السينما بين الاقتباس والأدب

محمد هاشم عبد السلام

 

منذ اختراع السينما، وهي تعتمد وبقوة على استلهام الأدب في الكثير من أفلامها، وقد بات هذا الأمر يشكل حجر زاوية لا غنى عنه في صناعة السينما العالمية. أما في العالم العربي عامة، ومصر خاصة، بوصفها صاحبة أكبر إنتاج سينمائي بين الدول العربية، فقد ابتعدت دائمًا عن الأدب المحلي على وجه التحديد، ولجأت للاقتباس من أعمال أدبية عالمية أو ما كان يُعرف قديمًا بالتعريب أو التمصير، وكذلك اقتباس ونقل بعض الأفلام العالمية الذائعة الصيت، وتفريغها في معظم الأحيان من محتواها ومضمونها وإعادة تقديمها في بيئة أخرى مغايرة، وبنكهة زائفة مفتعلة في الأغلب الأعم.

وبالرغم من أن السينما المصرية كانت قد خطت في بداياتها خطوات جريئة ومُبشرة نحو اقتباس الأدب، وبخاصة المسرح ثم الرواية، بداية من فيلم “الباش كاتب” عام 1923 للمخرج محمد بيومي والمأخوذ عن مسرحية للأديب أمين عطا الله أو لاحقُا، مع إخراج محمد كريم عام 1930 لرواية “زينب” للأديب محمد حسين هيكل. لكن، الغريب أن مثل هذه الخطوات لم تسفر لسنوات طويلة عن تجارب عديدة مماثلة تثري السينما المصرية بحيث تشكل تيارًا أو رافدًا من روافد السينما المصرية أو العربية حتى منتصف القرن الماضي. فقط مع انتصاف القرن الماضي، وبروز أجيال جديدة من المخرجين، ومن الأدباء مثل نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وحنا مينا وغيرهم، بدأ الإنتاج الأدبي يُثري وينعش السينما المصرية والعربية ويضخ دماء جديدة، أبعدتها بعض الشيء وإلى حين، عن الاقتباس أو النقل كما في السابق. هذا إلى جانب الاعتماد على الكتابة المباشرة للسينما على يد كتاب سيناريو متخصصين أو أدباء مارسوا كتابة السيناريو.

وقد استمر هذا الإمداد الأدبي للسينما لفترات امتدت تقريبًا منذ خمسينات وحتى منتصف أو ربما أواخر الثمانينات من القرن الماضي. وقد كان من الطبيعي أن يتطور الأمر، وتزداد مع الوقت مساحة الأعمال الأدبية في السينما، لكن العكس تمامًا هو ما حدث، إذ راح الأمر يقل تدريجيًا. ومع مطلع التسعينات وظهور ما يعرف بموجة المُضحكين الشباب أو الجيل الجديد في مصر على وجه التحديد، بدأ الاقتباس يطل برأسه من جديد، لكن بصورة مغايرة تمثلت على نحو فادح في نقل أفلام بأكملها، دون أدنى تغيير. الأمر الذي جعل الكثيرون يطلقون على تلك الممارسات سرقات أو انتحالات سينمائية، وقد وصلت درجة انتفاء الإبداع والمهنية والإخلاقية إلى حتى سرقة ملصق الفيلم الأصلي. والمثير في الأمر، أن الكثير من تلك الأعمال، المسروقة عن الأصول الأجنبية، هي في الأصل مأخوذة أو مقتبسة من أعمال أدبية. أي أن السينما في النهاية لجأت للاعتماد على نصوص أدبية، لكن عبر سرقتها من أعمال فنية أخرى، دون الذهاب مباشرة للنصوص الأصلية والاعتماد عليه أو محاولة معالجتها على نحو مغاير.

وهذا هو ما يثير ويطرح عدة أسئلة مهمة، من بينها، لماذا لم تعد السينما العربية والمصرية تلجأ كما لجأت في الماضي إلى الاعتماد على الأدب العالمي أو العربي؟ لماذا انفصلت السينما تدريجيًا عن الأدب، وبات بينهما شبه انفصام حتى هذه اللحظة لا يعرف له أحد أي سبب جوهري، وذلك على الرغم من أن عقد التسعينات بدا مبشرًا بعض الشيء، مع إخراج داوود عبد السيد لفيلمه “الكيت كات” عن رواية مالك الحزين لإبراهيم أصلان عام 1991، والذي حقق نجاحًا كبيرًا سواء على المستوى النقدي أو الجماهيري.

والمثير في الأمر، وهو ما يجعل المرء يتوقف عنده كثيرًا، أن السينما المصرية والعربية منذ بداياتها لم تفتقر في أي وقت من الأوقات إلى وجود مخرجين على قدر متميز من الثقافة والتعليم ومعرفة اللغات وحتى العيش والدراسة بالخارج، وبالتالي الاطلاع على التراث الأدبي والإنساني والعالمي ومواكبة كل ما هو جديد بأقلام أدباء العالم المعاصرين. ومن ناحية أخرى أيضًا، لم يعدم الأدب العربي الكتاب أصحاب الأقلام المتميزة والفريدة منذ مطلع القرن الماضي، الذين درسوا أيضًا وتثقفوا وعاشوا واحتكوا بالعديد من الثقافات، وشاهدوا الكثير من الأفلام واطلعوا على مختلف المدارس السينمائية وتأثروا بها، وحتى أثرت بعضها في كتاباتهم.

في دراسة مقارنة حديثة أعدها الأديب والمبدع وكاتب السيناريو البحريني فريد رمضان حملت عنوان “الرواية العربية والخطاب السينمائي”، ألقاها في إحدى جلسات “مؤتمر الرواية العربية” الأخير الذي أقيم بالقاهرة عام 2015، أورد قائمة بأسماء أفضل مائة رواية عربية، كان قد أصدرها “الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب” في عام 2001، رصد من خلالها فريد رمضان كيف أن الغالبية العظمى من هذه الروايات، رغم شهرتها وذيوع اسم كتابها وامتدادهم على مستوى العالم العربي، لم يتم تقديمها على الإطلاق في السينما العربية. وعلى حد ذكر فريد في شهادته “وهي مفاجأة مخيبة للآمال في عدم التفات الصناعة السينمائية لهذه القائمة”، وكيف أن “10% تقريبًا من المائة رواية، قد تمَّ تحويلها إلى السينما، مع التأكيد أن 8% من هذه الروايات تمَّ تحويلها قبل ظهور القائمة، وفيلمين فقط تمَّ إنتاجهما بعد ظهور القائمة، وهما: روايتا “الخبز الحافي” لمحمد شكري من المغرب، و”باب الشمس” لإلياس خوري من لبنان”.

ومع اختيار عينة تمثلت في أول عشر روايات جاءت على رأس هذه القائمة، وهي: “الثلاثية” لنجيب محفوظ من مصر، و”البحث عن وليد مسعود” لجبرا إبراهيم جبرا من فلسطين، و”شرف” لصنع الله إبراهيم من مصر، و”الحرب في بر مصر” ليوسف القعيد من مصر، و”رجال في الشمس” لغسان كنفاني من فلسطين، و”الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” لإيميل حبيبي من فلسطين، و”الزمن الموحش” لحيدر حيدر من سوريا، و”رامة والتنين” لإدوارد الخراط من مصر، و”حديث أبو هريرة” لمحمود المسعدي من تونس، و”كوابيس بيروت” لغادة السمان من سوريا، يتضح لنا أن “الثلاثية” و”الحرب في بر مصر” و”رجال في الشمس”، هي فقط الروايات التي تم تحويلها إلى السينما، وكان هذا قبل ظهور تلك القائمة.

وعلى غرار ما فعله فريد رمضان، لو طبقنا الأمر على الكثير من جوائزنا الأدبية في العالم العربي، من الجوائز الرسمية في مصر ومرورًا بجائزة “ساويرس” الخاصة، وعلى المستوى العربي، جائزة “البوكر” بقائمتيها القصيرة والطويلة، وجائزة مجلة “الصدى” الإماراتية، وكذلك أحدث الجوائز العربية وهي “كتارا” القطرية، لتوصلنا إلى نفس النتيجة، بل إلى ما هو أفدح منها، حيث لم تحول سوى رواية واحدة هي “الفيل الأزرق” لأحمد مراد إلى فيلم بنفس العنوان، وذلك في العام الماضي 2014، من بين كل تلك الأعمال الأدبية التي ترشحت أو فازت بتلك الجوائز.

إن محاولة الوصول إلى إجابات شافية حول سبب عزوف السينما عن الجنس الأدبي، في حين تلجأ إلى أفلام أخرى أجنبية أغلبها مأخوذ عن نصوص أدبية، ليست بالأمر السهل. فهي تارة تعزى لصعوبات إنتاجية، وأخرى لعزوف الممولين خشية ضعف الإيرادات نظرًا لعدم الإقبال الجماهيري، وأحيانًا لعدم ملائمة الإنتاج الأدبي أو ضعفه أو تدني مستواه حتى تقترب منه السينما! وأحيانًا أخرى لعدم مقدرة كتاب السيناريو على التعامل مع نصوص أدبية وتحويلها إلى صورة بصرية سينمائية، وفي أحيان قليلة لرفض الكاتب تحويل نصوصه إلى السينما خشية عدم التزام المخرج أو كاتب السيناريو بروح النص وإفساده.

وأخيرًا وليس آخرًا، قلة العائد المادي أو صعوبة الحصول على الحقوق الأدبية، خاصة لو كان الأمر له علاقة بعمل أدبي عالمي. ربما مرد الأمر في النهاية لأحد هذه الأسباب أو لها جميعًا أو لأخرى مغايرة. لكن في الختام يظل الأمر على ما هو عليه، حيث السينما في عالمنا العربي بعيدة تمامًا عن عالم الأدب، بل وتمعن في الابتعاد أكثر وأكثر مع مرور الأيام، مفضلة ضعفها الفني وقلة إنتاجها، وترممها على السينما العالمية التي تقتبس وتنسخ منها، عوضًا عن الالتفات للكثير من الأعمال الأدبية القيمة التي قد تعيد جمهور السينما إلى المقاعد ثانية كما في فترات كثيرة القرن الماضي.

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك