تداخل السياسي والمذهبي في مشاريع التقريب

أزمة المنهج وانعدام المرجعية في النسق المعرفي

نجف علي ميرزائي

 

من المؤكَّد، أنّ موضوع الوحدة الإسلاميّة والسُّبُل المُحقِّقَة للتّقارب النّظريّ والعمليّ بين الأمّة قد شكّل هاجسًا أساسيًّا لدى كثير من النّخب الإسلاميّة منذ زمن بعيد ؛ لأنّ كلفة التفرّق والتّناحر في الداخل الإسلاميّ كانت ولا تزال عاليةً جدًّا .ولأنّ هذه المساعي الحميدةَ المشكورةَ لم ترتَقِ إلى مستوى القدرة على كَبح جَماح التطرّف المذهبيّ والسعي لإقصاء الطرف الآخر ، ولم تُفلح كذلك في إيقاف النّزيف الدّمويّ في جروح الجسد الإسلاميّ إلى يومنا هذا، فإنّه من المنطقيّ أن تخضعَ كلّ هذه المحاولات لمراجعات عميقة وموضوعيّة للكشف عن مكامن الخلل فيها وتصحيحها.
غير أنّنا في هذه العُجالة لا ندخل في هذه المراجعة الذّاتيّة والأسباب الحقيقيّة وراء هذه الإخفاقات الكبيرة في المشاريع الوحدويّة، رغم أهمّيّتها وإلحاح الحاجة الإسلاميّة إليها ، بل نسعى للتّركيز على جانب من جوانب المشروع التّقريبيّ وهو الإشكاليات المتعلّقة بِتداخل السّياسيّ والمذهبيّ وبالتّحديد الأدوار السّلبيّة وكذلك الإيجابيّة التي يمكن للسّياسي أن يلعبَه في هذا المضمار .

إماطة اللّثام عن السبب الأوّل..غور في المنطقة المحظورة
قول الحقيقة فيما أحدثَ الإرباك في صفوف المسلمين وأدّى بهم إلى هذا الوضع الكارثيّ ،ونَجَم عنه هذا التخلّفُ الهائلُ والمُرعبُ على كلّ صعيد ،سيضايق الأطرافَ الإسلاميّة المتناحرة ؛ لأنّها ستحمّلها كلّها وإن بِنِسَب مختلفة .لكنّ الحقيقة هي أولى أن تُقال حتى ولوأزعجت بعضنا ورسمت الصورةَ أكثر سواداً مما يتخيّله بعضنا! 
صاحب هذه المقالة لا يرغب في أن يبثَّ اليأس أو الإحباطَ وإنّما الهدف هو أن لاننخدع بالتشخيصات الانحرافيّة أو الأسباب الثّانويّة والعَرَضيّة غير الذّاتيّة للأزمة المُزمنة، فنضيّعَ الفرص الذّهبية الاستثنائية للمعالجة العميقة وإنْ بِعمليّة جراحيّة مؤلمة .ولكن قبلَ أن نبدأ بِوضع اليد على الجرح كما يقال و نشير بإصبع الاتّهام إلى دنيا السّياسيين و أجنداتهم السّلطوية ،يجدر القول إنّ هناك جُملةً من أسباب التّفرّق والانقسام الإسلامي نستطيع الإشارةَ إلى بعضها هنا:
1 – وجود مشاريع الفتنة وإشعال النّيران بين المسلمين و المخطّطات الهائلة إعلاميًّا ،و أمنيًّا، وثقافيًّا ،وسياسيًّا على رأس أولويّات القوى الكبرى ذات المصالح المشتركة في العالم الإسلاميّ لتدمير العقل العربيّ والفكر الإسلاميّ و صناعة الوعي المزيَّف وغزو أدْمِغة الأمّة . لِنَقبَل بأنّهم اكتشفوا مُبْكِرًا أنّ عالَمًا إسلاميًّا موحّدًا يشكّل أكبر تهديد لمصالحهم و حضارتهم المبنيّة على النّهب والسّلب والاستعمار .فعليه يجب أن نتأكّدَ أنّ أيَّ مشروع سياسيّ أو فكريّ وحدويّ سَيكون بالنّسبة لهم هدفًا للتّشويه والغزو بِكلّ أنواعه .
2 – ضعف المكاشفة والمصارحة بين الأطراف الإسلاميّة والسّعي المستمرّ لإخفاء المعتقدات عند المواجهة.
3 – الخضوع للإرادات السّياسيّة في المناهج التعليميّة ، الأمر الذي سينتهي أو انتهى في نهاية المطاف إلى التحيّز العلميّ وصياغة المناهج العلميّة الموجَّهة من هنا أو هناك .
4 – الحوارات غير المنهجيّة والفاقدةُ للمنطق العلميّ الترتّبيّ .
5 – ضعف الرّؤية الموضوعيّة للأمّة وظروفها الاجتماعيّة الحياتيّة والغَرَق في الجانب النّظريّ .وهو ما جعل الحوارَ الإسلاميّ – الإسلاميّ حوارًا على الأفكار والقضايا التاريخيّة المقطوعة عن الحياة ،وسببًا حقيقيًّا لإلهاء الأمّة عن حقيقة ما هي عليه الآن ولِتبقى عقول الأمّة أسيرة للتاريخ الذي انتهى فَتَترك الاحتكاكَ والحراك مع الأسباب الواقعيّة الّتي أنهكت وأرهقت واستنزفتْ راهِنَ المجتمعات الإسلاميّة.
6 – فقدان المرجعيّة العلميّة المُوَحّدة والحاسمة وهو ما سنتحدّث عنه في محور مستقلّ هنا في الدّراسة .
7 – انقسام حادّ في المصادر المعرفيّة الاجتهاديّة.
8 – القراءة المتحيّزة والانتقائية للتّاريخ الإسلاميّ مع ضعف في القدرة على وعي رؤيويّ شامل للمشهديّة التّاريخيّة الإسلاميّة.
9 – فقدان الاندماج الاجتماعيّ الكافي بين المذاهب الإسلاميّة وأتباعها سبب رئيس لِتَشكُّلِ تراكمات سلبيّة هائلة ؛ حيث ينظر كلّ طرف إلى الآخر من خلال الوسائط التّاريخيّة المفتعلة وليس بالرّؤية المباشرة والاندماج الحقيقيّ .عليه فتنطلق شبهات اليوم وحالات سوء الظّن بين المسلمين من عمق التّاريخ وليس من الواقع المعيوش الموضوعيّ!
10 – الشّموليّة والتعميم المستمرّ للأحكام الصّادرة عن جهة ضدّ الأخرى ،وعدم الاتّصاف والتّحلّي بالموضوعيّة والإنصاف والعدالة في النّظر إلى الآخر ؛ فعلى سبيل المثال أنّ هناك إصرارًا من الطّرفين على اعتبار الآخر وشخصيّاته ومَناهجه ذات الّلون الأسود ، فلا يمكن التعاملُ معه إلّا بمنطق الرّفض ، فكلٌّ منهما رافض للآخر ولِمَناهجه ومصادره ! علمًا أنّ الفكر والاجتهادَ الإسلاميّ هو حصيلة عقل الإنسان فيُمكن أن يدركَ منه ما لا يدركه الآخر المختلفُ مذهبيًّا . ما المانعُ من أن تتوحّدَ المصادر العلميّة فتكونَ هي المساحةَ المشتركة مع إخضاع كلِّ فكرةٍ للقواعد المعتبرة والمتبنّاة من قِبَل الطرف الآخر ؟ 
كذلك الأمر فيما يتعلّق بالرّجال ، فإنّنا نجد أنّ رجالاً يقعون تحت الرّقابة الأبديّة و الحظر المطبق السّرمديّ مِن قِبَل الآخر ! فهو يصبح شرًّا مطلقاً يجب رفضه وتجنُّبه في كلِّ الأحوال ؛ فبالتّالي ستكون الاستفادة من قول له أو فعل حكيم صَدَر منه (من طريق الخطأ !) في محطّة من تاريخ الإسلام ممّا يُعاقب الفاعل عليه ! ؛ لأنّه من الطرف الآخر أو لأنّه سَبَقَ وقد فعل أمرًا مُنكرًا باعتقاد الطّرف الآخر .
عليه ، فَيَحقّ لنا أن نتساءَل عن مدى انطباق هذه الطريقة في التّعامل مع الآخر المختلف أو المعادي الخصم مع القواعد الإسلاميّة العامّة ! ثمّ هل العبرة في الإسلام ومنطقه القرآني ّ في التّعامل مع فكره وعقله ونتاجاته الحكميّة ، هل العبرة هنا هي بالإنسان وتاريخه السّياسيّ ومواقفه الحسنة أو السّيئة أو بالحكمة الّتي ينطق بها حتّى ولو كان ينتمي إلى الخصم والمُخيّم الآخر؟ وأخيرًا هل هذه المنهجيّة الرافضة بالمطلق للآخر هي ما مضت عليه سيرةُ أولئك العُظماءِ الّذين لأجل إثباتِ أفضليّتهم نتقاتل اليوم؟ وهل هذا ينسجم مع قول اللّه تعالى : فَبَشِّر عِبادي الّذين يستمعونَ القولَ فيتّبعونَ أحسَنَه أولئك الّذينَ هداهُمُ الله وأولئك همْ أولو الألبابِ ؟ ماذا لو عَمِلَ المسلمون اليومَ بهذه الآية الشّريفة وطبّقوها في تعاملهم مع مخالفيهم وخصومهم ؟ أليست الخارطة ستتغيّر كلّيًّا لِصالح الأمّة ؟ 
بصراحة نقول علينا أن نفصل بين المواقف المرفوضة من قِبَل كلّ طرف حول أصحاب رسول الله- صلّى الله عليه وآله - وبينهم كأناس غير معصومين لهم تجارب وحِكم وتراكمات إيجابيّة أحياناً في مُجمل التاريخ الإسلاميّ ؛ لأنّه مرّت عليهم ظروف شديدة التّعقيد في مواجهة العالم فَكَوّنوا تجربةً ثمينةً للمسلمين جميعًا.
أيُعقل أن يتمّ الشّطب على الخلفاء في الفكر الشيعيّ ؛لأنّهم فعلوا ما لانعتقد به أو هل من الحكمة الّتي يأمرنا الإسلام بأخذها -كائنًا من كان مصدرها - أن يُشطبَ على اسم وشخصية الإمام الصادق وأئمّة آل البيت - عليهم السّلام - من العقل السّني ؛ لأنّهم لم ينتهجوا الّا طبقًا للثّقَلَين ،ولم تنطبق مواقفهم مع الأجندة الأمويّة في تدمير الدّين الإسلاميّ؟ ثمّ هل يكفي أن يذكروهم في كتبهم الرّجاليّة والتّاريخيّة ، أو أن يعتبروهم أحفادَ الرّسول؟ فماذا حينئذٍ عن معادن علومهم كمصدر أساس لِتفسير القرآن ،والفقه ،والعقيدة؟
لِنرجعْ إلى موضوع الأسباب الهامّة في تفريق الأمّة .ففي ضوء ما مرّ، لا يمكن القولُ إنَّّ السّبب السياسي وحده يمثّل علّة الأزمة ؛ غير أنّنا لو تدرّجنا في معرفة الأسباب وأرجعنا كلّ سبب إلى ما هو فوقه وقبله وأصله منهجيّاً ، فلا بدّ من أن نَصلَ إلى أصلِ الأصل ،وعمقِ العمق ؛ أيْ إلى الخليّة الأساسيّة الجذعيّة الأولى الّتي بُني عليها هذا البناء الضّخم في الواقع الاجتماعي وكذلك الواقع المعرفيّ بل الاجتهاديّ . وهنا مكمن الخطورة ؛ لأنّ هذا الأساسَ من خلال الحركة التّدرّجيّة المنهاجيّة تَقونَنَ وتَشرعَنَ ، فأثّرت في بنية المعرفة وأُسُسِ الاجتهاد في كثير من الحالات وهي تسلّلَت في كيانِ الأجهزة المعرفيّة وأنظمة العقل العربيّ والإسلاميّ كالجرثومة الّتي تتغلغل في عمق الحواسيب وتحلّ محلّ البرامج الطّبيعيّة أحيانًا !

انعدام المرجعيّة الموحّدة في منهجيّة الحورا التّقريبيّ...منطقة الفراغ الأخطر

من هذا المنطلق وبعد هذه المقدّمة التّشخيصيّة الصّريحة يمكننا القول أنّ تعقيدات وإشكاليّات الواقع السياسيّ قد نفذت إلى عمق العقل الإسلامي وساهم بشكل لا يُصدّق في تركيبة وقواعد العلوم الإسلاميّة كلّها وإن بدرجات مختلفة . فعلى سبيل المثال وليس الحصر لاحِظو الحديثَ الشّريفَ والمديات الكبيرة المخيفة من التأثّر فيه بالعامل السّياسي؛ وأنّ سلطة السياسة والمالِ في بعض الأحيان كيفَ اصطنعت الأحاديثَ ورجالها! وكم هي ساهمت في اختلاق التّبرير الشّرعي للواقع السياسي؟! وهنا مع أنّني لا أحسن الظنّ بمدرسة الاستشراق الغربيّ ولكنني بكل حزن وأسف أراها أكثر أهليّةً من المدارس الفكريّة الداخليّة في الكشف عن هذه العلاقات الجدليّة المدمّرة بين السّياسيّ والمذهبيّ ؛ لأنّ الذّهنيّة الحاكمةَ على كثير من عناصر ومفكّري ومجتهدي المذاهب الإسلاميّة هي نفسُها جزء من المشكلة ومساهِمة في صناعتها !
ولكنّ الطّرفَ الأصلحَ لِلعلاج العميق والحقيقيّ والنّاجع هو الّذي ينطلق في فهمه للإسلام من مرجعية إسلامية شاملة بمنهجيّة سليمة غير خاضعة للعناصر القَبليّة والبَعديّة ؛لأنّ المعالجة الإسلاميّة العامّة لن تنجح لو انطلق المرجع المذهبيّ من المقوّمات المذهبيّة التي بالأساس محلّ إنكار الآخر ! كذلك الأمر لا ينفع أن نستندَ في محاولاتنا العقيدية إلى نصوص الطرف الآخر بطريقة انتقائية واستغلاليّة .
فمن هنا ، تُلحّ الحاجة إلى انتهاج المنطق المنهجي السليم في فتح النقاش والحوار المذهبي وهو يستدعي تأكيدَ المنهجية المشتركة الصّالحة للاستناد والاستشهاد بصفتها المرجعيّة المنطقيّة لمعالجة القضايا الإسلاميّة عامّة وأمّا المسائل المذهبيّة الخاصة بكل مذهب وإن كانت لا تنجو من نتائج هذه المراجعات الكبرى والمصيرية في ضوء تلك المرجعيّة المشتركة ( لربط عضويٍّ سافرٍ بينها وبينَ الأصول والقواعد العامّة ) إلّا أنَها ستبقى صالحة إلى ذلك الزّمن وقد تكون حجة شرعيّة أيضاً .
والسّؤال الملحّ في ما يتعلّق بالمدوّنات الحديثيّة ورُوّاتها في كلّ المذاهب، والتي بدورها أسّست لعلوم كثيرة وقضاياها الأساسيّة هو: هل الاستناد إلى الحديث غير المتواتر - حتّى في مقاييس المذهب المنتمي إليها - يمكن أن يكون صالحًا ومنطقيًّا في المحاولات المُجدية للتّقريب ؟ وهل المنطق المذهبيّ والخطاب الداخليّ لِكلّ مذهب ، يصلحُ ليكونَ أساساً للحكم على الطّرف الآخر الّذي هو بدوره ينطلق في وجوده ومبرّراته إلى مثله ؟ وهل المناخ الفكري الإسلاميّ لو خَلا من مرجعيّة يقينيّة مشتركة يمكن أن يشهدَ حِراكاً حقيقيًّا نحوَ إعادة صياغة الفكر الإسلامي العامّ والصّالحِ ليكون الحضنَ المستوعبَ لِكلّ أبناء الدّين الإسلاميّ ويساهم في صناعة حضارة إسلاميّة إنسانيّة دون الرّوح الإقصائية التكفيريّة الرّاهنة التي تمنع تحقّق " الأمّة الواحدة الموحّدة " على أرض الواقع؟ أعرفُ أنّني الآن أمضي قُدُماً في أرض شديدة الخطورة ومليئة بالألغام فلا أسعى لاعتبار ما أقوله كالنّهايات ولكنّني أكشف عن تفكيري بصوت عالٍ بحثاً عن إرهاصات حقيقيّة للحلّ .
ومن هذا المنطلَق علينا تأكيد أنّ الإشكاليّات المنهجيّة التي نشير إليها هنا بأشكالها المتعدّدة لا تختصّ بمذهب دون مذهب كما أنّ المحاولات المتواضعة – بالمقارَنة مع حجم الكارثة وجسامة التعقيدات والانحرافات التّاريخيّة على صعيد المناهج – أيضًا قد صدر من الطرفين الرّئيسين وليس كما يظنّ بعض وكأنّ الشيعة مصرّون على تبرئة مناهجهم، بل الجميع مطالبون بالتعديل والإصلاح في مناهجهم الّتي تحولّت جزءًا من الإشكاليّة ومساهمة في إعادة إنتاج الأزمة !
هذه المرجعيّة المنهاجيّة المعرفيّة الّتي نصرّ عليها في هذه المقالة تحظى بأهمّية مصيريّة في حياة الأمّة و تلعب دور الحَكَم والفاصل و تمنع وقوع الانسداد والانغلاق أمام الاختلافات الكبيرة لأنها تفتح الأفق وتمهّد الطريق للخروج من الأزمات، وترجع إليها كلّ القضايا المهمّة وتكون صالحة لعرض الفروع الاختلافيّة عليها في المنعطفات العلميّة الخطيرة .وهذا الفراغ التّاريخيّ هو ما أدّى إلى واقعنا الفوضويّ في العمليّة الاجتهادية .فرغم اعتبار الاجتهاد باباً مفتوحًا عند الأغلب ؛ غير أنّ الرّوح الحاكمة عليها هي الجمود والأخذ الحرفيّ بالأخبار الآحاد وتحييد المنهجيّة العقليّة المنسجمة الأطراف في التعامل مع المصادر المعرفيّة الأخرى .وإنّ إفشال فاعليّة النصوص المُحكَمَة من أن تَحسِم أو تُعرض عليها المصادر الأخرى تحوّل إلى منهج مقَنّن ومُشرعَن .
على ضوء ما أسلفنا، فإنّ انعدام وجود منطق علميّ مُوحَّد يحكم العلاقة بين العلوم كلِّها يُعَدُّ من أكبر الموانع أمام النشاط التّقريبيّ ؛ لأنّ الّذي نراه في المشهد المعرفيّ الإسلاميّ هو واقع احتقانيّ صِداميّ بين مَراجع كلّ علم .حيث أنّ علماء الفقه ،والحديث ، والعقيدة ، والكلام ، والفلسفة ، والتّفسير ، والرّجال ، والسّياسة وغيرها من الحقول الإسلاميّة قد عجزوا عن بناء منهاج معرفيّ مُوحَّد تَرجع إلى قواعده العامّة الأساسيّة كلُّ قضايا هذه العلوم .
والرّائع في المنطق القرآنيّ التّوحيديّ ، هوعندما يدعو المسلمين إلى التلاحم والتوَحُّد بقوله تعالى : واعتصموا بِحَبْلِ الله جميعًا ولاتفرّقوا و في عشرات الآيات المباركات الأخرى التي تدعو إلى نبذ الفرقة و التوحيد السّياسي أو المعرفيّ أو الاجتماعيّ ،أو عندما يدعو أهلَ الكتاب جميعًا إلى التّوحيد بقوله تعالى : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ؛ يضعُ إطارًا مَرجعيًّا صالحًا لإرجاع المختلف عليه إليه .
ففي الآية الأولى تنصّ على الاعتصام بالحبل و هنا المقصود به هو القرآن الكريم والأمر الّذي لا يختلف عليه إثنان منهم .أي لا يتركهم مع الاختلافات و إنّما يضع لهم إطارًا مشتركًا يستطيعون أن يعتصوا به لتحقيق الوحدة و إزالة الشّبهات . و كذلك الآية الثّانيّة تدعو إلى إحالة المختلف عليه إلى الكلمة السّواء أي الإيمان به تعالى و نبذ الشّرك في عبادته .و هنا يجب أن نتسائل المشفقين على أوضاع الأمّة و الحريصين على وحدتها و دُعاة التقريب: هل العمل الجادّ على صياغة المرجعيّة المنهجيّة المشتركة قد بدأ فعلًا؟ 
عليه ، فَهَل من المعقولِ التّفكيرُ بالوحدة الصّادقة دون التّوافق على إطار مرجعيّ مشترك في الفكر؟ و أليست القطيعة الحقيقيّة بين العلماء المسلمين من المذهبين ( باستثناء قضاء بعض الأيّام في فنادق 5 نجوم في أيّام المؤتمرات) لن توفّر فرصة لتحقيق التقارب المرجعيّ والمنهجيّ و هي إشكاليّة ستؤدّي إلى شيئ من التّكاذب والنفاق بعض الأحيان؟ و هل هناك مشكلة حقيقيّة في التّعامل العلميّ الواسع بين كلّ نُخَب العالم الإسلاميّ لاعترافٍ صادقٍ حقيقيٍّ ببعضهم بعضاً ،و لِقبول الآخر ،مهما اختلف ضمنَ الإطار الاجتهاديّ و وفقًا لتلك المرجعيّة المشتركة الكلّيّة ؟ 
وأعلمُ صدقاً كم هو صعبٌ وشبه متعذّر أن نبحث عن إطار مرجعيّ فلسفيّ إسلامي غير نابع من المرجعيّات المذهبيّة ، فعلى الرّغم من أنّني أرجّح أن يكون المنطق المشار إليه سَيَرى النّورَ عبر الاستناد إلى يقينيّات ومتواترات الحديث الشريف بالإضافة إلى ظواهر القرآن الكريم من منطلق جهود العلماء القادرين على السَّير في غير الحجّيات الخاصة بكل مذهب ،ولكنّني متأكّد من صعوبة الطريق ووعورة مَسارِ هذه العمليّة التي تستدعي أن يتدرّب الفقيه ، أو المتكلّم ، أو المفكّر ، أو المؤرّخ الإسلاميّ على المشيِ خارج المناهج الداخليّة المذهبيّة .وبخاصة عندما نلتفت إلى أن الإشكاليّة الأكثر تعقيدًا تتمَثّل في أنّ مصادرَ من الدّرجة الثانيّة لأسباب كثيرة - لا أظنّني قادرًا على إحصاءها في هذه العجالة – تحولّت إلى الثّابتِ الّذي تَتُمّ المحاجَجةُ بها في مواجهة الآخر المذهبي ! وأنّ قوانين وقواعد كثيرةً جدًّا بفعل التّمَترُس والتَّمَوضعِ ومِن ثَمَّ التقوقع المذهبيّ قد نفذت إلى عمق المناهج الفكريّة لكلّ مذهب. وهل الفكر الإسلاميّ إلّا صنيعة هذه المناهج؟وهل العقل الإسلاميّ المذهبيّ قادرٌ على أن يَخلع نَعْلَيه بهذه السهولة؟
لم يكن الهدف من إثارة موضوع " مرجعيّة القرآن الكريم" ويقينيِّ السّنة الشريفة في صياغة القواعد المشتركة وفتحِ أفق يسمح ببناء منهج آخر على أساس اعتبار النص القرآني هو في المرتبة الأولى في المصادر الفكرية منهجيًّا واعتبار المصادر الأخرى مهما كانت ، في طوله وليس في عرضه – كما الان – لم يكن هدفي من هذا القول هنا السعيَ لِتقديم البديل ؛ لأنّني مطّلع على صعوبة هذا الأمر وملمّ إلى حدّ ما بمُِضاعفاته المنهجيّة في كلّ مذهب ؛ إلّا أنني أعتبره في النّهاية أمراً لا بدّ منه مهما كان مُكلِفًا وصعبًا لأنّ المحاججات المذهبيّة – قبل أن ينجح أصحابها في تمتينها بقواعد مشتركة - لا تصلح لتكون المنطلقات المنطقية للحوار المذهبي والهادف إلى التّقريب والانسجام على مستوى الأمّة الإسلاميّة .

ساحة السّياسة والسّلطة..حيث وُلدت الفتن الكبرى

لعلّها السلطة وشهوة السيطرة المُخبَّئة تحت العناوين السّياسيّة، وحدها تستأهل لِتكونَ البؤرةَ المركزية لِتحويل مَسار التّعدّدية نحوَ النّزعة التّفكيكيّة و استغلالِ التنوّعيّة الفكريّة لأجلها ومن ثمّ إلباسُ الفتن المتنقّلة في حقب التاريخ الاسلامي – بل العالمي – وزواريب الحراكات الاجتماعيّة لبوسَ الفكر واختلاق الغطاء السّجالي الناعم على حالات التّمزّق المذهبي والاجتماعي ؛لِيبدو التمزّق والأهواء السياسيّة وكأنّها مبرّرة بالدّين ومعزّزة بالنّص الشرعي!
على ضوء ذلك ، لا أظنّ أنَّ خدمة لتحقيق المصالحة المذهبيّة مهما كَبُرت يمكن أن ترتقي إلى مستوى قيمة إماطة اللّثام عن هذه الكذبة التّاريخيّة والاستغلال البَشِع للفكر العقلاني الإسلامي .وهذا لا يعني إنكارَ وجود محاولات فكريّة صادقةٍ للكشف عن هذه الخديعة ووضع النِّقاط على الحروف في فهم عمق العمق لأسباب التشقّقات القاتلة في تاريخ وواقع المسلمين ؛ إلاّ أنّها لم تتجاوز إشارات عابرة لو قيست بِحجم هائلٍ من الدّراسات الفكريّة التي تبحث عن جذور المشكلة في المكان الخطأ !
في هذه المقالة الموجزة أحاول قدر وُسعي المتواضع أن أُعرّج دوماً إلى مَربط الفرس وجوهر الأزمة التاريخيّة أعني إشكاليّةَ السياسيّ والدّينيّ باذلاً كلّ جهدي لإثبات أنّ الحقيقة لا تكمن في اعتبار التعدّدية الفكريّة التي هي قيمة عالية ولابدّ منها في حياة الإنسان وإنّما الكارثة وقعت علينا عندما أخضعنا العقل العربي والإسلامي للأنظمة السياسيّة أو رجال يتبادلون معها المصالح من خلال إعطاء الأخيرين للأولى الشرعيّة الدينيّة وتعزيز الأولى مكانة الأخيرين في المجتمع أو حتّى في الأوساط العلميّة المفتعلة والتي باتت أمراً عقدياً صرفاً بعد مرور قرون عليها وبعد ما دُفنت الأسباب الحقيقيّة للحروب الدّاخليّة وأسباب التّمزق .
التّسييس والعَلمانيّة بوصفهما انحرافَينِ في العلاقة بين السّياسيّ والمذهبيّ
الدّين بطبيعته الأصيلة هو المكوِّن الأساس لِبُنية الحضارات بأوسع معانيها ، بما في ذلك تلك الأبعاد المتعلِّقة بالإدارة الاجتماعيّة ،وتركيبة العناصر السّياسيّة ،ونمط الصّلة بين الفرديّ والاجتماعيّ ؛وكذلك الأنساقُ والأنظمةُ السّياسيّة المرتبطة بأنماط الحكم وأشكال السّلطة .وهو ما لا يدَع مجالًا للشّك في أنّ أيّ قراءة دينيّة لا تقدّم تفسيرًا واضحًا لهذه الأبعاد والعناصر لا يُمكن أن يمتّ إلى الإسلام على وجه التّحديد بِصِلة ؛لأنّ الدّينيّة و العلمانيّة نقيضان ؛ اللّهم إلاّ أن يتصارعَ الدّيني والعلمانيّ كَتجربتين على الأرض .فربّ علمانيّ في أرض الواقع و في ساحة العمل يسبق دينيًّا أو ربّما نجد تاريخيًّا بعضَ التّجارب الدّينيّة الّتي تتأخّر عن بعض النماذج العمليّة في تحقيق العدل و الحرّية ! لكنّنا نعرف أنّ تجربة (دينيّة) قمعيّة أو دكتاتوريّة أو استبداديّة تصادر الإنسانَ و كرامتَه و تضرب في عرض الحائط كلَّ القيم الأخلاقيّة ، لا يمكن اعتبارها تجربةً دينيّة مهما كان الإعلام التابع والموجَّه يُصَوّره كذلك.
عليه ، فإنّ الصراعَ العلمانيّ ضدّ هذا النّوع من التّجارب الفكريّة أو السّياسيّة ،فإنّه لا يمثّل صراعًا بين الدّين و العلم ،وإنّما بين الدّيني والعلميّ ؛ والفرق بين الدّين و الدّيني ( أو المتديّن ) أو بين العلم والعلميّ والعلمانيّ واضح لا يحتاج إلى الإيضاح.
ولكنّ الدّينيّ لو كان دينيًّا حقًّا لن ينصدم مع العلميّ أو العقلي و الإنسانيّ ، طبعاً لو كان الأخيرُ كذلك حقًّا .والعكس صحيح أيضًا؛ فلا يصحّ أن يعارِضَ العقليُّ أو الإنسانيُّ أيَّ دينٍ شريطةَ أن يكون كذلك لا أن يكون حاصلَ أوهامًا أو شبهاتٍ أو فرضيّات مُختبريّة غير يقينيّة تُشبه الحقَّ و العلم و العقل . 
وهذا المُدَّعى مبنيّ على أنّ المكوّنات الحضاريّة في الفكر الدّينيّ الإسلاميّ تاريخيًّا ،وبالتّحديد بالنّظر إلى التجربة السنّية النّبَويّة المعصومة و نموذجِ حُكم الخلفاء من بعده و سلطتهم ؛وأيضًا نصّيًّا ونظريًّا أمر في غاية البداهة ؛حيث إنَّ هذه التّجارب السياسيّة الإسلاميّة تستند في أصولها إلى الفلسفة العملانيّة و الواقعيّة القرآنيّة ،وترتكز إلى الدّور الدّينيّ الشامل والحضاريّ لِصناعة الحياة الطّيّبة ،وهي لا يمكن أن تتحقّق في إطار العقيدة الدخيلة الفاسدة بِتحييد الدّين عن السّياسة !عليه، فأيّ قيمة تُتَخيَّل للدّين الإلهيّ لو مامكَّنَ الإنسانَ من أن يَعمُرَ الأرضَ أو أن يمارس حقّ الخلافة عليها أو أن يحقِّق القسط والعدالة ؟ ثمّ هل يُعقَل أن يسخِّر الله السّموات والأرض و ما فيهما للإنسان ومن ثمَّ يترك كلّ ذلك دونَ أن يرسمَ له مخطّطًا كلّيًّا أو معالمَ أساسيّة لتحقيق ذلك؟
ثمّ هل الصّراع الفكريّ العقائديّ أو العمليّ الميدانيّ على قضيّة الإمامة أو الخلافة تُهمة على أساس ارتباطهما بالسّياسة؟ وهل الدّين الإسلاميّ بمعناه الواسع الشّامل في تحقيق الاستخلاف على الأرض، يمكن أن يّقوم في أمر الحياة إلاّ بإمامة ( خلافة ) إمام عادل يُجسِّد أوامر اللّه على الصعيد العملي والواقعيّ ويتجلّى الوعدُ الربّانيّ بنصرة دينه وعباده المظلومين في تأسيس الحياة الطّيّبة ؟ 
ردًّا على كلّ ذلك ينبغي لنا القولُ : إنّ مبدأ الصّلة العضويّة بين التحقّق الإسلامي التطبيقيّ والنّموذجيّ و مقوّمات السلطة والحكم العمليّ مبدأ يقينيّ حتميّ ، بل إنّ حقّ السّلطة و التّشريع هو حقّ الهيّ بالدّرجة الأولى و هو الّذي يحدّد صلاحيات المتصدّي له ( الإمام ) وما مِن إله حقّ إلاّ أن يدرج ضمنَ نصوصه و رسالات أنبيائه نمطَ وبرنامجَ التّعامل مع الحياة كلّها وعلى رأسها إدارة الإجتماع وبناء الحياة الطيّبة وهو أمرٌ لا بدّ من أن يمرّ عبر تجربة حكم ومخاضِ نظام اجتماعيّ يستند إلى ما أنزل الله بكلّ معاني الحكم وشموليّته الحضاريّة والحياتيّة .
أستثمر هذه اللّحظةَ المؤاتيةَ لِأعارضَ تسميةَ التّجربة الإسلاميّة الصحيحةِ ( الإسلامَ السّياسيّ )؛ لأنّ هذا المصطلحَ الّذي يأتي في سياق حروب المفاهيم و المصطلحات وهي عملية تستهدف ضربَ الوعيَ العربيّ و الإسلاميّ ،لا يُستعملُ ضدّ التّجربة الإسلاميّة في إيران أو الحركات الإسلاميّة الأخرى فحسب ، بل يتعدّاها إلى نفس التّجربة السياسيّة المحمّديّة الأصيلة .
وأمّا الّذين ينسجمون معه منّا فهم يجهلون حقيقة ما وراء هذه الكلمة من إفراغ الدّين الإسلاميّ من مضمونه الإنسانيّ الأخلاقيّ .و يحاولون اعتبارَ الإسلام وسيلةً للحكم و ليس الحكم وسيلةً لتحقيق الإسلام ! مع أنّني كما ترون أعتبر أن لا معنى للدّين الإلهيّ لو لا يقدم رؤية ومبادئ لصياغة النّظام الاجتماعي والإداريّ و السّياسيّ .وفي نفس الوقت أدعو إلى استخدام كلمة السّياسة الإسلاميّة و ليس الإسلام السّياسيّ؟
لِنَرجع إلى إشكاليّة العلاقة بين الطروحات الوحدويّة والأطماع السّياسيّة المتستّرة تحت الغطاء الدّينيّ والمتغذيّة منه لننهي الفقرةَ هذه بالقول التّحذيريّ من أنّ مسارات التّقريب والائتلاف الإسلاميّ قد اتّخذت مناحيَ انحرافيّةً في بعض الحالات ، من خلال ارتباطها الوثيق بِمَصالح التّعامل السّياسيّ والاجتماعيّ أكثر من الاتّفاق على التقاء المذاهب الإسلاميّة على أُسُس وثوابت الإسلام. 
ونرى من المهمّ جدًّا أن نلتفتَ إلى ضرورة تصحيح منطلقات الوحدة، وتخفيف الدّور السّياسيّ في المشاريع الوحدويّة لِصالح تفعيل الدّور الاجتهاديّ والمعرفيّ في إعادة صياغة منهجيّة لتفصيلِ أصول الدّين وعدم تنزيل الفروع المَنزِلةَ الأولى في الفكر الدّيني، واعتبار الوحدة الحقيقيّة في وحدة الرّؤية الإستراتيجيّة والمقاصديّة والفلسفيّة لأساس الدّين. 
إنه هدف كريمٌ لو تحقَّقَ في أرض الواقع و في المشهد العمليّ الإسلاميّ ،فإنّه سَيَترك بَصَماته القويّةَ جدًّا على الشّارع الإسلامي ،ويُسبِّب ظهورَ كثيرٍ من الانفتاح والرّحمة المتبادلة فيما بينهم .وعلى أثر ذلك ستنتقل الشدّةُ والعنف واللاّتسامح إلى عمق الجبهة المعادية للقيم الإنسانية السّامية، وتسود علاقات سليمة بين المذاهب الإسلاميّة كافّةً مهما اختلفت في فهمها واجتهادها.ويقول الله تعالى في الكتاب : مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا.

مصيريّة التعدّديّة والتنوّع المذهبيّ وضروراتها الحضاريّة

إنَّ التّعدّديّةَ الفكريّة وحتّى السياسيّة في حياة وواقع الأمّة الإسلاميّة والتّعاطي مع قضاياها أمر في غاية الضّرورة وشديد الأهميّة والحفاظ عليها ومُراجعتها لتعديلها وتصحيحها من الأمراض التي تصيبها من حين لآخر على أثر تعرّضها لأزمات أغلبها تنبع من الخارج الفكري ، هو الآخر يدعم استمراريّةَ حيويةِ الفكر الإسلاميّ وواقعه الموضوعيّ ،ويعصم الحالةَ الإسلاميّةَ من الانهيارات التي تنشأ من المناخات الاستبداديّة والمنغلقة والمبرِّرة للعقليّة الإقصائيّة .
التأكيد على أهمّيّة التعدّديّة وضرورتها لحياة الإنسان عمومًا يأتي لندرَءَ به شبهة الاعتقاد بأنّ ما يُراد من التقارب والوحدة هو الحدّ من الاختلاف والتّنوعيّة الفكريّة وهو أمر مرفوض كلّيًّا رغم أنّ بعضًا من الفريقين يضع شروطًا من هذا النّوع على الطّرف الآخر إن أراد حقًّا أن يثق به ! ولكنّ الحقيقة السّاطعة التي لا غبارَ عليها هي أنّ الخلافات الكبرى والفتن السّاحقة للمسلمين دبّت وهبّت على أثر استغلال التنوّع الفكري سياسيًّا واجتماعيًّا ؛ ممّا حوّل الاختلافَ الفكريَّ إلى عنصر المواجهة . عليه فالمشكلة الحقيقيّة هي مع الفتن والنّزاعات الّتي يغلب عليها الطّابع المذهبيّ ،ولكن في جوهرها يتمّ إدارتها وتوجيهها مِن قِبَل الأنظمة والأجهزة السّياسيّة و الأمنية .وأمّا الاختلاف الفكريّ لو تعاملنا معه بموضوعيّة وإنصاف فإنّه سيكون باب الرّحمة على الأمة و فرصة التّعميق والإنضاج للنّظريات والأفكار الإسلاميّة .
وينبغي لنا إعادة التّأكيد على أنّ الحالةَ الوحدويّة لا تعني وضعَ حدّ للاختلاف والتعدّد ولا يُقصد منها السّعيُ إلى توحيد الاجتهاد وإعاقة حركيّة منطق ومنهج الفهم الديني. وإنّما المراد الجوهريّ هو وجوب توحيد المرجعيّات البُنيويّة وتقريب المفاهيم الأساسية، وتركيز العمل الإسلاميّ على هذه الأُسُس، وإبداء أوسعِ نِطاق من التّسامح فيما دون ذلك. ولا داعي للخوف من القول: إنّ الحالةَ الرّاهنة في الاجتهاد الدّينيّ المرتكز إلى تغليب المذهبيّة على الأُسُس الثّابتة والقطعيّة، لن تنتهي إلى تكوين الأمّة ، إلّا لِمن اختصرَ الأمّة في مذهبه الخاصّ دون غيره!

جرأة المراجعة والنقد الذّاتي في الإطار المنهجيّ

إنّ المشاريعَ التّقريبيّةَ ، قديمها وجديدها، تأتي في سياق المخطّطات الجادّة لِتحقيق المشروع النّهضوي الإسلامي وإزالة عوائق التنميّة الشّاملة .كما أنّها ترمي إلى تحقيق المزيد من المَناعة والتّحصين للأمّة في الفكر والواقع الحضاريّ المأزومِ في الوقت الرّاهن .
لكنّنا في نفس الوقت ، في غنىً عن الاستغراق في القضايا العامّة الكلّيّة فيما يتّصل بالتّقريب واجترار الحديث عن فضائل الاتّحاد ومساوئ التّشرذم ، أو الإسهاب في تفسير الأسباب المبرّرة لِلعمل على تحقيق الوحدة بعدَ كلّ الأعمال الجادّة والكافية من هذه النّاحية . أضف إلى ذلك ، أنّه قد يُبعدنا عن الاهتمام بمناطق الفراغ في هذه المشاريع مُلهيًا إمكانيات المسلمين فيما لا يقدّم ولا يؤخّر عن القضايا الأكثر أهمّيّة والأشدّ إلحاحاً ،وبالطّبع لا يمكن الرّهان على ثِمارهذه المساعي العامّة في اللحظات العصيبة التي تمرّ علينا ونحن بأمسّ الحاجة إلى رصّ الصفوف مِن قِبَل كلّ الأطراف المختلفة . وهو أمر قد لمسناه بانكشاف تامّ في فتنة هذه السّنين المريرة التي مرّت على أمّتنا وكأنّنا قد تقهقرت الأمّة كلها إلى ما قبل ألف وأربعمائة عاماً وتراجعنا إلى أيّامنا الأولى من تأسيس الفتنة بين المذاهب الإسلاميّة .
ولايعني ما أشرنا إليه آنفاً ، أن لا حاجة إلى مراجعة تلك المشاريع مهما كَبُرت أهمّيتها أو ارتفعت قيمتها و ظهرت آثارها في بعض مراحل حياة الأمّة ؛لأنّ فاعليّة الكثير منها باتت على المحكّ في الأحداث الّتي مرّت على الأمّة هذه السّنين . والسّبب الحقيقيّ في ذلك قد لايكون في انعدام صدق النّيّة عند القائمين على هذه البرامج الوحدويّة ،أو قصديّة بعض المخطّطات المعاكِسة في اعتبارها غيرَمُجدية ،والتّحريض عليها أحياناً ؛ بل قد يعود سبب بعض الانتكاسات الخطيرة إلى عدم أخذ ما استجدّ في حال الأمّة بالاعتبار فيها .
وهو أمر يفضي إلى إسقاط الظّروف والملابسات التاريخيّة على الرّاهن .ويُسبّب تفجيرَ الواقع بأفخاخ الماضي .ولكنّ الصّحيح هو أن ينبع كلُّ البرامج الهادفة إلى تأليف الصّف الإسلاميّ مِن وعي واقعنا المعاصر والبيئة الّتي تُحاصر الأمّةَ بِشتّى الوسائل ومختلف الاستراتيجيّات الخبيثة لِتفكيك قدراتنا عبرَ افتعال الاختلاف واختلاق الفتن.
وقد يكون هذا الفراغ في النّشاط التّقريبيّ وانعدام المراجعات الشّجاعة والعميقة فيه ،وضعفُ الإبداع والمبادرات المعاصرة المبنيّة على عقليّة مرجعيّة الإسلام كلّه وليس المذهبيّة بوصفه أساس فهم الإسلام ، هو الّذي دفعَ بِبعض المعنيّين بالشّأن التقريبيّ أو الإسلاميّ عمومًا لِيعتبروا هذه المحاولاتِ السّاعيةَ إلى تحقيق الانسجام الإسلامي وكأنّها ذهبت أدراجَ الرّياح ، أو هي كانت عبثيّة سبّبت مزيدًا من النّفاق وأنتجت حالة تكاذبٍ وضَيّعَ المؤسّسون لها أعمارَهم عليها وأحرقوا فُرَص مذاهبهم وطاقاتها في هذا السّبيل دون جدوىً يُذكر!
وهنا رغمَ الإصرار على تجنّب التّفاؤُل المفرط في نتائج المشاريع التقريبيّة على مدى القرون الماضية مع تقلّبات واختلافها في الشدّة والضعف ، بيدَ أنّنا لن نذهب بعيدًا في التّشاؤُم والإجحاف في الحكم على تاريخ من المساعي الصادقة مُفعمٍ بالإنجاز الفكري حول قضايا التأليف والتوحيد وما نجم عنه من تحييد مصير الأمّة من أن يقع في شرك التقاتل المستمرّ والتناحر المدمّر .
ولكن في نفس الوقت نؤكّد لحقيقة أنّ الأمّة طيلةَ القرون الماضية كانت مُستهدفة من أعدائها من خلال افتعال الاختلاف واختلاق الفتن الكبيرة الساحقة بوصفها أفضل وسيلة ناجعة لتحقيق الهزيمة وإلحاقها بنا ؛ ولولا تلك الجهود الجبّارة من علماء الأمّة في درء الفتنة الكبرى وفتح المعارك الشاملة بين أبنائها ، لما وصلت حالتنا إلى الوضع الموجود شبه المستقرّ باستثناء جيوب الفتنة وفُلُول تلك الحركات التمزيقيّة الخطيرة وهي اليوم تكمن خلاياها المدمّرة السرطانية في بعض جغرافيا الأمّة الإسلاميّة .

قواعد المراجعة والنّقد

من المؤكّد أنّ أيّ مشروع مراجعة ونقد ، إن لم يكنْ خاضعًا للقواعد المنهجيّة لذلك ولم ينطلقْ من أُسُس واعتبارات منطقيّة ، سيُسفرُ عن ضياع معرفيّ أو الخلط والفوضى ؛ أو يسبّب انعدام الثوابت والمبادئ وفي النّهاية يمنع " الإنتاج المعرفيّ " القابل للتّبرير والتبنّي . فمن جملة هذه الاعتبارات والأصول ما يلي :
أ – المنهجيّة المعرفيّة الموحّدة أساسًا للمراجعة البنيويّة .
ب – القبول باعتبار المصادر التّاريخيّة الإسلاميّة كلّها صالحة للمراجعة بصفتها منابعَ للبحث التّاريخيّ وعدمُ الاستمرار في مقاطعة بعضها دونَ التّدقيق العلميّ والابتعاد عن التّعامل الانتقائي مع المنهجيّة البحثيّة التّاريخيّة .من البديهيّ أنّ المقصود هنا ليس تبنّيها كلّها وهو مطلب غير عقلانيّ؛ بل ضرب من المستحيل؛ وإنّما المراد هنا التّعامل معها وليس تحييدَها أو إقصائَها من المصادر بحجّةِ كونها ممّا يَستشهدُ به الآخر ! والاستشهاد بِنادِرِ فكر ومصادر الآخر لاينسجم مع الموضوعيّة المنطقيّة ؛لأنّ كلّ مذهب من المذاهب الإسلاميّة فيه من النّادر غير الموافق مع التيّار العامّ والرّوح الحاكمة على مجمل اجتهاداته ونظريّاته الّتي لا يوافق عليها الرّأي الغالب فيه .
فإن كان الاستناد إلى بعض علماء الشّيعة في القول بالتّحريف يلقى استهجانًا من الطّرف الشّيعيّ كذلك هناك أفكار خاصّة على خلاف المبادئ لأغلب النّخب السّنية لا يجوز لنا أن نستشهد بها لإفحام الطّرف السنّي!الّا إذا كان الفكرة المستشهَدُ عليها ممّا يدعمها أصول الفكر الآخر .
ج – عدم الدّخول في قضايا الفروع؛ لأنّها تُعَدُّ من النّتائج الطّبيعيّة للمسائل الرّئيسيّة والقوانين العُليا الّتي تُفرزها المصادرُ الأولى . عليه ، فإنّ إقحام أيّ موضوع فرعيّ في الحوارات لا يزيد المناخات إلاّ بعدًا ولا يُنتج إلّا سوء فهم متبادل .فعلى سبيل المثال ، من غير الممكن الخوضُ في قضايا المسائل الفقهيّة دون التفاهم على الأصول الّتي على أساسها تتمّ العمليّةُ الاجتهاديّة بِرُمّتها .كذلك ، لا يمكن الاستناد إلى قول أحد باعتبار الاستشهاد بقوله صحابيًّا عادلًا أو معصومًا ، حجّةً شرعيّةً في أيّ مجال ،قبلَ حسم أو نقاشِ مدى هذه الحجّية في قضايا تنبحث في فلسفة الفقه أو العقائد . فهكذا يصبح من الضّروريّ الالتزام بسلّم المسائل بطريقة منهجيّة في العلاقة المنطقيّة بين القضايا بعضها بالبعض .
د – الابتعاد من إصدار الأحكام السّابقة الجاهزة تاريخيًّا، وعدم إثارة الشّكوك في صدقيّة أو مشروعيّة الاتّجاه الآخر وأيضًا ضرورة تَجَنُّب السّعي لاعتبار منطق الآخر ضعيفًا أو غير شرعيّ ؛ لأنّ شعورًا كهذا لو وَجَدَ في الحوار الفكري مَنفَذًا ومَدخلًا ، فمن شأنه أن يُّؤسّسَ لِسوء الظّن وتُسبّبَ إيجادَ ذهنيّة سلبيّة على المطارحات الفكريّة تعرقل مبدأَ المرونة الصادقة وإمكانيّة التحوّلات في المسار ، أَمامَ مواجهة الحقيقة منكشفةً حاسمةً.
ه – الرّؤية التّاريخيّة الصّادقة تمثّل أساسًا هامًّا جدًّا نحوَ تحقيقِ المراجعاتِ أهدافَها بِشكل طبيعيّ ولأنّ الّذي نشهده اليومَ من الصّراع المذهبيّ فهو في قسم كبير منه يرتكز إلى الدلالات والمعطيات العقيديّة الفلسفيّة أكثر من أن يكون مُنببنيًا على المعطيات والوقائع التّاريخيّة وبخاصّة لو نظرنا إلى الفوارق الهائلة بين مَنهَجَي المدرستين في تكريس المبادئ والأسس المذهبيّة وبالتّحديد في التّوجّه الكلاميّ .ومن هذا المنطلق فإنّ الحاجة إلى إقحام الوقائع والمسارات العمليّة الموضوعيّة في التّحليل الفكري المذهبيّ ستكون مُلحَّة أكثر .
و – تصحيح العلاقة مع الأطراف السّياسيّة تجنّبًا للوقوع في شبكتهم وأجندتهم من جهة ، وعدم الانزلاق نحو ترك الاهتمام بشؤون الناس ؛ لأنّهما كلاهما غير مقبولين .يجب أن تكون العلاقة بين الطّرف الدّينيّ والطرف السّياسيّ علاقة طبيعيّة ومتحرّرة وغير مبنيّة على تبادل المصالح و غير منطوية على وسائل الإغراء والتّهديد والتطميع بأيّ حال من الأحوال .وإنّ إصلاح طبيعة علاقة الأطراف المذهبيّة والإسلاميّة عمومًا من شأنه أيضًا أن يساهم في جذب ثقة الأطراف الإسلاميّة من الطرف الآخر في المساعي التّقريبيّة ؛ لأنّ الجهات المرتبطةَ بأطروحات الأنظمة تُقبِلُ على التّقريب إن أقبلت هي وتُطلق النّارَ عليها ويسعى لِتدميرها إن اقتضت مصالحُ تلك الجهات الرّسمية إفشالَ التّقارب والتّواصل.

مراجعة تاريخيّة موضوعيّة في علاقة السياسي والمذهبي..الأهداف وأساليب التّفكيك

ممّا لاشكّ فيه هو أنَّ العلاقةَ بين المواقع السّياسيّة والأطرافِ المذهبيّة مراجعَ وعلماءَ ونُخَبًا ، طيلةَ التّاريخ الإسلاميّ الطّويل نسبيًا لم تكنْ علاقةً متوازنةً وسليمةً .وهذه الإشكاليّة نشأت بِفعل الطّرفين وليسَ الطّرف السياسيّ فحسب ؛رغمَ أنّه كان و لا يزال الطرفَ الأكثر انتفاعًا و الأكثرَ حرصًا على إدارة الصّراع وتأجيجه ،و اللّعب على ما يَنتُج عن الحالة الممزقة بين المذاهب الإسلاميّة. مع الأسف الشّديد قد وصلت هذه الأزمة في علاقة المذهبيّ الدّينيّ في عصرنا إلى وحدة القرار السّياسيّ والمذهبيّ بعدَما تحوّل العلماء والمراكز الدّينيّة في أغلب البلاد الإسلاميّة أتباع لمراكز القرار السّياسيّ وأدوات لتكريس الحكم والسّلطة بهم مهما كلّفَ .أوضحُ مثالٍ على هذه الكارثة هو اختيار شيخ الأزهر بقرار الحكومة المصريّة ! وهو أمر له مضاعفاته على كلّ الصّعُد الإسلاميّة في مصر في العالم الإسلاميّة وعنصرُ إعاقة للاستقلاليّة في برامج الأزهر قرارات ومواقف علماء الدّين فيما يتعلّق بمصالح الأمّة العُلياء.
وأخيرًا كنت راغبًا أن أقدّم صورةً عن دور وفعّأليّة الرّحِمِ السّياسيّ في توليد الحدود الحادّة والقابلة للاشتعال دومًا بين المذاهب و كيفيّة الولادة القيصريّة للتعدديّة المذهبيّة و نشير إلى أهمّ أهداف الأنظمة السّياسيّة قديمًا و حديثًا في الحرص على إبقاء الأطراف المذهبيّة مُمَزّقَةً متباعدةً مُتحاقدةً و أهمّ الأساليب المتَّبَعَة منذ الأوّل إلى اليوم في تحقيق تلك الأهداف ، إلاّ أنّ المجال لا يسعُ للأمر و أتمنّى أن تَسْنَحَ لي فرصةٌ مؤاتية أخرى لِتسليط الضّوء على هذه المَحاور الثّلاثة . 
وآخِرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ لِلّهِ رَبِّ العالمينَ .

المصدر: http://aafaqcenter.com/index.php/post/150

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك