صورة الشرق العربي المسلم في الثقافة والإعلام الغربيين

د. حسين الصديق

 

هل نعي نحن ذواتنا التي هي أقرب شيء إلينا؟ إنه سؤالُ وجود أو عدم وجود.
محاضرتي هذه محاولة لرؤية الذات؛ ولكن في مرآة الآخر, أقصد بالذات هنا الشرق العربي المسلم، أو ما يسمونه بالشرق الأدنى, والآخر هو الغرب.
كيف رسم الغرب صورة الشرق ؟ وما العلاقة التي نتجت عن هذه الصورة ؟ وما الدوافع والأسباب لابتناء هذه الصورة ؟ ومن المسؤول عن صياغتها.
أسئلة كثيرة أحاول الإجابة عنها في هذه المحاضرة التي هي نوع من محاولة نقد الذات, وتصحيح مسارها, وتقويمها, وتقديم رؤى علّها تساعدنا على التخلّص من الهيمنة والاستعلاء الغربيين.
إِنّ رؤية الغرب للشرق العربي المسلم تتجسد في مقولة كارل ماركس التي قالها في القرن التاسع عشر: « إنّهم عاجزون عن تمثيل أنفسهم لذلك ينبغي أن يمثلّوا »، وهذه المقولة نفسها توّضح لنا النظرية المركزية الأوربية القائمة على الاستعلاء, والرافضة لأَيْ وجود إِلاّ الوجود الأوربي, فكل ما هو غير أوربي, متخلّف وعاجز، وغير قادر على قيادة نفسه وتمثيلها، ويحتاج إلى وجود آخر يلحق به، ويتبعه.
وبناءً على هذا كانت العلاقة بين الشرق والغرب «علاقة من القوة, ومن السيطرة, ومن درجات متفاوتة من الهيمنة المعقدة المتشابكة», فقد شهد القرن العشرون زرعَ الكيانِ الصهيوني في فلسطينَ عامَ 1948م, ونكسةَ حزيران, وحربَ الخليجِ الأولى, والثانية, واحتلالَ العراق عام 2003م, وحربَ لبنان 2006م, وما يجري الآن في غزةَ. ولعلّ الصورة القبيحة التي يصوغها الغرب عن الشرق، ترمي إلى تقديم مسوغات لما يقوم به ضد الشرق من أعمالٍ إجرامية، أمام شعوبه.
إِنّ هذه المعاملة، وتلك الفوقية والاستعلاء والسيطرة، إنما تنطلق من دوافع، وتخدم أهدافاً، منها ما هو قائم على حقد تاريخي قديم تمثّل في الحروب الصليبية, وتجسد في الاستعمار الحديث، وأصبح أكثر شراسة بتحالف الصليبية العالمية مع الصهيونية العالمية قي القرن العشرين, ومنها ما هو اقتصادي يتمثّل في وجود البترول الذي يشكل عصب الحياة في الغرب الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية, ومنها ما هو سياسي يتمثّل في رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في دعم إسرائيل، وإبقاء المنطقة في حالة تخلّف وغياب وعي، ولتنشغل في الدفاع عن نفسها, وحتى تبقى خيرات الوطن العربي بيد الغرب.
ليست مهمة هذه المحاضرة البحث في هذه الأسباب؛ وإِنّما الحديث عن صورة الشرق العربي المسلم في الغرب, هذه الصورة التي صاغها الغرب على عينه منطلقاً من مبدأ [ لفق تسد ]، لتسويغ العلاقة القائمة على الهيمنة والسيطرة, بينه وبين الشرق، وأيضاً لتسويغ ما يقوم به من حروب همجية ضد العرب المسلمين، في عيون الشعوب الأوربية. فالحكومات في الغرب الأوربي والأمريكي تريد أن تظهر بصورة لائقة أمام شعوبها، مبينةً لها أن شعوباً هكذا صورتها لا تستحق أن تعيش إِلاّ خادمة أو عبدة للتفوق الأوربي.

وقد قسمت المحاضرة إلى قسمين:

أولاً: أ- صورة الشرق العربي المسلم في الثقافة الغربية.
ب- صورة الشرق العربي المسلم في الإعلام الغربي.

ثانياً: من المسؤول عن صياغة هذه الصورة:
أ‌- الغرب.
ب- الشرق نفسه.
خاتمة: قدمت فيها ما أرجو أن يكون محرضاً معرفياً يساعدنا على تمييز عدونا من صديقنا، كما يساعدنا على اكتشاف مصادر قوتنا الداخلية.

أولاً:

صورة الشرق العربي المسلم في الثقافة الغربية:

سأتناول هذه الصورة من جانبين اثنين هما:
1ً- الجانب السياسي: أي الفكر الذي كتبه قادة عسكريون.
2ً- الجانب الأدبي: وأقصد الثقافة والأدب الذين كتبهما أدباء ومستشرقون غربيون.

صورة الشرق العربي المسلم في فكر القادة العسكريين:

إنّ الغرب يعاملنا من خلال الصورة التي رسمها لنا في مخيلته, وهي غالباً ما تؤثر فيها الأهواء والميول والأغراض, وهذا ما جعل المندوب السامي البريطاني في مصر القائد (كرومر) يتحدث عن العقل العربي المسلم بعد معرفة ورثها نتيجة قرن من الاستشراق الغربي فيقول: «إن الدقة كريهة على العقل العربي المسلم, وعلى كل إنسان أنجلو-هندي أَنْ يتذكر هذا المبدأ الأساسي, فالافتقار إلى الدقة الذي يتحلل بسهولة ليصبح انعداماً للحقيقة, هو في الواقع الخصيصة الرئيسة للعقل الشرقي, أَمّا الأوربي فهو ذو محاكمة عقلية دقيقة, وتقريره للحقائق خالٍ من أي التباس, وهو منطقي مطبوع, رغم أَنّه قد لا يكون درس المنطق, ويعمل ذكاؤه المدّرب مثل آلة ميكانيكية, أَمّا عقل الشرقي فهو, على النقيض, مثل شوارع مدنه الجميلة صورياً, يفتقر بشكل بارز إلى التناظر».
فالشرقيون عامة والعرب المسلمون خاصة، بحسب هذا النص، بسطاء غافلون, محرومون من الحيوية والقدرة على المبادرة, مجبولون على حب (الإطراء الباذخ), والدسيسة والدهاء, والقسوة على الحيوانات، لا يستطيعون السير على الأرصفة، «فعقولهم الفوضوية تعجز عن فهم ما يدركه الأوربي البارع بصورة فورية, وهو أَنّ الطرقات والأرصفة شقت وبنيت لكي يُمشى عليها. والشرقيون عريقون في الكذب, وهم كسالى وسيئو الظن, وهم في كلّ شيء على طرف نقيض من العرق الأنجلو-ساكسوني في وضوحه ومباشرته ونبله».
وقد نتج عن هذه النظرة الدونية وتلك الصورة المشوهة التي صاغها القادة العسكريون عن الشرق العربي المسلم نظرية عامة عُزي إليها نجاح الإنجليز الاستثنائي في مصر، وهذا ما عبّر عنه بلفور في مفهوماته عن الحضارة الشرقية، كما عبّر عنها (كرومر) في إدارته لأمور الحياة اليومية في مصر, والتي تتلخص «بأَنّ هناك غربيين, وهناك شرقيين, والسابقون يسيطرون والتالون ينبغي أن يخضعوا للسيطرة, وذلك يعني عادةً أن تحتل أراضيهم, وأن تدار شؤونهم الداخلية بصرامة, وأن توضع دماؤهم وثرواتهم تحت تصرّف هذه الدولة الغربية أو تلك».
وبناءً على هذه النظرية تتجسد صورة الشرق لدى الضابط في الحملة الفرنسية (جوزيف ماري مواريه) الذي يدرك, بعد أن يسهم في إحراق العديد من القرى ونهب العديد من المدن المصرية, وإبادة سكانها, « أَنّ الشرق ليس سوى بؤرة للظلام تهدد الغرب نفسه, والشطر الملعون الذي سَيُعْيي الغرب تعنّته ورفضه للتقدّم والتمدّن، وهو لا ينسى أن يذكّر متلقيه الغربي المفترض بأَنّ العلاقة بين الشرق والغرب لا يمكن أن تكون علاقة تحاور وتفاهم, بل علاقة تصادم وتدمير».
والدونية هي أهم عناصر الصورة التي يصوغها قادة الغرب العسكريون، وتتجسد هذه الدونية في نظرة الضابط (جوزيف ماري مواريه) للقاهرة ورجالها،هذه النظرة التي عبر عنها في قوله: «لم تعد هذه العاصمة كسابق عهدها, هي بكبر باريس وتعادلها في الازدحام ولكن بأَيّ نوعية من البشر! إِنّهم رجال قذرون في سواد منظفي المداخن عندنا في ساموا, كسالى خاملون كصعاليك نابولي», إن هذه النظرة القائمة على الاستعلاء ورفض الآخر والتشنيع عليه, وإظهاره بمرتبة العبد, كان لها أكبر الأثر في تسويغ أعمال الغرب القذرة ضد الشرق بوصفه مسؤولاً عنه. وبناء على ما تقدم فقدكان على فرنسا، بحسب تعبير سان-مارك في مقاله كتبها في مجلة العالمين، الكثير مما يجب أن تفعله في الشرق، لأَنّ الشرق يتوقع منها الكثير، بل إنّ الشرق ليطلب منها حتى أكثر مما تستطيع أن تفعله, فالشرق سيعهد لفرنسا عن طيب خاطر بالمسؤولية الكاملة عن مستقبله».
ولاستكمال سيناريو صورة الشرق لدى العسكريين لتسويغ أعمالهم عوينت فلسطين من قبل القادة الغربيين، وحتى المستشرقين، من أمثال (لامارتين) على أَنّها «صحراء خالية تنتظر التفجّر بالازدهار, وكان يفترض أَنّ القلة من السكان الذين كانوا فيها رُحلٌ لا وزن لهم, ولا حق فعلياً لهم في الأرض، وأنهم, لذلك, دون واقع ثقافي أو قومي، وهكذا فإنّ العربي يتصوّر الآن ظلاً يطارد اليهودي. وفي ذلك الظل يمكن أن يوضع كل ما يحسّه الغربي من ريبة تقليدية كامنة بإزاء الشرقي», وبإمكاننا أيضاً أن نضيف إلى هذه الصورة سمة سلبية أخرى وهي أنّ العربي مزود بالنفط، والسؤال الذي يطرح في الأعم والأغلب، في هذا المجال، دون أي من التحسينات الاستبدالية اللبقة المعتادة، هو لماذا يمتلك بشرٌ كهؤلاء العرب حق إبقاء العالم المتطوّر،الحرّ الديمقراطي, الأخلاقي، مهدداً؟؟ ومن أسئلة كهذه ينبع الاقتراح المتكرر بأَنْ تقوم قوات مشاة البحرية الأمريكية- بغزو المنطقة العربية.

صورة الشرق العربي المسلم في الثقافة والأدب الذين كتبهما أدباء ومستشرقون غربيون:

يجسد الشرق العربي المسلم كل أنواع الشر واللا إنسانية, فالعرب المسلمون عاجزون، يؤمنون بالقدر، ويقضون أوقاتهم في مخادع النساء, ولا قيمة للوقت عندهم, والشرق مكان لإشباع الملذات. وسأتناول هنا صورة الشرق كما وردت في رواية جورج ديهاميل التي تحمل عنوان (الأمير جعفر): وهي رواية تدور أحداثها في تونس في مطلع القرن العشرين, وتعتمد على الرمز والإشارة, فيشار فيها إلى الغرب بالطبيب المداوي الذي ينجح في جعل السكان المحليين يطمئنون إليه, والمؤلف يجاهر بذلك على لسان العرب أنفسهم, ولا يفوته أن يؤكد على أَنّ تعامله معهم كان تعاملاً أخلاقياً، لا يخلو من شفقه وتعالٍ, إذ يرى أَنّ مجرد التفكير في خداعهم لن يكون جريمة بل سخفاً. وهو كثيراً ما يتحدث عن فظاعة مصائرهم في نبرة اليأس التام من إمكانية تحوّل أو تبدل أحوالهم, حتى وإن هم حذقوا لغة الغربيين وتطبعّوا بطباعهم.
ويظهر الشرق من خلال النموذج الذي يقدّمه الطبيب (رود) لزميله الطبيب (لامي) فيما هما يتسليان بصيد الطرائد في جبال الكان بالشمال التونسي, فيخبره بأَنّه ولد في هذه المدينة التونسية, وقضى فيها طفولته, وعاش بين ناسها, وهو جرّاحهم الذي رآهم على طاولة الجراحة، ورأى عريهم, ورأى حتى ما تحت جلودهم لحظة إجراء العمليات الجراحية، ثم يروي الحكاية التالية:

“حضر إلى عيادتي في الأسبوع المنصرم, تاجر ثري, وكنت سأجري عملية جراحية له قريباً… فأسكنته هو وزوجته في غرفة واسعة: سرير جيد, تدفئة مركزية, نور كهربائي, نظام غذائي صحي مضبوط. ولم يكد يقضي في المكان زهاء ساعتين حتى تناهى إلى سمعنا من الرواق صوت غريب مشبوه, ورائحة جمر يتقد، وشحم يحترق, حاولت الممرضة أن تدخل إلى الغرفة، كانت الغرفة موصدة بالمفتاح, وامتنعا عن فتح الباب, وتمكّنت من رؤية ما يجري من خلال النافذة، بعد أن صعدت على السلّم. وفهمت ما كان يجري: لم يكن التاجر في الفراش, كان قد بسط حصيراً، وافترش الأرض, وكانت زوجته تشوي على نار مجمرة سفافيد صغيرة من الكبد والخصيات وشحم الأمعاء. وكانا يدفئان أيديهما بالحرارة المنبعثة من الجمر, فلم تكن حرارة المدفأة لتوحي إليهما بالثقة فهي في رأيهم, دون شك, حرارة لا تدفئ. كان المشهد مضاء بقطع من الشمع لأنهما كانا قد أطفأا نور المصابيح الكهربائية”.
والصور المشابهة التي تقدم في الرواية كثيرة لستُ بموقع عرضها, ولكن الفكرة التي تلح عليها الرواية في مجمل فصولها هي فكرة واحدة: وهي أَنّ الشرقي لن ينجح في تغيير ما بنفسه, فمن المستحيل أن يُستدرج الرجل الشرقي إلى التمدّن والحياة الكريمة. ويجزم (ديهاميل) على لسان الطبيب (رود) بأَنّ تردي الوضع المادي لا دخل له باعتداء الشرقي على الذوق والفضيلة، وإنما السبب الحقيقي في رأيه يعود إلى كراهية التمدّن المتأصلة في الإنسان الشرقي.
أَمّا (بوكلير موسكاو)، وهو أحد كتاب القرن التاسع عشر في كتابه :«رحلة أمير ألماني في الإيالة التونسية»()، فإنه يرى أن الإنسان الشرقي كائن شرير, بل إن وجوده في الدنيا إنما يمثّل أمارة على أن الوجود نفسه محض عبث ولا معنى له. وأَنّ الفوضى هي التي تتحكم بالحياة أكثر من النظام. فوجود الشرقي على الأرض خطيئة لا يمكن أن تغتفر أصلاً. لهذا يمعن بوكلير في رثاء الأماكن التي عمرّها هذا الإنسان الشرقي الذي أفسد الحياة، ويعد المكان نفسه مكاناً رجيماً. لذلك يتحدّث عن قذارة مدينة تونس وأوساخها وأدرانها التي تجعل الحياة فيها أمراً محالاً إِلاّ على الأبالسة والمردة.
والأطفال الشرقيون في نظر (بوكلير) يكرهون الأجانب، ويبغضون الغرباء، فهو يلحّ على أَنّ العربي المسلم يتشرّب الكراهية والضغائن منذ نعومة أظفاره, ويأتي من الفعال ما يدل على أَنّ الميل إلى العدوان والغدر وإيذاء الآخرين جبلة مركوزة في طبعه.
وإذا كان هذا قد قاله (بوكلير موسكاو) في القرن التاسع عشر /1835م/ فإنّ الصورة ذاتها ظلت مستمرة في القرن العشرن في إحصائيات قام بها طلاب الإجازة في جامعة كولومبيا، عام 1975م، عن برنامج اللغة العربية. وقد بينت هذه الإحصائيات أَنّ كل لفظة من لفظتين في اللغة العربية ذات علاقة بالعنف, وأَنّ العقل العربي كما ينعكس في هذه اللغة تبجحي دون انقطاع. وبلغت مقالة قريبة العهد كتبتها (إيميت تيرل) في مجلة (هاربر) في النصف الثاني من القرن العشرين درجة أعلى من القذف والتجريح والعنصرية العرقية, إذ طرحت منظومة تقول: إنّ العرب أساساً قتلة، وأَنّ العنف والخديعة محمولان في المورثات العربية.
إِنّ بوكلير لا يقدّم هذه الصورة هكذا دون تقديم الحل الإنقاذي للشرق العربي المسلم، , فخلاص هذا الشرق ليس بيد الشرق نفسه ولا بد أن يأتي هذا الخلاص من الغرب, ومتى مُلّك الغرب على الشرق، وغزاه واستباحه، فإنّه سيحوّل بؤسه نعيماً، وأراضيه الجرداء جناناً خضراء يانعة, ونتونة مدائنه عطراً.
وهكذا تتبيّن لنا تلك الصورة التي يمعن الغرب في رسمها بإضفاء النورانية المطلقة على ذاته، والظلامية الدامسة على الآخر، لتكريس هذه الصورة لدى الشرق نفسه, وصولاً إلى تحقيق مآربه وغاياته بالصورة التي لا تضعه موضع الغاصب المعتدي المستعمر للآخر.

صورة الشرق العربي المسلم في الإعلام الغربي:

هناك مقولة مشهودة في الإعلام الدعائي لـ (هارُلد لاسول)، تقول : «لا يهم إطلاقاً ما يكونه البشر أو ما يعتقدونه, بل ما يمكن أن يُدفعوا إلى أن يكونوه ويعتقدوه». وانطلاقاً من هذه المقولة سعى الغرب إلى العمل عبر الإعلام على إقناع شعبه بأَنّ الشرق العربي المسلم يرتبط بالعنف، والغدر،، والخديعة المتعطشة للدم، والصورة التقليدية، في الأغلب والأعم، للعربي المسلم في السينما الغربية تظهره على أَنّه منحلٌ, ذو طاقة جنسية مفرطة, قديرٌ, دون شك على المكيدة البارعة، والمراوغة, ولكنّه جوهرياً, سادي, خؤون, منحطٌ وتاجرُ رقيقٍ, راكبُ جمالٍ, وصرّافٌ, وغدٌ متعددُ الظلالِ. وكثيراً ما يُرى العربي قائداً, للصوص والمغيرين والقراصنة والعصاة, يزمجر في وجه البطل الغربي المأسور، والفتاة الشقراء, وينظر إليها نظرة تنقّط خبثاً وشبَقاً.
أَمّا في أشرطة الأخبار المصورة فيظهر العرب دائماً بأعداد ضخمة لا فردية، حيث لا خصائص مميزة أو تجارب شخصية, وتمثل معظم الصور الهيجان والبؤس الجماعي, أو الإشارات والحركات اللاعقلانية.
وفي الطرف المقابل يظهر الغرب في عقلانيته ونورانيته، وتمّدنه وتحضّره, وبهذا يمتلك هذا الغرب المتمدن، الديمقراطي، المحارب للإرهاب، المشروعية في تذبيح أطفال الشرق ونسائه، وقلب مفهوم المقاومة ليصبح إرهاباً، لتسويغ استعماره وهيمنته على الشرق العربي المسلم.

ثانياً:

من المسؤول عن صياغة هذه الصورة:

1- الغرب:

منذ القرن التاسع عشر بدأ الشكل المدروس والمنظّم للمقولات التي تؤكد على دونية الشرق، وأَنّه لا قدرة له على حكم ذاته, ومن المسوغ أن يتدخل الغرب في مصيره، فهو يحمل رسالة التحضّر والتمدّن.
لقد كان العداء للإسلام والمسلمين جزءاً لا يتجزأ من البنية العقلية للرحالة الغربيين، وللقادة العسكريين, فأوربا، بعد الحرب الصليبية، لم تتخلص من عدائها الذي شحنت به نفسها ضد الإسلام والمسلمين، ولهذا كان من السهولة بمكان أن تتحول رغبتها القديمة في الوقوف في وجه خصمها الإسلامي إلى تصميم على السيطرة عليه، هذا التصميم الذي كان الأساس النفسي للإمبرياليين منذ نابليون, وانطلاقاً من هذه النفسية «كان أَوّل ما قام به الجنرال الفرنسي غورو بعد أَنْ احتل دمشق عام عشرين وتسعِمائةٍ وألف 1920م، هو أن توّجه فوراً إلى حيث يرقد صلاح الدين الأيوبي، الذي هزم الأوربيين, وحين وقف أمام ضريحه خاطبه مزهواً: «ها نحن عدنا يا صلاح الدين». إن هذا العداء والحقد التاريخي الذي يكمن وراء الاستعمار الأوربي، هو الذي رسم الصورة الدونية والظلامية عن الشرق العربي المسلم بفضل المستشرقين الذين رافقوه، ولكنني، عندما أتحدّث عن الاستشراق فإنني لا أقصد المرحلتين الأولى والثانية منه اللتين بدأتا بقرار المجمع (فيينا) الكنسي عام اثني عشر وثلاثمِائة وألف/1312م/، وانتهتا في نهاية الحرب العالمية الثانية، لأَنّه قدم خدمات كبيرة للتراث العربي الإسلامي من خلال ما قام به من دراسات وتحقيق كتب وإنشاء موسوعات، وإنما أقصد الاستشراق الجديد، الذي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية، وما يزال إلى أيامنا هذه، والذي ترافق مع تحالف الصليبية العالمية مع الماسونية والصهيونية، لينتج أبشع أنواع الاستعمار الثقافي الذي يعمل على مسح ذاكرة الأمة وفصمها عن هويتها التاريخية الإسلامية.

ب- الشرق نفسه:

ليس من المبالغ فيه القول إنّ الشرقَ العربي المسلم نفسَه يسهم في رسم هذه الصورة عن نفسه وذلك من خلال أولئك المثقفين من أبنائه الذين صاغهم الغرب على عينه، ويسميهم إدوارد سعيد «جواسيس الغرب غير المعلنين الذين يركعون عند أقدام ساداتهم من المستشرقين ليسفهوا حكمة الشرق».
فعندما خرج المستعمر من الأرض العربية, لم يستلم السلطة أبناء المقاومة وأبطال التحرير الذين قاوموه، بل استلمها شباب درسوا في مدارس تبشيرية, ونالوا أعلى الدرجات والشهادات في جامعات البلد الأوربي المحتل، فالاستعمار خرج من الباب ولكنّه دخل بشكل أخطر من الشباك.
وعلى سبيل المثال لا الحصر, نرى أن (سلامة موسى) من هؤلاء المثقفين الذين ساهموا في تثبيت صورة الشرق التي رسمها الغرب في أذهان الشرقيين، وجعلها جوهراً. يكتب سلامة موسى في معرض كلامه عن فضل (فرح أنطون) في فتح نافذة على الآداب الأوربية قائلاً :«كان أثر فرح أنطون في نفسي أنني أكبرت الأدب الأوربي إكباراً عظيماً، ولم يكن هذا غريباً في مثلي فإنّ فرح أنطون استبدل بالماوردي عندي جان جاك روسو ».
لقد ساهم الغرب في إعطاء سلامة موسى وغيره من المثقفين العرب أمثال أدونيس، البعد الرسولي النوراني المنقذ للشرق، بدعوته إلى تبني الثقافة الغربية وعد الغرب النموذج الذي على الشرق العربي المسلم اتباعه ليتمكن من التقدم والازدهار. ونسي هؤلاء المثقفون الوجه الآخر للغرب المتمدّن, أعني الاستعماري العدواني، والظالم اللإنساني.
ويبرع أدونيس في تبيان دونية صورة الشرق وظلاميتها, وهو لا يقترح حلولاً عملية, ولا يشير إلى أدوية تشفي الشرق من علله المزمنة. وهي صورة قدمت الشرق العربي المسلم على أنه يشكل خطراً على الغرب نفسه، ولهذا السبب يكتب (روجير هنري ماسيز) سنة خمس وعشرين وتسعمائة وألف،1925 م كتابه: « دفاعاً عن الغرب »، تساءل فيه عن كيفية حماية أوربا نفسها من السم القادم من الشرق.
وعندما قال (طه حسين) عام ستة وثلاثين وتسعمائة وألف، 1936م عن الثقافة العربية في مصر إنها أوربية لا شرقية, فقد كان يسجّل هوية النخبة المثقفة المصرية التي كان هو أحد أعضاؤها.
ويصدق الشيء ذاته على النخبة الثقافية العربية اليوم، فالعالم العربي والإسلامي يبقى قوة من الدرجة الثانية على صعيد إنتاج الثقافة والمعرفة والبحث, فما من باحث عربي أو إسلامي يستطيع المخاطرة بتجاهل ما يحدث في المجلات البحثية والمعاهد والجامعات في الولايات المتحدة وأوربا, غير أَنّ العكس ليس بصحيح.
فليس هناك مجلة رئيسية واحدة للدراسات العربية تصدر في العالم العربي اليوم وتحظى باحترام دولي, كما أَنّه ليس ثمة مؤسسة تعليمية عربية واحدة قادرة على مضاهاة أماكن مثل السوربون وإكسفورد, وهارفرد, وجامعة كاليفورنيا، والنتيجة أَنّ الطلاب العرب، وحتى الأساتذة منهم، يريدون الذهاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والجلوس عند أقدام سادتهم الأمريكيين ثم العودة لترداد تلك المصطلحات والكلمات التي تعلّموها على مسامع جمهورهم المحلي.
وإِنّه لصدمة موقظة لنا أَنْ نجد على سبيل المثال, أَنّه فيما توجد عشرات من المنظمات لدراسة الشرق العربي والإسلامي في الغرب الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية, فليس ثمة مؤسسة واحدة في الشرق العربي المسلم لدراسة الغرب وما يقوم به من دراسات عنه. وأسوأ من هذا, أنه لا يكاد يكون ثمة معهد في هذا الشرق مكرّس لدراسة الشرق نفسه, بالإضافة إلى هذا نرى طغيان النزعة الاستهلاكية في الشرق, فالعالم العربي عامة عالق في صنارة السوق الغربي, وقد كان لهذا عواقب كثيرة, فثمة عملية تشويه هائلة للذوق في المنطقة, متجسدة لا في انتشار الجينز والكوكاكولا, والهمبرغر وحسب, بل كذلك في الصور الثقافية للشرق التي توفرها وسائل الإعلام الأمريكية خاصة، وتستهلكها، دون تفكير، جماهير التلفاز الضخمة.

خاتمة:

إنّ هذه المحاضرة ليست لتوجيه اللوم للغرب وتحميله ذنب ما لحق بالأمة العربية والإسلامية في القرنين الماضيين, فقد تعوّد الغرب على امتهان غيره من الأمم في العالم. وهو يحتفظ بعداء تاريخي لأمتنا العربية الإسلامية, ومن الطبيعي إن يفعل ما يفعله بها، وأن يسعى إلى السيطرة عليها واستغلال مواردها الطبيعية والبشرية.
إن هذه المحاضرة دعوة لمعرفة الذات واكتشاف طاقاتها، لتحديد أعداء الأمة وأصدقائها. إِنها دعوة إلى رؤية أنفسنا لا في مرآة مقعرة أو محدبة صاغها الغرب, وإنما في مرآة الثقافة العربية الإسلامية، التي تشكل المرجعية المعرفية لهويتنا التاريخية. وليس في مرآة الدعوات المشبوهة والمشوهة التي ليست بشرقية ولا غربية.
إنها دعوة لتحريك القوة النائمة في أعماق الأمة التي هي هويتها المرتبطة بالقرآن وبالثقافة العربية الإسلامية التي يقول عنها (كرومر): “إِنّ هذه الثقافة كالنار تحت الرماد, عندما يقيض الله لها قائداً حكيماً مخلصاً لأمته يتمكن من إعادة تحريكها, فسوف تشب وتحرق أعداء هذه الأمة”, ولكن الصليبية المتصهينة والماسونية العالمية وأعوانها من الخونة العرب يريدون أن يقضوا على هذه الجذوة النائمة, حتى إذا جاء رجل كصلاح الدين أو نور الدين فلن يجد الأرضية المناسبة ليتمكن من إحياء الأمة كما فعلا في التاريخ.
أَمّا سبل الخلاص فهي على نوعين: مؤسساتي أو فردي, ولما كُنّا نعاني من غياب العمل المؤسساتي، فإنّ العمل يجب أن يبدأ فردياً، ينبع من الذات الداخلية ليشع النور الحقيقي ويتلاشى الظلام الذي يحاول الغرب إحاطتنا به

المصدر: http://asseddik.com/cms/%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B...

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك