الحقيقيّ أو الوهميّ، تعضده سرديّات التنافس ورموزٌ مؤسّسةٌ للطائفة.

- أنّ الطائفية إيديولوجيا سلطويّة، تستعمل بوصفها آليات لاقتناص السلطة أو للاحتفاظ بها، وأنّ كثيراً من دعاتها ليسوا من المتديّنين ولا من المتمذهبين أصلاً.

- أنّ تجاوز ظاهرة الطّائفة إنّما يتمّ نظريّاً بقبول الاختلاف والتنوّع، واعتباره معطى إيجابيّاً لا سلبيّاً، لأنّه عامل إخصاب، كما يتّم ذلك التّجاوز بإرساء دولة القانون والمؤسّسات التي لا تميّز بين مواطنيها مهما تنوّعت مشاربهم الدّينيّة والمذهبيّة والعرقيّة، وأنّ الديمقراطيّة هي السبيل الأمثل لإدماج الهويّات الجزئيّة في الهويّة الوطنيّة أو القوميّة الشاملة، على أن يتمّ تلافي آثار التاريخ الطّائفيّ بجملة من الإجراءات الخاصّة حتى لا يتحوّل حكم الأغلبيّة إلى "اضطهاد مشروع" للأقلّيات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) تم نشره في ملف بحثي بعنوان "الطائفية" بتاريخ 27 يوليوز 2016، تنسيق أنس الطريقي.

[2]- ابن منظور، لسان العرب، تح: أمين محمد عبد الوهاب ومحمد الصادق العبيدي (بيروت: دار إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي، ط2، 1997) ج8، مادة (ط وف) ص 222 وما بعدها.

[3]- انظر مثلاً إشارة الباحثة لورنس لويز إلى التنافس السنّي الشّيعيّ في العراق. والتنافس لا يكون، كما هو معلوم، إلا على مشترك، تقول لويز: "الهويّة السنية لديها القليل من الأساطير المميّزة للجماعة وللرموز للتنافس مع التراث الرمزي الغني الذي تتمتع به الهويّة العراقية الشيعية". لورنس لويز (باحثة)، الدولة والهويّات الطّائفيّة في منطقة الخليج، تقرير موجز لمجموعة العمل (عــ7ـدد) (الدوحة: مركز الدراسات الدولية بجامعة جورج تاون في قطر 2015)، ص 8

[4]- وردت اللفظة في القرآن (مفردة أو مثنّاةً) عشرين مرّة، وقد استفدنا من مقال أحمد بيضون: مصطلحا "طائفة" و"طائفيّة": ترسيم لنسبهما الدلالي على نيّة المترجمين، مجلة بدايات، العددان 4، 3، خريف 2012، شتاء، 2013، ص 2 وما بعدها.

[5]- عبد الله العروي، مفهوم الحرية، (بيروت ـ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط4، 2008)، ص 17

[6]- كتب العرب لابن قتيبة، ضمن: رسائل البلغاء محمد كرد علي، (القاهرة: دار الكتب العربية الكبرى، 1913) ص 269

[7]- عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم، (بيروت: دار الآفاق الجديدة ط3، 1978)، الفصل الثاني عشر من الباب الرابع في ذكر أصحاب التناسخ من أهل الأهواء وبيان خروجهم عن فرق الإسلام، مذهب سقراط وأفلاطون، ص 253 وما بعدها

[8]- رواه أبو داود (4597) وغيره وصححه الحاكم (1 / 128)، وحسنه ابن حجر في "تخريج الكشاف" (63)، وصححه ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (3 / 345)، والشاطبي في "الاعتصام" (1/43(

[9]- ابن منظور، لسان العرب، مصدر سابق، ج14، مادة (ن ح ل) ص ص 74، 75

[10]- أدغار موران، النهج، إنسانية البشرية، الهويّة البشرية، تر: هناء صبحي، (أبو ظبي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)، ط1، 2009) يتحدث موران عن آلية الطائفيّة المتمثّلة في التركيز على الغيرية، في مقابل التغاضي عن وجوه التماثل بصورة عامّة، والتمسنا لهذه الفكرة مثال السنة والشيعة. ص 82

[11]- برهان غليون، المسألة الطّائفيّة ومشكلة الأقليات، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط3، كانون الثاني/ يناير 2012، ص 8

[12]- أدغار موران، النهج، إنسانية البشرية، الهويّة البشرية، مرجع سابق، ص 81

[13]- فنار حداد، العلاقات الطائفية، ضمن: السياسة الطّائفيّة في منطقة الخليج، مرجع سابق، ص 7

[14]- علي الصالح مولى، الهويّة توقيفاً: بحث في عوائق الإبداع، مجلة نقد وتنوير (مقاربات نقدية في التربية والمجتمع)، (تصدر عن مركز نقد وتنوير) العدد5، الفصل الثاني، (نيسان/ أيار/ حزيران) 2016، ص ص 277- 312

[15]-www.Larousse.fr.Confesionnalisme

[16]- المرجع نفسه.

[17]- لورنس لويز (باحثة)، الدولة والهويّات الطّائفيّة في منطقة الخليج: البحرين والمملكة السعودية والكويت من منظور مقارن، ضمن: السياسة الطّائفيّة في منطقة الخليج، مرجع سابق، ص 9

[18]- أمين معلوف، الهويّات القاتلة، تر. نبيل محسن (دمشق: ورد للطباعة والنشر، ط1، 1999)، ص 131

[19]- برهان غليون، المسألة الطّائفيّة ومشكلة الأقليّات، ص 9

[20]- جاد الكريم الجباعي، الهويّة والذات والسياسات الهوويّة، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 19 مارس 2016، http://www.mominoun.com ص 2

[21]- أدغار موران، النهج، إنسانية البشرية، الهويّة البشريّة، تر: هناء صبحي، (أبو ظبي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)، ط1، 2009) ص 82

[22]- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[23]- أمين معلوف، الهويّات القاتلة، مرجع سابق، ص 139

[24]- المرجع نفسه، ص 132

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك