أمتنا والإيجابية الحضارية

رقية القضاة

 

لعل أبرز جوانب التقصير لدينا كأمة ذات مشروع حضاري متكامل ،هي ردودنا النظرية القائمة على الكلام وشرح النظريات والوقوف بوجه التيارات الفكرية المعادية وقفة دفاع نظري وحماسي وكلامي فقط.

وإذا قدمنا النماذج العملية في ردودنا كانت نماذج سابقة مرّ على تواجدها سنون، وربما قرون ،فيما تخلوا دفاعاتنا من النماذج العملية المعاصرة للحضارة العلمية والتقنية وربما في بعض الأحيان التنظيرية.

وهي أيضاً في بعض الأحيان ضعيفة كنتاج لضعف الشخصية الإسلامية فكريا وعمليا، فالمعركة الحضارية بيننا وبين المتربصون بنا تحتاج إلى بناء الشخصية المسلمة الإيجابية المتفاعلة دون ذوبان في الآخر، مع كل معطيات الحضارة، التي لا تتعارض مع بناءنا العقائدي .

هذه الشخصية القادرة على إدارة دفة الحوار الحضاري ،وتوضيح الحقائق ، وجلو الثوابت وترسيخها، وتأصيل المعطيات ومردوداتها لمواجهة ما يسمى بحوار الحضارات .

إن الأمة بلا أدنى شك قد مرت بظروف حرجة وعدت عليها عاديات أليمة فتفشت فيها ولزمن طويل أوبئة التلاشي والانكسار، فمن الإحباط والوهن ،إلى الاستسلام والانهزام الإبداعي، ومن الإنشغال المستمر في معركة البقاء والتحرر من الاستعمار التي ألحقها بنا عدونا المتربص الطامع الحاقد، إلى معركة الدفاع عن الهوية والإبقاء على وحدة الكيان والذي أفلح سيف الاستعمار في تمزيقه وشرذمته.

ثم اليوم خطر الانهيار الأخلاقي والقيمي والذوبان في النظام العالمي الجديد ، وما بات يعرف بالعولمة ، كل هذا قاد الأمة إلى النزول عن عرش الأستاذية ،إلى فناء الذيلية تدريجيا، وفق خطط أبدع أعداء الأمة حياكتها وتنفيذها ونحن في غفلة حضارية وعسكرية وفكرية طالت أمداً بعيداً.

واستيقظت الأمة بعد دهر وعادت بعد نأي وتداعت إلى لم الشعث ولملمة الجراح وسد باب الفرقة ولكن بعد دهر من الغفلة والتراجع والتجهيل، لتجد نفسها مطالبة برد اعتبارها وتبوىء مكانتها وقيادة مركب الحضارة وهو دور إجباري شرعا ،وليس اختياريا.

وإن الأمة إذا لم تدرك فرضية التفاعل الحضاري عليها، ولم تدرك خطورة الانهزام الحضاري على دينها،ووجودها وأجيالها اللاحقة ،والتي ستحملها مسؤولية الانهيار الحضاري وتبعاته الأخلاقية والاقتصادية والاعتبارية كاملة غير منقوصة، وستحاججها في ذلك أمام ربها ،و إذا لم تدرك الأمة ذلك فستبقى تراوح مكانها الدفاعي المستضعف.

إننا مطالبون بتفعيل فروض الكفاية وتوظيفها في تفاعلنا الايجابي مع الحضارات الأخرى وذلك من صميم عقيدتنا وأولويات نهضتنا، فالأمة في حرج شرعي ما لم تقف وقفة الند للند أو حتى وقفة المتميز أمام ما يعاصرها من الحضارات وأن تتفاعل مع كل ما يرد إليها من خارج محيطها تفاعلاً واعياً وإيجابياً سواء في قبول أو رفض ما تلقيه على شواطئها بحار الأمم المختلفة العقائد والمرتكزات والقيم.

إذ لا يكفي ان تلفظ حضارتنا شوك غيرها، دون إن تنبت الزهر مكانه وتقدمه لأبنائها خاصة وهم يطالبوننا ببدائل لما ننبذه ونلقيه ، فعجلة الحياة تمضي والتطور يلقي كل يوم بجديد غث وسمين على حد سواء.

إن اعظم دليل على مرونة ديننا وتفاعله مع الحضارات أنه حث أتباعه على التعارف مع الامم (( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا )) بل وجعلهم شهداء عليهم (( لتكونوا شهداء على الناس )) وهذا لا يتأتى إلا بالاطلاع الكامل على إبداعات غيرنا وتلقي الطيب منها، فالأدب الإنساني في بلد ما يؤرخ لتجاربه الإنسانية الصالح منها والسيء على حد سواء .

والعلوم والتكنولوجيا في بلد ما ينبغي إنسانيا أن يعم خيرها البشرية، والقيم والأخلاقيات التي تحكم مجتمعات غيرنا ليست مرفوضة بجملتها في عرفنا ، كما وأنه فرض علينا ان نوصل منهجنا وشرعنا وحضارتنا للأمم دون نقص ولا غلو في ديننا ،ولامناص لنا من المضي قدما خاصة والأمة بدأت تنفض عنها غبار سنين التجهيل ،وتخوض غمار بحار الحرية، وتتطلع إلى الامام.

فلنلتقط هذه الإشارات الطيبة، ونسهم في ركب الحضارة الإنسانية بإيجابية وعزة وثقة، بأن التقدم والإبداع والتميز والانطلاق العقلاني الحر الفاعل لن يكون مجدياً ولا صحيح المسار إلا بثوابتنا ومرونة شرعنا وتفهمه لطبائع البشر، وخصوصيات الشعوب، واستحالة تطابقها وإمكانية تكاملها توازيها في المشاريع الحضارية الإنسانية ما لم تكن ضد مصلحة الإنسان كإنسان.

المصدر: http://www.denana.com/main/articles.aspx?article_no=11880&pgtyp=66

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك