الروح الخائفة: هل الحالة الدينية والفكرية القائمة تعكس الخوف والنكوص في مواجهة صدمة الشبكية؟

إبراهيم غرايبة

 

تتجه الأمم حسب نظرية أرنولد توينبي "التحدي والاستجابة" في التعامل مع الصدمات التي تتعرض لها في أحد مسارين: النكوص إلى الماضي ومحاولة استعادته والتمسك بعه تعويضا عن الواقع المرّ، أو محاولة استيعابها والتغلب عليها وتوظيفها إيجابيا.

تقوم فكرة المقالة كما يبدو من العنوان، على محاولة النظر في الحالة الدينية والفكرية في سياق الشبكية (التحولات الاقتصادية والاجتماعية القائمة حول تقنيات المعلوماتية والشبكية) التي يمر بها العالم، ثم فحص هذه الحالة بما هي مرافقة للشبكية، إن كانت تمثل نكوصا أو استجابة إيجابية لهذه التحولات؛ إذ هناك حالتان واضحتان، وهما الشبكية بما هي تحولات كبرى في مسار الإنسانية، والصعود الديني في العالم بعامة وفي عالم المسلمين بخاصة، فإذا افترضنا أنهما حالتان مرتبطتان ببعضهما، فهل تعبر الظاهرة الدينية عن التحولات المصاحبة للشبكية؟ وبطبيعة الحال، ثمة احتمال أن تكون الحالة الدينية ظاهرة طبيعية مستقلة عن الشبكية، فهل هي كذلك؟ يستبعد هذا الاحتمال بداهة عند ملاحظة أبعاد الظاهرة واختلافها الكبير عن مسار وطبيعة الحالة الدينية على مدى القرون، وبخاصة أن العالم ومنه العالم الإسلامي شهد حالة انحسار واسع للدين من السلوك والحياة العامة، ليعود في حالة غير مسبوقة في قوتها وشمولها وتأثيرها، وليدمر (تقريبا) الأوعية والمؤسسات التقليدية للدين، مثل الجماعات الصوفية والدينية والشخصيات والمؤسسات الدينية التعليمية والروحية.

يمتلئ التاريخ بأمثلة وتجارب التحولات الإيجابية أو السلبية تجاه الصدمات والأحداث الكبرى، مثل الدول والحضارات التي انهارت بسبب التغير المناخي والجفاف، أو التي نهضت بسبب توظيف الموارد والتقنيات الجديدة، مثل الكشوف الجغرافية والآلة البخارية. ويمكن اليوم ملاحظة عدد كبير من الحالات والأمثلة والتجارب القائمة على التحولات الكبرى بفعل الحوسبة والشبكية، كما يمكن الاطلاع على عدد لا يحصى من الدراسات والتقارير المشغولة بالتحولات الكبرى؛ فقد نشأت مؤسسات وأعمال جديدة هائلة لم تكن موجودة قبل سنوات قليلة، واختفت مؤسسات صناعية وإعلامية وتعليمية كبرى وعريقة. وشغلت التقارير الدولية السنوية للأمم المتحدة والبنك الدولي بهذه التحولات ومحاولة فهمها وتوظيفها.

وتمثل الشبكية بما هي التطبيقات التكنولوجية للحوسبة والشبكات وما صحبها من موارد وأعمال واتجاهات جديدة في الصناعات والسلع والأسواق وتحولات في العلاقات والقوة والأدوار صدمة كبرى للعالم؛ فهي أكبر وأهم موجة تحولات في تاريخ البشرية بعد موجتي الزراعة والصناعة.

مؤشرات الخوف والقلق المصاحبة للشبكية

1- صعود الدين وانحسار الفلسفة

ربما تكون الظاهرة المتمثلة في الموجة الدينية الصاعدة وانحسار الفلسفة من أهم وأكثر مؤشرات الخوف وضوحا في هذه المرحلة؛ فالموت الفلسفي بما هو غياب الوعي بالأسئلة الكبرى للكون والحياة، أو العجز عن التفكير فيها أو الانشغال عنها، أو عجز أدواتنا الفلسفية عن فهم واستيعاب العالم المتشكل؛ يؤشر إلى مرحلة هي "عالم يحتضر". ذلك أن فناء عالم "الصناعة" يعني نهاية الفلسفة المنشئة له والمستمدة منه أيضا؛ ففي هذه النهايات للأعمال والموارد والمؤسسات والأسواق والعلاقات والطبقات، تنتهي أيضا الأفكار المصاحبة لها. ثمة موت فلسفي بالتأكيد، لأن إنسان الصناعة ينقرض، وفي عبارة أصح تنقرض فلسفة الصناعة وليس الفلسفة مطلقا. وبطبيعة الحال، فإن فلسفة تنبعث مع انبعاث العالم الجديد!

لكن، لماذا يبدو ذلك لم يحدث بعد؟ ولماذا تراجعت الفلسفة لتصعد موجة هائلة وعاصفة من التدين؟ فالعالم كله، وعلى اختلاف أديانه، يبدو ممعنا في بعث ديني وليس في بعث فلسفي!

الفلسفة تنشأ حول السؤال، والتدين ينشأ حول الخوف! وفي هذه النهايات العاصفة لعالمنا، يصعد الخوف، ويكون الدين إجابة حاضرة وبدهية وملجأ من هذا الخوف الذي يكتسح عالمنا اليوم؛ إذ يهيمن على الناس جميعهم اليوم خوف وقلق من المستقبل المجهول والمنقطع عن الحاضر والماضي، وتشكلاته التي تبدو مفاجئة لجميع الناس. وفي عجز الفلسفة عن الإجابة، فإنها ترحل.

معظم الأعمال والمهن والأسواق والمؤسسات والموارد التي تبدو اليوم قائمة وسائدة، هي موضع شك في مصيرها وقدرتها على البقاء. لن تكون الأعمال والمؤسسات القائمة اليوم موجودة بعد سنوات قليلة، ولن تكون المدارس والجامعات والشركات والأسواق القائمة اليوم باقية كما هي بعد سنوات قليلة. لم يعد هذا الهاجس المستقبلي حديثا معزولا أو خيالا علميا.

وببساطة، فإن الإنسان تحكم مسار حياته ووجوده ومصيره ثلاثة محددات بيولوجية نفسية أساسية: البقاء، والخوف، والارتقاء. ولا يمكن الارتقاء إلا بتأمين البقاء ومواجهة الخوف والمهددات؛ فالإنسان يفكر في تحسين بقائه عندما يملك الوفرة في الوقت والموارد، ويؤمّن بقاءه واحتياجاته الأساسية. والفلسفة تعكس الارتقاء وتحسين البقاء، وصياغة أسئلة جديدة، أو التفكير في أسئلة مؤجلة، والبحث عن إجابة. هكذا نشأت الفلسفة في العصور القديمة والوسطى بعدما تطورت الزراعة، منشئة استقرارا وقرى ومدناً، ثم نهضت الفلسفة المعاصرة بعد الثورة الصناعية، وأنشأت هذا العالم الذي نعرفه.

واليوم في ظل الخوف الذي يكتسح عالمنا الآيل للسقوط، والعالم المقبل غير الواضح، لم تعد الفلسفة قادرة على حماية وعينا بذاتنا ولا تشكيل وعي جديد، ولا نملك أيضا القدرة على انشغالات تتقدمها انشغالات البقاء ومواجهة الخوف على وجودنا وأعمالنا ومصائرنا. لكنها وبطبيعة الحال، مرحلة انتقالية محدودة؛ إذ سوف تبدأ الموارد الجديدة بالتشكل، ومعها أسواقها ونخبها وأفكارها وفلسفتها. ولشديد الأسف، فإن "بومة منيرفا" (الحكمة) تحلق في الغسق؛ أي بعد انقضاء الأحداث... ما من حكمة تسبق الأحداث، وما من حكمة تستوعب أحداثا لم تحط بها.

2- السؤال الفلسفي لم يتوقف لكن الفلسفة تعيد تشكيل نفسها

يقابل الحديث عن انحسار الفلسفة وصعود الأصوليات الدينية حديث آخر عن موجة في النشر والقراءة والاهتمامات الثقافية تضع كتب الفلسفة في مقدمة الكتب التي تتعرض لطلب كبير من القراء المثقفين في العالم بعامة، وربما تكون ظاهرة صعود الفلسفة مرتبطة بموجة اقتصاد المعرفة ومجتمعاتها، فقد أنشأت الموجة مجموعة من الظواهر الفكرية والثقافية التي استلزمت العودة إلى الفلسفة، مثل الاهتمام بالدين، والانقطاع معرفيا واجتماعيا وثقافيا عن الماضي، والبحث عن البدايات وأسئلة وعي الذات من جديد، وقد استعادت الظاهرة نفسها بكثافة غير مسبوقة التفكير في التحولات الاجتماعية والثقافية التي رافقت الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، ربما بسبب الشبه الكبير بين تلك المرحلة والمرحلة القائمة، وكما كانت الجمهورية فكرة متطرفة وخيالية في القرن الثامن عشر، ولكنها اكتسحت العالم تقريبا، فهل تكتسح الأصوليات المعاصرة الأنظمة السياسية، وتشكل بداية لمرحلة جديدة ومختلفة في الحكم والسياسة؟ من الواضح أن الأصوليات الدينية والقومية اليوم تبدو خيارا قويا لشعوب العالم، وليس مهما أن تقدم هذه الأصوليات برامج وأفكارا بديلة مناسبة، ولكنها ربما تعكس حالة الحيرة والشك والفوضى التي بمر بها العالم، وربما هي الحالة نفسها التي تدفع العالم نحو المعرفة الفلسفية، فهل ستهذب الفلسفة الأصوليات وتطورها، ليصل العالم إلى نظام فكري وفلسفي وسياسي، كما ظهرت الليبرالية والعلمانية والماركسية على سبيل المثال مصاحبة للآلة البخارية؟

ربما يكون هذا الحديث اليوم غامضا وخياليا، ولكن لنتذكر أن الأفكار المشابهة التي ظهرت في القرن الثامن عشر، كانت تبدو متطرفة وخيالية أيضا، وفي رواية "الحب في زمن الكوليرا" لغابرييل ماركيز، ثمة مشهد لببغاء يردد عبارة "يحيا الحزب الليبرالي" ويقول ماركيز، إنها عبارة كانت تكفي لإعدام صاحبها في أمريكا اللاتينية في بدايات القرن العشرين.

وربما لن يكون بعيدا ذلك اليوم الذي نشهد فيه برامج وفلسفات جديدة للحياة والحكم، وقد تفاءلنا قبل سنوات بظهور الطريق الثالث، والذي بشر به مجموعة من المفكرين والقادة السياسيين، واجتاح رواده الانتخابات التشريعية التي جرت في أوروبا والولايات المتحدة بحماسة وسرعة تعكس تعطش العالم كله إلى فكرة جديدة تخرجه من دوامة دولة الرفاه وحكم الشركات، وتعتقه من الأصوليات الزاحفة بديماغوجية وسرعة تكتسح معاقل الديمقراطية والليبرالية!

وقد حظيت باهتمام كبير وملفت سلسلة كتب إريك هوبز باوم (عصر الثورة، عصر رأس المال، عصر الإمبراطورية، عصر التطرفات) ويعرض باوم في حوالي ثلاث آلاف صفحة موجة من التحولات في الطبقات الاجتماعية والعلوم والفلسفة والدين والآداب، والتي مازالت تشكل حتى اليوم مرجعية للجامعات والأنظمة الاجتماعية والسياسية، فماذا سنشهد في العقود وربما السنوات القليلة القادمة؟ ربما تدفعنا صعوبة الإجابة إلى استحضار القرن الثامن عشر لعل التشابه يرشدنا في التفكير، ولكني أخشى أن يضللنا.

يرتبط بتلك المرحلة بالنسبة إلينا في العالم الإسلامي موجات الإصلاح الفكري والسياسي التي جرت في الحياة الفكرية والسياسية، وبالطبع فقد كانت حركة مصطفى كمال أتاتورك في إلغاء الخلافة الإسلامية وإقامة جمهورية تركية علمانية تمثل ذروة الاستيعاب للتحولات الجارية في الغرب، فهل يمثل أردوغان التحولات الجديدة ومراجعة بل وإلغاء تجربة أتاتورك كما ألغى هو الخلافة الإسلامية؟ بالطبع، فإن أردوغان لا يتحدث عن عودة الخلافة، ولكنه يقدم شيئا جديدا مختلفا عن الخلافة ومختلفا أيضا عن الكمالية أو الأتاتوركية.

كانت الثورة الصناعية إطلاقا للقوة الإنتاجية تشكل المدن لتشكل أغلبية السكان بعدما كانت أقلية ضئيلة، فماذا ننتظر اليوم؟ لنتذكر التداعيات الهائلة والشاملة للصناعات والنقل والقوة العسكرية بعد تلك الثورة، فقد انطلقت صناعات النسيج والبناء والنقل العملاق عبر البحار وقطارات سكة الحديد، وانقلب رأسا على عقب شكل المدن والطرق والبيوت والحياة والتجارة والإنتاج والعمل والمهن والتعليم، ولنتخيل العالم الجديد الذي يتشكل اليوم، الموارد والنقل والقوة والحياة بعامة، وربما تكون الإجابة إننا بحاجة بالفعل إلى الفلسفة لنقدر على التفكير الجديد والمبدع والإجابة.

3- الربيع العربي والربيع المضاد

مازال الربيع العربي حالة حديثة تتفاعل لم تستقر ولم تفهم بعد، لكن يمكن ملاحظة الوعي الجديد المنشئ لهذه الحالة وتداعياتها، والصراعات والحروب الأهلية والطائفية التي اجتاحت مجموعة من الدول والمجتمعات، وكيف استحضر الدين والمذهب على نحو غير مسبوق استجابة لخوف الناس من بعضها ومن المجهول. ما الوعي المنشئ للربيع العربي؟

كان الربيع العربي استجابة لدخول الشبكية في عالم الأعمال والسياسة والثقافة وما نشأ عن ذلك من تحولات كبرى مؤثرة في علاقة الناس بمواردهم وعلاقة المجتمعات بالسلطة والشركات، وهي تحولات حتمية، لكن الاستجابة لها بالتقدم والإصلاح ليس حتمياً أو لا يأتي بالسرعة نفسها، وقد استجاب العالم المتقدم من غير ثورات في إعادة تشكيل المدن والمجتمعات والأفراد والمؤسسات والأسواق نحو مزيد من الاستقلال والتنظيم الذاتي، إضافة إلى مزيد من التماسك الاجتماعي.

4- النهايات والبدائل

تعني "نهايات" هنا انتهاء مرحلة وبداية مرحلة أخرى، وهي حالة فيها من الخوف والتداخل والفوضى والشك ما يجعل التفكير صعبا والرؤية معدومة تقريبا، وهي حالة أصابت الأفكار والنظريات والموارد والأعمال جميعها عندما هبت على العالم موجة المعلوماتية والعولمة، ولا بد أن الخطاب الديني قد تعرض لهذه الموجة، ويحتاج أيضا أن يشكل مفاهيم وحالات ومعاني وأفكارا جديدة مختلفة عما درج عليه الخطاب طوال العقود والقرون الماضية.

هذه النهايات، تمتد وتطال كل ما درجت عليه الأمم والدول والمجتمعات، والجميل (والمخيف أيضا) في هذه المرحلة الجديدة من وجهة الحضارات والمجتمعات أن المجال مفتوح (فوضى) لجميع الناس للتفكير والاقتراح على قدم المساواة تقريبا، فهي مرحلة منقطعة عما سبقها، وتكاد تكون الخبرات والتجارب السابقة غير كافية أو عاجزة عن تلبية وإجابة الأسئلة والمتطلبات الجديدة.

إن تداعيات المعلوماتية والاتصال وفهمها تعيد صياغة خطاب ديني جديد يأخذ بالاعتبار هذه التحولات التي صنعت عصراً جديداً، وحولت البشرية إلى مرحلة جديدة هي الأهم في مسارها على مدى التاريخ بعد مرحلتي الزراعة والصناعة.

الخطاب الديني والتحوّلات الحضارية والاجتماعية والأحداث الكبرى الجارية والمصاحبة لهذه التحولات قضية تصلح موضوعاً لتفكير وحوار طويل وممتد، فهي تثير شبكة من الأسئلة والتداعيات والإشكاليات والأفكار المتصلة، والتي تحتاج إلى بحث عميق، وعصف ذهني حول قضايا وتداعيات ربما لم تُبحث من قبل على نحو منهجي وموضوعي. وربما تستطيع مجموعات من المثقفين- وبخاصة من الجيل الذي شهد هذه التحوّلات وراقبها- أن تُجري عمليات تفكير وعصف ذهني وحوارات تخرج بمجموعة من الأفكار في مرحلة جديدة تختلف أدواتها ومداخل العمل فيها كثيرا عن المرحلة السابقة.

هذه السيادة للنسبية تجعل الخطاب نسبيا أيضا (نهاية المطلقية) والشبكية التي تترسخ في المعرفة والإدارة تزيد من شأن المجتمعات على حساب الجماعات (نهاية الجماعات)، وحالة الشك والفوضى التي تعم الأفكار والفلسفات تجعل من الصعب وصف الأهداف والمطالب بأوصاف يقينية، ولكنها حالة متحركة وعائمة (من الدولة الإسلامية إلى دولة المسلمين، ومن الإسلاميّة عموماً إلى المرجعيّة الإسلاميّة) وبتغير مفهوم السياسية (ما بعد السياسة)، فإن الخطاب يتحول من السياسة إلى الإصلاح، ومن الإسلام هو الحل إلى الإصلاح هو الحل، وفي حالة المساواة والشبكية فإن التواصل والعمل والبحث (والفتوى أيضا) تتحول من الهرميّة إلى الشبكيّة، ومن التلقي إلى المشاركة، ومن الحتمية والأُحاديّة إلى الانتقاء والتعدّديّة، ومن أُحاديّة الصواب إلى تعدّديّته، وفي حالة الشك والفوضى فإن الخطاب يتحول من الكمال أو مظنة الصواب والكمال إلى محاولة الاقتراب منه (نهاية الصواب)، ومن المثاليّة إلى التراكم، فالاستيعاب، فالإبداع، فالتراكم مرة أخرى، ومن وهم الصواب إلى حقيقة السؤال، ومن لذّة اليقين إلى قسوة الشك، ومن متعة الوصاية إلى مشاركة المجتمع، ومن "غيتو" الجماعات والتنظيمات إلى فضاء الزمان والمكان، ويحتاج الخطاب أيضا إلى التمييز بين الوحي المقدس والملزم وبين التراث والإنساني، والتمييز بين النص وبين قراءاته وتفسيره، والتمييز بين الدين والدولة.

وتصعد البدائل أيضا على نحو غير مسبوق يؤشر إلى الخوف والشك وعدم اليقين، ورغم أن البدائل في الاقتصاد والطب والإعلام والتعليم والعمل والنضال ليست أمرا جديدا في الحياة البشرية، ولكنها تأخذ اليوم مرحلة من الازدهار والنمو، ولم تعد تنشط في الأقبية السرية، بل إنها تصعد لتشكل بديلا حقيقيا، وربما تقترب من النصر والغلبة على المنظومة المؤسسية التقليدية، وإن لم تلغها فإنها تهزها من جذورها، وتعيد تعريفها.

الصحف والمؤسسات الإعلامية تواجه حقيقة أن المدونات و"الإعلام الشخصي" تقدم مصادر للمعلومات والمعرفة والتواصل ربما تتفوق عليها، والتعليم عبر الإنترنت يغير كثيرا من معنى ودور المدارس والجامعات والأساتذة، والسفارات والدبلوماسية تأخذ أدوارا ومفاهيم جديدة في حالة التعولم الاتصالاتي والمعلوماتية السائدة، فالإنترنت والفضائيات تمكن الاطلاع على الصحف ووسائل الإعلام في أي بلد على النحو الذي يلغي وظائف كثير من الدبلوماسيين. وفي الأنظمة الإلكترونية المتاحة يمكن تنفيذ كثير من الخدمات والأعمال الحكومية التي تلغي أو تغير من دور القنصليات، وكذا الحال بالنسبة إلى العلاقات الثقافية والتجارية، بل وكثير من أعمال التجسس، فإنها لم تعد تحتاج إلى سفارات وغطاء دبلوماسي، وفي العولمة الجارية تلغى أو تغير أدوار ووظائف الجمارك والبنوك المركزية والرقابة المالية والإعلامية وتنظيم ومراقبة تدفق الأموال وتحويلها، والمهن وأنظمة العمل والمؤسسات بعامة تواجه تحديات وإغراءات وفرص أعمال جديدة بلا أنظمة ولا أمكنة، ومن ثم فإن قوانين العمل والعلاقة بين العاملين وبين أرباب العمل والمؤسسات تواجه أسئلة جديدة عن معناها وجدواها.

الحديث عن بدائل تلوح في الأفق في الإعلام والتعليم والعمل والموارد وكل شيء تقريبا أصبح شيئا من الماضي أو يكاد يكون كذلك، ولكنه واقع جديد يتشكل، ويفرض نفسه، ويعمل في حياتنا القائمة كلها تغييرا وإلغاء على نحو جذري. وبطبيعة الحال، فإن الهيكل الديني يبدو معرضا للتغيير مثله مثل جميع القطاعات والمؤسسات.

الإنسان متجه ليكون قادرا على تعليم نفسه بنفسه وكذلك مداواتها، وأن يحصل بنفسه أيضا على الاحتياجات والمعلومات والأخبار والتواصل مع العالم كله وعلى قدر من الكفاءة والمساواة التي تمنحها المؤسسات المعقدة والمطورة، وبطبيعة الحال فإن عالم الدين وهيكله ومؤسساته القائمة منذ قرون تواجه حالة خوف من الانقراض.

5- موارد وأعمال جديدة ومختلفة جذريا

يتلخص التطور الاقتصادي والاجتماعي للبشرية في أحد جوانبه بالمسار التالي: من "الياقات الزرقاء" إلى "الياقات البيضاء" إلى عمل بلا ياقات. والواقع أنه مفهوم، رغم ما فيه من حيرة وارتباك يعبر بدقة جميلة عن تشكلات الاقتصاد والمجتمعات والثقافة في عصر الشبكية والمعرفة. وكأن الحيرة والشك بذاتهما يمثلان موردا وقيمة جوهرية في الاقتصاد القائم اليوم وما ينشأ حوله من قيم وأفكار.

فمفهوم "الشبكة" يلغي فكرة المركز والهرم اللتين استقرت عليهما البشرية طوال التاريخ المتاح لمعرفتنا، ولا تعد موسوعة "ويكيبيديا" أو نظام "لينوكس" للتشغيل مثالا نادرا لملاحظة كيف تتشكل موارد ومؤسسات ومنظومات للإبداع والمعرفة والإنتاج تتفوق بأضعاف مضاعفة على بنى تقليدية وراسخة للإنتاج والمعرفة، ماذا عن مايكروسوفت وغوغل وياهو والهوت ميل والمدونات و"البدائل"؟ نحتاج إلى الملاحظة كيف يشكل الإبداع والمخاطرة جزءا من الاقتصاد اليوم، وكيف يشكل أيضا النخب والقيادات أو يهزها من جذورها، وكيف تتحول الشكوك والفوضى إلى مورد وأسلوب للحياة والإدارة، بل هي كما وصفتها كوندي ليزا رايس "الفوضى الخلاقة" دليل للسياسة العالمية. هل استحضار الماركسية المزدهر اليوم هو في حقيقته إدراك للمساواة شبه التامة والإدارة الذاتية المتحققة أكثر مما هو بحث عن حلول للأزمة الاقتصادية والمالية القائمة؟

وما تزال الحواسيب تتطور وتتضاعف قدراتها بحدود مرتين كل ثمانية عشر شهرا، مغيرة كل وسائل الحياة والعمل، ومع تطور البرمجيات تتشكل عوالم جديدة من الفرص وتختفي عوالم أخرى.

ليس الجديد في هذه التقنيات وجودها بالفعل ولكن انتشارها على نطاق واسع وبأسعار مخفضة، بل وتحولها إل مواد وسلع استهلاكية مثل بطاقات الاتصالات والمناديل الورقية، وتحولها من إمكانيات سرية وتقنيات يحرسها "كهنة" من الأكاديميين والتقنيين إلى منتج يومي يستخدمه جميع الناس. ألم تكن الكتابة على سبيل المثال قبل فترة قليلة من الزمن مهارة خاصة ومحدودة وسرية، بل وكان يجري منع تداولها، وقبل أقل من مئة وخمسين عاما كان السود في الولايات المتحدة الأمريكية يعاقبون بالإعدام إذا تعلموا القراءة والكتابة.

ما الثقافة التي يفترض أن تتشكل؟ وما العلاقات الاجتماعية والسياسية المتوقع قيامها حول الاقتصاد الجديد القائم على موارد مختلفة عما تعودت عليه الحضارات والمجتمعات والدول، والتي أنشأت ثقافة ومدنا وعلاقات ونخبا حول نظام اقتصادي لم يعد أغلبه موجودا؟ فهل ستختفي هذه المدن والنخب والثقافات كما اختفت على سبيل المثال المدن التي نشأت حول طرق القوافل التجارية؟

تعود الأدوات والنظريات والمؤسسات التي تنظم الحياة المعاصرة إلى الثورة الصناعية، الدول الحديثة والدساتير والتشريعات، والمدارس والجامعات، والنظريات الاجتماعية، فعلم الاجتماع القائم يعود إلى المفكرين (اوغست كونت، إميل دروكهايم، كارل ماركس، ماكس فيبر، ..) الذين شغلوا بالتحولات الكبرى التي صاحبت الثورة الصناعية والثورات السياسية، ولكنها نظريات ومعارف لم تعد كافية وربما غير ملائمة لفهم وتنظيم الثقافة والمجتمعات الجديدة التي تتشكل حول اقتصاد المعرفة، وبدأت بالفعل تظهر تحديات ومآزق كبرى تجعل هذه المعرفة الهائلة والمتراكمة على مدى قرنين من الزمان جزءا من التاريخ، فيعتبر عالم الاجتماع الفرنسي جون بودريار، والذي يعتبر من أهم المنظرين في مدرسة ما بعد الحداثة أن وسائل الاتصال الإلكترونية قد دمرت العلاقة التي تربطنا بماضينا.

ويقول أولريخ صاحب نظرية "مجتمع المخاطرة" إن المجتمع الصناعي بدأ بالاندثار مفسحا المجال لمجتمع جديد تسوده الفوضى، وتغيب فيه أنماط الحياة المستقرة ومعايير السلوك الإرشادية، ويرى عالم الاجتماع الإسباني مانويل كاستلز أن مجتمع المعلومات المعاصر يتميز بظهور "الشبكات" و"اقتصاد الشبكات" والنظام الاقتصادي الرأسمالي السائد اليوم، إنما يقوم على ثورة الاتصالات العالمية، ولم يعد قائما كما كان يفكر كارل ماركس على الطبقة العاملة أو على إنتاج السلع المادية، بل إنه يقوم على التقدم في شبكات الاتصال والحوسبة التي أصبحت هي الأساس لتنظيم عملية الإنتاج.

6- السلوك الاجتماعي والمعرفي كما جمع الثمار!

تنظر كاثلين تايلور أستاذ علم الاعصاب في جامعة اكسفورد إلى السلوك الاستهلاكي القائم في المولات اليوم بأنه استحضار ذاكرة قديمة وراسخة في مجتمعات الصيد وجمع الثمار يعكس الخوف والقلق، وتبدو الظاهرة نفسها اليوم في المؤسسات التعليمية والمعرفية والدينية.

فمستويات المعرفة والعمل فيها، سواء في التعليم والبحث والتأليف والكتابة والآداب والفنون أو في الأعمال والمهن والصناعات والإنتاج تراوح فيها المجتمعات والجامعات والمدارس والكتاب والباحثون والأساتذة والشركات والمؤسسات والأسواق والحكومات بين جمعها وصيدها ورعيها وإنتاجها وتطويرها، وليس سرا ولا جلدا للذات (ربما) أن المعرفة لدينا في الجامعات والمدارس والصحافة والثقافة والصناعات والأعمال يغلب عليها الطابع البدائي، جمعها أو سرقتها، وليس يدعو إلى الفرح والاعتزاز نسبة الإضافة المعرفية أو التحليل أو التصنيع والإنتاج أو الإبداع في المعرفة لدينا، وهذا على أية حال ما يمكن فهمه بالإضافة إلى واقع الحال الظاهر من تصريح معالي وزير التعليم العالي في الأردن (الحياة اللندنية 25/10/2010) بأن الأبحاث العلمية الأردنية قليلة وسطحية وغير تطبيقية ولا تحقق الطموحات.

وإذا كان أسلوب جمع الموارد يشكل أيضا أسلوب الحياة والعلاقات الاجتماعية ومستوى الرقي والثقافة، ففي جمع الثمار يغلب سلوك البقاء بكل ما يجعل غير ذلك ممكنا ولا بأس به، من السرقة والاعتداء، ولا يتيح أيضا مجالا لارتقاء بالحياة والثقافة، ما الموسيقى والفنون والرياضة وحتى اللباس والطهو في مجتمعات جمع الثمار والصيد والرعي؟! وتقول غرفة الصناعة إن مجموعة عوامل الابتكار والتطوير هي الأكثر تراجعا في مؤشرات التنافسية.

وكما يلاحظ في سوق العمل أن عمال المياومة هم الأقل التزاما واهتماما بالإنجاز لأسباب واضحة ومعلومة متعلقة بمستوى وطبيعة العقود والالتزامات المتبادلة والآفاق المستقبلية في العمل، وليست أخلاقية أو طبقية كما يحب البعض القول، فإن مستوى الإنجاز من بين مئة بحث اعتمدت في العام 2007 كما يقول مصدر في صندوق البحث العلمي لسلافة الخطيب (الحياة اللندنية) لم يتجاوز بحثا واحدا.

هل نعرف ما لدينا من موارد معرفية؟ وهل يعبر استهلاك المعرفة السائد لدينا في المدارس والجامعات والنشر والإعلام والعمل والمؤسسات والمهن عما لدينا من موارد، وعما نحتاجه بالفعل، وأين ما لدينا من معرفة في الخريطة العالمية للمعرفة؟

من يتابع الإنتاج المعرفي لدينا، يلاحظ أن ثمة ابتعادا عن المحركات الحقيقية لإنتاج المعرفة واستهلاكها، فما ينشر وينتج يغلب عليه التكرار والسرقة والاقتباس من غير إضافة، وهذا يصيب موارد المعرفة نفسها بالإهمال والتكلس؛ لأن المعرفة لا تتحصل إلا بمجهود كبير، وإذا لم يكن العمل المعرفي قائما على الإضافة والإبداع، فإنه يصبح عبئا على نفسه وعلى المستهلك.

عندما تدرج في غوغل قضية من القضايا اليومية او المعرفية الكبرى وتنظر في الإنتاج الفكري والإعلامي حولها، ستجد حجما كبيرا من الكتابة والنشر، ولكنها في التقييم النهائي يغلب عليها أنها تكرار (وغالبا بلا نزاهة) لمعرفة ضئيلة أنتجها عدد قليل من الناس!

هذا الكم الهائل من النشر والمؤتمرات والندوات والكتب والرسائل الجامعية والمحاضرات، وهي تنتج بعدد كبير جدا يفوق قدرة أنشط المتابعين وأكثرهم قدرة على الاستيعاب، لكن محاولة النظر في أصالتها وأثرها ومدى الاستشهاد بها يدل على الخوف والقلق أكثر مما يدل على الإنتاج والمعرفة.

ربما كانت المجتمعات والأنظمة السياسية والاجتماعية والثقافية المتشكلة أو التي سوف تتشكل حول اقتصاد المعرفة بحاجة أكثر من أية فترة ماضية إلى فئة من الناس يمكنهم أن يلاحظوا الفوضى والعيوب في ما هو سائد، أو أولئك الذين وصفهم كولن ويلسون بـ"اللامنتمي"، وهو ذلك الشخص الذي يدرك ما تنهض عليه الحياة الإنسانية من أساس واهٍ، وهو الذي يشعر أن الاضطراب والفوضوية أكثر عمقاً وتجذراً من النظام الذي يؤمن بهِ قومه، إنه ليس مجنوناً، هو فقط أكثر حساسية من الأشخاص المتفائلين صحيحي العقول. واللامنتمي هذا كان ضرورة لتشكيل حالة القلق والشعور بالخطل في الحضارة والمجتمعات الصناعية، كان بمثابة النذير الذي يدلنا على العيب والنقص في حياتنا، وكان في قلقه مصدرا للإبداع. لكنه اليوم، يكاد يكون خبيرا أساسيا يقدم المهارات الضرورية في حالة الفوضى والأسئلة والتوقعات التي تتواصل وتتوالى حول الأعمال والموارد والقوة والنفوذ. فهل سنرى على سبيل المثال بحوثا دينية فقهية حول أداء الحج والعمرة من خلال شبكة الإنترنت؟

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك