المعتقد والمواطنة: أيّة علاقة؟ جواب الفيلسوف الفرنسي "أليكسي دوتوكفيل" والنموذج الأمريكي

حنان درقاوي

 

ورثنا عن الأنوار الفرنسية فكرة مفادها أنّ المعتقد يجب أن يتراجع لتتقدّم الحضارة، فكرة تعمّقت في الدول الغربية إلى أن صارت الأديان مناقضة للديمقراطية والمواطنة.

أنهى أوغست كونت الحرب ضدّ الأديان بتقسيمه تطور الفكر الإنساني إلى مراحل يشكّل فيها الدين نقيضًا للعلم الذي يعتبره أحسن مراحل الفكر الإنساني وأكملها.

ماذا لو كانت العلاقة بين الدين والديمقراطية أكثر تعقيدًا وتشابكًا من فكرة التناقض؟

إنّ النموذج الأمريكي يعطي صورة مختلفة عن علاقة الديمقراطية بالدين المسيحي على الخصوص؛ إذ أنّنا ننظر باستغراب إلى الرؤساء الأمريكيين وهم يقسمون على الإنجيل حين تنصيبهم، كما نستغرب تديّن الأمريكيين وحضور الدين المسيحي في بناء المواطن، انطلاقًا من تقصّيه للشأن الأمريكي في القرن التاسع عشر، ألَّف الفيلسوف الفرنسي "أليكسي دوتوكفيل" كتابين عن الديمقراطية في أمريكا، رصد فيهما الجوانب المختلفة لهاته الديمقراطية، ومن أكثر ما استرعى انتباهه قدرة الدين المسيحي في أمريكا على دعم قيم المواطنة المدنية والانسجام مع قيم العصر الديمقراطي.

كان عمر الفيلسوف الفرنسي أليكسي دوتوكفيل ستة وعشرين عامًا حين قرّر السفر إلى أمريكا سنة 1831، كانت فرنسا حينها ممَّزقة بين موالين للديمقراطية ومناهضين لها، وكانت تحت حكم ملكية يوليوز التي أنهت حكم الاستعادة، خلال تلك الفترة حكم فرنسا ملك واحد هو فيليب الأول قبل أن تطيح به ثورة 1848 لتُنشِئ الجمهورية الثانية، وتقطع فرنسا مع الملكية نهائيًّا. كان توكفيل يستشعر قلق الناس في فرنسا، وكان يتساءل "كيف يمكن لأناس يعيشون أفضل الوضعيات؛ أي الديمقراطية، أن يكونوا قلقين بذلك الشكل؟ لماذا لا تمنح الديمقراطية أسس الهناء الفردي والمجتمعي؟ لماذا لا تأتي الديمقراطية بأسس السلام والوداعة، باعتبارها أحسن النظم السياسية والاجتماعية؟.

يفهم دوتوكفيل الديمقراطية بمعنيين؛ فهي:

ـ حالة اجتماعية تتأسس على المساواة في الشروط بين أفراد المجتمع الواحد؛ وهو في هذا التصوّر ينسجم مع مونتيسيكيو الذي أوضح في كتابه "روح القوانين" أنّ الديمقراطية تعني المساواة أولًا وقبل كلّ شيء.

- الديمقراطية بالنسبة إلى توكفيل؛ هي أيضًا نظام حكم سياسي، وهي بهذا تعني المؤسسات والأخلاقيات السياسية التي تؤسّس للعصر الديمقراطي.

يتأسس تصوّر توكفيل للديمقراطية على فكر الأنوار ومركزية فكرة المساواة، لكن كان هناك سؤال مركزي يؤرقه، ألا وهو سؤال الحرية الفردية[1]؛ إذ كيف يمكن الحفاظ على الحرية في مجتمع يعتبر المساواة قيمة القيم؟ كيف يمكن الحفاظ على الحرية في مجتمع يفضل المساواة على الحرية، وفي نظام يتسم بالحركية والقلق وتبعثر الأفكار؟ ما الذي يسمح بتحقيق الحرية؟

سافر إلى أمريكا ليعرف ما يجب أن نأمله وما يجب أن نخشاه من الديمقراطية، حسب تعبير المفكر السياسي والفيلسوف بيير مانون، لقد راقب الوضع السياسي المضطرب في فرنسا الممزقة بين أحزاب سياسية متنوعة المشارب وثورات لا تخمد وحكم الرعب الذي تلا الثورة، كان بعقله يعقل أنّ الديمقراطية هي أحسن النظم السياسية، لكنّه بقلبه ظلّ أرستقراطيًّا وفيًّا في ذلك لانتمائه الأسري؛ فقد عانت أسرته من الثورة وسجن العديد من أفرادها، وقتل البعض الآخر إبّان حكم روبيسبيير، كان يريد محاسن الديمقراطية بدون ثورات، وكان يحنّ أيضًا إلى المجتمع الأرستقراطي حيث العقيدة السائدة هي خدمة الله والملك والحفاظ على الحرية، كان مؤمنًا مع فلاسفة الأنوار بضرورة العدالة الاجتماعية، لكنّه كان يرتاب من مجتمع تغيب فيه التراتبية التي تضمن الروابط الاجتماعية وتضمن استمرار المجتمع، إنّه يكره حكم الجماهير وعواطفهم المتأججة، ويحلم بمجتمع هادئ خالٍ من الثورات، وينعم مع ذلك بمباهج الديمقراطية كنظام سياسي ومنظومة أخلاقية ومجتمعية.

إنّ الحرية هي مبتغاه الأول، فهو يريد الديمقراطية، لكنّه يخشى أن تكون سببًا لطغيان جديد هو طغيان الدولة التي تمنح كلّ شيء للمواطن، إنّه يخشى أيضًا أن تنقطع الأواصر بين الناس، تلك الأواصر من الولاء والتبعية التي يضمنها النظام الأرستقراطي وتنظيمه الطبقي، يخشى أيضًا أن تعمّ الفوضى بين مواطنين لا يحتكمون إلا إلى المساواة، ويشكّل كلُّ واحد منهم ضمانة لحقيقة موغلة في الفردانية، إنّه يرى أنّ الإنسان الجديد محكوم برغبتين متناقضتين؛ إنّه يتخيل دولة قوية متفردة، لكنّها تكون من اختياره، إنّ الانسان الجديد يطمئن إلى ولاية الدولة والمنتخبين، وهو يفكر أنّه يختار ولاته وأنّه حر في ذلك الاختيار، تخوّفه الأكبر هو أن تحرم الديمقراطية الشعب من الحرية.

كان يعرف أنّه في ماوراء الأطلسي بلد جديد يعيش عصره الديمقراطي، وحيث المواطنون أحرار ومستقلون، ولهذا سيسافر إلى ذلك البلد ليقف بنفسه على تسيير هذا البلد الديمقراطي، وسيدوّن سفره الذي دام عامًا كاملًا في كتابيه عن الديمقراطية في أمريكا، سيقف على مميزات الحكم في أمريكا ومنجزاته الديمقراطية، وسيحلّل بعمق آليات اشتغال الديمقراطية الأمريكية في شقّيها السياسي والمجتمعي المدني، سيتطرّق لكافة أوجه التغيير الذي أحدثته الديمقراطية في الإنسان الأمريكي من حيث تغير أخلاقه وطرائق إحساسه وسلوكياته...، سيقف على أخطار الديمقراطية، وسيكون بذلك أول المحللين السياسيين الذين وجّهوا النظر نحو مخاطر الديمقراطية وعثراتها، وهو يلخص هاته المخاطر في الفردانية والعقلانية والمادية. يضاف إلى هاته الآفات شعور عام بالأسى والألم يهدّد بالاكتئاب والانتحار، ما الذي يجعل الناس الذين يعيشون أفضل الوضعيات السياسية قلقين؟

يجيب توكفيل: إنّ الناس بالرّغم من تحسن وضعياتهم فإنّهم خائفون ويلاحقهم شعور بالفناء حتى وهم ينعمون بالراحة المادية، إنّ المساواة في الشروط، كما نادت بها الأنوار، جعلت الأفراد يعيشون معزولين عن بعضهم بعضًا، معتمدين في قراراتهم على العقل الفردي وحده، فقد ابتعد الإنسان الديمقراطي عن إحساسه بأنّه جزء من كلّ، وانفصل عن العقل الكلّي الذي تصوّره الأديان في شخص الله، الإنسان الديمقراطي معزول ووحيد في عالم جديد يتساوى فيه الجميع، وتنهار فيه القيم الدينية والأخلاقية، وتسود فيه نزعات خطيرة وهوس الامتلاك المادي الذي تقويه المساواة؛ إذ أنّ كلّ واحد يعتقد أنّ بإمكانه امتلاك كلّ شيء، إنّ الإنسان الديمقراطي يسقط حبّه اللانهائي للمساواة على عالم متناهٍ، وهو بهذا يتعرّض لاستحالة وجودية، وهذا هو منبع استيائه من الحياة.

هل هذا يعني أنّ المساواة خطأ، ويجب الدعوة إلى نقيضها؟

من خلال النموذج الأمريكي يرى توكفيل أنّ المساواة هي أحسن الوضعيات الإنسانية، لكن يجب أن تصاحبها منظومة قيم تقوم بتعديل النزعات الخطيرة للإنسان الديمقراطي، لابدّ للمجتمع الديمقراطي من ضمانة أخلاقية تهذّب المطامح الفردانية، وتقوم بتهذيب الرغبات المختلفة، لابدّ للديمقراطية من أن تعتمد على نسق قيم وأخلاق. في المجتمع الأمريكي يجد المواطن هذه الضمانة في الديانة المسيحية، هنا يطرح توكفيل السؤال الجوهري في الفلسفة السياسية منذ أوغسطين إلى روسو وموتسيكيو مرورًا بماكيافيل: ما العلاقة بين الدين والمواطنة؟

حسب فلاسفة الأنوار فإنّ الدين يجب أن ينسحب بمقدار ما تتطوّر الأنوار، على المعتقد أن ينسحب لكي تتطوّر الحضارة، لكنّ المثال الأمريكي بالنسبة إلى توكفيل يؤكد عكس ذلك؛ إذ أنّ الدين والديمقراطية لا يشكلان متناقضين في المجتمع الأمريكي، فتعايش الدين والديمقراطية دليل على أنّ الدين يمكن أن يساهم في بناء المواطنة، بل يقوم بتعزيزها والدفاع عنها. توكفيل يتحدث عن الدين بصفة عامة، رغم أنّه يأخذ بعين الاعتبار الاختلافات بين الأديان (الإسلام والمسيحية واليهودية).

من بين ما لاحظه هو أنّ الأمريكيين استطاعوا أن يوفقوا بين الدين والمواطنة، الطابع الديني للمجتمع الأمريكي هو ثاني شيء استرعى انتباه دوتوكفيل بعد المساواة في الوضعيات، إنّ تمازج الدين والمواطنة في المجتمع الأمريكي يجعل توكفيل يعيد النظر في تمثل الحداثة، يقول: "رأيت فيما بيننا روح الحرية وروح الدين يمشيان في طريقين متعاكستين، هنا أجدهما مترابطين في حميميّة"[2].

الأمريكان بالنسبة إلى توكفيل استطاعوا أن يوفقوا بين الدين والحرية، عكس الفرنسيين الذين حاربوا الدين من أجل الحرية، وأشعلوا الحقد تجاهه.

كان سؤاله في جزء هام من كتابه "الديمقراطية في أمريكا" هو: "هل يستطيع الإنسان أن يعيش بدون معتقد؟ أيّ نوع من الأديان يمكنه أن يتوافق مع الديمقراطية؟ هل الدين والديمقراطية متناقضان عقليًّا؟ كيف نطرح سؤال معنى الوجود في بلد يحتقر الأديان؟"

حسب فلاسفة الأنوار؛ فإنّ الأنوار تعني الخروج من عصر الوصاية الدينية إلى عصر الحرية والاحتكام إلى العقل الإنساني، وهو تمثُّل نجد له صدى في الفكر الألماني عند إيمانويل كانط في نص "ماهي الأنوار؟" حيث يؤكد كانط أنّ الأنوار هي الخروج من عهد الوصاية الدينية على العقل، والدخول في عهد القرار الحرّ للإنسان.

تحليل الوضعية الديمقراطية في أمريكا يقود توكفيل إلى اقتراح علم سياسي جديد يطرح التوافق بين بُعدين أساسيين؛ هما: التربية على المواطنة، والدور الاجتماعي والسياسي للدين. إنّه علم إنسان جديد يخلقه توكفيل، وهو يختلف عن الموروث التحرّري للأنوار، ويطرح بإلحاح سؤال المعتقد في العصر الديمقراطي، يستعمل توكفيل هاته العبارة "العصر الديمقراطي" ولا يستعمل كلمة الحداثة مثلًا.

إنّه علم إنسان جديد يطرح سؤال علاقة الفلسفة بالمسيحية ومساهمتها في بناء العالم الحديث، لقد أشار ماكس فيبر إلى دور الأخلاق البروتستانتية في بناء النظام الرأسمالي، لكنّ توكفيل يعيد طرح هذا السؤال الشائك، فالأنوار الفرنسية أتت بفكرة ضرورة انسحاب المعتقد لكي تتطور الحضارة، ولايخفي توكفيل أنّ الفلاسفة الذين أثروا فيه هم: روسو، ومونتيسكيو، وبليز باسكال. إنّه يظلّ مخلصًا لروح القوانين الجديدة، لكنّ المثال الأمريكي في وحدة المعتقد والمواطنة يخلخل أفكاره الموروثة عن فلاسفة الأنوار، ويؤمن مع فلاسفة الأنوار أنّ العصر الديمقراطي يصنع إنسانية جديدة غير مسبوقة من حيث أخلاقياتها وإحساسها بالعالم، يعرف كلّ ذلك، لكنّه يحسّ أيضًا أنّ الاحتكام إلى العقل الفردي أبعد الإنسان الديمقراطي عن حاجته الطبيعية لأن يكون جزءًا من كلّ. لقد جرّده من حاجته إلى تفكير يفسّر معنى وجوده، ويمنحه الأمل وهو يجد في الدين المسيحي جوابًا عن سؤال الفناء والأمل، لقد رأى أنّ قيم الأنوار هي امتداد لقيم المساواة المسيحية التي هي بنفسها امتداد للقيم الفلسفية الإغريقية والحكم القديمة، فالديمقراطية لا يمكنها أن تعوّض الدين؛ لأنّه ليس لديها ما تقوله عن أشياء السماء، الديمقراطية تجيب عن أسئلة الدنيوي.

ربما نفكر أنّ المجتمع المدني يمكن أن يعوّض ضعف الدين، لكنّ هناك مشكلًا؛ لأنّ مكان الله الخالي يبقى خاليًا، ويبقى سؤال الفناء مطروحًا، وسؤال الماوراء، وهي أسئلة وحده الدين يجيب عنها. ليس المطلوب أن يتأسس المجتمع على المنطق الديمقراطي فقط، فالإنسان بحاجة لأن تكون لديه فكرة عن الكلّ الذي يحيط به ويتجاوزه، وأغلب الناس لا استطاعة لديهم لفعل ذلك استنادًا على عقلهم الفردي، فوجب أن يستمدّوا هذه الخاصيّة من عقل كلّي يشكّل سلطة عليهم، والبحث عن هذا العقل الكلّي لا يقلل من شأن الإنسان في العصر الديمقراطي.

غالبًا ما تمّ تصنيف أليكسي دوتوكفيل في خانة المفكرين السياسيين، وانتزعت عنه صفة الفيلسوف، لكنّه بتساؤلاته عن المعتقد يصبّ في صلب الفلسفة الحقّة، ويطرح على ساحة النقاش أسئلة عبرت الفلسفة عنها منذ العصر الإغريقي حول وظيفة الدين ومساهمته في تعميق أخلاق المواطنة؛ فقد شكّل الدين في تاريخ المجتمعات الموحدة لاهوتيًّا باعثًا روحيًّا وطاقة حشد للجماهير.

فكيف يمكن الاستفادة منه في العصر الديمقراطي لتقوية ودعم أخلاقيات المساواة والحرية؟ بالنسبة إلى توكفيل، ومن خلال قراءته للنموذج الأمريكي، الدين وحده يمكنه ضبط الديمقراطية وتعديل أحوالها المتقلبة؛ إذ أنّ تخوفه الأساسي هو عدم الاستقرار، وما يغذّي هذا التخوف هو التشنج السياسي في فرنسا. يقول: "حينما يتمّ تدمير الدين في مجتمع ما يتمكن الشكّ من الطبقات الأكثر ذكاءً، وتشلّ الدوائر الأخرى نصفيًّا، يتعود كلّ شخص على أن تكون له نظرة مضطربة ومتغيرة عن الأشياء التي تهمّه وتهمّ الاخرين، فيدافع بشكل سيّئ عن آرائه، أو يتخلى عنها نهائيًّا"[3].

إنّ ما يخيفه هو القلق والشك الذي يمكن أن تأتي به الديمقراطية وارتكازها على حرية الأفراد المطلقة في التفكير، لقد عايش سنوات الرعب التي تلت الثورة الفرنسية والقلاقل التي عادت بملكية يوليوز وبعدها عودة الحكم الجمهوري، ففرنسا تبدو له قلقة ومبعثرة الأفكار؛ ولهذا يرى في النموذج الأمريكي نموذجًا فعّالًا، إنّه البلد الذي تأسّست فيه الديمقراطية بدون ثورات ولا تشنّج.

ما يهمّ أليكسي دوتوكفيل هو الاستفادة من الدرس الأمريكي ومعاينته، ليفهم كيف تغير الديمقراطية الممتزجة بالدين سلوكيات الإنسان، فماهي العلاقة بين الدين والسياسة في العصر الديمقراطي الأمريكي؟ كيف يدعم الدين أركان الجمهورية الديمقراطية؟ هل يتخيل توكفيل هذا الدور كدور سوسيولوجي، أم أنّ هذا الدور يتناسب مع الطبيعة الميتافيزيقية للإنسان؟

يصرّ توكفيل أولًا وقبل كلّ شيء على عدم المزج بين الدين والسياسة؛ إذ أنّه يرى أنّ هذا المزج يؤذي الدين، إنّ وحدة السياسي والديني تسيء إلى الديني، فحين يدخل رجل دين مجال السياسة يخضع خطابه للضرورات التاريخية، وهذا ينقص من قدر الديني، قدر الديني أن يجيب عن أسئلة ميتافيزيقية طبيعية لدى الإنسان، وأن يساهم في تعميق قيم المواطنة، وأن يكون قاعدة أخلاقية لتسيير أمور البشر في إطار تعاقد مدني لا يستعمل فيه الدين سياسيًّا.

لقد تمثل توكفيل وظيفة الدين كوظيفة سوسيولوجية تؤطّر تعاملات الناس المدنية، وتحثّهم على احترام سلوكيات المواطنة، إنّه يتعامل مع الدين المسيحي بمكوّنيه الكاثوليكي والبروتستانتي، وهو بهذا يقصد دينًا خضع لإصلاحات جذرية على امتداد قرون طويلة.

الإنسان في عصر الديمقراطية في نظر توكفيل له رغبات خطيرة تدفعه إلى الانزواء عن الآخرين وملاحقة الإشباع المادي، كيف يمكن التخفيف من هاته النزعة الخطيرة؟ كيف يمكن تهذيب السعي إلى الإشباع المادي وامتلاك كلّ شيء مهما كان الثمن؟ من أين للديمقراطية أن تستمدّ نسق أخلاقها وقيمها؟

يجيب توكفيل من خلال ملاحظته للمجتمع الأمريكي أنّ الدين يمكنه أن يحدّ من هذا السعي الهوسي إلى الامتلاك، فيمكن للدين أن يوجّه الإنسان في الوجهة المضادة لنوازع المادية التي يعتبرها الفيلسوف من بين الأخطار التي تتهدد الديمقراطية فوظيفة الدين وحضوره النوعي في المجتمع الأمريكي مستمدّ، عند أليكسي دوتوكفيل، من وظيفته الاجتماعية في ظلّ مجتمع علماني يؤمن بحق كلّ الأديان في التعبير عن نفسها، يقول: "ما يهمّ ليس أن يعتنق المواطنون الدين الحق، لكن فقط أن يكون لديهم دين ما"[4].

الدين يعدّل من السعي الهوسي نحو الاغتناء، وتأثيره المدني يظهر أكثر داخل الأسرة؛ إذ أنّه يشكّل روح المرأة التي تخلق الأخلاق والقيم، فالدين يتدخل في تشكيل الأسرة، وبهذا الشكل يؤثر على الديمقراطية التي لا يمكن أن تستغني عنه؛ إذ أنّ الحاجة إليه هي طبيعة بشرية، وهذه الحاجة نابعة من وجود تفاوت دائم بين حياة الإنسان وبين أمنياته من تلك الحياة، وهذا التفاوت يغذّي الرغبة والأمل في حياة أخرى.

يقول: "الدين ليس إلا نوعًا من الأمل"[5] وفي موضع آخر يؤكد: "الاعتقاد وحده هو الحال الثابت للإنسانية"[6].

الدين كما يمارسه الأمريكيون هو دين "مدني" منفصل عن السياسة، يرى أليكسي دوتوكفيل أنّ الدين ليس بحاجة إلى دعم سياسي، وحين نخلطه بالسياسة فإنّنا نضعفه ونسيء إليه، لأنّه خارج عن الحيثيات التاريخية الزمنية.

الدين الذي يلعب دورًا مجتمعيًّا في نظر توكفيل، على شرط أن يكون دينًا منفصلًا عن الدولة لايتدخل في شؤونها، والدين يغذّي روح المرأة، وهاته الأخيرة في نظر توكفيل هي خالقة الأخلاق والقيم، وقد أفرد للمرأة أجزاء طويلة من مؤلفاته عن الديمقراطية في أمريكا.

الدين ليس وليد الديمقراطية، إنّه من بقايا النظام القديم، وهو مختلف عن الديمقراطية، خارج عن طبيعتها، ولكنّه ليس متناقضًا معها، بل يمكنه أن يخدم قناعاتها بشكل فعّال داخل المجتمع. حسب توكفيل فإنّ على الإنسان الديمقراطي أن تكون له قناعات دوغمائية ثابتة، يقول: "من بين كلّ المعتقدات الدوغمائية الأكثر سحرًا في نظري هناك (المعتقدات الدينية[7]) هذه المعتقدات الدينية تتأسّس على فكرة الله التي توجّه العلاقة بالآخرين، وبالذات في مجتمع معين، إنّ قيم الناس تتأسس على فكرتهم عن الله، عن علاقتهم به وعلاقتهم بالآخرين، وطبيعة أرواحهم وواجباتهم تجاه الآخرين"[8].

إنّ الدين بتشكيله للنظام الأخلاقي يمنع الأمريكان من استعمال سيّئ لحريتهم، بالفعل إنّ الاعتقاد أنّ للفرد في العصر الديمقراطي كامل الحرية يقود إلى نتيجتين أساسيتين؛ الأولى: هي أن يستغني الفرد عن هاته الحرية المطلقة، والتي هي أكبر من أن يعرف الإنسان العادي كيفية استعمالها، خاصة في عالم متغير وخاضع للآراء الشخصية، وبما أنّ كلّ شيء متغير في عالم الأفكار فإنّ الناس في العصر الديمقراطي يطمحون على الأقل إلى الإستقرار المادي؛ لأنّ التغيرات تتعبهم كثيرًا.

النتيجة الثانية هي: الاعتقاد بأنّ الفرد له الحق في أن يفعل أيّ شيء باسم تلك الحرية اللامحدودة، والدين في نظر توكفيل هو الذي يمنع الأمريكان من السقوط في النتيجة الثانية.

وهكذا فإنّ الدين في أمريكا يتزاوج مع الحرية الديمقراطية، على عكس أوروبا وفرنسا حيث العلاقة بين الدين والمجتمع مختلة.

حسب توكفيل فإنّ هناك إجماعًا حول علاقة الدين بالمواطنة في أمريكا، فحتى الذي لايؤمن يعترف بأنّ الدين مفيد للمجتمع، وهكذا يتشكل رأي عام مدعم للدين، على عكس فرنسا حيث يشرع المتشككون في محاربة الدين لصالح الحرية، ممّا يدفع بالمتدينين إلى كره الحرية والمؤسسات الديمقراطية، فلا يمكن أن نقول إنّ هناك رأيًا عامًّا مضادًا للدين، بل هناك حرب آراء تدفع كلّ واحد خارج حدوده الطبيعية.

المواطن الأمريكي يتبع التعاليم الدينية؛ لأنّه مقتنع بوظيفة الدين الاجتماعية، يقول: "لا أعرف إن كان الأمريكان يؤمنون حقًّا بدينهم؛ لأنّه من يعرف ما في القلوب؟ لكنّني متأكد من أنّهم واثقون من أنّ له دورًا في بقاء مؤسساتهم الجمهورية، وهذا ليس رأي طبقة سياسية بعينها، بل هي قناعة الأمّة بكاملها، ونجده في كلّ مراتب المجتمع"[9]. قد لا تكون هاته الرؤية النفعية للدين جديدة، باعتبار أنّ الرومان "الباترسيان" كانوا مقتنعين بهاته الوظيفة الاجتماعية للدين في الحفاظ على الاستقرار وضمان طاعة العامة؛ إذ كان مسموحًا للحكام أن يتقوّلوا على الدين ويستهزئوا به خفية، ولكن يشترط فيهم أن يعتنوا بقدر كبير بالطقوس الدينية أمام الشعب. المغزى من هذا هو أنّه حين تفقد القيمة الدينية، فإنّ ضمان الطاعة ينهار وتسود الفوضى بعد ذلك. يوصي توكفيل بضرورة الفصل بين الدين والسياسة لما فيه خير الدين أولًا، ولما فيه خير الديمقراطية والحرية، فالديمقراطية بحاجة إلى الدين لحماية الناس من أن يقوموا بكلّ شيء، وأن يتجرّؤوا على المخاطر.

الدين يكتسب قوة إضافية حين يترك إلى قواه الخاصة المتجذرة في الحاجات الطبيعية لكلّ إنسان، وهذا البرهان يفترض أنّ الوظيفة السياسية للدين مرتبطة بالتعلّق الخاص لكلّ إنسان بدينه، فحتى يكون الدين قويًّا يجب أن يرتبط به الإنسان لأجل ذاته، لا من أجل وظيفة سياسية أو متعلّقة بالمؤسسات التي يمكن أن يرتبط بها.

"المجتمع الأمريكي هو نتاج عنصرين مختلفين تمامًا تصارعا في أغلب الأحيان، لكن في أمريكا تمّ مزجهما الواحد في الآخر والتوفيق فيما بينهما بشكل ساحر، أتحدث هنا عن الدين وروح الحرية"[10].

يمكننا أن نقول إنّ تأثير الدين نابع من تأثير المجتمع على نفسه بواسطة الدين، فبمقدار ما يثبت المجتمع سيطرته على نفسه فإنّه لا يعود بحاجة إلى الدين كأداة للضبط الاجتماعي، فالدين يعبّر عن ذاته في المجتمع الأمريكي من خلال منظورين:

-المنظور الأول: هو منظور الحاجة الطبيعية الكونية التي تفوق الحيثيات السياسية؛ إنّه منظور الأمل الإنساني، وهو الدين الطبيعي.

- المنظور الثاني: باعتبار الدين حسًّا مشتركًا خاصًّا بهذا المجتمع، الذي يرى في الدين وظيفته الاجتماعية، إنّه الدين المدني.

الدين يصير أقوى حين يتخذ هذين البعدين، كما في المجتمع الأمريكي، والدين الطبيعي يصير دينًا مدنيًّا، ويصير اللحمة الاجتماعية والفكرية للمجتمع الديمقراطي، فمن الطبيعي أنّ المواطن الديمقراطي ليس إنسانًا لاهوتيًّا لكي يقلص دوخة الحرية اللامحدودة التي تخولها له الديمقراطية، فيجب عليه أن ينفصم عن ذاته ويفكر في نفسه كشخص خاضع للإرادة الإلهية، إذن، دين الأمريكيين هو تنهيدة المواطن الديمقراطي الخاضع لحريته المطلقة والخائف منها.

وهكذا فإنّ الديمقراطية والدين يتقاربان ويتآلفان مع بعضهما بعضًا، الديمقراطية تبقى ضامنة للسيادة الإنسانية المطلقة، والدين ينحو إلى أن يكون حسًّا مشتركًا وميثاقًا حافظًا للجسد الاجتماعي.

لايشير توكفيل إلى النموذج الفرنسي إلا تلميحًا، وينبغي قراءة كتابه "النظام القديم والثورة" لكي تكتمل صورة المجتمع الفرنسي الذي يقود حربًا ضدّ الدين بقيادة الأنوار التي أجّجت حقدًا ضدّ الأديان، الأنوار حاربت الدين لأنّه كان دعامة النظام السياسي القائم، يقول: "ما أجّج الحقد ليس أنّ آباء الكنيسة يدعون تسيير أمور الماوراء، ولكن على العكس لكونهم كانوا ملّاكين، سادة ومسيّري العالم الدنيوي"[11] دور الدين هو أن يخلق مواطنًا صالحًا، هناك إذن تفاعل بين الدين والديمقراطية وكلاهما يكمل الآخر حسب توكفيل؛ فالسؤال الأساسي عنده هو "هل يجب على المعتقد أن يتراجع لصالح الحضارة، أم أنّ على الحضارة أن تتوقف أمام المعتقد؟" من منظور توكفيل فإنّ هذه الفرضية الثانية هي التي تسود في الإسلام والهندوسية، فقد خلطا الأبعاد الزمانية والروحانية، وبهذا خلصوا إلى حضارة جامدة متميزة بالديكتاتورية السياسية للزعماء الدينيين، حضارة يسيطر عليها الجمود الاجتماعي والفقر الاقتصادي وتوقف العلوم والفنون.

من الغريب أنّ توكفيل الذي يدافع عن الدين كان قد كتب إلى الشاب غوبينو بتاريخ 2 أكتوبر 1843 عبارة "لست مؤمناً" لقد فقد إيمانه وهو في السادسة عشرة من عمره نتيجة قراءات مناهضة للأديان، لقد تبيّن له من خلال النموذج الأمريكي أنّ الديمقراطية يجب أن تتأسس على قيم وأخلاق، وليس هناك أصلح وأكثر وثوقية من القيم الدينية.

انبهر توكفيل بالنموذج الأمريكي، فقد كتب: "الأمريكان برهنوا على أنّه يجب عدم اليأس من تأسيس الديمقراطية على قوانين وقيم"[12].

بتحليله هذا يؤسس أليكسي دوتوكفيل جوابًا مختلفًا عن السؤال الذي يخترق الفلسفة السياسية منذ اليونان، ألا وهو "علاقة المعتقد بالمواطنة والأخلاق والديمقراطية والدين والحضارة" إنّ جواب أليكسي دوتوكفيل عن هذا السؤال الشائك هو جواب يجب التوقف عنده، خاصة في ظرفنا العربي الحالي، الذي يعيد طرح سؤال المعتقد والمواطنة بحدّة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]ـ بيير مانون "أليكسي دوتوكفيل وطبيعة الديمقراطية"، منشورات جوليار، باريس 1982.

[2]ـ أليكسي دوتوكفيل "الديمقراطية في أمريكا"، الجزء الأول، صفحة 89.

[3]ـ أليكسي دوتوكفيل "الديمقراطية في أمريكا"، الجزء الثاني، ص 28.

[4]ـ أليكسي دوتوكفيل "الديمقراطية في أمريكا"، الجزء الثاني، ص 24.

[5]ـ أليكسي دوتوكفيل، المرجع نفسه، ص 304.

[6]ـ أليكسي دوتوكفيل، المرجع نفسه، ص 310.

[7]ـ أليكسي دوتوكفيل، المرجع نفسه، ص 314.

[8]ـ أليكسي دوتوكفيل، المرجع نفسه، ص 315.

[9]ـ أليكسي دوتوكفيل "الديمقراطية في أمريكا"، الجزء الثاني، ص 29.

[10]ـ أليكسي دوتوكفيل "الديمقراطية فيأمريكا"، الجزء الثاني، ص 29.

[11]ـ المرجع نفسه، ص87.

[12]ـ أليكسي دوتوكفيل "الديمقراطية في أمريكا"، الجزء الأول، ص 325.

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%AA%D9%82%D8...

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك