الرياضة والثقافة

د.حسين الصديق

 

ألّه الإغريق الإنسان وأنسنوا الآلهة، وأقاموا تنازعاً بين الطرفين يسعى فيه الإنسان إلى التمرد على الآلهة كدليل على وجوده الحر. وتجلى هذا في كل أنواع الفنون لديهم سواء أكان ذلك في المسرح أو في الملحمة أو في النحت، حيث خاض الإنسان صراعاً مريراً مع الآلهة التي كانت تحقد عليه، وتنافسه في تقرير مصيره، وتتقاتل فيما بينها على النفوذ في الوجود الإنساني. وأسطورة بروميثيوس، سارق النار التي كانت الآلهة تحتكرها لنفسها في جبل الأولمب، وتمنع الإنسان من معرفة سرها لأنها مصدر قوة تساعده على الاستغناء عنها، نموذج على صورة العلاقة بين الإنسان والآلهة في الفكر الإغريقي، وهي علاقة لا تقوم في أي حال من الأحوال على الحب، وإنما على الصراع والتنازع.



قفز الأوربيون في مطلع عصر النهضة من فوق التراث الكنسي الذي عرفوه في العصور الوسطى، ليعودوا في ما سمي بالعصر الكلاسيكي إلى إحياء تراثهم الإغريقي، وورثوا عنه الاتجاه المادي، الذي عزّزه داروين في نظريته التي نسفت البعد الغيبي في خلق الإنسان، وأكّده ماركس في تفسيره المادي للتاريخ، ليشكل فرويد، في نظريته في إحالة السلوك الإنساني إلى الغرائز ومبدأ اللذة، وهو ما كان يعني استبعاد العقل في توجيه الوجود الإنساني، ثالثة الأثافي في موت النزعة الميتافيزيقية في الفلسفة الأوربية.



تلكم هي ثقافة الغرب ومعيار وجوده المادي، وفي ضوئها يجب أن نفهم الحضارة الغربية المعاصرة، ونفسر مواقفها من الطبيعة والكون والإله. ولن نكون على الإطلاق قادرين على تغييب هذا البعد الثقافي إذ أردنا فهم الغرب وتفسير علاقته بالأمة العربية والإسلامية خاصة، وبالعالم كله عامة. ويمكن تلخيص هذا البعد في كلمتين: الصراع والصدام، صراع بين الفرد والآخر، وبينه وبين المجتمع والطبيعة، وصراع بين الثقافات والحضارات والأمم، وصدام من أجل السيطرة والتفوق على الآخر وسلبه حقه في الوجود. ونشهد اليوم ما يعانيه العالم كله من نتائج هذا على المستويات كلها، الطبيعي والاقتصادي والثقافي والسياسي، وهو ما طال المجتمعات الغربية نفسها، فجعل الفرد فيها يعيش عزلة فردية قاتلة تهدد بفناء المجتمع الغربي ذاته.



ولعل أفضل تمثيل لثقافة الغرب القائمة على الصدام يبدو في مختلف أنواع الرياضة الأوربية، من الملاكمة إلى المصارعة الحرة إلى مصارعة الثيران، مروراً بكرة القدم الأمريكية وانتهاءً بكرة القدم التي انتشرت في العالم كله نتيجة لهيمنة الثقافة الأوربية، التي رافقت السيطرة الأوربية على معظم أرجاء الأرض. لقد مسخت رياضة كرة القدم مفهوم الرياضة ببعده الإنساني ووظيفته التي تهدف إلى تربية الأجساد لتهذيب العقول والنفوس، وهو ما نراه في الرياضة في الحضارات الشرقية عامة، وحولته إلى صراع بين فريقين لكل منهما أنصاره المتعصبون، لتصبح هذه الرياضة الديانة الجديدة التي تغذي الكره والعداء بين أفراد المجتمع الواحد، من جهة، وبين الأمة والأخرى من جهة ثانية. لقد حلّت الملاعب وسدنتها من مدربين وحكام وإداريين ولاعبين، مكان دور العبادة التقليدية في الغرب، واستغل هؤلاء السدنة أتباعهم من الناس، كما كان يستغل أصحاب الديانات القديمة المؤمنين بها من أنصارهم، لصالح سلطتهم ومصلحتهم المادية والمعنوية، فيثيرون بينهم النعرات الطائفية والقومية والعرقية، ويقتلون لدى الفرد منهم كل شعور بالتميز والشعور بالذات، ويحيون فيه النزعة الصدامية.



ليس العيب في كرة القدم الأوربية، التي عرفها أحد الفلاسفة الأوربيين المعاصرين بأنها كرة من المطاط يجري خلفها أناس سخفاء، ويشاهدهم أناس أسخف، فهي جزء من ثقافتهم التاريخية التي لن يتمكنوا من التحرر منها، وإنما العيب فيمن تبنى هذه الرياضة من أبناء الحضارات الأخرى التي تختلف في ثقافتها ومواقفها من الله والكون والإنسان عن الغرب الأوربي. لقد استورد العرب هذه الديانة الجديدة من الغرب مع ما استوردوه من نظم سياسية واقتصادية وثقافية وفنية، واستخدموها كما تستخدم هناك للهيمنة وإثارة النزاعات وإشغال الناس عن قضاياهم المصيرية والحيوية. وهي، كالثقافة التي استوردت، تتناقض في كلياتها ومعاييرها وجوهرها، مع ثقافتنا العربية الإسلامية التاريخية التي لا ترى في العلاقة بين الإنسان، والله، والكون صراعاً وصداماً، وإنما ترى فيها علاقة محبة وانسجام وتكامل، فقد خلق الله الإنسان على صورته، وكرمه عندما نفخ فيه من روحه، وجعله خليفة له في الأرض وأعطاه العقل وجعله مسؤولاً به، وحراً. مع هذه الثقافة رياضة تنسجم معها، وفي خدمتها، تنمي الجسد والروح، وتعزز ثقة الفرد بذاته وتمكّن العلاقة بينه وبين الآخر وتجعله فاعلاً في خدمة المجتمع والدفاع عن الأمة، تلك الرياضة هي السباحة، والرماية، وركوب الخيل. وهي رياضة فردية تهدف إلى رفع مستوى الوجود الإنساني في علاقته بالعالم، ولكنّها، في الوقت نفسه، اجتماعية تعمل على بناء الجماعة من خلال بناء الفرد، ليكون الجميع في أرقى حالات التضامن والانسجام للدفاع عن قيم الأمة وثقافتها.



ليس المهم أين أمتنا اليوم من رياضتها الخاصة بها، والمنسجمة مع ثقافتها وموقفها من الوجود، لأن السؤال الجوهر اليوم هو أين هي من هويتها وثقافتها وجوهر وجودها وغايته؟.

 

المصدر: http://asseddik.com/cms/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D8%B6%D8%A9-%D9%8...

الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك