حينما يتأزم الفكر

هشام محمد قربان

 

رحم الله العالم فلان بن فلان وتلاميذه، وغفر الله لذلك المفكِّر وذلك الداعية ومقلِّديهم؛ فلقد عانوا  في مقتبل حياتهم العلمية والدعوية الأمرَّين على أيدي مناوئيهم ومخالفيهم كيدًا ووشاية، وملاحقة وتضييقًا، وسجنًا وتعذيبًا، وشنقًا واغتيالاً، وتسفيهًا لفكرهم، وطعنًا في سُمعتهم، حتى إن المتأمل المُنصِف ليَكاد يذوق مرارة تجربتهم سنين طويلة بعد رحيلهم في بعض نتاجهم الفكري وبعض اجتهاداتهم.

وينظر العلماء المحقِّقون لنتاجهم، فيُجلون صبرهم وصمودهم، ويقدِّرون أثرهم وعطاءهم، ويأخذون عنهم ويتركون، كما أنهم يجدون لأخطائهم الاجتهادية وشطحاتهم الفكرية بعد بيانها العذرَ تِلو  الآخر، فلقد تركت الأزمات التي كابدوها - وهي ليست بالهينة - بصمات واضحة على بعض فِكرهم، وشكَّلت جانبًا من ثقافتهم، ووجهت بعض سلوكهم واجتهاداتهم، وتعدَّى أثرُها أشخاصَهم إلى مقلِّديهم فكرًا وثقافةً وتوجهًا وسلوكًا.

تُشير المقدمة - حسب فهمي واللهُ أعلى وأعلم - إلى ما يُسمِّيه العلامة الشنقيطي عبدالله بن بيه: "الفكر المتأزم" - في لقاء مصور معه - ولقد سَمعتُ عن هذا الموضوع طويلاً، ولكنني لم أسمع  من قبل بمثل هذا الوصف العلمي الدقيق له، ولا أدري إن كان شيخنا الوقور هو أول من استعمله، أم أنه قد نقله.

عذاب ومعاناة ومحنة وأزمة، يمر بها فرد أو جماعات، فتُنتج فكرًا متأزمًا (أي: وليدًا من الأزمة)، ويشكِّل الفكر المتأزم ثقافة متأزِّمة، ويولد من الثقافة سلوكٌ وترجمة عملية متأزمة.

ويستمرُّ هذا الفكر المتأزم بعد زوال الأزمة الأولى، يَحمله وينشره ويبني عليه أجيال من المقلِّدين والمُعجبين والمتحمِّسين، ويَكمن الحرج في المسألة حين يخلط البعض في نسبة بعض السلوك  المتأزم المرجوح أو الخاطئ، فلا يَنسبون السلوك المتأزم إلى الفكر المتأزم والأزمة التي وُلد من رحمها، ولا يتأملونه أو يفهمونه في سياقها، بل إنهم ينسبونه خطأً وتعجلاً للدِّين، والدين من بعضه أو كله براءٌ كما يُقرِّره السادة العلماء.

إن ظاهرة الفكر المتأزم ليست مقصورة على بعض أهل الإسلام، ولكنها ظاهرة إنسانية عامة، ولقد  لوحظت في كثير من الأمم والأديان، وما حال أزمة أوروبا ومصادماتها مع الفكر الكنَسي ببعيدة عن أذهاننا، وما حاضرُهم بشتى جوانبه إلا ثمرات لتلك الأزمة.

إن مبحث الفكر المتأزم في الدول الإسلامية بالغُ الخطر، وجدير بالنظر والبحث المستقل، والتبيين  من لدن علمائنا الربانيين والمجالس العلمية والفقهية المعتبرة والمستقلة، ويُفيد هذا المبحث الجليل في دراسة أصل بعض السلوكيات الفردية والجماعية في أمتنا الإسلامية، ونسبة ما يَستحق منها إلى الفكر المتأزم، ويتلو ذلك محاولة تعديل السلوك المتأزم بالعودة إلى أصوله وجذوره الفكرية المتأزمة، وبيان مدى بُعده وانحرافه عن الدين الصحيح ومقاصده العليا.

ليس هذا مقام عرض أمثلة للفكر المتأزم، وهذه لعمري قضية لا يُحسنها العامة وغير المختصين؛ فهي مهمة العلماء المجتهدين، ولكننا نشير إلى عموم الظاهرة؛ لأن البعض من المهتمين قد يغفلها حين تقييم السلوكيات بغرض علاجها، وهذا خلل منهجي كبير، كما أن تصحيح السلوك المتأزم لا يفيد فيه الوعظ والنصح واللوم، ولا يستقيم إلا بالكشف عن أصله الفكري المتأزم، وبيان عَوارِه وخلله.

إن من نافلة القول أنَّ الفكر المتأزم لا يُصلحه فكر متأزِّم آخر، أو فكر نفعي مسيَّس أو موجَّه، فمن أسباب صمود واستمرارية بعض الفكر المتأزم ونتائجه: البُعدُ عن القسط والحكمة في التعامل مع أهله، وقديمًا قالوا بأن المنع (المتأزم) غير المُقنِع لا يثمر إلا مزيدًا من العناد والتأزم، هدانا الله جميعًا إلى ما اختُلف فيه من الحق بإذنه، وبصَّرنا بأنفسنا وما يصلحها في الدارين.

المصدر: http://www.denana.com/main/articles.aspx?article_no=14274&pgtyp=66

 
الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك